انقلاب في واشنطن.. و«خليك مصدق»!




| 2013-09-18 د. أحمد بن راشد بن سعيّد


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي https://twitter.com/LoveLiberty

فتح مجند سابق في البحرية الأميركية اسمه آرون أليكسيس النار داخل مقر للبحرية في واشنطن العاصمة يوم الإثنين الماضي، ما أدى إلى مقتل 13 شخصاً، وجرح 8 آخرين. أشاع الهجوم موجة من الفزع داخل المنشأة العسكرية الواقعة على بعد أميال فقط من البيت الابيض ومبنى الكابيتل. ليست هذه أول مرة يحدث فيها إطلاق نار ويسقط ضحايا داخل منشأة عسكرية أميركية، فقد أقدم طبيب نفسي سابق في الجيش الأميركي على قتل 13شخصاً وجرح عشرات آخرين في قاعدة فورت هود العسكرية بولاية تكساس في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009.
الجديد في حادث البحرية بواشنطن هو أن وزير الدفاع، تشوك هيغل، استبد به الغضب، فأصدر بياناً يحذر فيه الرئيس باراك أوباما من استمرار مثل هذا الهجمات، ويحمله المسؤولية عنها، ويمهله 48 ساعة لاتخاذ إجراءات كفيلة بمنع تكرارها حفظاً لكرامة الجيش الأميركي، وتحقيقاً لتطلعات الشعب في الأمن والاستقرار. بل ذهب هيغل إلى أبعد من ذلك متهماً أوباما بالتعاطف مع القتلة، قائلاً ما نصه: «كان الرئيس ناعماً مع هؤلاء الأوغاد».
(The president has been so soft on those thugs).
أثار بيان هيغل ضجة كبيرة في الولايات المتحدة، وسيطرت حال من الدهشة والترقب، ليس على مستوى النخب في السياسة والميديا ومخازن التفكير فحسب، بل أيضاً في أوساط المواطنين العاديين الذين لم يستوعبوا البيان الصادم. وخرجت أمام البيت الأبيض جماعات من أنصار هيغل تمجده وتشتم الرئيس. ولم يكمل الوزير المهلة المحددة حتى خرج أمام الصحافة في البنتاغون، يحيط به عدد من رجال الدين المسيحي أبرزهم جيري فيرويل وبات روبنسن، وحاخام يهودي من بروكلن اسمه برت سيغل، فتلا بياناً عزل فيه الرئيس أوباما، وجمّد العمل بالدستور، وحلّ مجلسي الكونغرس والنواب، وسمّى رئيس المحكمة العليا رئيساً مؤقتاً للبلاد، مؤكداً أن الرئيس موجود في مكان مجهول «حرصاً على سلامته»! ولم يكتف الوزير بذلك، بل شن حملة «مكارثية» على أعضاء الحزب الديموقراطي الذي ينتسب إليه أوباما، واختطفهم من منازلهم بمساعدة الشرطة الاتحادية FBI، ومن أبرز هؤلاء نانسي بلوسي، زعيمة الأقلية في مجلس النواب، كما اعتقل جو بايدن، نائب الرئيس، وميشيل أوباما، السيدة الأولى، وعدداً من أعضاء الدائرة المقربة من الرئيس، مثل جون كيري وسوزن رايس. وانتهك البنتاغون حرية التعبير، وهي أحد أهم مقومات الحياة الأميركية؛ فأغلق أقنية التلفزيون المتعاطفة مع الديموقراطيين، بحجة تهديدها للأمن القومي، وساق كبار مذيعيها ومحرريها إلى السجن زرافات ووحدانا.
لكن الأميركيين لم يسكتوا، وثاروا ضد همجية البنتاغون التي لا تهدد إدارة الديموقراطيين فحسب، بل تأتي على أسلوب الحياة الأميركية من القواعد. احتشد مئات الآلاف من مناصري الشرعية حول نصب أبراهام لنكن في واشنطن، واحتشد ملايين غيرهم حول جبل راشمور بولاية داكوتا الجنوبية، احتجاجاً على ما وصفوه بـ «الانقلاب العسكري» الذي يهدد كل مكتسبات أميركا منذ تأسيس الجمهورية. ظل المتظاهرون شهرين متتابعين، يرددون الأغنيات والصلوات، بينما حلقت فوق رؤوسهم طائرات الأباتشي وإف 16. أدهش المعتصمون العالم بصبرهم وثباتهم وحسن تنظيمهم، وزارتهم وفود حقوقية وبرلمانية من دول عدة لتعبر عن تأييدها لقضيتهم. جُن جنون هيغل، فجمع طغمة الانقلاب في البنتاغون، وألقى أمامها خطاباً مقتضباً جاء فيه: أريد من الشعب تفويضاً بالقضاء على الإرهاب المحتمل الذي يهدد أميركا. اخرجوا أيها الناس إلى الشوارع، واهتفوا باسمي، وامنحوني تفويضاً بالقتل (License to Kill). ولفق هيغل مشهداً سينمائياً أثار حتى سخرية هاليوود، ظهرت فيها مجموعات كبيرة من مثيري الشغب والمساجين القدامى، وهي تحمل صورته وتهتف: «الشعب يحبك..افعلها يا تشوك People Love You. Just Do it Chuck»!
ثم أوعز هيغل إلى الرئيس المؤقت (وكان لا يتكلم إلا نادراً، وعلى وجهه العابس المربد مسحة غباء لا تخطئها العين)، أن يخيّر المعتصمين بين الرحيل أو الموت، قائلاً لهم بعبارة واضحة: إما الانفضاض..أو الانقضاض! وقع المعتصمون في حال من الإنكار، إذ لم يدر بخلدهم أن تقدم القوات المسلحة والشرطة الاتحادية على مهاجمتهم. لكن هيغل فعلها، وهاجم المعتصمين في واشنطن وكيستن (في داكوتا الجنوبية) مرتكباً مجزرة مروعة راح ضحيتها 10 آلاف مواطن، كما هاجم مستشفى من 6 أدوار في واشنطن، كان يغص بجرحى العدوان، فأحرقه بمن فيه. ولم يحترم الوزير حتى دور العبادة، فاقتحم كنيسة إنجيلية بالقرب من كيستن، وأحرق المصلين فيها أحياء، ثم أضرم فيها النار. وفي حادثة أخرى، تجمع بضعة آلاف من معارضي الانقلاب حول تمثال الحرية (ليبرتي) في نيويورك، فما راعهم إلا طائرات الأباتشي تحوم من فوقهم، ثم ترسل صاروخاً أحال التمثال إلى هشيم وسط صدمة الجماهير.
عم الحزن الولايات المتحدة، ودقت أجراس الكنائس، وخرج الملايين في كل الولايات يحملون الشموع وينثرون الورود من أجل أبطال أميركا الذين ضحوا بأنفسهم من أجل الحرية والديموقراطية والكرامة. لكن هيغل ظل سادراً في غيه، فأرسل ميلشيات تابعة للبنتاغون والشرطة الاتحادية تعيث فساداً، وتحرق الكُنُس اليهودية والجوامع الإسلامية في كاليفورنيا ونيويورك وشيكاغو ولوس أنجلس، ثم حمّل الديموقراطيين المسؤولية عن ذلك. شعر الأميركيون أن لعنة حلت عليهم من السماء، بينما زعم بعض رجال الدين المسيحي أن ما يجري علامة من علامات آخر الزمان، وأن عودة المسيح إلى الأرض لم تعد بعيدة. ولم يتوقف هيغل عن صدم الأميركيين والعالم كله، فطلب من واعظي الكنائس عدم التطرق إلى الأحداث الدموية، وهدد بسجن المخالفين مشدداً على فصل الدين عن الدولة. ثم أعلن فرض حال الطوارىء في كل الولايات مهدداً بإطلاق الرصاص الحي على من يخرق الحظر. وتردت الحال الصحية لنانسي بلوسي، زعيمة الأقلية في مجلس النواب، التي لم تتعاون مع المحققين، فكسروا فكها، وأسقطوا ثناياها، الأمر الذي سبب لها أزمة قلبية نُقلت على أثرها إلى المستشفى وسط تكتم شديد. وفي خطوة لافتة أحرجت الانقلابيين، زار وفد من مجلس العموم البريطاني واشنطن، فسأل مراسل شبكة أي بي سي أحد أعضائه: هل ما جرى في بلادنا ثورة أم انقلاب؟ فأجاب: «إذا كانت تمشي كالبطة، وتصدر صوتاً كالبطة، فهي حتماً بطة».
بادرت عدد من الدول إلى دعم هيغل، فأودعت الصين 10 بلايين دولار في البنك الاحتياطي الفيدرالي، بينما وهبت روسيا الانقلابيين 5 بلايين دولار، وهو ما أثار الرعب في أوساط كثير من الأميركيين. امتنعت معظم الدول عن التعامل مع النظام الجديد في بلد يقود، بحسب الحكمة السائدة، العالم الحر، لكنها أحجمت عن وصف ما جرى بالانقلاب. رموز اليمين المسيحي، لاسيما الصهيوني، أعلنت ولاءها للبنتاغون، بل إن بعضهم مثل جيمي سواغارت، وبيلي غراهام، زعموا أن المسيح ابتعث هيغل لإنقاذ أميركا من «الأوبمة». واستمرت الميديا السائدة في التسبيح بحمد هيغل، الذي تخيله بعض الأميركيين نسخة من هتلر، تريد إعادة التاريخ إلى الوراء بقوة السلاح.
دعا هيغل إلى وضع دستور جديد للولايات المتحدة «يتفادى أخطاء الماضي: بحسب تعبيره، مشدداً على وجوب أن ينص على منع تأسيس أحزاب سياسية على أساس «ديموقراطي»، وأن يحظر مشاركة الديموقراطيين في السياسة 10 سنوات على الأقل. ودخلت أميركا في نفق مظلم لم يخطر لأحد على بال. وكأنما فتنت مظاهر القوة التي يستند إليها هيغل ألباب كثيرين، فمالوا إليه وقدسوه. من ذلك مثلاً أن مجموعة من مغني (الراب) ظهرت في واشنطن وهي تصدح بأغنية لوزير الدفاع يقول مطلعها: «بارك الله يمينك God Bless Your Hands»، بينما وقفت الممثلة إنجيلينا جولي وهي شبه عارية على دبابة للبنتاغون أمام «كايبتال هِل»، وهي ترفع لافتة مكتوب عليها: «كم أنت لذيذ يا سيدي الوزير! How Sweet You are Mr. Secretary!».
لكن الوضع لم يستتب للانقلابيين. تفجرت الثورة في واشنطن ونيويورك وديترويت وشيكاغو ولوس أنجلس وسياتل. ازدادت ورطة البنتاغون، وضاق الخناق على هيغل، ولم تفلح المساعدات الأجنبية في دعم صموده، لاسيما في ظل التردي المتسارع للاقتصاد، والشلل الذي أصاب الحياة بسبب الاعتصامات المليونية المطالبة بعودة الحياة المدنية. وعبثاً حاول هيغل الخروج من مأزقه، فاتهم المكسيك بإيواء ديموقراطيين هاربين، بحسب زعمه، ودمر الأنفاق على حدودها بحجة أن هناك من يهرّب عبرها مخدرات تقتل الشباب الأميركي ببطء.
استطاع الثوار تنظيم صفوفهم، مستعينين بالوسائط الاجتماعية (تويتر وفيسبوك ويوتيوب). وفي تظاهر كبيرة شهدتها مدينة دنفر في ولاية كالورادو خطب الأميركي المحافظ باتيو كانن الجماهير المحتشدة قائلاً بصوته المبحوح الجميل:
«أين ذهب الرئيس الذي انتخبناه في عام 2012، بنسبة 50 في المئة؟ كيف يمكن أن تُعطل المؤسسات الدستورية في الولايات المتحدة بقرار من البنتاغون، ومن رجل واحد معتوه خان القيم الأميركية؟ هل كان «فصل السلطات» مجرد أسطورة دعائية انقض عليها العسكر بأحذيتهم الغليظة، فداسوها بليل؟ ماذا فعل هيغل بالديموقراطية الأميركية وميراث آبائنا المؤسسين؟ أسئلة كثيرة تتردد على شفاهنا والصدمة تعقد ألسنتنا. لكننا لن نسكت. سنقاوم الهمجية من دون أن نطلق رصاصة واحدة. سلميتنا أقوى من الرصاص». رددت الجماهير الغاضبة: «سلميتنا أقوى من .»Our Peacefulness Is Stronger Than Their Bulletsالرصاص» ثم ردد الجميع شعار حركة الحقوق المدنية في الستينيات: «سوف نتغلب! سوف نتغلب!
We Shall Overcome! We shall Overcome!».