منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1

    السُّبْحَة ... ( قصة قصيرة )*

    السُّبْحَة..
    قصة قصيرة
    بقلم ( محمد فتحي المقداد)*

    يأتي صوته عبر أسلاك الهاتف, وهي تُعاودُ طلب أرقام صديقاتها وأقاربها كل يوم, لتتلذذ بنبراته التي تعني لها الكثير والتي تَشِي بما وراءها, من شخصية جذّابة لذلك الشخص القابع في مكتب البريد في غرفة المقسم, وراء الطاولة القديمة الشاهدة على عهد الأتراك, و يتربع عليها المقسم اليدوي الذي يربط خطوط القرية كلها.
    بصبرٍ و أناةٍ, وهو يلتقي بالأصوات التي تطلب رقماً, أصواتٌ تأتيه من بعيدٍ يجهلُ أصحابَها, يجهلُ وجوهَم وأشكالَهم, ينزِعُ المقابِس من ثُقوبها ليضعها بأخرى, تنفيذاً لطلبات الأصوات المنبعثة من المجهول له, هو مجهولٌ لهم, وهُمْ مجهولون له.
    نبرات الأصوات تتمايز, منها المحبب الذي يأخذ مساره بلا حاجبٍ لقلب ونفس المستمع, تبدأ النفس بإلحاح لا ينتهي ولا يتوقف لمعرفة الشخص صاحب تلك التي سَرَتْ في نفسه وتربّعت فيها.
    ذات يوم, وبعد انتهاء الدوام دخَلَتْ مبنى البريد, لإرسال رسالة لأخيها في الخارج أطلّت برأسها إلى غرفة المقسم, وهي تلقي السلام عليه, لتلتقي العيون ويجف الكلام في قرارة نفسها أيقنت أنه هو.. هو بالضبط كما رسمته في خيالها, شعرٌ أشقر مفلفل وعيونٌ زرقاء بوجهٍ يرسم علامات كثيرة في الحياة, بتقاطيعه و ملامحه المحببة الآسرة, لمن يلتقيه للمرة الأولى, تراجعتْ بسرعة إلى الخلف واستدارتْ لتنطلق بسرعة, وكأنها في عجلة من أمرها, لتتملى تلك صورته المبدئية التي انطبعت بخيالها, ونطلقت لتحلق في سماء رومانسيتها.
    صارتْ تتعمدُ كَثْرةَ الطلبات حتى أصبحت حتميّةً يومية, حبائلُ الحب استولتْ على قلبها وحياتها وفكرها, حتى أنّ خياله استوطن غرفتها وسريرها, تشعر بحرارته يؤنسها, سَكَنَ معهم في البيت وهي تتتخيّله في كلّ جنبات البيت, أمام البحرة في وسط البيت وهو يناديها: " يا حبيبتي " وتغمض عينيها, وتسرح في متاهاتٍ بعيدة.
    أثناء ذهابه للسوق لشراء بعض الأغراض من أجل مناوبته لهذا اليوم, لمَحَتْهُ في السوق, وبينما لاحت منه التفاتة بغير قصد للجهة التي كانت فيها برفقة أمّها, اختلف لونها وكأن الشفق قد جلس على خدّيها, وارْتَبَكَتْ من نظراته التي تتبعتها, حتى ابتعدت وغابت في زحام المتسوقين.
    صوته صديق لكل أهل القرية, يحظى بكثير من الاحترام لديهم لتواضعه وأدبه الجمّ, عرفوه من خلال صوته وتمتنت علاقتهم به من خلال بعض اللقاءات العابرة في المحلات, حيث أنه لم يكن من أبناء قريتهم, و هو في بداية تعيينه في الوظيفة, وقد فرز لهذه القرية البعيدة عن قريته و في محافظة أخرى.
    استأجر مع زميلين له غرفة مع منتفعاتها في أحد حارات القرية, غير بعيد عن المركز , وعلى مسافة عشر دقائق بالمسير العادي.
    وجاءه صوت أبو خليل قبل انصرافه من دوامه الصباحي, بعد التحية و السلام, قال له:" عم عليّ تفضّل غداً للغداء عندنا, أرجو أن تقبل ولا تترد ونحن كأهلك, والبيت بيتك, بانتظارك بعد انتهاء دوامك في الثانية ظهراً.
    من لحظة وداع أبو خليل, لم ينقطع عن سيل الأفكار التي تراوده, من ترتيباته التي يجب عليه اتخاذها, وراح يفكر أي قميص وبنطلون سيلبس, وأي حذاء, لتكتمل فكرة الأناقة التي اتّسم بها منذ بداياته, وانسحبت على باقي حياته, وصارت لازمة من لوازمه لا يمكن أن يتنازل عن شيء من لوازمها.
    صُعِق بعدما فُتِحَ الباب, كاد أن يُغشى عليه عندما لمحتها عيناه, مش معقول..!! أهي بذاتها..؟ يا للمصادفة الغريبة.. يتلمّسُ وجهه, ويفرك يديه وبدت الحيرة عليه, وخطر له أن يرجع للوراء, جاءته نوبة الخجل التي أذابت كثيراً من ملامحه.
    أتى صوت أبو خليل من داخل البيت يجلجل: تفضل عم عليّ.. أهلا وسهلاً.. تفضل ..تفضل, خطواتٌ بطيئةٌ رغم محاولته تسريعها, ولكن كأنما شيء ما يجذبه للخلف, تقدّم أبو خليل لمنتصف ساحة الدار حيث جلسوا على الكراسي أمام النافورة وشجرة النارنج تتعانق مع الياسمين, والعطر ينتشر على ربوع البيت الذي يبدو أنه قطعة من الجنة, وابتسامته التي تَشي بلباقة التعامل وحُسْنَ الاستقبال.
    خرجت أم خليل من المطبخ, لترحب بالضيف. هذه خالتك أم خليل, وهذه هالة ابنتي في الثانوية العامة تستعدّ لتقديم البكالوريا, ونتوقع لها العلامات العالية, لأننا عاقدين الأمل عليها أن تحصل على مجموع يؤهلها لدخول كلية الصيدلة, وعندي ابني البكر مسافر في أوربا, وسامر هذا الصغيرفي الإبتدائي.
    جاءت هالة بإبريق القهوة العربية النحاسي, والتي تعتبر من لوازم الضيافة, وشيئاً أساسياً وخاصة في الأرياف, تناول أول فنجان, وهو يتأمل اليد التي امتدت, وشرب الفنجان الثاني, وتمنى الثالث حتى يتملى بحُسن يدها البيضاء الشفافة الرقيقة, ولم يخبْ ظنّهُ, حين قال أبوها: هالة صُبّي له فنجاناً آخر, يبدو أن قهوتنا أعجبته ولن ينساها إلى أن يموت, وستبقى ذكرانا ماثلة في عينيه وقلبه.
    حضر الغداء بأشكاله الكثيرة التي ملأت الطاولة, واتخذ كلٌّ من أفراد العائلة كرسيّه وألحّ أبو خليل, واستحلفه باسم الرب أن يأكل ولا يخجل, البيت بيتك ونحن أهلك.
    تناولوا الشاي مترافقاً مع النراجيل بعد الغداء, وراح دخانها يتصاعد في أجواء أزعجت الياسمين والكبّاد اللّتان عافتا المكان, وعلى وقع تصادم أحجار النرد وقرقعتها, التي تنهك أجواء الجمال والبهاء والهدوء في البيت, مع أصوات قرقعة النراجيل التي اتحدّت مع النرد لتكوّن سيمفونية قلّ نظيرها, مع الأنفاس التي تنفث الدخان وهي تحدّق, وتفكر في اتخاذ اللعبة على ضوء الرقم الذي يثبت عليه حجر (الشيش بيش ).
    وهكذا مالت الشمس للغروب, و هي تنسحب وتجرّ آخر ذيولها الذهبية, لتأذن بقدوم ليل طويل على المحبين, و للمرة الرابعة امتدت اليد التي تمناها عليّ أن تبقى ممدودة مدى الحياة أمامه, تأملها عندما ناولته السّبحة ذات الخرز الأسود المُطَعّم بالفضة. وقالت: تفضل. تردّدَ عندما تسمّرت نظراته على اليد, وقد صُمّتْ أُذناه على نسيم نبرة صوتها التي داعبت قلبه, واستفاق على شيء سيترقبه في اتصالها القادم, فما صحا من دوّامتة إلا على صوت أبي خليل: خذها عمّو, هي من بركة القدس وبيت لحم, عندما ذهبت للحج العام الماضي.

    ---------------- انتهى

    بصرى الشام






  2. #2
    زرعت روحا فلسطينية بامتياز هنا ..
    بلاد العرب اوطاني لاسامح من فرقناتحيتي لقلمك الثر
    ( بانتظارك اديبنا العزيز في القسم الاحتماعي والاسري)
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  3. #3
    نص كتب بحبر المحبة الحقيقية هكذا هم اهل الشآم الكرام...
    بوركت من كاتب رائع
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  4. #4
    استاذة رغد قصاب
    اسعدك الله

    سيّدتي
    الروح الفلسطينية مغروسة بعمق أرواحنا بامتياز
    دمت بكل تقدير

  5. #5
    استاذة ريمة
    أسعدك الله سيدتي
    المحببة تنبثق من أرواحنا
    ونريد أن تكلل حياتنا كلها
    دمت بخير

المواضيع المتشابهه

  1. م و ن و ب و ل ي ( قصة قصيرة )
    بواسطة عدي بلال في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-31-2017, 07:36 AM
  2. قصص قصيرة 33
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-08-2012, 04:29 PM
  3. قصص قصيرة 32
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 12-23-2011, 06:24 AM
  4. قصص قصيرة ( 4 )
    بواسطة ياسر ميمو في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 01-19-2011, 06:04 PM
  5. أول قصة قصيرة أقصوصة قصيرة
    بواسطة معاذ العُمري في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-27-2009, 05:36 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •