المدرسة أم إذا أعددتها... بقلم آرا سوفاليان
في مدرسة راهبات الأرمن الكاثوليك وهي اليوم مدرسة الزهور في دمشق باب توما كنا في أول يوم من أيار نخرج من الصفوف وندخل إلى الباحة ويكون في أحد أركانها تمثال السيدة العذراء وهو تمثال رائع تم استيراده من ايطاليا وفيه الملامح التي توقعها النحّات للسيدة العذراء وكانت هذه الملامح والعينان الوادعتان والملابس البيضاء والزرقاء النقية تأخذ بألبابنا نحن الأطفال وتنسينا القواعد الصارمة والقسوة المعمول بها من قبل الراهبات اللواتي كنَّ يستعملنها مع المعلمات قبل الطلاب، كان قد تم وضع التمثال في الوسط وفوق قاعدة مرتفعة من المرمر الأبيض وحوله سلال الزنبق الدمشقي البلدي ذو الرائحة الرائعة وكنا نسميه زنبق مار يوسف وكثير من الأزهار والورود، كنتُ أحب منها الجوري والبنفسج ـ كنا نصلي مع الراهبات فيما يعرف بالشهر المريمي، والصلاة تعلم الأدب والتهذيب والتسامح والخير.
كان هذا الحدث جديداً وغريباً بالنسبة لي وجئت إلى البيت يومها وأخبرت أمي ففهمت ما أردت أن افهمها إياه، وقد ذكرتني بهذه القصة قبل بضعة أيام من عودتها القريبة الى كندا "19 آذار 2012 " ـ عادت لأنها استنفدت فترة الستة أشهر التي يسمح فيها لها بالبقاء خارج كندا مع أنها تحمل الجنسية الكندية منذ زمن بعيد، غادرت هذه المرة وقلبها يعتصر ألماً على الحالة التي وصلت إليها سوريا وعلى أسرتها المجزأة ما بين سوريا والمغترب وعلى أولادها وأحفادها، ولأنه ليس لكبار السن غير الدعاء فلقد طلبت عند زيارتها لصيدنايا وقبل سفرها بأيام طلبت من السيدة العذراء الرأفة بسوريا وأهل سوريا والرأفة بأولادها وأحفادها وهي تعلم بأنها ستتركهم مرغمة.
واليوم وبعد عودتي من الشغل، ارسلت لي صغيرتي وعن طريق الشبكة إلى حاسبي صورة السيدة العذراء، فحركت شجوني وتذكرت أمي والشهر المريمي والسيدة العذراء ومدرستي وما تربينا عليه وسوريا الحبيبة.
أذكر الشهر المريمي الذي حضرته لأول مرة في حياتي مع ان الحادثة تعود لأكثر من خمسين سنة ماضية ولا زالت صورة السيدة العذراء بملابسها الزرقاء ماثلة أمام عيناي وكنت في الصف الثاني الابتدائي ولا زلت أعتقد أن مدارس الإرساليات التبشيرية هذه كانت من أعظم المدارس في سوريا وقد جرى تأميمها أو مصادرتها أو إغلاقها في العام 1967 في زمن وزير التربية سليمان الخش وتم الاستغناء عن الإرساليات التبشرية من رهبان وراهبات وعن خبرتهم التي يعترف بها العالم وعن اللغة الأجنبية التي يملكون زمامها فذهبوا جميعاً إلى أوطانهم أو إلى لبنان وخسرناهم وخسرنا العلم والتعليم واللغة الأجنبية على الرغم من أن هذه المدارس كانت قد خرّجت أفضل الأطباء والمهندسين والسياسيين وأخص منهم فارس بك الخوري الغني عن التعريف وبعض الاطباء الذين كانوا يقفون وقفة الند للند أمام زملائهم الأجانب في الدول الأوروبية بل ويتفوقون عليهم، وعادت هذه المدارس اليوم لتنهض بمسؤولياتها بعد ان أدرك من أدرك أننا قد خسرنا الكثير الكثير، ولم تترك لها الحرية الكاملة والتي من أهم مقوماتها تعليم الطفل في الروضة وفي آن معاً ثلاثة أغانٍ الأولى بالعربية والثانية بالانكليزية والثالثة بالفرنسية، وترك الحرية لها في المشاركة باعداد المناهج الوطنية وتطويرها، عن طريق الاستئناس بالمناهج الغربية، وقد وضع هؤلاء التبشيريون المناهج الغربية فأوصلت الغرب الى ما أوصلته اليه، وبقينا نحن على ما نحن عليه من تخبط وصراع مؤلفي الكتب في وزارة التربية كل يجتهد ويعرض عضلاته والضحية دوماً هي فئة الطلاب الأعزاء، فئة الببغاوات المنهكة التي يتم تحميلها عشر أضعاف طاقتها على الحفظ والاستيعاب كرمى لعيون الجهابذة المتصارعون فيما بينهم، فئة الببغاوات هذه التي يطلب منها معدلات فلكية لدخول فرع عليه بعض القيمة.
تبدأ المشاكل مع بداية المرحلة الإعدادية فعندما يصل الطالب الى الصف السابع تفرض عليه لغة أجنبية جديدة ثانية لم تألفه ولم يألفها فيعيش معها تحت سقف واحد كما يعيش القط مع الكلب، الى جانب مشاكله الأخرى المتعلقة بالحجم الكبير للبرنامج وحذف نصف المنهاج ورميه في الزبالة بحسب الفتاوى المتعلقة بكل أستاذ على حدا، وتصل المشاكل الى حدها الأعظم عندما يصل طلابنا إلى البكلوريا فيتحول البيت إلى مضافة تعجُّ بالاساتذه الخصوصيين وحساباتهم الخاصة وضيافاتهم الخاصة والبيت الذي يتحول صاحبه إلى خازن بيت المال والى سائق تكسي ببلاش وتضيع الطاسة في حمّام البكري ليتم البحث عنها في حمّام نور الدين الشهيد ويعثر عليها في قصر العظم.
وللإنصاف يتوجب عليَّ أن اذكر مدارس أخرى عاصرناها وخرّجت الكبار المشهود لهم كالمدرسة المحسنية التي كانت تخرّج النخبة حيث تتم مراقبة التلاميذ من قبل المعلمين عند انصرافهم من المدرسة فلا يجرؤ أحدهم على التحرش ببنت ولا يجرؤ آخر على رمي ورقة في الأرض أو يغض الطرف فلا يرى قشرة موز دون ان يحملها ويضعها في سلة المهملات أو يصرخ ويشتمْ في الشارع ليبرز محاسنه وفشخرته أمام المارة أو أمام زملائه أو تلاميذ المدارس الأخرى تحت طائلة تسجيل اسمه ومعاقبته في اليوم التالي أشد العقاب وأمام كافة الطلاب، وبالتالي فلقد كانت هناك فرقة كشفية في المدرسة المحسنية تعتبر مثال الأخلاق والأدب والنزاهة واللطف وكانت القدوة الصالحة لبقية الفرق الكشفية في المدارس الأخرى.
أما اليوم فهناك كمائن على مدارس البنات وهناك عصابات مدعومة وسيارات وتشفيط ومزاح سمج كالهجوم بالسيارة وتحرش مقرف وسباب وشتائم وشجار وكلام يمجه الذوق العام وهناك مد اليد ومد اللسان وإدخال أشياء وأدواة معينة إلى المدرسة وتهديد الأساتذة والإدارة وفي النهاية فلقد فقدنا الأخلاق وهدرنا مقومات الفضيلة والحياة ووصلنا الى ما وصلنا اليه لأن ضياع مكارم الأخلاق يؤدي إلى ضياع كل شيء.
موقف محرج أضع فيه صغيرتيّ في صباح كل يوم عند ذهابهم الى المدرسة فأنا أمسك يدهم ونعبر الشارع المقابل ونصل إلى الرصيف ويطلبون مني الذهاب فلا أذهب وإن ذهبت فأراقبهم حتى يأتي الباص، هم لا يقدّرون ما يفعله والدهم من أجلهم ويخافون أن ينعتهم ركاب الباص بأنهم صغار تحت الوصاية ووالدهم يخاف عليهم... في إحدى المرات دخل سائق دراجة نارية عن يمين الباص وحاول اختراق الأولاد الذين يحاولون الصعود إلى الباص لأن هناك صبي وبنت في صف الروضة يصعدون إلى نفس الباص والحمد لله أنني كنت موجوداً فلقد قفزت في مواجهة هذا التيس أو الثور الهائج وأمسكته من قرنيه في لعبة تشبه مصارعة الثيران فتوقف الموتور وكاد صاحبه البالغ أن يطير من فوقه ويقع عليّ وعلى الأطفال.
وفي مرة أخرى اقترب ثور آخر بسيارته وأخرج قرنيه من النافذة وأرسل سيل من الكلام القذر الذي يشبه وجهه وأنصرف وهو يقهقه، والحال لا يؤدي الى هذا المآل فالذين على الرصيف طلاب مدرسة أغلبهم صغار! وهناك من يسرق أشياء الغير ويعتدي على السيارات ويسرق اللواقط من أسقفها ويقحطها وهناك من يضع أحواض الزريعة وأحواض الغسالات الفارغة والحجارة ليمنعك من وضع سيارتك في كل الأمكنة، وهناك كوّى يطلب من أجيره أن يضع منصَب ودراجة وسلّم السقيفة ليحجز مكان لسيارته وسيارة أخرى فيتشاجر هذا الأجير مع الناس ويهدد بكسر المرآة لكل سيارة يخالف صاحبها أوامره وقراراته القرقوشية هو ومعلمه، والويل لك إن لم تمتثل لأمره، وسيل من القذارة وقلة الأدب والسفاهة والعيشة المقرفة من الصباح الى المساء، ووفد من التلاميز يتشاجر أفراده في الطريق ويرمون الحجارة على بعضهم وعلى السيارات وعلى المارة في غدوهم ورواحهم إلى المدرسة، ويضربون بعضهم ويشتمون أخوات وأمهات بعضهم بعضاً بطريقة مقرفة ومبتذلة وتعلوا أصواتهم في الحارات وتدخل النوافذ الى البيوت، والويل لمن يعطيهم أي توجيه أو ملاحظة، أما كارثة الكوارث فهي أن لا يملك الولد أهل يربونه، ولا مدرسة تؤويه، ولا مهنة تنجيه، فيكون قد جمع المجد من أطرافه الثلاث.
هناك بيت من الشعر فيه شيء أقرب إلى المناجاة وبالأحرى الاستجداء، استجداء الغيور بعد أن فقد الرجاء وهو الآتي: (الأم مدرسة إذا أعددتها ـــ أعددت شعباً طيب الأعراق)... هذا بدون شك صحيح ولكن قبل هذا وذاك وقبل كل شيء، عليك إعداد المدرسة أولاً تلك المدرسة التي ستعد الأم لتعد الولد الذي سيكبر ويصبح الأب الذي سيتزوج وينجب ويكبروا ويتزوجوا وينجبوا فيكِّون شعب قليل العدد طيب الأعراق وتدور المياه في مجاريها بدلاً من مجاريرها... وبالتالي فيجب أن يؤول البيت السابق إلى ما يلي: (المدرسة أم إذا أعددتها ـــ أعددت شعباً طيب الأعراق)... وحتى تتحقق هذه الأمنية نستميحكم عذراً أن ابقوا بخير وعلى خير وعلى أمل أن تصبحوا ووطننا على خير.
آرا سوفاليان
arasouvalian@gmail.com
ملف مرفق 1666