بلسانِ الإنصافِ والنّصَفة..هي جُلّ المجتمع لا نِصْفَه !!

في ضوء عظات الزمان ، وما أرسته في جبلّة الإنسان ، من تفتّق في الأذهان ، وبصيرة في العقول والوجدان ، على طريق تشييد البنيان ؛ البنيان الإنساني والعمرانيّ ، ساقت إلينا هذه العظات سحابات من قناعات ، حريّ بنا أن نقف عندها وقفات ، لنستمطر منها منهجيات حركيّة ، تُفضي بنا إلى إنجازات واقعية عبر إعادة تشكيل فهومات وقناعات ، في طليعتها : أن للمرأة في المجتمعات الإنسانية أدوراً بهيّة ، فلم نعد نساير تلك المجاملات القائلة ( المرأة نصف المجتمع ) وظني بها أنها نظرة منطلقة من انقسام الجنس البشري إلى نوعين ( ذكر وأنثى ) !
في حين النظرة السامقة تتجلّى في تقسيم الناس وفقاً لأدوراهم في الحياة ، تماما كما وعيها ذلك الشاعر الفطن فنظم قائلا :
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمُهم
وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ

إنها النظرة الثاقبة التي تقسّم الناس حسب أدوارهم في الحياة ، حتى إذا ما أردنا أن نرضي الطرفين جمعنا بين القولين ، فأخذنا في الحسبان النوع والدور فقلنا : المرأة هي نصف المجتمع – بالنظر إلى النوع – وهي التي تربّي النصف الآخر من المجتمع – بالنظر إلى الدور المنوط بها – وفي هذا السياق صحّ قول القائل : ( وراء كلّ رجل عظيم امرأة ) ، فعندها عُدنا إلى ما به ألمحنا في استهلالتنا لهذا المقال من أنّ دور المرأة يطال المجتع كله !
وتلك مسئولية عظيمة جسيمة ، وهي في الوقت ذاته لا أقول ( تكليفا وليست تشريفا) بل كديدن المعادلة السابقة الجامعة بين الرأيين إنها ( تكليف وتشريف ) تشريف لمن قامت بهذه الأمانة فحاطتها رعايتها ونصحها ، وبذلت في سبيلها طاقتها وجهدها !
إذا كان ذلك كذلك : فإنّ أولَ ما تضطلع به المرأة من مهام ، قولُ الإمام عليّ بن ابي طالب – رضي الله عنه وأرضاه -: " لا تربّوا أبناءكم على عاداتكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"
وليست تلك بدعوة للتفريغ الفكري والشعوري للجيل من العادات الخيّرة الدارجة في المجتمع ! إنما هي دعوة لتزويد الجيل بخميرة إيمانية ، وذخيرة حركية ، ومهارات عمليّة ، وأدوار رياديّة ، تُسعفهم في فهم متقلبات الزمان ، وتمكّنهم من ريادة تلكم المرحلة واحتوائها وصياغتها على نحو رشيد ...
وتلك حقيقة وعتها عائشة أم عبد الله الصغير حين لسعت ابنها عبد الله بعد سقوط ملكه في الأندلس بسياطِ كلماتٍ لاذعاتٍ نفثتها في روْعِهِ قائلة له : "إبكِ مثل النساء مُلكا لم تحافظ عليه مثل الرجال" وكان ذلك حين وصل أبوعبد الله الصغير إلى تلة تُشرف على الحمراء، قصره السابق وقد تلفت إلى الوراء و اعتصر قلبه الأسى قبل أن يجهش بالبكاء! ولم تكن والدته عائشة التي قدّر لها مواكبة تلك الأحداث الجسام في غرناطة أقلّ حزنا وحسرة منه، بل قالت ما قالت تبصرة للأجيال ، ونُصحاً لمن هم معاقد الآمال ، أن يدبّ فيهم الوهَن ، فلا يصونوا مُلكاً عن الأجداد ورثوه ، ولا يحفظوا وطناً أسلافهم بدمائهم روّوْهُ ، وبأرواحهم قد حرّروه !
وبهذا الصدد كم شاد لنا أجدادُنا من أمجاد ! سُمع صداها في كلّ واد ، وشاع خيرُها في كلّ البلاد ، ولكن خلفت من بعدهم خلوف ، نابَها من الدهر صُروف ، فما كان منها على حين تقصير منها وقصور إلا أن أضاعت تلكم الأمجاد ... وغدت عالة تتكفّف العباد !
ومن أراد نموذجاً يُغترف من معينه صفاءُ الفكر وطهارةُ الشعور ونُبل السلوك فسيجد ضالته في وصيّة الخنساء لأبنائها قبل خروجهم إلى معركة القادسية ، حيث إنها شهدت معركة القادسية سنة ست عشرة للهجرة ومعها أولادها الأربعة فقالت لهم في أوَّل الليل: " يا بَنيّ إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين ، واللَّه الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هَجَّنت حَسبكم، ولا غَبّرت نسبكم . وقد تعلمون ما أعدّ اللَّه للمسلمين من الثواب الجزيل، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية؛ يقول اللَّه -عـز وجـل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200] فإذا أصبحتم غدًا إن شاء اللَّه سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وباللَّه على أعدائه مستنصرين، وإذا رأيتم الحرب قد شَمَّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وجُلِّلَتْ نارًا على أرواقها، فتَيمَّموا وطيسها، وجَالدوا رئيسها عند احتدام خميسها – جيشها- تظفروا بالغُنم والكرامة فى دار الخلد والمقامة"
فخرج بنوها ممتثلين لنصحها، وتقدموا فقاتلوا وهم يرتجزون، وأبلوا بلاءً حسنًا، واستشهدوا جميعًا ، فلما بلغها خبرهم، قالت: "الحمد للَّه الذي شرَّفنى بقتلهم فى سبيله، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته " الإصابة (8/111)
وبذا ترنّم الشعراء فقالوا :
وحدّث عن تماضِرَ من سُليْمٍ ... فحادي القادسية قد حَدانـــــا
تقلّدت البطــــولة يوم جادت ... بأربعةٍ بهم شــــــدنا عُلانـا
هل الأشـــــبالُ إلا من ولدنا..وهل كان العرين ســوى حمانـا
إلى الغرُفات قبل الفجر طاروا .. يجاور شيـخَنا فيها فتانــــا
فأكرِمْ ربّنا صفا طويلا ... من الشــهداء بالمُهج افتدانــــــــا


فعلى مثل هذا المنوال تنسج الأمم خيوط سؤددها ، وتحيك ثوب كرامتها ، وتشيد منارات حضارتها ! وإذا كان العماد الأصفهاني قد استوقفه دور نساء الإفرنج في صناعة أمجادهم فقال :" وفي الإفرنج نساء فوارس ، لهن دروع و قوانس ، يبرزن في حومة القتال و يستبسلن ، و كل هذا يعتقدنه عبادة و يجعلنه لهن عبادة"
فإنني في هذا السياق أقول : و حرائر أهل الإيمان والتوحيد أحقّ بهذا الوصف الحميد ! وأجدر بذاك المجد التليد ! فذا كان حالهنّ في سالف العصور ؛ حيث كنّ محاضنَ تخرّج الرجال ، رجالا لا يعرفون المحال ، وعليه فأهل الإيمان والنسك والطاعة والعبادة أولى بتبوّء مقعد الريادة !
وبعد : ففي ضوء ما تقرّر حُقّ لنا أن نقول بلسانٍ الإنصافِ والنّصَفة .. هي جلّ المجتمع لا نِصْفَه ! ونقصد بـ (هي) كلّ امرأة مؤمنة ، تقيّة ، نقيّة ، قانتة ، عابدة ، جاهدة ، مجاهدة ، عاكفة على تربية النشئ تربية إيمانيّة رياديّة واعدة ... ألا يا ليت قومي يعلمون ، ويعملون !!!