منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    بحثاً عن صفوة فاضلة!

    فإلى ثورة يناير المجيدة وأخواتها في بقية ربوعنا الحائرة، أهدي هذا الكتاب، وهو بعنوان:
    بحثاً عن صفوة فاضلة!

    الكتاب يضم مجموعة من المقالات والدراسات، سبق وأن قمت بإطلاقها في الفضاء الالكتروني، على نحو متتابع! المقالة الأولى والثانية، انتهيت من كتابتهما ونشرهما بوقت قصير قبل مجيء ربيعنا الصامت، أما بقية المقالات(ومن بينها ترجمة لدراسة عن الأسلوب الأخير للرائع ادوارد سعيد)، فقد كُتبت بعد الثورة!

    أكون قد وُفقت حقاً، إن استشعر قارئي مدى ولعي بتقصي الحقيقة!!


    برجاء القراءة، والنشر ـ إن أمكن ـ.

    حازم خيري
    القاهرة في يناير 2012


    بحثا عن صفوة فاضلة.doc.
    ***************










    بحثاً عن صفوة فاضلة!
    حازم خيري




    "اللواء الذي يقود حملة من الحملات
    هو وحده القادر على معرفة الهدف
    من كل حركة من حركات الحملة"
    المهاتما غاندي
    (من كتاب قصة اللاعنف في جنوب إفريقيا)
    قائمة المحتويات
    ــــــــــــــــــــ

    · مقدمة

    ·المقالة الأولى: اتسع الخرق على الراقع!

    ·المقالة الثانية: علم الكلام صحراء ملآى بالعظام اليابسة!

    ·المقالة الثالثة: أي دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي!

    ·المقالة الرابعة: أسلوب إدوارد سعيد في المرحلة الأخيرة

    ·المقالة الخامسة: غياب الصفوة الفاضلة هو المسئول!

    ·المقالة السادسة: مطلوب حماية "الفكر الذي نُبغِضُ"











    مقدمة
    ــــــــــ

    ها قد مر عام بأكمله على حدوث ثورة 25 يناير "المغدورة ـ من جهة عدم وضعها تحت المجهر، وبدء اختراع جيل جديد من المغالطات ـ"، في بلادي مصر، وأراني راغباً في الاحتفاء بأول عيد للثورة، على طريقة مُحبي الحقيقة!

    فإلى ثورة يناير المجيدة وأخواتها في بقية ربوعنا الحائرة، أهدي هذا الكتاب، وهو يضم مجموعة من المقالات والدراسات، سبق وأن قمت بإطلاقها في الفضاء الالكتروني، على نحو متتابع! المقالة الأولى والثانية، انتهيت من كتابتهما ونشرهما بوقت قصير قبل مجيء ربيعنا الصامت، أما بقية المقالات(ومن بينها ترجمة لدراسة عن الأسلوب الأخير للرائع ادوارد سعيد)، فقد كُتبت بعد الثورة!

    أكون قد وُفقت حقاً، إن استشعر قارئي مدى ولعي بتقصي الحقيقة!!


    حازم خيري
    القاهرة في يناير 2012
    الفصل الأول
    اتسع الخرق على الراقع!!
    ــــــــــــــــــــــــــــ
    برحيل إدوارد سعيد، ومن بعده محمد أركون، أحد أهم وأبرز رواد الفكر الأنسني في الحضارة الاسلامية منذ ميلادها وحتى اليوم، لابد وأن مخاوف عديدة تُساور أنصار الفكر الأنسني في ربوعنا الكسيرة ـ وأنا منهم ـ، إزاء مصير هذا الفكر بعد رحيل الرواد. كارثةًًٌ أن يُقبر فكرنا وأملنا في الخلاص مع الراحلين..

    أمور عديدة تُعزز، بل وتُرجح للأسف الشديد، كفة هذه المخاوف! انظر مثلاً إلى سيل الكتابات العارم الذي يتدفق بقوة بعد رحيل أحد الرواد، تجده يتسم بالخطابية والانشائية، بل والبكائية الساخنة، ثم ماذا؟! لا شيء سوي الوهن والعقم! للتحقق من زعمي هذا، فقط تابعوا عن كثب ما يُقال ويُكتب في رثاء أركون!

    حتماً لن تجدوا ما يُبشر بامكانية قيام من يحمل الشعلة الأركونية قبل أن تسقط إلى الأرض! حتماً لن تجدوا من يرفع شعار "ثغرة للنور أو موت علي وجه الجدار" كما فعل محمد أركون! ثمة أنواع من الموت تجعل أصحابها من الخالدين!

    حتماً لن تجدوا من يُصرح، أو حتي يُلمح، بتأثره الحقيقي لا الزائف بتجربة أركون الفكرية والحياتية، ورفضه أن تُقبر مع صاحبها، وحرصه على تثمينها عبر نقدها وتطويرها! لا يموت الفلاسفة بقبر أجسادهم، وإنما بعدم تثمين ما أنفقوا أعمارهم المحدودة في جمعه وتهذيبه! أركون فيلسوف عظيم، كارثةٌ أن نُميته!!

    من جانبي، عاهدت ربي أن أُنفق ما تبقي لي من سنوات في ذمة الحياة، في تزخيم رؤيتي للفكر الأنسني، والتي تأثرت في بنائها بالعديد من المفكرين والفلاسفة، لعل أبرزهم على الساحة العربية إدوارد سعيد ومحمد أركون، لا لشيء وانما لانتمائي لنفس مدرستهم الفكرية وإيماني معهم بالفكر الأنسني، لأنه عدل! فكرنا الأنسني يُولد من السلام، كما يخرج الخبز من الدقيق. رحم الله أركون، وسعيد الذى تحل ذكري رحيله هذه الأيام، والحق بهما على الخير إن شاء الله.
    الفصل الثاني
    "علم الكلام"صحراء ملآى بالعظام اليابسة!
    (هذه المقالة مُهداة إلى محمد أركون)
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    "إنني في كل مرة يدنو مني اليأس
    لا البث أن أحس يداً حنوناً تربت كتفي
    وأخري تملأ سراجي زيت
    وإذا بنوره يتجدد ويتألق ويتمدد
    وإذا بي أبصر اثار أقدام
    هنا وهناك
    فتستأنس روحي وتتجدد عزيمتي وتشتد
    وأدرك أنني لست وحدي في الطريق!"
    ميخائيل نعيمة

    ما أشد تشوه وقُبح فهم أبناء أمتنا للحرية! وما أخبث التخلف الذي انفق رواد فكرنا الأنسني النبلاء أعمارهم في منازلته(1)! انه تنين عديد الرؤوس، كثير البراثن وحاد الأنياب! انه تنين عظيم جداً! انه تنين مزدوج مشترك من آخرية عربية/محلية لا تتورع عن تكريس اغتراب شعوبنا ثقافياً(2)، ومن آخرية غربية/عالمية تتحالف بدم بارد مع ميراثنا المُر، تنساب في أرضنا كأفعى، تستأصل بدربة ما ـ تبقى ـ في نفوسنا من مروءة وشرف! "يالذل قوم لا يعرفون ما هو الشرف وما هو العار!"، مقولة رائعة للمفكر السوري أنطون سعادة(3)، وصف فيها بدقة خنوثة التخلف العربي.

    ثمة بون شاسع وفرق عظيم ـ فيما يرى سعادة ـ بين الحياة والعيش! الحياة لاتكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرق بين العز والذل، وما أكثر العيش في الذل حولنا! فكرنا الأنسني بدوره يرى ان الحضارةهي ما يُفكر فيه الناس ويُحسون به ويفعلونه، وهي القيم التي يضفونها على ما يُفكرون فيه ويحسون به ويفعلونه. صحيح ان أفكارهم ومختلف إحساساتهم وقيمهم يمكن أن تنتهي إلى أعمال تؤثر تأثيراً عميقاً في استعمالهم للأشياء المادية، غير أن الحضارة المادية أقل جانب من جوانب الحضارة أهمية. فالسمو الحضاري لا يبلغ ذروته إلا في عقول الناس وأفئدتهم(4)!

    قال حكيم: إن الجهلاء هم الذين يظنون أن المباني الجميلة ومباهج الحياة وألوان الترف إن هي توافرت هي التي تشهد برقي الحضارة. شعور الفرد بحريته وكرامته الإنسانية، هو برهان علو الحضارة دائماً وأبداً، هو ذلك الشيء الفذ الذي يجب الاهتمام به وتنميته إلى أقصى حد! وليس هناك ما يؤدي إلى مثل هذا الرقي كـ"التربية الخلاقة"، وتزويد الفرد بالقدرة على قراءة الأمور بطريقة أمينة ومنظمة، تجعله قادراً على النقد والابتكار. حق الإنسان في الحياة هو حقه في دفعها للأمام.

    مثل هذه "التربية الخلاقة" لا توجد للأسف الشديد في مجتمعاتنا الموغلة في التخلف! فنظمنا التربوية المُغرضة تستأصل ـ بكل دربة ودأب ـ من عقول وقلوب النشء ملكة النقد والابتكار! غرس اليقين في العقول والقلوب صيرنا "أمة من غنم"!

    ولمن يسأل: كيف يمكن إذن تفسير ذلك التعامي الواضح، من جانب القائمين على تدريس الفلسفة عندنا، عن هذا التجفيف المنهجي المُستدام لمنابع التفكير الفلسفي في مجتمعاتنا، بل وذهابهم في هذا التعامي إلى حد "التنطع"؟! وهل ثمة إمكانية للحديث عن وجود "تواطؤ" ما؟! في هذه المقالة أحاول قدر جهدي التحقق من مدى وجاهة طرح مثل هذه التساؤلات، عبر استكشاف "علم الكلام"! فعلى ما يبدو، ثمة تيه في صحراءه ضُرب على معلمي "الفلسفة" في بلادنا، كل ما أخشاه أن يكون أبدياً!

    مُصطلح "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:

    يُستخدم مصطلح "الكلام" ـ الذي يعني حرفياً "الحديث" أو "اللفظ المنطوق" ـ في الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية للتعبير عن المصطلح اليوناني "لوجوس Logos" بكل معانيه المتنوعة الدالة على: "الكلمةWord " و"العقل Reason" و"الحُجة Argument". ويُستخدم مُصطلح "الكلام" في تلك الترجمات العربية كذلك للدلالة على أي فرع من فروع التعليم. واسم الفاعل "متكلمون"(في صيغة الجمع، والمفرد منه: "متكلم") يُستخدم للدلالة على الشيوخ الممثلين لأي فرع مخصوص من فروع التعليم. من هنا ظهرت ترجمات عربية(عن اليونانية) من قبيل: الكلام الطبيعي، أصحاب الكلام الطبيعي، المتكلمون في الطبيعيات، أصحاب الكلام الإلهي، المتكلمون في الإلهيات،..الخ. وبهذا المعنى أصبح مصطلح "الكلام" يُستخدم عند من يكتبون بالعربية أصلاً، ربما بتأثير من هذه الترجمات العربية عن اليونانية.

    على هذا النحو ـ وطبقاً للمستشرق ولفسون(5) ـ يتحدث يحيي بن عدي عن المتكلمين المسيحيين. ويتحدث الشهرستاني عن كلام إمبدوقليس وكلام أرسطوطاليس وكلام المسيحيين في كيفية التجسد والاتحاد. ويتحدث يهودا اللاوي عن قوم ينتمون إلى نفس مدرسة المتكلمين أمثال أصحاب مدرسة فيثاغورس ومدرسة إمبدوقليس ومدرسة أرسطو ومدرسة أفلاطون، أو عن الرواقيين وعن فلاسفة آخرين وعن المشائين الذين ينتمون إلى مدرسة أرسطو. ويتحدث ابن رشد عن المتكلمين من أهل ملة الإسلام ومن أهل ملة النصارى أو على حد تعبيره المتكلمون من أهل الملل الثلاث. ويتحدث موسى بن ميمون عن المتكلمين الأُول من اليونانيين المتنصرين ومن المسلمين. ويتحدث ابن خلدون عن كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات..

    إضافة إلى هذا كله طُبق مصطلح "الكلام" دونما تقييد على نسق مُعين من التفكير في الحضارة الإسلامية ظهر قبل ظهور الفلاسفة، سُمي أعلامه بـ"المتكلمين"، وكانوا على النقيض من أولئك المفكرين الذين أطلق عليهم ببساطة منذ زمان أبو يوسف الكندي اسم الفلاسفة(6). فكيف ظهر في ثقافتنا العربية هذا النسق من التفكير الذي يوصف ببساطة بأنه "كلام"؟ وما الكتابات التي تتناول تاريخه ويمكن أن تُضم معاً؟ الأفكار كالبشر، لحظات الميلاد ومراحل التطور هما السبيل لمن أراد فهمها!
    في كتابه القيم "فلسفة المتكلمين في الإسلام"، وُفق هاري ولفسون في ضم كتابات الشهرستاني وابن خلدون(7)، وخرج لنا بعرض وافٍ لتطور علم الكلام في الحضارة الإسلامية، اعتمد عليه أساساً هنا، لخلو مكتبتنا العربية ـ على ما يبدو ـ من دراسات تُماثل في قيمتها، أو على الأقل تقترب من عمل ولفسون الموسوعي المهيب. ولشد ما يُخجلني استقرار مفاتيح إرثنا الحضاري في يد المستشرقين! كل ما املكه هو توخي الحذر قدر المستطاع، فولفسون وأمثاله إنما يخدمون حضارتهم!

    ظهور وتطور "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:

    "السلف" مُصطلح أطلق على صحابة النبي محمد(570ـ632م) وعلى التابعين الذين صحبوا الصحابة. وما وافق عليه هؤلاء السلف يُعد أساساً للعصر الأول للحضارة الإسلامية. وسوف نُشير ـ هنا ـ إلى "السلف" إما على أنهم الأتباع الأول لدين الإسلام أو على أنهم أصحاب الفهم الصحيح للدين. كلٌ حسبما يقتضيه السياق.

    يشتمل الأصل الديني للإسلام الذي تشكل من تعاليم القرآن على نوعين من التكاليف، وفق ما يرى ابن خلدون: الأول التكاليف البدنية، والثاني التكاليف القلبية.

    يحتوي القسم الأول على الأحكام الإلهية التي تحدد تكاليف أبدان المسلمين وهذا هو الفقه. هو مصطلح يفيد في معناه الأصلي الفهم والمعرفة، واستخدم في أول الأمر بمعنى محدود هو الاجتهاد، أي استعمال الرأي الخاص لتقرير مسائل شرعية في غياب أي سابقة تنطبق على الحالة موضوع المسألة، لكنه اكتسب فيما بعد المعنى الأشمل للدلالة على التشريع الإسلامي القائم على: القرآن، السنة، القياس، الإجماع.

    القسم الثاني من التكاليف يتعلق بالإيمان الذي يُعرف بأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان. ويتكون من عقائد ست تقررت في الدين تبعاً لحديث النبي نفسه حينما سُئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. مُناقشة تلك العقائد الإيمانية هي التي تُشكل "علم الكلام".
    [1] مرحلة علم الكلام السابق على الاعتزال:
    لا يوجد فيما يرى ولفسون ما يجعلنا نعرف على وجه الدقة متى أصبح لفظ "الكلام" يُستخدم بهذا المعنى الاصطلاحي. غير أننا وبحسب ولفسون نفهم من عبارات الشهرستاني انه كان هناك "علم كلام" سابق على نشأة الاعتزال على يد واصل ابن عطاء(699ـ748م) وأن رونق الكلام ابتدأ من عهد هارون الرشيد(786ـ809م).

    وربما يمكن أيضاً الاستدلال على وجود كلام سابق على الكلام الاعتزالي من استخدام مصطلح "المتكلمين" عند ابن سعد(764/765ـ854م) في الإشارة إلى أولئك الذين كانوا يناقشون وضع مرتكبي الكبيرة في الإسلام الذي أثارته فرقة المرجئة السابقة على الاعتزال. ومن استخدام مصطلح "يتكلم" عند ابن قتيبة(828ـ889م) فيما يتعلق بمناقشة مسألة حرية الإرادة عند غيلان الدمشقي السابق على المعتزلة.

    في سياق توضيحه لكيفية تأسس "علم الكلام" عند أولئك المتكلمين الذين ازدهروا قبل قيام الاعتزال، وعلى أي نحو كان ذلك التأسيس، يصف لنا ولفسون ـ استناداً إلى ابن خلدون ـ الأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الإسلامية قبل المعتزلة بقوله إن الاختلافات حول مسائل العقائد أدت إلى قيام "علم الكلام"، فالمشاركون في مناقشة مشكلات من قبيل: التشبيه، والقدر، ومرتكب الكبيرة، وموقف "أصحاب الجمل" من الفريقين، بدلاً من مجرد اقتباس نصوص من القرآن والسنة دفاعاً عن آرائهم، استخدموا منهجاً معيناً في الاستدلال، توصلوا به إلى استدلالات من نصوص القرآن والسنة تلك. كان ذلك المنهج الاستدلالي مُستعاراً من الفقه، حيث كان مستخدماً فيما يتعلق بمسائل الشرع التي كانت تحكم الفعل، وكان معروفاً بمنهج القياس "بمعنى المماثلة". أما بالنسبة لمسائل الاعتقاد التي أصبح يطبق عليها حديثاً منهج القياس هذا فكانت مسائل تتصل بـ"الكلمة المنطوقة"، وأصبح هذا التطبيق الحادث لمنهج القياس يسمى "الكلام"، أي ما يُقصد حرفياً من "الكلام المنطوق". والمنهج قائم، سواء في الفقه أو الكلام، على مجرد التشابه وأدلته مستمدة من النقل.
    الفرق التي ظهرت في حضارتنا الإسلامية كثيرة، وأكثر منها الاختلافات حول مسائل العقيدة. غير أن ولفسون، ولأغراض دراسته لفلسفة المتكلمين في حضارتنا، تناول اختلافات بعينها، تتعلق بمسألتين إيمانيتين: الإيمان بالله، أي الإيمان بالتصور الصحيح عن الله. والإيمان بالقدر، أي الإيمان بسلطان الله على الأفعال الإنسانية. فلقد ظهرت، فيما يتعلق بهاتين المسألتين الإيمانيتين، اختلافات في حضارتنا حتى قبل قيام الاعتزال، وهي الاختلافات التي أدت إلى مجالات عُرفت اصطلاحاً بـ"الكلام".

    وبحسب ابن خلدون، كانت اختلافات السابقين على المعتزلة عن التصور الصحيح عن الله هي تلك التي تتعلق بآيات التشبيه في القرآن. وكان مصدر الاختلافات الأوصاف التي وُصف الله بها في القرآن. فمن ناحية ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في أكثر من آية، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها(8). ومن ناحية أخرى، وردت في القرآن آي أخرى توهم التشبيه. هذه الآيات والتي قد يراها البعض متباينة أدت بحسب ابن خلدون إلى آراء ثلاثة: أولاً، سلم السلف ـ الذين غلبوا أدلة التنزيه ـ بآيات التشبيه في القرآن، فلم يتعرضوا لمعناها بتأويل، لأنهم فيما يرى ابن خلدون علموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. ثانياًً، بجانب أولئك الذين تبنوا الرأي السابق، وُجدت قلة من "المبتدعة"(9). منهم فرقتان رئيسيتان: توغلت الأولى في التشبيه الصريح مخالفة بذلك آي التنزيه المطلق. أما الثانية فحاولت التوفيق، ومن هنا ظهر التأويل من خلال صيغة: جسم لا كالأجسام.

    الاختلاف الثاني الذي ظهر قبل نشأة المعتزلة هو ـ فيما يرى الشهرستاني وابن خلدون ـ ما كان يتعلق بالاعتقاد بقدرة الله. وهذا الاختلاف نتج أيضاً عن الآيات القرآنية حول قدرة الله. فمن ناحية، توجد آيات تقرر أن هناك بعض وقائع الحياة الإنسانية وبعض أفعال الإنسان مقدرة من الله سلفاً، على حين توجد آيات تقرر أن الإنسان يتمتع بحرية معينة يمارس بها أفعاله، من ناحية أخرى. ووفقاً لما يقرره الشهرستاني فإن الرأي الأصيل في الإتباع تمثل في إتباع تلك الآيات التي تُظهر أن القدرة المهيمنة على الفعل الإنساني مرجعها إلى الله. وفي أواخر عهد الصحابة، حدثت بدعة معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري في القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشر إلى القدر. ولأنهم حولوا القدر من الله إلى الإنسان زاعمين أن الإنسان، وليس الله هو الذي يحدد أفعاله الخاصة، عُرفوا بـ"القدرية". وعلى ذلك، يشير ولفسون إلى هاتين الفرقتين على أنهما: فرقة القائلين بالاختيار "القدريين"، وفرقة القائلين بالجبر "سبق التقدير". والفرقتان حاولتا تفسير الآيات المعارضة لهما.

    قارئي الكريم، في مسيره الشاق والمُرهق نحو اللحظة الراهنة، مر علم الكلام بأكثر من مرحلة، تميزت شخصية كل منها عن الأخرى. البداية ـ وكما سنرى لاحقاً ـ كانت مع علم الكلام المعتزلي(بفترتيه: غير الفلسفية، والفلسفية)، ومن بعده جاءت محاولات الخلفاء لحمل أئمة السلف على الاعتزال ـ وهو ما عُرف بـ"المحنة" ـ، ثم ردود الفعل على هذه المحاولات العنيفة وظهور علم الكلام الأشعري، وما طرأ عليه بعد ذلك من تغييرات أحدثها الباقلاني والغزالي، وأخيراً نهوض ابن تيمية وابن القيم لإحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة غلو الغالين في خلط الفلسفة.

    [2] مرحلة علم الكلام المعتزلي:
    لشد ما يصعب ـ بحسب المستشرق نلينو(10) ـ معرفة لأي سبب وبأي معنى أطلق لفظ "المعتزلة" أول ما أطلق على أصحاب المذهب الذي كان في القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة خصماً خطراً لمذهب أهل السنة في "الكلام". ذلك لأنه يتوقف على مثل هذه المعرفة حل مسألة من أهم المسائل التاريخية، وهي مسألة أصول حركة المعتزلة، وطابعها الأصلي. نلينو يُعرفنا بأشهر الآراء في هذا الصدد(11):

    الرأي الأول: رواية نُسج حولها طائفة من الأقاصيص، يشتق أصحابها اسم المعتزلة من اعتزال واصل ابن عطاء الغزال(أو اعتزال عمرو بن عبيد بن باب في رواية أخرى) للحسن البصري(642ـ728م) أو اعتزاله للجماعة عموماً في مسألة مرتكب الكبيرة: مؤمن هو أم كافر؟ والتفاصيل تختلف قليلاً باختلاف الروايات. فعلى حسب بعضها، جاء اسم المعتزلة من العبارة التي قالها الحسن في تلك المناسبة لتلميذه القديم: "اعتزل عنا". وعلى حسب البعض الآخر، كان قتادة بن دعامة المتوفى عام 117هـ أو 118هـ المحدث أول من وضع هذا الاسم، مشيراً إلى عمرو بن عبيد وإلى نفر من أتباعه بسبب اعتزالهم الحسن. وعلى كل حال، فمهما يكن من اختلاف الروايات، فإن هذه الروايات في مجملها تعتبر أن لفظ "المعتزلة" اسم أطلقه عليهم أهل السنة، وأنه يتضمن نوعاً من الذم واتهاماً واضحاً بالخروج على السنة والجماعة.

    الرأي الثاني: المستشرق اشتينر(12)، واعتماداً على نصوص عربية متأخرة عن القرن الثالث الهجري تسمي المعتزلة أحياناً باسم "القدرية"، يرى أن المعتزلة اسم عام لفئة انفصلت عن الجمهور وانشقت عليه، ولكن بمضي الزمن أصبح هذا الاسم في أوائل القرن الثاني للهجرة علماً على مذهب خاص. وهو ما قد يُفسر على أن هذه الفرقة كانت من بين فرق الإسلام أهمها وأكبرها خطراً. أيضاً يبدو لاشتينر أن هذه التسمية قد انتشرت انتشاراً بطيئاً. إذ يتكلم ابن قتيبة المتوفى 889م عند ذكره لمذاهب عصره لا عن المعتزلة بل عن "القدرية". مع أنه عرف اسم المعتزلة. وعلى ذلك فالنواة الأولى لمذهب المعتزلة كانت إذا إنكار القدر المطلق، ويشير لفظ "القدرية" إلى مضمون المذهب، فهو من الناحية الظاهرية الشكلية إذاً أكثر تحديداً وأوضح دلالة من لفظ "معتزلة". ثم لما أظهروا آراء مخالفة في مسائل عديدة أخرى مثل صفات الله، وطبيعة القرآن، والوعد والوعيد، ومسائل ثانوية أخرى، بدت هذه التسمية ـ "القدرية" ـ غير كافية، لذا استبدل بها لفظ "معتزلة"، ولم تعد بعد ذلك تستعمل شيئاً فشيئاً.

    الرأي الثالث: المستشرق اجنتس جولدتسهير(13) يشير ـ كما يشير المؤرخون ـ، بمناسبة بن عطاء وزميله بن عبيد ومعتزلين آخرين متأخرين كذلك، إلى ميولهم الصوفية وزهدهم، أى إلى بعدهم عن زخرف الدنيا وشهواتها، ويورد شاهداً قديماً على استعمال لفظ "معتزل" بمعنى زاهد أو متعبد. يقول جولدتسهير: "معنى هذه الكلمة(المنشقون). ولست أريد أن أكرر هنا الأسطورة التي عني الناس بروايتها من أجل تبرير هذه التسمية، وإنما أريد أن أقرر أن التفسير الحقيقي لهذه التسمية هو أن البذور الأولى لهذا المذهب كانت دوافع صادرة عن التقوى والتعبد وكان الباعثون على هذه الحركة رجالاً متعبدين، زهاداً معتزلين(زاهدين) ثم اتصلت الحركة بالدوائر العقلية، فاتخذت شيئاً فشيئاً موقف المعارضة بإزاء المعتقدات الدينية السائدة"

    الرأي الرابع وهو رأي نلينو نفسه: اختار المعتزلة الأولون هذا الاسم، أو على الأقل تقبلوه، بمعنى "المحايدين" أو "الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين(أهل السنة والخوارج) على الآخر" في المسألة الدينية الخطيرة، مسألة "الفاسق". وما دامت هذه المسألة قد أخذت حظها من الأهمية بسبب المنازعات السياسية والحروب الأهلية في القرن الأول للهجرة، فمن الطبيعي أن يكون اسم المعتزلة قد أُخذ عن لغة السياسة في ذلك العصر. فكان المعتزلة الجدد المتكلمون في الأصل استمراراً في ميدان الفكر والنظر، للمعتزلة السياسيين أو العمليين. كانت الجماعة الأولى من المعتزلة المتكلمين تشمل على وجه الاحتمال أشخاصاً اختلفت آراؤهم حول بعض المسائل الدينية الأخرى. حتى انه في القرن الأول وأوائل القرن الثاني كانت بعض المسائل الدينية(مثل الجبر والاختيار) غير واضحة المعالم والحدود، ولم يكن من المستطاع القطع بأي الآراء المتعارضة يجب اعتباره من أقوال أهل السنة أو أقوال غيرهم. فلم يكن الإجماع قد تم في هذا الباب بطريقة قطعية. فكان اسم المعتزلة المتكلمين في الأصل يشير إذاً إلى النقطة الوحيدة المميزة لمذهبهم عن مذهب أهل السنة والجماعة. وهذه النقطة قد فقدت أهميتها من بعد بانقضاء الحروب الأهلية بالنسبة لمسائل الخلاف الدينية الأخرى(القدرة، الصفات، خلق القرآن، النقل والعقل)، التي رسخت شيئاً فشيئاً، وطغت على تلك النقطة من جراء رد الفعل المتزايد ضد ثبات أهل السنة ورسوخه. أو بعبارة أخرى كانت هذه التسمية تسمية جزئية في وقت من الأوقات مثل تلك التى اتخذها المعتزلة من بعد أحياناً للدلالة على بعض النقط الخاصة في تعاليمهم دلالة خاصة، مثل "القدرية"، "العدلية"، "الموحدة".

    على أية حال، وبدون التوقف كثيراً عند هذه الآراء المتباينة حول أصل تسمية المعتزلة، يرى ولفسون أن مرحلة علم الكلام المعتزلي غير الفلسفي دامت قرابة القرن، من وقت ظهور المعتزلة وحتى ظهور ترجمة الأعمال الفلسفية اليونانية إلى اللغة العربية في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي. ثم حدث، بعد انقضاء قرن على زمن بن عطاء، أن تأثرت المعتزلة بالفلسفة اليونانية واكتسبت طابعاً جديداً.

    "ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة، حين فُسرت أيام المأمون. فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنا من العلم وسمتها باسم الكلام. إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام فسُمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق. والمنطق والكلام مترادفان(كما أن الكلمة اليونانيةLogos ، أي العقل والمنطق، تعني أيضاً الكلام)".

    يُلاحظ في فقرة الشهرستاني هذه أن مذهب الاعتزال يتوزع بين فترتين: فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية. في الفترة الأولى السابقة على التأثر بالفلسفة اليونانية استخدم المعتزلة ما يوصف بأنه مناهج الكلام. والتي يرى ولفسون أن الشهرستاني يشير بها إلى تلك التطبيقات المتنوعة للقياس الفقهي على الاختلافات التي ظهرت، في نطاق ما يُسمى بالكلام قبل الاعتزال، حول مسألتين: الأولى، مسألة التصور الصحيح عن الله، خاصة مشكلة التشبيه. الثانية، مسألة الاعتقاد في القدرة.

    رأي ولفسون هذا يتسق مع وصفه للأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الإسلامية قبل قيام الاعتزال، ذلك الذي أوردناه فيما سبق بشيء من التفصيل، في سياق عرضنا لكيفية تأسس علم الكلام عند متكلمي ما قبل الاعتزال.
    أما مناهج الفلاسفة التي يشير الشهرستاني في حديثه إلى خلط المعتزلة إياها بمناهج الكلام، فيرى ولفسون إمكانية الزعم بأن الشهرستاني كان يقصد بها أمرين:

    أولاً، ربما كان يقصد أن المعتزلة ـ بتأثير من الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية ـ، قد بدءوا يستخدمون مصطلح القياس المرادف لكلمة syllogism(14)، أما عن مصطلح القياس بالمعنى القديم للمماثلة analogy المستخدم في الفقه فإنهم أحلوا محله مصطلح التمثيل. تبرير هذا الافتراض هو أن آخرين من الذين خضعوا لتأثير هذه الترجمات من المسلمين قد بدلوا معنى القياس الذي يدل عليه لفظ المماثلة analogy إلى القياس الذي يدل عليه لفظsyllogism . وأحلوا محل القياس بمعناه الفقهي القديم مصطلح التمثيل.هكذا نجد ابن سينا والغزالي على سبيل المثال، يستخدمان القياس بمعنى syllogism والتمثيل بمعنى الـanalogy ـ الذي يقوم استخدامه في الفقه على أساس التشابه بين الأشياء ـ. وبعد ذكر مصطلح التمثيل يلاحظ ابن سينا أن هذا هو الذي عرفه أهل زمانه بالقياس، ويلاحظ الغزالي أن هذا هو الذي يسميه شيوخ الفقه وشيوخ الكلام القياس.

    ثانياً، يمكن افتراض أن الشهرستاني كان يقصد بكلامه أيضاً أن المعتزلة المتفلسفين قد أصبحوا على دراية بتصور أرسطو للـanalogy وهو ما عُبر عنه في العربية بـ"المساواة"، وخلطوه بالقياس الفقهي الذي أصبح المصطلح العربي الجديد الدال عليه هو "التمثيل"، أي التشابه. المماثلة عند أرسطو لم تكن قائمة، كما هو الشأن في الفقه، على مجرد التشابه بين الأشياء. فالمماثلة عنده هي المساواة في النسب(أو العلاقات)، والتي يصورها بأنه عندما يُحمل مصطلح الخير على العقل وعلى البصر، فإن ذلك يكون على طريق المشاكلة analogy بمنزلة ما أن العقل في النفس كقياس البصر في البدن. ما يريد الشهرستاني ـ بحسب ولفسون ـ قوله هو ان المعتزلة المتفلسفين خلطوا التمثيل المُستخدم في الفقه، والذي يقوم على مجرد التشابه، بالتمثيل الذي يستخدمه أرسطو بمعنى التساوي في النسب أو العلاقات..

    مع وصف الشهرستاني لنشأة الاعتزال يتفق ابن خلدون، فإشارة الأخير إلى التمييز بين فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية في تاريخ الاعتزال، واضحة في وصفه منذ البداية ببساطة لواصل ابن عطاء عندما يرد اسمه بأنه واحد منهم، أي من المعتزلة. لكن اسم أبي الهذيل(15)، فإنه يصفه بأنه اتبع رأي الفلاسفة، وبالمثل اسم النظام(16) يصفه بأنه طالع كتب الفلاسفة. ابن خلدون يتابع الشهرستاني فيعطي ذات السببين اللذين من أجلهما تبنى متفلسفة المعتزلة الاسم القديم "كلام" لمذهبهم. يقول ابن خلدون: "وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الذي يسمى كلاماً، وإما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام ـ أي قِدم القرآن ـ".

    [3] محاولات حمل أئمة السلف على الاعتزال:
    مع قيام فرقة المعتزلة التي استخدمت ـ على نحو ما ذكرنا ـ منهج الكلام واستبقت لمذهبها اسم "الكلام" حتى عندما أصبح طابع مذهبهم فلسفياً، أصبح مصطلح "الكلام" بالتدريج علماً على المعتزلة. الشهرستاني وابن خلدون يرويان لنا كيف تبنى بعض الخلفاء الاعتزال وحملوا أئمة السلف عليه ـ وهو ما عُرف بالـ"محنة" ـ، وكيف أدى رد فعل السلف على هذا القمع إلى قيام علم كلام سني يناهض المعتزلة.

    تضييق الخلفاء المعتزلة على السلف يخبرنا عنه الشهرستاني في فقرتين قصيرتين: في احداهما، وبعد أن يذكر اسم أبي موسى المزدار(17) راهب المعتزلة بما هو واحد من شيوخ الاعتزال، يضيف قائلاً: "وفي أيامه جرت أكثر التشديدات على السلف لقولهم بقدم القرآن". وفي فقرة أخرى ـ وهو يتحدث عن المعتزلة ـ يقول: "ونصرهم..جماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن".

    مع فقرتي الشهرستاني يتفق هذا القول الخلدوني: "ولُقنها ـ أي عقيدة الاعتزال ـ بعض الخلفاء عن أئمتهم، فحمل الناس عليها، وخالفهم أئمة السلف، فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودمائهم". وثمة اشارات إلى ثلاث حقائق تاريخية تشي بها فقرتي الشهرستاني: 1ـ إصدار الخليفة المأمون سنة 827م لمرسوم أعلن فيه أن الاعتزال عقيدة رسمية للدولة، واتهم أهل السلف بالابتداع. 2ـ إصداره لمرسوم آخر في سنة 833م، سنة وفاته، تم بموجبه امتحان أهل السلف في عقيدتهم. 3ـ استمرار المحنة أثناء حكم الخليفة المعتصم وحتى السنة الثانية من حكم المتوكل سنة 847م.

    قارئي الكريم، قد يكون ملائماً ـ وقبل المضي قدماً ـ القاء الضوء على ما عُرف بـ"المحنة"، لأهمية ذلك الحدث وخطورته. ما حدث هو أن البحث فيما يراد باتصاف الله بالكلام أصبح موضوعاً له خطره في باب الجدل، حتى أفضى ذلك آخر الأمر إلى قضاء الهيئة الحاكمة على المعتزلة، أولئك الذين ذهبوا إلى القول بأن الكلام إذا كان صفة لله فلابد أن يكون أزلياً قديماً موجوداً قبل العوالم كلها، وإلا فإن الله إذا كان قد تكلم في الزمان فقد مسه سبحانه وتعالى التغيير وصار ما لم يكنه من قبل. ولا يجوز أن تحمل الاستحالة على الله، وعلى هذا فان الكلام إذا كان صفة لله وكان القرآن تسجيلاً لهذا الكلام، فلابد أن يكون على هذا الاعتبار قديماً لأنه كلام الله.

    وقد ذهب الخليفة المأمون المعتزلي إلى أن اعتبار القرآن مخلوقاً في الزمان امتحان لا يجوزه إلا ثابتو الإيمان. واشتد لسوء الحظ تعصب المعتزلة لآرائهم أيام سلطانهم وقد قاسوا كثيراً ولاقوا عنتا شديداً فيما بعد من جراء اضطهادهم لأهل السلف الذين تمسكوا تمسكاً شديداً بالمذهب القائل بقدم القرآن، ولم يسرفوا في تفسيره حرفياً وأقروا عدداً جماً من السنن التي ذاعت في الناس. على أنه قد أصبح واضحاً جد الوضوح إبان القرن الرابع للهجرة ألا مفر من بعض التسليم بما ذهب إليه المعتزلة، إذ تبلبلت أفكار الناس ومست الحاجة إلى تعزيز قواعد الدين من جديد على ضوء الأفكار الشائعة. وقد اضطلع بهذا الأمر الخطير رجلان: الأول، أبو الحسن الأشعري(873ـ935م). والثاني، أبو منصور الماتريديالمتوفى سنة 944م(18).

    وها هو ابن خلدون يوجز لنا رد فعل السلف بإزاء الـ"محنة" بقوله: "وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعاً في صدور هذه البدع". وفي ظل ما يراه ولفسون من أن تعبير الاحتجاج بالعقل يستخدمه ابن خلدون للدلالة على منهج القياس التمثيلي الفقهي القائم على معطيات نقليه والذي استخدم في وقت سابق على قيام الاعتزال واكتسب اسم الكلام، يكون واضحاً تماماً أن ما يعنيه ابن خلدون بهذه العبارات هنا هو أن أئمة السلف، قد تبنوا في استدلالاتهم، نتيجة للمحنة، منهج القياس الكلامي السابق على المعتزلة. ابن خلدون بالفعل يشير، بعد هذه الفقرة تماماً، إلى أهل السنة هؤلاء بأنهم "المتكلمون". ويُدخل فيهم ابن كلاب والقلانسي والمحاسبي، وهي الأسماء التي توصف ـ من جانب الشهرستاني ـ بأنها "أمتن كلاماً"، وذلك في إشارة إلى نمط الكلام غير الفلسفي السابق على الاعتزال.

    المتكلمون المذكورة أسمائهم تواً جماعة واحدة فقط من جماعات ثلاث للسلف ناضلت عقب المحنة فيما يتعلق بمشكلة الصفات، بما في ذلك "قدم القرآن". غير أنها، ورغم كونها من جملة السلف، باشرت علم الكلام وأيدت عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية، مما يعني استخدامها منهج المماثلة الكلامي السابق على المعتزلة.

    من جهة أخرى، يصف الشهرستاني الجماعتين الأوليين من هذه الجماعات الثلاث بأنهما ناهضتا المعتزلة لا على قانون كلامي ـ أي بدون استخدام منهج القياس الذي كان مستخدماً قبل قيام المعتزلة عند بعض السلف ـ، بل على قول إقناعي، بمعنى أنهما تشبثتا بمنهج المسلمين الأوائل وتعلقتا بظاهر الكتاب والسنة. تعبير على قول إقناعي يشير برأي ولفسون إلى ما يسميه أرسطو بالقول الخطابي، فالخطابة عنده ملكة اكتشاف الوسائل الممكنة للإقناع بالإشارة إلى أي موضوع كان.

    هكذا انقسم السلف في حوالي منتصف القرن التاسع حول مشكلة آيات التشبيه في القرآن إلى جماعات ثلاث. الأولى: جماعة الحنابلة، الذين رفضوا ـ على حين أنكروا التشبيه ـ مناقشة آياته الواردة في القرآن. الثانية: جماعة من الحشوية الذين رفضوا ـ وقد أخذوا آيات التشبيه على ظاهرها ـ مناقشة تلك الآيات التي تحظر التشبيه. الثالثة: جماعة الكلابية الذين أولوا آيات التشبيه في القرآن طبقاً للمنهج الكلامي، أي منهج القياس التمثيلي على نحو ما هو مستخدم في الفقه وعبروا عنه بصيغة "جسم لا كالأجسام". ومن قلب هذه الجماعة الكلابية انبثق علم الكلام الأشعري بعد قرن من الزمان، وذلك في عام 912م. وكما قرر الشهرستاني: "فان جماعة ـ يقصد الكلابية ـ باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية وصنف بعضهم ودرس بعض، حتى جرى بين الأشعري وبين أستاذه الجبائي مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة الكلابية فأيد مقالتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة".

    [4] علم الكلام الأشعري:
    في فقرة لابن خلدون، وبعد أن يقرر أن الأشعري كان إمام المتكلمين ـ يقصد الفرقة المكونة من الجماعات الثلاث السالفة الذكر ـ، يصفه بأنه توسط بين الطرق ونفى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، ثم يضيف على ذلك أنه أثبتجميع الصفات، بطريق النقل والعقل. ولفسون يرى أن ما يقصده ابن خلدون من عبارته طريق النقل والعقل هو نفسه الجدل القائم على العقل مضافاً إليه الدليل المستمد من النقل، المستخدم وصفاً للمنهج القياسي في الفقه. أيضاً نجد عند ابن خلدون وصفاً لتطور الكلام الأشعري.

    يبدأ ابن خلدون بتحديد عام لخصائص الكلام في فقرة أخرى يقول فيها، بعد أن قرر أن المذهب الأشعري على نحو ما أكمله أتباعه أصبح واحداً من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية: "إلا أن صور الأدلة فيها ـ في طريقة الأشاعرة ـ جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي ـ أي جاءت غير مطابقة لقواعد البرهان المنطقي ـ، لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك".
    يُلاحظ هنا أن ابن خلدون لا يقول لنا إن المذهب الأشعري لم يعتمد في صياغة أدلته على الفلسفة ولا يقول إن أدلته صائبة منطقياً في بعض الأحيان. كل ما يقوله هو أن أدلته جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي، والمقصود بقوله بعض الأحيان: عندما كان يمكن أو عندما كان يلزم أن تكون الأدلة مقدمة في صيغة منطقية أي قياسية، فإنها لم تقدم على هذا النحو، وربما كان في ذهن ابن خلدون هذا الدليل الكلامي على حدوث العالم، الذي وصفه مؤخراً بأنه دليل من حدوث الأعراض المكونة لأجزاء العالم. ويأتي هذا الدليل، كما صاغه عديد من المتكلمين، كلهم من الأشاعرة، في صيغة غير قياسية، غير أن ابن سوار المسيحي عندما عرضه على لسان المتكلمين رتبه في صيغة منطقية. ثم أبدى ملاحظة قال فيها: هذا قياسهم إذا نُظم النظم الصناعي. ابن خلدون أيضاً يذكر تغييرين حدثا في علم الكلام الأشعري:

    التغيير الأول: أحدثه الباقلاني المتوفى عام 1013م. وإذ يبدأ الباقلاني بمقدمة، من الواضح انها تشير إلى رأي أرسطو في أنه من الممكن أحياناً أن نصل إلى نتائج صحيحة من مقدمات زائفة، فإنه يقرر أن أدلة العقائد الإيمانية تتوقف على وجوب الاعتقاد بمقدمات هذه العقائد بمعنى أن بطلان الأدلة يؤذن ببطلان المدلولات. وهكذا انتهى إلى أن لأدلة العقائد أو المقدمات التي تقوم عليها الأدلة نفس المكانة أو أنها تابعة للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها، حتى ان الهجوم عليها هو هجوم على العقائد الإيمانية. بناء علي هذا، فإن ما يقوله ابن خلدون من أن الباقلاني أكد وجود الجوهر الفرد والخلاء، ينبغي أن يُفهم بمعنى أن المذهب الذري ـ الذي كان لفترة طويلة جزءاً من النظرية الفلسفية لعلم الكلام واستخدم قاعدة للتدليل على بعض المعتقدات الدينية ـ قد أصبح عند الباقلاني جزءاً رئيسياً من المعتقدات الدينية ذاتها.

    التغيير الثاني: أحدثه الغزالي(1059م ـ1111م)، ويمكن وصفه بأنه جعل نمط الكلام الأشعري كلاماً فلسفياً. فعلى خلاف الباقلاني الذي وصفه ابن خلدون بأنه تلميذ الأشعري وبه تمت طريقة الأشعرية، يصف ابن خلدون الغزالي بأنه الذي أدخل طريقة المتأخرين. ويوجز ابن خلدون طريقة المتأخرين هذه على النحو التالي: أولاً، إنهم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدتهم إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات، والمعروف أن الغزالي أحجم عن اتخاذ المذهب الذري دليلاً على مسائل الاعتقاد بحجة أنه يتضمن صعوبات يطول الكلام في حلها. ثانياً، نبذ أولئك المتأخرون رأي الباقلاني في أن بطلان الدليل، يؤذن ببطلان المدلول. وهو ما يعني ـ بحسب ولفسون ـ أن قول أرسطو بإمكانية الوصول إلى نتائج صحيحة من مقدمات زائفة، يمكن اتخاذه سبيلاً للبرهنة على أمور العقيدة. ثالثاً، إن طريقة المتأخرين ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية.

    الخاصية الأولى والخاصية الثالثة لطريقة المتأخرين التي قدمها الغزالي تعكس وصفه لموقفه من علم الكلام في سيرته الذاتية "المنقذ من الضلال" وفي مبادرته إلى القول إنه ابتدأ بطلب علم الكلام فحصله وعقله. وعلى حين يمدح الغزالي المتكلمين لدفاعهم عن عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة، إلا أنه يخطئهم باعتبارين: الأول، إنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها: إما التقليد، أو إجماع الأمة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وبلا ريب فإن المذهب الذري هو ما كان يعنيه الغزالي هنا. والثاني، قوله: إن الذين اشتغلوا بالرد على الفلاسفة من المتكلمين لم يصرفوا عنايتهم للوقوف على منتهى علومهم، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار بها بغافل عامي فضلاً عمن يُدعى دقائق العلوم. وقد حاول هو أن يعالج في "تهافت الفلاسفة" هذا القصور.

    ابن خلدون لم يعرض لنهوض ابن تيمية(1263ـ1328م) وتلميذه ابن قيم الجوزيه(1292ـ1350م) لإحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة غلو الغالين في خلط الفلسفة. المقريزي يقول في خططه: إن مذهب الحنابلة الذي أحياه ابن تيمية كان له أنصار بمصر. ثم ضعفت الهمم عن الدراسات القوية لعلم الكلام ولم يبق بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ وتنافر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور. محمد عبده في رسالة التوحيد يتفق مع هذا الرأي. الوجود الراهن لعلم الكلام يقوم على التنافس بين مذهب الأشعرية، ومذهب ابن تيمية. أنصار هذا الأخير يسمون أنفسهم اليوم بالسلفية(19).

    ملاحظات حول المنبت الحضاري لـ"علم الكلام":

    "حيثما تكون الأفكار الحاكمة زائفة فمن الغباء أن يملك المرء نفساً حرةً"، "من الأفكار الزائفة ما تبدو نعيماً سابغاً بحيث يُستحسن أن ندعها وشأنها"، ...الخ. مثل هذه الأقوال ـ الرائجة بقوة في مجتمعاتنا المتخلفة ـ لا تخلو من نفع، بل هي عين النفع، حين يستجير بها المُستضعفون، ويُمكِن لها عبيد المصالح، وخونة الأوطان!

    الأنسني ـ وعلى خلاف هؤلاء جميعاً ـ لا يملك ترف احتمال زيف الأفكار الحاكمة أو حتى التعامي عنه، وكيف يفعل وقد عاهد ربه ونفسه أن ينشد الحقيقة بأمانة ونزاهة وأن يذود بشرف عن الحرية ـ هدية الله ـ، حتى يُمكِن لها في الأرض أو يذوق الموت دونها! الأنسني لا يُجيد "فن الطاعة"، ولا يقبل أن يكون ذئباً لأخيه الإنسان! كما أن حضارتنا في أمس الحاجة لقلق الأنسنيين وتساؤلاتهم. غليل الأنسنيين لا يشفيه الماء قدر ما يشفيه الظمأ! نبع الماء لا ينشده إلا من ذاق الظمأ!

    من هنا، أستأذن قارئي الكريم في إبداء بعض الملاحظات حول المنبت الحضاري لعلم الكلام، وأعني به حضارتنا! ملاحظاتي هذه قد تبدو للبعض ساذجة أو حتى مُستفزة بعض الشيء، غير أني لا أبغي من ورائها سوى فضح زيف بعض الأفكار الحاكمة "المسكوت عنها بوعي أو بلاوعي"، في مجتمعاتنا! فأي فكرة ـ أو معتقد ـ، لا تلبث أن تقوى وتنتشر، بغض النظر عن درجة الخطأ الكامنة فيها، متى وُصِف أنصارها بأنهم "جماعة"، وهو ما يُطلق عليه لوبون "العدوى النفسية"(20).
    ولشد ما تتشابه ظاهرة "العدوى النفسية" عند لوبون، بـ"الاغتراب الثقافي" في فكرنا الأنسني. ففي تثمينها لقدر الإنسان في الذود بشرف عن حرية عقله وقلبه، تذهب رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني إنما يُعد نتاجاً لصراع طويل ومرير بين إنسان(ذات) لا يملك سوى حرية عقله وقلبه التي وهبه الخالق إياها، ليستعين بها على ترويض الحياة، وبين(آخر) يُصر على الاستئثار بالحرية، ليتسنى له العبث بمقدرات رفاق الحياة! فـ(الآخر)، في فكرنا الأنسني، عادة ما يعمد إلى آليات بعينها لتكريس تنازل أخيه(الذات) عن حقه في نقد وتطوير ثقافته ـ أعني طريقة حياته الشاملة ـ ليظل هذا الأخ المسكين(الذات) مغترباً ذليلاً طيلة مقامه في ضيافة الحياة، يستهلك فقط ما يجود عليه به (الآخر) عبد المصلحة، حتى أنه بمرور الزمن، يفقد المغترب قدرته على النقد والتطوير، ولا يملك إلا الانتظار!

    لا فرق في فكرنا الأنسني بين آخر عربي أو صهيوني أو أمريكي أو سعودي أو هندي أو ..الخ! تشويه النفوس واسترقاقها لا يخفف من فداحته وكارثية تبعاته، أن يقف وراءه أخ مُسلم أو عربي أو صهيوني أو غربي..الخ. اغتصاب الحق المُقدس في الحرية ـ هدية الله للبشر ـ، لا تُجيزه قرابة حضارية أو دينية أو قومية..الخ!

    وعليه، أعمد في هذه الجزئية لحرث المنبت الحضاري لعلم الكلام، ليس فقط بهدف تطهيره مما نبت فيه من أفكار حاكمة زائفة، تُعيق التمكين لغرسنا الأنسني، ولكن أيضاً لتعرية الآخرية المحلية، فهي ـ بحق ـ قيء حضارتنا وعارها الثقيل.

    على أية حال، لنبدأ ـ حرثنا ـ من بواكير انفتاح حضارتنا على النُشدان الحُر للحقيقة، وسنجد أنه ليس هناك ما يدعو إلى الظن بأن العرب الذين ائتلفت منهم جيوش الخلفاء الأول الظافرة يختلفون عن عرب اليوم اختلافاً بيناً. أسلافنا لم يؤرقهم ـ على نحو ما هو حاصل معنا اليوم(21) ـ حب الحقيقة ونُشدانها من خلال البحث والتقصي، ولم يكن ثمة بُد من أن يوجد باعث قوي يدفعهم إلى هذا الفضاء الرحب.

    التوسع والانتشار الإسلامي المُلفت تبعه تحول الكثيرين من المسيحيين واليهود إلى دين الإسلام. وبذلك تعرض العرب المسلمون لفكر آخر من مفكرين ينتمون لعقائد وإيديولوجيات أخرى في تناولهم للتساؤلات الأساسية عن الإنسان والوجود.

    ولقد وجدت فئة من أبناء حضارتنا الإسلامية الوليدة انه من الممكن أن تتقدم ويتطور فكرها، أو على الأقل يصبح أكثر ترتيباً وإنتاجية إذا تقبلت وطوعت بعضاً من عمليات التفسير والتقسيمات الطبيعية والنظرية التي كانت موجودة قبلها بقرون.

    وهكذا، راقت لهذه الفئة المُجتهدة من أسلافنا أعمال فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو..الخ، واكتشفت فيها ذخيرة فكرية قد تراكمت، فشعرت حيالها بإمكانية، بل وجوب، تزخيم حضارتها الناشئة بها. أيضاً وبشكل كبير أثرت انجازات قدماء المصريين وبلاد ما بين النهرين والفرس والهنود، في كل التطور الفكري خلال القرون الأولى لحضارتنا. ومن اللافت للانتباه بوجه عام، فيما يرى تيرنر(22)، الترحيب الذي احتضن به العلماء المسلمون التراث المتنوع الذي اكتشفوه في ممتلكاتهم الجديدة، حيث حظي هذا التراث بالاحترام ونُظمت وسائل للاستفادة منه.

    مدينة جند دشابور في جنوب غرب فارس، والتي فتحها العرب ـ وقعت في قبضتهم عام 836م ـ أصبحت مركزاً لنشر المعارف العلمية والفلسفية للإغريق وآخرين في جميع أنحاء الإمبراطورية الإسلامية. وقد انتعش فيها مجتمع كبير من النسطوريين وهم أعضاء طريقة مسيحية اتهمت بالهرطقة وأجبرت على الفرار من الأراضي المسيحية في نهاية القرن الخامس الميلادي. استضافت المدينة ولفترة طويلة مجموعة متميزة من المفكرين والأطباء، كان الكثير منهم يتكلم الإغريقية والسنسكريتية والسريانية وهي لهجة آرامية كانت منتشرة في تلك المنطقة. وقد عرفت هذه المجموعة اللغة العربية بعد قدوم العرب مباشرة. الخلفاء المسلمون دعموا برنامجاً مكثفاً لترجمة مخطوطات "الفلسفة" و"الطب" وبقية العلوم إلى اللغة العربية.

    كانت كمية الترجمة التي أنجزت في جند شابور حدثاً غير مسبوق في التاريخ ويمثل منذ بدايته جهداً على المستوى العالمي. انخرط فيه كثير من المسيحيين واليهود إلى جانب المسلمين. وفي أغلب الأحيان كان ذلك يتم إعمالا لقرارات ملكية تعكس اهتمام الخلفاء وأعضاء الحاشية والحكومة ليس فقط بالعلوم العملية مثل الطب والفلك ولكن أيضاً بالموضوعات الأقل تداولاً مثل التنجيم والسيمياء. القرون الأولى لحضارتنا شهدت أيضاً تأسيس مكتبات عظمى ومراكز للتعليم، في كل مكان. وقد قامت أشهر هذه المراكز في مواقع السلطة. على سبيل المثال، ازدهر بيت الحكمة في القرن التاسع في بغداد، حيث لم يكن مركزاً للترجمة فحسب، بل للدراسات أيضا.

    هكذا، وفي أقل من أربعة قرون من التوسع الإسلامي، كان الفلاسفة وعلماء الرياضة وعلماء النبات والأطباء والجيولوجيون والسيميائيون وزملاؤهم في العلوم الأخرى، العاملون في جميع الأنحاء الإسلامية، قد أتموا عملاً ـ فذاً ـ في الكشف عن التراث الثقافي المهول الذي وصل إليهم من الحضارات الأخرى السابقة عليهم. وكما هو متوقع أثار هذا الانفتاح المعرفي الهائل ـ على الموروث الإنساني ـ مخاوف فئة أخرى من أسلافنا، لابد وأنها ضمت بين صفوفها عناصر حسنة النية، راودها القلق على خصوصية حضارتنا الوليدة ـ آنذاك ـ، ولا مشكلة في هذا! على العكس، كانت الخشية كل الخشية لو أن مثل هذا الاختلاف الخصب، إزاء مسألة الانفتاح المعرفي، قد غاب! فلا أحط من أن تُستنسخ الرؤى، أو أن يُعاد تدويرها!

    بيد أن قلق أصحاب النوايا الحسنة من أسلافنا الأول إزاء هذا الانفتاح المعرفي الهائل، لم يلبث أن وجد من يُزايد عليه، ويُنادي بفكرة "النقاء الحضاري المُطلق"! فكرة خطيرة كهذه، ساعد على تمريرها ـ رغم استحالتها نظرياً ـ أمور عديدة، من بينها: 1ـ أن للإنسانية تراثاً غزيراً من المعتقدات والقيم قد يكون متبايناً في ظاهره، في حين أنه يعبر في صميمه عن وجهات نظر، تدافع بطرائقها الخاصة عن حرية الإنسان وكرامته(23). 2ـ اقتران الانفتاح المعرفي بانبهار مُربك وتكالب مُستفز على المُحاكاة وليس النقد والتطوير، على ما يبدو لعدم امتلاك أسلافنا تجارب سابقة في نُشدان الحقيقة من خلال البحث والتقصي(24). 3ـ وفود علوم سيئة السمعة كالسحر والتنجيم. 4ـ اشتغال جُل أنصار الانفتاح المعرفي بالفقه، وتورطهم بالرأي في مسائل دينية شائكة(25). 5ـ الخوف من شيوع القول بأنه لو كان "الهام النبوة" حقاً لما اختفى على مُحبي الحقيقة، وبالتالي شيوع الاشتغال بالبحث والتقصي(26). 6ـ المُزايدة على الانفتاح المعرفي من جانب عبيد المصالح وخاصة أولي الأمر، ونجاح هؤلاء في تغليف مُزايدتهم برقائق دينية، عبر تكريس ذلك الخلط المُربك بين الإسلام كحضارة أنتجها بشر ومن ثم يحق لهم نقدها ودفعها للأمام، والإسلام كأصل ديني مُكتمل، "حقيقة مُلهمة" للنبي، لا يجوز لبشر إلى أبد الآبدين، تعهدها بنقد أو تطوير.

    عبيد المصالح في مساعيهم الآثمة والدءوبة ـ الرامية لإسدال الستار الحديدي الخانق على عقول وقلوب أبناء حضارتنا ـ، لم يقنعوا أو يكتفوا بالتمكين لفكرة "النقاء الحضاري المُطلق"! بل أرادوا فكرة أخرى على النسيج نفسه، تُعضد الأولى وتشد من أزرها! وبالطبع، لم يكن ثمة فكرة أنسب ولا أفضل من المناداة بـ "عصمة الأسلاف وبلوغهم حد الكمال"! فكرة كهذه، فضلاً عن اتساقها وتناغمها مع ميراث العصبية والتفاخر بالأنساب قبل الإسلام، كانت كافية لإحاطة تاريخنا الحضاري بسياج من التوقير والقداسة(27). فما صنعته يد الأسلاف "المعصومين ـ عملياً وليس نظرياً ـ"، لا سبيل لنقده وتطويره! أليسوا الأمناء على الهام النبوة والأقرب إلى رضوان الله.

    وللمصادرة على مطالبة أنصار الانفتاح المعرفي ـ آنذاك ـ بالحق في التعايش مع مناوئيهم من أنصار الستار الحديدي، كان لابد من "ضربة استباقية"، استهدفت التشهير بهم وتحقيرهم في عيون أبناء حضارتهم، وهو ما تم بالفعل على نحو غاية في الإتقان، بحسب ما تشي روايات المؤرخين المُحايدين والموثوق بهم. فقد شاعت وراجت مُسميات لم تخل من غرض، كالـ"الفئة الصالحة"، و"الفئة الضالة/أهل البغي"، و"الفتنة"..الخ(28). وزاد الطين بله، ما شهدته مسيرتنا الحضارية الطويلة والمريرة من توظيف لهذه المُسميات ضد كل من سول له ضميره الاشتغال، أو حتى المُطالبة بحق أبناء حضارتنا في الاشتغال، بنُشدان الحقيقة، عبر البحث والتقصي!

    وهكذا، وعلى الرغم مما لقيته علوم الأوائل أو القدماء(وهو اسم أُطلق على تلك العلوم التي نفذت إلى المنبت الحضاري الإسلامي بتأثير المؤلفات المأخوذة عن الكتب اليونانية تأثيراً مباشراً أو غير مباشر في مقابلة علوم العرب خاصة الفقه) من عناية كبيرة في صدر حضارتنا الإسلامية ـ على نحو ما ذكرنا ـ، حث عليها الخلفاء العباسيون وشملوها برعايتهم، فقد ظل هناك دائماً أنصار العزلة ينظرون في شيء من الشك وعدم الثقة أو الاطمئنان إلى دارسي علوم الأوائل. وكلما ازدادت شوكة هذه الفئة المناهضة للانفتاح المعرفي، كان عدم الثقة لدى البيئات الإسلامية بإزاء الاشتغال بعلوم الأوائل أشد وأعنف. وأقدم مثل لذلك ما شعر به الفيلسوف الكندي من قلق وخوف بعد عودة سلطان هؤلاء في عهد المتوكل. هذا النحو من عدم الثقة لم يقتصر على "التفلسف" بمعناه الدقيق، بل امتد إلى كل ما يُنشد خارج إطار الحقيقة المُلهمة التي مصدرها الوحيد المُؤتمن هو المصحف المُقدس وسنة النبي(29).

    المسلم الصالح، فيما يرى أنصار العزلة، عليه أن يتجنب الانفتاح المعرفي أشد التجنب، باعتباره خطراً على دين الإسلام. فكل انحراف عن طريق المرشدين الدينيين الرئيسيين كان القوم يعزون السبب فيه إلى الانفتاح المعرفي، إذا كان صاحب هذا الانحراف قد اتصل بها عن قرب أو عن بعد. فتاج الدين السبكي يرى أن السبب الذي جر الخليفة المأمون إلى القول بخلق القرآن هو هذا المقدار الضئيل الذي عرفه من علوم الأوائل. ويذكر لنا أن العامة يرجعون أقوال الغزالي في مسائل كثيرة بما لا يتفق ومذهب أهل السنة في عصره إلى تأثره بعلوم الأوائل ـ والغزالي لم يستطع مطلقاً أن يتحلل من اهتمام بالفلسفة، على الرغم من أقواله ـ. من هنا، يسهل تفهم كيف أن الكثيرين، ممن كانوا يحرصون على حسن السمعة، كانوا يسبلون قناعاً على دراساتهم الفلسفية، مظهرين اشتغالهم بها تحت ستار علم من العلوم الحسنة السمعة.
    وأوضح مثال لهذا، وإن لم يكن هو المثال الوحيد، محمد بن على بن الطيب المتوفى سنة 436. فيذكرون عنه أنه "كان إماماً عالماً يعلم كلام الأوائل"، إلا أنه خشي أهل زمانه فلم يشأ الظهور صراحة بمظهر الفيلسوف، فأخرج مذهبه في صورة "علم الكلام"، التي لم تكن مع ذلك حائزة لرضا أهل السنة في عصره هي الأخرى. ولكنها كانت نسبياً أقل خطراً من التفلسف، كونها نمت في تربة فقهية.

    ومن أجل هذا كله، فقد كان مما يثير الغبطة ويبعث على الرضا، أن يُقال إن واحداً من الفلاسفة قد رجع ساعة موته ـ أو في شيخوخته ـ عن ضلالات الفلسفة وأكاذيبها، وأنكر التفلسف ـ حب الحقيقة ونشدانها ـ الذي استهداه طوال محياه. مثل هذا يُروى في لهجة يُمازجها سرور المنتصر الظافر، عن عالم كفيف البصر، هو حسن ابن محمد بن نجاء الأربلي المتوفى سنة 660، الذي عاصر ابن خلكان، وجرت بينه وبينه مقابلة لم تكن طيبة. كان حسن هذا إماما عالماً بعلوم الأوائل، بيد انه كان يتقي أهل زمانه بالتنكر لها، فأخرج ما عنده في صورة "الكلام"! وفي دمشق كان يجتمع خلق كثير من المسلمين وأهل الكتاب وأتباع الفلسفة كي يأخذوا عنه. ويروون أن آخر كلمة قالها ساعة الموت هي: "صدق الله العظيم، وكذب ابن سينا"!

    ثمة حادثة أخرى طريفة لشد ما ترتبط بحديثنا أشد الارتباط، في تفاصيلها ـ المُضحكة المُبكية ـ تتجلى سطوة الأفكار الزائفة على نحو فج وصارخ! كلنا يعرف الثائر المعروف بجمال الدين الأفغاني، وكلنا يعلم قدر الرجل ومدى تأثيره ونفوذه في ثقافتنا العربية المعاصرة، ففي مصر مثلاً تتلمذ على يديه ونهل من معارفه رواد ما اصطُلح على تسميته بعصر النهضة، كمحمد عبده، مصطفى كامل، قاسم أمين..الخ!

    إلى هذه الدرجة الشديدة العلو وصل تأثير الرجل ونفوذه! ولقد وقعت أثناء إعدادي لهذه الدراسة ـ وبالصدفة البحتة ـ على كتاب وثائقي خطير، بعنوان: "جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني كما يقدمه ابن أخته ميرزا لطف الله خان"، مُترجم عن الفارسية! الكتاب يحكي بالوثائق سيرة جمال الدين، ويُعضد في مجمله زعمنا بوقوع أبناء أمتنا في أسر أفكار زائفة كالنقاء الحضاري وعصمة الأسلاف.

    خلاصة الكتاب أن الثائر الطموح جمال الدين إيراني الأصل وأنه لما صمم على السفر والطواف بالبلاد الإسلامية لإيقاظها من سباتها وجد أن انتسابه إلى إيران سيقف عائقاً دون دخوله هذه البلاد، ودون القيام بالدعوة فيها، فلقب نفسه بـ"الأفغاني"، حتى يتمكن من أن يجد أذناً صاغية بين الشعوب السنية التى يزورها ـ والتي تشكل أغلبية العالم الإسلامي ـ، ولم يكن أمام جمال الدين لقب آخر يستطيع أن يحتمي به غير "الأفغاني"، لأنه فضلاً عن أن أفغانستان بلاد سنية، وأن لغتها هي الفارسية ـ كلغته هو ـ، فإن مذهبها هو المذهب الحنفي الذي كان المذهب الرسمي في الدولة العثمانية. فالتعصب المذهبي كان على أشده، خصوصاً في عصري السلطان عبد الحميد في تركيا والشاه ناصر الدين في إيران، ولولا صنيع جمال الدين هذا ما تيسر له ويا للسخرية أن يحظى بثقة الأزهريين في مصر وهو شيعي(30).

    وطبقاً للكتاب نفسه، حقق انتساب السيد جمال الدين إلى الأفغان هذا الغرض، بل حقق له نفعاً آخر هو أنه جعله بعيداً عن متناول ممثلي إيران وقناصلها في الخارج، لأن أفغانستان لم يكن لها تمثيل في الخارج في ذلك الوقت، كما كان للانجليز نفوذ كبير فيها، فكانوا يرعون أتباعها في الخارج. يسر هذا للسيد جمال الدين مهمة السفر إلى الأقطار السنية، كما يسر له الإقامة فيها بعد طرده من إيران.

    وقد ازداد إصرار جمال الدين على أنه أفغاني حينما ساءت علاقاته بحكام إيران حتى يبعد الشر عن أسرته في أسد آباد، إذ جرت العادة في ذلك الوقت ـ وكما يحدث اليوم في بلادنا ـ أن تؤخذ الأسرة بجرم أي فرد منها، ولو أن هذا لم يغن أسرة جمال الدين فتيلاً ولم يبعد عنها الشر بعد اتهام جمال الدين بالاشتراك في تدبير قتل ناصر الدين شاه. وفي تفسيره الوجيه لما اكتنف موت جمال الدين في الآستانة من غموض، أوضح الكتاب أن عريضة وصلت عن طريق علاء الملك سفير إيران في تركيا، على خلفية الاتهام المُشار إليه تواً، كشفت حقيقة أصلجمال الدين عند السلطان العثماني بالدلائل القاطعة! ظهر للسلطان أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغانيين، ويتخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به، فدبر دس السم له، وكانت هي طريقة الخلفاء العثمانيين للتخلص من غير المرغوب في وجودهم في الحياة!

    "الأفغاني" ثائر عظيم، لا شك في ذلك، ولولا أنواره، لكان الحال في مجتمعاتنا الكسيرة فيما أرى أكثر انحطاطاً مما هو عليه! رحم الله ذلك الثائر "الفارسي"! الفزع يصيبني حين أفكر فيما كان سيحصل لو أن الأفغاني لم يفطن لمخازي أمتنا وانسياقها غير المحسوب ـ بفضل عبيد المصالح ـ وراء أفكار زائفة كالنقاء الحضاري المُطلق، وعصمة الأسلاف. كانت ثورته حتماً ستُرفض، وتُرمى بكل ما يُنفر منها!

    الأكثر إثارة للدهشة ـ كما للأسف ـ هو عدم إنكار الأفغاني لما احتال هو نفسه لتلافيه، فها هو شكيب أرسلان يزوره ويدور الحديث بينهما حول ما رُوي عن عبور العرب المحيط الأطلنطي قديماً واكتشافهم أمريكا، فيقول السيد الأفغاني(31):

    "إن المسلمين أصبحوا كلما قيل لهم الإنسان كونوا بني آدم أجابوه إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من الخمول والضعة. إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالاً، ولكنكم أنتم أولاء كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آباؤكم إلا أن تفعلوا فعلهم".

    كلام الأفغاني، وهو ما يضاعف أسفي، لا يخلو من إقرار ضمني بتنزيه الماضي وتمجيده، ولا يخلو أيضاً من دعوة ـ مألوفة في أدبياتنا التنويرية ـ لاستعادة ذلك الماضي الزاهر، دون أدنى تنبيه لحتمية تجنب ما عكر صفوه من أفكار زائفة. فهل نسي الأفغاني على ما عُرف عنه من ثورة ونُبل أم أنه تناسى كون بناة حضارتنا بشر مثلنا، أدوا دورهم وامتلكوا الجرأة على أن يحيوا تجربتهم الخاصة، بما لها وما عليها، وانه استنسرت بين ظهرانيهم أكاذيب كالنقاء المُطلق وكمال الأسلاف.

    لسنا استثناءًا من ناموس الحياة! لم توجد قط ـ على ما هو معروف ـ حضارة بعينها تفردت بالإبداع أو النقل أو خلت من سمة تميزها عن غيرها من الحضارات. حتى الحضارة الغربية نفسها ـ بكل زخمها ـ لم تشذ عن هذا الناموس، ولولا خروج هذه المسألة عن نطاق البحث الماثل، لتناولتها بشيء من التفصيل(32).

    الأحداث الجارفة التي تثيرها دوافع الهيمنة والاستغلال قد تُعرض سمات الأصالة للحضارات للطمس، غير أن هذه السمات أو هذا الجوهر الإنساني المشترك يظل حياً يتمثل في طرائق الحياة، ويتردد صداه في الجهد الذي يبذله الإنسان لكي يفهم محيطه ونفسه، ولكي يعين الطريق الذي سيتبعه من قوى الطبيعة، ولكي يسيطر بالتعاون مع أمثاله، على الطبيعة وعلى أعماله ذاتها وعلى تعابيره، ولجعلها متلائمة مع القيم والغايات التي يكتشفها. هذه الوجوه الإنسانية هي من الوضوح في كبريات الأعمال الأصيلة، حتى لتُنسى بسهولة جملة العوامل الثقافية المؤثرة في عمل المبدع الذي يُنتج ، لأول مرة، شكلاً من الإبداع مُختلفاً عن القديم. أو يعرض لأول مرة مشكلة ما يحلها بطريقة مُبتكرة تكشف عن أخطاء الحلول القديمة ونقائصها. ومع ذلك فإن هذا المُبدع قد استفاد من التراث الإنساني، مُمثلاً في المواد التي أنضجت سابقاً والاهتمام الذي تركز على القضايا المُعالجة والجهود المبذولة للفهم وحاجات المعاصرين وتقديرهم. والواقع أن الإطار الذي ينبسط فيه مثل هذا الجهد الإبداعي هو من الأهمية، بحيث كثيراً ما يحدث أن يكثر في عصر إلى الدرجة التي تُميزه بقوة.

    نشر المعرفة بمثل هذه الأمور والتنقيب عما تتميز به الحضارات من سمات الأصالة سيؤدي، إن هو حدث، إلى إضعاف نزعات المزايدة والتمييز، بين أبناء الحضارات المختلفة أو حتى بين أبناء الحضارة الواحدة. لسنا ـ في الشرق والغرب ـ إلا حضارات متنوعة على كوكب واحد، نهر واحد تعددت روافده، من نبع واحد أتينا، وفي المصب نفسه تُسكب أعمارنا القصيرة. أقول هذا لأبين مدى زيف فكرة "النقاء الحضاري المُطلق"، وإن وجدت من يُزايد عليها، داخل حضارتنا وخارجها.

    حضارتنا الإسلامية، ورغم إقراري بسمو قصد روادها الأول، لم تبدأ من العدم، فالبدء من العدم امتياز لله وحده! ولم تك انقطاعاً معرفياً عما سبقها، حتى في حياة النبي محمد، وهو واضع اللبنة الأولى! يكتشف هذا بسهولة ويسر فقط أولئك الذين يملكون القدرة على القراءة الأمينة والمُنظمة لتاريخ الإنسان على الأرض..

    الزمن ليس في انحدار كما علمونا(33)، ولا يسير من سيء لأسوأ كما ألقوا في روعنا منذ نعومة أظافرنا! حاضرنا ـ وإن كان غير مُرضٍ ـ، يظل أفضل من الماضي ـ وإن عظم شأنه ـ، فهو ملك خالص لنا! انه هدية ثمينة منحنا الله إياها على نحو ما منح أسلافنا العظام، لإثراء حضارتنا والحياة ودفعهما إلى الأمام! فرصتنا لنكون أنفسنا لا مجرد نُسخ مُكررة ومُعادة! فرصتنا للإسهام بقوة وشرف في تنقية الماضي وإنتاج الحاضر والمستقبل، لا أن نكتفي باستهلاك ما أنتجه أسلافنا أو أبناء الحضارات الأخرى! لا أمر من الندم على الحياة، فلندافع عن وجودنا وحقنا فيها! ولنمح عن أنفسنا ما نُعير به، وهو اننا أمة من غنم، شكوانا الأبدية يقف وراءها أن عصى الراعي غليظة! وأن ما يوضع أمامنا من علف وإناث لا يُوزع بيننا، بالقسط! وأن حريتنا(!!) لا تتجاوز ما يسمح به طول "الحبل" الذي يُحيط بمصائرنا!

    في مقالة سابقة لي ناقشت بإسهاب ذلك الإخفاق "المُستدام" من جانب أبناء حضارتنا في إدارة عملية الانفتاح المعرفي ـ منذ جرت أول محاولة بعد رحيل النبي للانفتاح على الموروث الإنساني(34) ـ، وخلصت إلى أن مجتمعاتنا اليوم، وكما كانت في الماضي، ليست فقط عاجزة عن التعاطي مع الوافد المعرفي من خارجها، بل هي عاجزة أيضاً على نحو مضحك مبك عن التعاطي مع ميراثها الذاتي، أعني الوافد المعرفي من العصور الماضية، داخل حضارتنا نفسها! خلصت كذلك في المقالة نفسها إلى أن الانفتاح "النقدي" على الوافد المعرفي ـ الخارجي والداخلي ـ، كفيل بمحو أو على الأقل لجم هذا الإخفاق المُستدام في تعاطي أبناء حضارتنا مع إشكالية كهذه!

    وليس لقارئي الكريم أن يخلط بين دعوة فكرنا الأنسني لحتمية اقتران الانفتاح المعرفي بنفوس حُرة قادرة على النقد والتطوير، وبين دعاوي "ضِرارية" للانفتاح المعرفي، كتلك التي تجري بسخاء على الألسنة في الندوات والمؤتمرات الأكاديمية، في أرجاء عالمنا الإسلامي، والتي لا هم لأصحابها ـ وفي مقدمتهم دكاترة القانون المقدس ـ إلا المُزايدة، والتخفي المُتقن وراء مسوح الاستنارة والحمية المعرفية!

    يقول عبد الرحمن بدوي، في تقديمه لكتاب "روح الحضارة العربية"(35):

    "أهمية التراث اليوناني بالنسبة إلى دراسة الحضارة العربية أكبر بكثير جداً من أهميته بالنسبة إلى الحضارة الغربية الأوروبية الفاوستية، بالرغم مما قد يبدو في هذا القول ـ ظاهرياً ـ من غرابة. ذلك أن مصير الحضارة العربية كان أوثق ارتباطاً ـ وبدرجة هائلة ـ بالتراث اليوناني من ارتباط الحضارة الأوروبية بهذا التراث، إذ هو الذي قسر الحضارة العربية على الدخول في قالبه وهي لا تزال في مستهل نشأتها، فانطبعت بطابعه ـ قبولاً أو نفوراً، وكلاهما هنا سواء ـ بكل وضوح بحيث لم يعد من الممكن محو هذا الطابع عنها ولا الانفكاك من أسره.

    "أما الحضارة الأوروبية المعاصرة والحديثة فقد اتخذت منه مجرد تكأة للوثوب، حتى أنها لم تكد تتم الوثبة إلا وطرحته ظهرياً. وما هذه الحركات التي تدعى النزعات الإنسانية المحدثة والتي نراها تتجدد أو تتردد من حين إلى آخر في تاريخ الحضارة الأوروبية الحديثة ـ من عصر النهضة مارين بفورة فنكلمن وجته حتى نصل إلى النزعة الإنسانية المحدثة التي يمثلها فرنر ييجر، العالم الألماني المعاصر ـ آنذاك ـ وصاحب مجلة "الحضارة القديمة"، ومن التف حوله وكتب في مجلته هذه، ثم جماعة جيوم بيديه في فرنسا، ـ نقول ان هذه الحركات نفسها والشعور بالحاجة إلى بعثها إنما هو أبلغ دليل على نسيان الحضارة الأوروبية لهذا التراث، بوصفه عاملاً لا يزال يحيا بكل قواه فيها، وهذه الحركات إنما يقصد منها إلى تذكير تلك الحضارة به حين تنساه حتى تتخذ منه مرة أخرى تكآت للوثوب حينما يشعر أبناء تلك الحضارة بأنهم في حاجة إلى تلك التكآت. أما في الحضارة العربية فإن القوم لم يكونوا بحاجة إلى شيء من ذلك، لأنهم لم ينسوا التراث اليوناني أبداً، وكيف ينسونه وهو عنصر فعال دائم الحياة في كل ما يفكرون فيه ويشعرون به ويقدرونه! ماذا أقول! بل كانوا على العكس من ذلك في حاجة إلى من ينسيهم إياه، أو يخفف عنهم ثقل وطأته، أو يرشدهم إلى ينبوعهم الأصيل. ويمثل هذه الأحوال الثلاث على التوالي: أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، وأبو عثمان الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، ثم يمثل هذه الحالة الثالثة ـ أعني الإرشاد إلى الينبوع الأصيل ـ شهاب الدين يحيى بن حبس السهروردي المقتول، وهو الذي دعا إلى نزعة إنسانية تصعد عن الروح العربية الأصيلة.

    "وإذا كان سيقدر لنا ـ معشر العرب اليوم ـ أن ننشئ حضارة جديدة، فان مشكلتنا اليوم مع الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة ـ وهي الآن في دور النهاية وإفساح الطريق لحضارة مقبلة سيبزغ فجر ربيعها في نهاية هذا القرن أو مطلع الألف الثالث ـ هي بعينها نفس المشكلة التي عاناها أسلافنا الذين أنشأوا تلك الحضارة العربية. فهل لنا أن نستنبط العبرة من تلك التجربة ـ الأليمة البائسة؟ ـ التي عاناها أولئك الأسلاف؟".

    إلى هنا ينتهي كلام العملاق عبد الرحمن بدوي، وهو يُعضد في مجمله ـ وعلى نحو شديد الوضوح ـ دعوة فكرنا الأنسني لحتمية اقتران الانفتاح المعرفي بنفوس حُرة قادرة على التثمين، يزدهر معها هذا الانفتاح ويؤتي ثماره الحُلوة. كلام بدوى أيضاً يعضد زعمنا بـ"ضِرارية" دعاوي الانفتاح المعرفي التي تجري بسخاء على الألسنة في الندوات والمؤتمرات، والتي لا تتجاوز كونها "خطط اشغال"، فأصحابها يتعامون بدربة مُخيفة عما هو حاصل في مجتمعاتهم المُتخلفة من تجفيف لمنابع التفكير الفلسفي وتدجين مُخز لعقول وقلوب النشء. أين حُمرتك أيها الخجل!

    قارئي الكريم، تزويد أبناء مجتمعاتنا بنفوس حُرة قادرة على النقد والتطوير هو فيما أرى السبيل الوحيد لإحراز انفتاح خصب، يصير معه الوافد المعرفي، من داخل حضارتنا أو خارجها، رافد الهام، وتكأة نحو المستقبل، لا قالباً صلباً ندخل إليه، ونُطبع بطابعه ـ قبولاً أو نفوراً ـ، على نحو ما حصل مع أسلافنا، في القرون الأولى.

    دعوة "أنسنية" ـ كدعوتنا ـ لانفتاح معرفي خصب لابد وأنها وجدت على مر تاريخنا الطويل، من يتحمس لها ويناضل في سبيل التمكين لها. التدجين المُستدام لعقول وقلوب أبناء حضارتنا لابد وأنه أيضاً وجد من ينبه إلى تداعياته الكارثية! ثمة تعامي إذن، بل "صمت فرعوني"، من جانب بُناة الوجدان الإسلامي المعاصر ـ وفي مقدمتهم أساتذة الفلسفة، كونهم الأمناء على النُشدان الحر للحقيقة ـ، عما يجري من تشويه منهجي لهذا الوجدان، أفضى إلى عزوف "مُخيف" عن الحقيقة وعن نُشدانها.

    ولسوف أحاول فيما يلي تفسير هذا التعامي أو "الصمت الفرعوني"، مُستفيداً مما أوردته سلفاً بشأن "علم الكلام"! فعلى ما يبدو، ثمة تيه في صحراءه ضُرب على دارسي ومعلمي الفلسفة في دوائرنا الفكرية والأكاديمية كل ما أخشاه أن يكون أبدياً!

    صحراء "علم الكلام" وتيه لا يرحم!

    قلت في صدر الجزئية السابقة إن ثمة إمكانية في فكرنا الأنسني للحديث عن آخرية محلية في مختلف الحضارات! آخرية لا تغفل عن مناهضة امتلاك الذات لنفس حُرة، قادرة على النهوض بمسئوليات التفكير الفلسفي. وضربت مثلاً بـ"حضارتنا"!

    في التفكير الفلسفي بطبيعة الحال تهديد لمصالح "الآخرية المحلية" عندنا. فلن يكون بمقدورها مثلاً الاستفادة على نحو واسع النطاق من التأثير الواسع للمُرشدين الدينيين الرئيسيين والذين دائماً ما تربطهم، بحسب تجربتنا الحضارية المريرة، صلات بالهيئات الحاكمة ـ قبولاً أو رفضاً، وكلاهما سواء ـ! استشهد هنا بالإمام أبي حنيفة، وهو يعبر بكلمات قليلة عن معنى الطاعة في أعماقه للهيئة الحاكمة. فلقد منعه المنصور من الإفتاء. وفي إحدى الليالي جُرح إصبع ابنته فجاءت تسأله عن تأثير الدم على وضوئها، فقال(36): "اسألي حماداً، فلقد منعني أميري من الإفتاء، وما كنت لأعصى أميري بالغيب"! تصرف كهذا(من فقيه عظيم)، لا يستسيغه الفلاسفة!

    ثمة تمييز مُلهم، أورده ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، بين العلوم "الفلسفية" و "النقلية"، أدخل ـ فيه ـ تحت هذه الأخيرة كلا من الفقه والكلام، واصفاً الفقه بأنه أصلها، وقائلاً عن العلوم الفلسفية: إن موضوع كل علم من هذه العلوم ومشكلاته التي يعالجها، ومناهج الاستدلال التي يستخدمها في حل هذه المشكلات، كل ذلك أصله طبيعة الوجود الإنساني من حيث أن الإنسان كائن عاقل. أما بالنسبة للعلوم النقلية فإنه لا مجال فيها للعقل، فيما عدا أن العقل يمكن استخدامه في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، أي النقل الكلي. ابن خلدون ـ أيضاً ـ يصف نتائج هذا الاستخدام التقليدي للعقل بأنها "الأدلة العقلية" المستخدمة في علم الكلام فيما يتصل بمسائل الاعتقاد.

    وفي قراءته لمغزى مقابلة ابن خلدون بين "العلوم النقلية" و"العلوم الفلسفية"، يقول المستشرق ولفسون: هذان النوعان من العلوم يحاولان استخراج شيء مجهول من شيء معلوم، أو ـ باستخدام مصطلحات الكلام ـ يحاولان استخراج الغائب من الشاهد. المجهول في العلوم الفلسفية يُسمى مطلوباً، والمعلوم فيها يُسمى مقدمة. على خلاف الحال في العلوم النقلية، حيث يُسمى المجهول فرعاً، والمعلوم أصلاً أو سنة عامة. المقدمة في العلوم الفلسفية هي معنى كلي يكونه العقل الإنساني عن طريق التجريد من الموضوعات الحسية. أما الأصل في العلوم النقليه فهو القرآن والسنة.

    النبي محمد رحل عن دنيانا، دون أن يشهد تدوين النص القرآني. ما كان يحدث هو أنه عندما كان النبي ينطق آيات القرآن، كان المسلمون النابهون يسجلونها في رقع ورقية أو جلدية، وألواح حجرية أو عظمية، وعلى سعف النخيل، وغالباً ما كانوا يحفظونها في صدورهم. بعد سنوات من رحيل النبي، جُمع النص القرآني ودُون في "مصحف" مُوحد، أقره المتبحرون من كبار الصحابة، وأرسلته الدولة من "المدينة" إلى "دمشق" و"الكوفة" و"البصرة"، حيث جرى الحفاظ عليه(37). لهذه الدرجة الرفيعة وصلت مكانة النقل أو الرواية في علم القرآن وهو الأشرف عند المسلمين!

    من جانبي، أراني قانعاً أن التقسيم الخلدوني للعلوم إلى نقليه وفلسفية، غاية في الروعة والخصوبة، فهو يغري على نحو مدهش باستنطاق أصداءه في وجدان أمتنا، ولسوف أفعل! مع الاحترام لجهود غيرنا، وفي مقدمتهم المستشرقين بطبيعة الحال، فهم وبفضل ما يتمتعون به من حرية ـ لا حياة لبحث نزيه ومنظم دونها ـ أقدر على استنطاق دلالات التراث الإنساني، ومنه تراثنا الإسلامي العتيق! ولو أن نواياهم كانت خالصة وهي ليست كذلك للأسف، ولو أنهم آمنوا بأن "في موعد النصر متسع للجميع"، لحمدنا لهم إسهاماتهم الدءوبة، ولحلقنا سوياً في الفضاء الإنساني الرحب!

    قارئي الكريم، للتمييز الخلدوني بين "العلوم الفلسفية" و"العلوم النقلية"، صدى شديد الخصوصية في وجدان أمتنا، فالأذن العربية لا ترتاح كثيراً لكلمة "الفلسفة"، وذلك بفضل زيف بعض الأفكار الحاكمة لمجتمعاتنا والمُشار إليها سلفاً. رغم أن كلمة "الفلسفة" مجرد تسمية يونانية للنضال الحُر من أجل الحقيقة، اصطلح على الأخذ بها على الصعيد الكوني، ربما لاحتضان الحضارة اليونانية لهذا النضال، من حيث هو علم له موضوعه وأسلوبه في البحث وغايته. وذلك على خلاف حضارات سابقة عليها ومعاصرة لها، عرف أبناؤها "الحق المُلهم"، كمصدر وحيد ومقدس للحقيقة. البعض ـ ولست منهم ـ يُريد لما اصطُلح على تسميته في أمتنا بالحكمة، أن يكون البديل للنضال الحُر من أجل الحقيقة! حكمة العرب لا تعدو حيوانية مُطعمة بالعقل!
    أن تتفلسف هو أن تُناضل من أجل الحقيقة! والفيلسوف عاشق للحقيقة، ينشدها أينما وُجدت، من خلال البحث والتقصي، رغم اقتناعه باستحالة امتلاكه لها على وجه اليقين! المُربي لسنج يظل أروع من عبر عن عظمة هذا النُشدان الحُر للحقيقة، وذلك بقوله(38): "ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذي يُنمي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولاً، ساكناً، مغروراً..ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه ـ ولو كان في نيته أن يُضلني ضلالاً أبدياً ـ، ومد نحوي يديه المضمومتين، وهو يقول: اختر بينهما! لركعت أمامه في خشوع وهتفت به وأنا أشير إلى يسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!".

    الفيلسوف في المجتمع دليل على رفعة الفكر وسمو مرتبته، فهو يشير إلى كل ما هو خالد في الإنسان، ويثير تعطشنا إلى المعرفة المحض، المعرفة التي لا تهدف إلى مصلحة، والتي هي أعظم وأكثر استقلالاً عن أي شيء ـ نفعي أو مصلحي ـ نستطيع أن نُنتجه أو نبتكره، وكل ما نفعله تابع لها مُلحق بها، لأننا نفكر قبل أن نعمل، ولا شيء يمكن أن يحد من تفكيرنا. فقراراتنا العملية تعتمد على الموقف الذي نتخذه في المسائل التي تستطيع النفس الإنسانية أن تسألها! من هنا، تتمتع النظم الفلسفية التي ليست موجهة نحو فائدة عملية أو تطبيقية بتأثير عظيم على التاريخ!

    الفلسفة إن هي تنكبت لمهمتها، تُصبح "فلسفة ضِرار"(39)، وينتهي بها الأمر إلى التهافت في دوجماطيقية، في معرفةٍ موضوعة في صيغ، نهائية كاملة، تنتقل من واحد إلى آخر بالتعليم التلقيني! في حين أن الأسئلة في الفلسفة أشد أهمية من الإجابات، فكل إجابة تصبح بدورها سؤالاً جديداً! ذلكم هو التفلسف بمعناه الحقيقي! وهو ـ وكما يشي فضاءنا الحضاري ـ غير مُستساغ، على نحو غاية في التفرد!
    إضعاف قيمة وأهمية نُشدان الحقيقة هو الخطر الأعظم الذي يهدد أي مُجتمع. فمن جهة يعتاد أبناء المجتمع التفكير ضمن مدلولات البواعث وردود الفعل، والتكيف مع البيئة، ويسهل إخضاعهم وتسييرهم بأساليب الدعاية والتلقين، وتُراودهم في النهاية فكرة التخلي عن كل اهتمام بنشدان الحقيقة، ويقتصر اهتمامهم على النتائج العملية والتحقيق المادي للحقائق والأرقام! ومن جهة أخرى تتسيد فلسفة الضِرار الدوائر الفكرية والأكاديمية في المجتمع، ويشيع العُقم الفلسفي، فأقصى ما يفعله أصحابها هو فهم الفلسفات القائمة والتشدق بمقولاتها! ولا غرابة في ذلك، ففلسفة الضِرار تلتفت إلى ما يهتم به أبناء المجتمع أو فئة بعينها من المجتمع أو ما تهتم به الدولة، ومن ثم لا تُذكر المجتمع بعظمة نُشدان الحقيقة! ولا تُذكره بأن الحرية هي الشرط الأساسي لنشدان نزيه وخصب. وأنها من متطلبات المصلحة العامة للمجتمع. وأنها لا تلبث أن تتداعى إذا ما سيطر الخوف على الإنسان، واستبد به اليقين. تفعل فلسفة الضِرار ذلك، وأصحابها أدرى من غيرهم، بأن واجب الفيلسوف ألا يهاب انتقاد ما يجتذب الناس من حوله، لأنه إن فعل يتحول إلى كهف مُظلم، تأوي إليه "فلسفة الضِرار"!

    ثمة صدى آخر للتمييز الخلدوني بين "العلوم الفلسفية" و"العلوم النقلية"، لشد ما يرتبط بحديثنا السابق عن عدم ارتياح الأذن العربية لكلمة "الفلسفة"، ورسوخ اقتران الفلاسفة في الوجدان الشعبي بالإنكار الحتمي للإلوهية، واستبدال العقل الجاف بها!

    إن تاريخ الشرق هو قبل كل شيء نشوء الأديان في هذا الجزء الخارق من الأرض! وأبناء الشرق ـ ونحن منهم ـ لم يصلوا إلى التوحيد من جهة "البحث الحُر والتقصي" وإنما من جهة "الحق المُلهم"! فالنبي محمد هو من اضطلع بعبء تحويل تلك الفكرة الغامضة والوثنية، لدى أهل مكة، عن "الإله" إلى ذات لها خطر عظيم!

    المعارضة الضارية التى واجهها النبي في مكة والتي لم تلبث أن تحولت على نحو مُلفت، وفي فترة وجيزة نسبياً، إلى يقين راسخ في عقول وقلوب المكيين، تعضد زعمي بأن "العقل الجاف" ـ وعلى خلاف ما تُغذى به الآخرية المحلية الوجدان الشعبي في مجتمعاتنا ـ قوة محافظة أساساً، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتحرض على الاحتفاظ بكل القيم والأطر المهيمنة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير! فالنبي محمد في صدر دعوته كان يعيش وسط أمة تاجرة، كان دخلها الأساسي يتكون من الصدقات المدفوعة في سياق زيارة الأوثان في الكعبة. وكان أولئك الذين يحتلون المكانة الأولى بفعل الثروة أو المرتبة الاجتماعية، قد سارعوا إلى اعتباره بمثابة منافس خطير، من المستحسن ـ آنذاك ـ كسر إرادة التغيير عنده!

    حقاً..ما قد يتصوره الإنسان ضلالاً يُناهضه، هو في الأغلب "قناعة" الغد! من هنا، جاء وصف جوتييه للإسلام ـ أعتقد كحضارة وليس كأصل ديني ـ بأنه المجهود الأعلى والتعبير التام عن العبقرية العربية! فحضارتنا الإسلامية وكما يشي التاريخ نشأت ونمت في كنف الأصل الديني للإسلام. كما أن الأصل الديني للإسلام نشأ ونما بدوره في "التربة" التي كانت قد أعطت من قبل: "اليهودية" و"المسيحية".

    صدىً ثالث ومهم للتمييز الخلدوني بين "العلوم الفلسفية" و"العلوم النقلية"، نجده في ذلك الجدل المُربك والمُرهق حول ما إذا كانت عقولنا وقلوبنا، نحن معشر الساميين، مؤهلة كما هو الحال عند الآريين، لنشدان الحقيقة عبر البحث والتقصي!

    تقسيم الناس إلى ساميين وآريين هو ـ وفيما يرى الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا ـ من صنع علماء تاريخ اللغات في القرن التاسع عشر. والسامي منسوب إلى سام على ما جاء في التوراة من أنه كان لنوح أبناء ثلاثة: "سام" و"حام" و"يافث". فسام أبو الإسرائيليين وإخوانهم، وحام أبو الزنوج، ويافث أبو بقية البشر. أما الآري فمنسوب إلى آريا، وآريا اسم شعب كان مهده النجد الفارسي من بلاد الأفغان وما إليها، ثم انحدر فيما حوالي 2000 عام قبل المسيح إلى الشمال الغربي من الهند ومعه دين جديد هو "دين الفيديين"، له كتاب مقدس هو مجموع مزامير موجهة إلى الآلهة تسمى فيدا، وهو اليوم دين البراهمة ودين الهندوسيين، لم يدخله إلا تغير يسير(40).
    وقد كان لمزامير هذا الدين المقدسة وما ألهمته من فكر أثر كبير في حياة أبناء آسيا ووصل صدى ذلك إلى أوروبا منذ القدم. لذلك لم يكد الاستعمار الأوروبي يستقر في بعض أنحاء الهند حتى أقبل علماء أوروبا على دراسة الفيدا، وقد راعهم ما لاحظوا من التشابه بين اللغة السنسكريتية التي هي لغة الفيدا وبين اللغات الأوروبية.

    وهكذا نشأ علم مقارنة اللغات، فصنفت اللغات أصنافاً، ورُدت كل مجموعة منها إلى أصل واحد، ثم جعل العلماء هذه الأنساب اللغوية أنساباً للأمم التي تتكلم بها. ونبتت في القرن التاسع عشر نظرية شعب آري هو أصل للأمم الأوروبية ولبعض الأمم الآسيوية، ممن ترجع لغاتهم إلى أصل واحد، هو اللغة السنسكريتية أو غيرها.

    الفيلسوف رنان يُصرح في كتابه "تاريخ اللغات السامية" بأنه أول من قرر أن الجنس السامي دون الجنس الآري! لأن الجنس في مجموعه فيما يرى رنان يجب أن يحكم عليه حسب النتيجة النهائية التي وصل إلى إدخالها على نسيج الشئون الإنسانية، وأن الطابع العام للجنس يجب أن يرسم على وفق طابع الأجزاء التي تمثله أتم التمثيل. فالجنس السامي يجب أن نراه ممثلاً في الشعب العربي والشعب اليهودي!

    وعمل الجنس السامي، إذا نظرنا إليه في مجموع التاريخ العام، يظهر لنا بوضوح في التبشير بالتوحيد وتأسيسه. فالجنس السامي، أو بعبارة أدق الشعب اليهودي، لم ينتقل مع توالي الأزمنة من الإشراك الأول إلى التوحيد الذي جاء بعده "من جراء تفكير طويل في الشئون الإلهية"، أو من جراء "سير بطيء وصل به رويداً رويداً إلى فكرة أكثر نقاء عن العلة الأسمى"، أو من جراء "كشف أو تقدم تم بطريقة علمية"، بل إن التوحيد السامي ـ بحسب رنان ـ هو نتيجة استعداد جنسي خاص!

    ولقد جعل رنان من هذا "الاستعداد الجنسي" غريزة سماها "غريزة التوحيد"، وبفضل هذه الغريزة كان من حظ الجنس السامي أن يكون له منذ أيامه الأولى طرازه الخاص من الدين يقوم على فكرة أساسية هي أن السمو والسلطان هما في يد سيد أوحد خلق السماء والأرض. وتلك الغريزة كما يقول رنان ظهرت بشكل "الهام فطري" مماثل لذاك الإلهام الذي أدى إلى خلق الكلام في الأجناس كلها. ومذهب رنان في هذه النقطة الأخيرة معروف ومشهور. لقد ظهرت على ما يرى منذ بدء العالم طرز عديدة من اللغات متميزة بعضها عن بعض، ولا ترجع إحداها للأخرى، وقد فاضت من أدمغة الأجناس الهامة المختلفة، وكان لها جميعاً قواعد أساسية خاصة بالتصريف والنحو، ثم حدثت تأثيرات مختلفة ترجع إلى الزمان والمكان، فجعلت هذه القواعد تتمثل في اللغات واللهجات المتعددة وإن لم تكون منها إلا تطبيقات خاصة.

    هكذا نرى أن رنان توسع فجعل للدين نفس ذلك الفهم، ولنذكر ما يقوله في هذه المسألة: "ففيما يتعلق بالدين، كما فيما يتعلق باللغة، ليس هناك شيء يخترع، فكل شيء هو ثمرة وضع اتخذ في بادئ الأمر وظل كذلك دائماً". وقد بذل رنان جهداً بعدئذ في سبيل تخفيف صلابة هذا الفهم وبساطته حين دخل في تفاصيل الموضوع.

    لقد قال إنه لا يقصد بما تقدم إن الساميين جميعاً كانوا موحدين. ولكن إذا تعمقنا في دين الساميين الذين كانوا على الوثنية نجد لديهم ـ بحسب رنان ـ سمات عديدة لا يمكن تفسيرها إلا بتصور بدائي للإلوهية يختلف اختلافاً جوهرياً عن التصور الذى كان سائداً عند الشعوب الآرية، بمعنى أن ذلك التصور كان يشمل دائماً فكرة الملكية المطلقة. ففي الأزمنة القديمة كان التوحيد عند الشعوب السامية لا نراه متركزاً إلا لدى طبقة أرستقراطية غير محس بها، أما الشعب فكان في عبادته يتجه دائماً نحو الديانات الأجنبية. بل إن التوحيد الحق لم يوجد عند الإسرائيليين أنفسهم إلا في عدد قليل. وهكذا شأن الفكرة الأولى لا تكون ممثلة في أي شعب من الشعوب إلا في أفراد قليلين، ولهذا ينبغي إذا أردنا الحكم على خصائص جنس من الأجناس أن نتخذ الطبقة الأرستقراطية أساساً لحكمنا. بيد أن ارنست رنان لم يلبث، بعد تلك التحفظات، أن عاد وأيد نظريته الأولى القائلة بأن الساميين كانوا موحدين فطريين! تحير كهذا من جانب فيلسوف عظيم كارنست رنان، لا يُحسب عليه، بل يُحمد له!
    في كتابه "المدخل إلى الفلسفة"، حاول جوتييه، وهو أحد المتأثرين ـ وهم كُثرُ ـ بآراء رنان، بلورة التمييز بين السامي والآري على نحو أوضح، فقال إن العقلية السامية تميل إلى قرن الأشباه والأضداد، دون ربطها بما يجعل منها وحدة، بل تتركها منفصل بعضها عن بعض ثم تنتقل من إحداها إلى الآخر دون واسطة بوثبة فجائية!

    أما في العقلية الآرية فالأمر بالعكس، إذ تنزع إلى الربط بين هذه وتلك بوسائط متدرجة، فلا تنتقل من طرف إلى آخر إلا بدرجات لا تكاد تكون مُحساً بها بالقدر الممكن! إنها تسير، فيما يرى جوتييه، على نظام الألوان المُذاب بعضها في بعض!

    واقترح جوتييه في الكتاب نفسه، ولحين إيجاد تسمية أكثر دقة في التعبير، تسمية العقلية السامية، ومنها العقلية العربية، بالمذهب "المفرق" كونها تترك الضدين مفترقين لا صلة بينهما، فضلاً عن اقتراحه تسمية العقلية الآرية بالمذهب "المجمع" أو "الموحد" كونها تجمع بين الأضداد بوسائط متدرجة متوالية وتجمعها في كل واحد!

    آراء كتلك الخاصة بارنست رنان، ومن تأثروا به كجوتييه وغيره، لا تخلو من وجاهة، فرنان فيلسوف عظيم، تشهد بذلك روائعه العديدة: تاريخ المسيح، مناظرته الشهيرة مع الأفغاني، محاوراته الفلسفية، ذكريات شبابه وطفولته، وغيرها الكثير!

    آراء رنان إذن لا يصح التعامل معها ببساطة ـ قبولاً أو نفوراً، وكلاهما هنا سواء ـ، كما فعل آخرون، وفي مقدمتهم الشيخ مصطفى عبد الرازق أول أستاذ مصري للفلسفة بجامعة القاهرة، فقد رمى الشيخ مصطفى دون بحث نزيه أو تقصي، وفي أريحية وبساطة يُحسد عليهما، رنان بالتخفي وراء زينة البلاغة وخيال الشعر ووثبات الحماسة والهوى والتناقض! فرنان برأي الشيخ هو خصيم الجنس السامي والدين الإسلامي جميعاً! لماذا؟ لأنه كان فيما يتعلق بالفلسفة شديد الشكيمة على ما سماه "فلسفة عربية"، لكنه ألين جانباً لما دعاه "فلسفة إسلامية ـ علم الكلام ـ". ولا أدرى كيف لم يتنبه الشيخ أنه، بإدانته للإعلاء الرناني لعلم الكلام، إنما يُدين نفسه!
    يقول رنان في كتابه الشهير "ابن رشد والرشدية"(41): "ليس العرق السامي هو ما ينبغي لنا أن نطالبه بدروس في الفلسفة، ومن غرائب النصيب ألا ينتج هذا العرق، الذي استطاع أن يطبع على بدائعه الدينية أسمى سمات القوة، أقل ما يكون من بواكير خاصة به في حقل الفلسفة، ولم تكن الفلسفة لدى الساميين غير استعارة خارجية صرفة خالية من كبير خصب، غير اقتداء بالفلسفة اليونانية". بمثل هذا الوضوح ـ المُفيد ـ أدخل ارنست رنان في الأدبيات المتعلقة بتاريخ الفلسفة عندنا معشر العرب دعوى الطبيعة السامية، وجعلها أساساً للحكم بأبدية العقم الفلسفي لأبناء حضارتنا.

    صحيح أن للنفس السامية خواص ـ ليست غريزية كما يقول رنان، وإنما مكتسبة على خلفية التجربة الحضارية في الشرق(42) ـ، تتجلى في انسياق جارف إلى التوحيد من جهة الدين، وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية! وصحيح أن العرب قبل "الهام النبوة" لم يؤرقهم نُشدان الحقيقة، من جهة البحث والتقصي! وصحيح أيضاً أن إطلاق لفظ "فلسفة عربية"، على فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية، يستفيد من كون حضارتنا في مستهل نشأتها دخلت بنهم في قالب فلسفة اليونان وانطبعت بطابعه قبولاً أو نفوراً، ولم تجعله رافد الهام وتكأة نحو المستقبل.

    كل هذا وأكثر صحيح، غير أن الاتفاق مع آراء رنان في مجملها، ينطوي على ظلم فادح لأبناء حضارتنا الكسيرة! فالسامي والآري نقطتي ماء من نبع واحد. كلنا من خلق الله، من نبع صاف أتينا، وفي المصب نفسه تُسكب أعمارنا القصيرة. حديث رنان عن خواص ثابتة وميول فطرية لدى الأجناس يفوح بعنصرية كريهة، قد لا تكون مقصودة، فرنان فيلسوف عظيم، بيد أنني ـ وبحسب تصنيف رنان للبشر، إن جاز مثل هذا التصنيف ـ أنتمي للجنس السامي، فأنا عربي، وكما يقول المثل العربي القديم: أهل مكة أدرى بشعابها! نحن أقدر بالطبع من رنان وغيره على استكشاف ذواتنا، ولو كرهت الآخرية العربية/المحلية، التي لا تمل التضييق علينا وحرماننا من حق أصيل لنا، وهو اكتشاف الحياة! الآخر العربي يريدنا دوماً "مهندسي ديكور" بلا ذاكرة، أما حياة العز والشرف، فتأبي إلا أن نكون "علماء آثار"، ننقب في ذواتنا عن تلك الشعلة المقدسة، التي أودعها الله ضمائرنا، لنهتدي بنورها الإلهي!

    العالم المُعاش شديد الخضوع للأفكار الصحيحة والزائفة على السواء، لدرجة دفعت بعض الظرفاء للقول بوجود تناسب طردي بين الأثر الذي تُحدثه أية فكرة في حياة البشر وبين درجة الخطأ الكامنة فيها! أصحاب البصائر النفاذة هم وحدهم القادرون على إدراك الفاصل بين الصحيح والزائف! وفي مقدمتهم يأتي الفلاسفة، فالفلسفة مُغايرة لغيرها من طرق نُشدان الحقيقة! إنها بحث عن الحقيقة غير النفعية، كونها تتطلب ـ أحياناً ـ من المشتغلين بها وقوفاً أليما في وجه رغباتهم الشخصية!

    في علم الكلام تتجسد عبقرية الآخرية المحلية في المُزايدة على حق أبناء حضارتنا الإسلامية في النُشدان الحُر للحقيقة، من خارج "الحق المُلهم"! الاقتصار على التماس الحقيقة من داخل "المقدس"، وكما تشي تجربتنا الحضارية المريرة، لن يخدم سوى مصالح هذه الآخرية الآثمة التي تستغل "المقدس" من أجل تكريس اغتراب الذات وإدامة تنازلها عن حقها في امتلاك ثقافة متطورة. علم الكلام يطرد الفلسفة!

    أمور عديدة تعضد مُحاجتي هذه، أتعرض هنا لأهمها بشيء من التفصيل:

    أولاً، مازج الفقه بالفلسفة كمازج الزيت بالماء!
    "التفكير الفقهي" و"التفكير الفلسفي"، وبوصفهما أبرز الطرق أمام الإنسان لنُشدان الحقيقة، متعارضان أشد التعارض، فالتفقه نُشدان للحقيقة من داخل "الهام النبوة". والنبوة في الغالب، وكما يوضح حسن حنفي في تقديمه لـ"رسالة فى اللاهوت والسياسة"(43)، وحي مكتوب، فهي مصدر النص قبل التدوين. وتشمل النبوة جانبين: الأول، صلة النبوة بمصدر الوحي، أي النبوة على المستوى الرأسي كما تحدده صلة النبي بالله. والثاني صلة النبي بالرواة، وانتقال النبوة من رواية إلى رواية، حتى يتم التدوين، ثم انتقال المصاحف من يد إلى يد، حتى يتم التقنين، أى النبوة على المستوى الأفقي، كما يحدده وضعها، وانتقالها في التاريخ. أما التفلسف فهو حب الحقيقة والنُشدان الحُر لها، استناداً إلى روائع التراث الإنساني، والقيم السامية المشتركة!

    روائع التراث الإنساني ـ ومنها ارثنا الحضاري ـ ليست ملكاً لأبناء حضارة بعينها، فهي بحق ملك لنا جميعاً معشر البشر، في كل زمان ومكان! وها هو الفيلسوف كارل ياسبرز، ينبه في روعة إلى هذه البديهية الغائبة عن أبناء حضارتنا ـ بقوله إن واجب الإنسان، وأياً كانت الثقافة أو الحضارة التي ينتمي إليها، هو أن يتعلم من "الموقظين الكبار أو الفلاسفة العظام" في كل العصور والحضارات، لأنه ـ وبحسب ياسبرز ـ لما كانت الصياغة الواعية لحقيقة النضال من أجل الحقيقة وهدفه لا تكتمل أبداً في صورة نهائية يمكن الإجماع عليها، فلابد لكل منا أن يضطلع بها مرة أخرى وأن يعدها مسئولية يتعين عليه أن يواجهها ويتحمل تبعاتها ما بقي إنساناً!

    أنصار التوفيق بين "الهام النبوة" و"النضال من أجل الحقيقة"، يختلفون على مر التاريخ الإنساني من جهة عناصر صيغهم التوفيقية، سواء من حيث القدرة على الموائمة بين "النبوة" و"التفلسف"، أو من حيث الفعالية التعبوية لأبناء الحضارات التي ينتمون إليها! بيد أنهم جميعاً ينسبون إلى الأنبياء أفكاراً لم تجل بصدورهم ويلوون عنق "الهام النبوة" في محاولات دءوبة للالتفاف عليه وإخضاعه لتأويلاتهم الطموحة!

    منذ فيلون ـ وهو مفكر يهودي ولد بالإسكندرية نحو عام 20 أو 30 ق. م، كان يرى أن التوراة فيها أفكار فلسفية لا تقل مكانة وسمواً عن خلاصة التفكير الإغريقي، وكل ما يجب للوصول إلى هذه الأفكار هو استخلاصها من نصوص التوراة بطريق التأويل المجازي(44) ـ رأى الكثير من أنصار التوفيق في الديانات الثلاث الكبرى ضرورة اصطناع هذا الطريق، طريق التأويل المجازي أو الرمزي! ولسبينوزا يرجع الفضل في إخراج الحضارة الغربية من مثل هذا "التيه"! فها هو ينتهي في رسالته ذائعة الصيت إلى أن حرية التفلسف لا تمثل خطراً على التقوى أو على السلام في الدولة بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها.

    ثانياً، المقدس هو منبع التأمل ومصدر الشرعية!
    للرواية ـ كما أوضحنا ـ منزلة عالية وأهمية عظيمة في "العلوم النقلية"، ولهذه الأهمية كان من الضروري أن يبرز ما يُحتاج إليه من وسائل كالإسناد وغيره من قوانين غاية فى الإحكام! وإذا نظرنا إلى الرواية قبل الإسلام لم نجد العرب قد عنوا بها أو بتصحيح الأخبار، وتمحيص المرويات العناية الكاملة، لأن مروياتهم لم يكن لها من القداسة ما يدعو إلى ذلك، ففيها الأساطير والأحاديث المختلفة. أما الرواية في الإسلام، فقد شدد العلماء فيها، وقعدوا لها القواعد، وصاغوا لها الشروط، وأصلوا لها الأصول بعناية هي الأدق، بحسب عمر هاشم، لقول النبي "إن كذباً على ليس ككذب على أحد، فمن كذب على فليتبوأ مقعده من النار". رواه الشيخان(45).

    في "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" يقول مصطفى عبد الرازق: "الباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يجب عليه أولاً أن يدرس الاجتهاد بالرأي ـ في الأحكام الشرعية(!!) ـ منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نسقاً من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده. يجب البدء بهذا البحث لأنه بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، والترتيب الطبيعي يقضي بتقديم السابق على اللاحق، ولأن هذه الناحية أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثراً بالعناصر الأجنبية، فهي تمثل لنا هذا التفكير مخلصاً بسيطاً يكاد يكون مسيراً في طريق النمو بقوته الذاتية وحدها، فيسهل بعد ذلك أن نتابع أطواره في ثنايا التاريخ، وأن نتقصى فعله وانفعاله فيما اتصل به من أفكار الأمم".

    وفي كتابه"فيلسوف العرب والمعلم الثاني"، صنف الشيخ مصطفى عبد الرازق ـ في جرأة يُحسد عليه ـ، "ابن تيمية" ضمن الفلاسفة، جنباً إلى جنب مع "الكندي" و"الفارابي"، وكأنه لم يقرأ لشيخ الإسلام كتابه المهم "الحسبة ومسئولية الحكومة الإسلامية"، وكأنه أيضاً لم يقرأ لابن تيمية "رسالة في الرد على الفلاسفة"! ولا ينبغي لقارئي أن يفهم من كلامي هذا، أي تهوين أو نيل من مكانة ابن تيمية، فما قصدت سوى تبرئة الرجل، من أمور لم يستسغها! لا أحط من الكذب على الموتى!

    الشيخ مصطفى ـ ولا أدرى أكان فعله هذا بوعي أم بلا وعي ـ الحق بالفلسفة الإسلامية في مصرنا الحبيبة أشد الضرر، فحتى اليوم لا تزال جامعة القاهرة العتيقة تحتضن رؤيته هذه، دون أدنى تحفظ إزاء الطبيعة "النقلية" التي ورثها "علم الكلام" عن "الفقه"، والذي هو برأي الشيخ بداية التفكير الفلسفي في حضارتنا! الغريب أن الشيخ والمتأثرين به، وهم كُثرُ في دوائرنا الفكرية والأكاديمية، لم يكلفوا أنفسهم عبء إفهامنا: كيف للتفكير الفلسفي أن يقوى ويزدهر مع الالتزام ـ على الأقل المُعلن ـ من جانب المتكلمين بالمُقدس، كمنبع للتأمل، ومصدر لشرعية التفلسف!

    ثالثاً، طبيعة "نفعية" واشتباك مع الهيئات الحاكمة:
    لا يُمارس التفكير الفقهي إلا تحت إكراه التبجيل الدفاعي أو الهجومي أو الاثنين معاً، وذلك طبقاً لأوضاع المجتمع ـ الاجتماعية والقانونية والسياسية..الخ ـ، فصاحب التفكير الفقهي مُكلف إما بمرافقة إرادات القوة والتوسع، وإما بتدعيم الأطر الثقافية القائمة والمهيمنة، من خلال مقاومة المشاريع المنافسة، وجعل هذه الأطر أكثر تخشباً وصلابة! طبيعة نفعية كهذه للتفكير الفقهي لا تنال بحالٍ من مكانته العظيمة.

    علم الكلام ـ موضوع هذه المقالة ـ محض امتداد طبيعي للتفكير الفقهي، حتى أنه أطلق عليه "الفقه الأكبر"(46)! أورث هذا علم الكلام بالطبع طبيعة "نفعية"!

    في "رسالة التوحيد"، يقول الشيخ محمد عبده إن الغاية من هذا العلم "القيام بفرض مُجمَعٍ عليه، وهو معرفة الله تعالى بصفاته الواجب ثبوتها له مع تنزيهه عما يستحيل اتصافه به. والتصديق برسله على وجه اليقين الذي تطمئن به النفس اعتماداً على الدليل، لا استرسالاً مع التقليد، حسبما أرشدنا إليه الكتاب ـ يقصد القرآن ـ".
    محمد عبده أيضاً ـ وبرغم تحفظاتنا على بعض آراءه المشوبة على ما يبدو بشيء من الغموض ـ يكفينا عبء التأكيد على ذلك البون الشاسع الذي يفصل بين "الكلام" و"الفلسفة" من جهة "النفعية"! يقول الشيخ محمد عبده في الرسالة نفسها(47):

    "أما مذاهب الفلسفة ـ يقصد الشيخ في حضارتنا الإسلامية ـ، فكانت تستمد آراءها من الفكر المحض، ولم يكن من هم أهل النظر من الفلاسفة إلا تحصيل العلم والوفاء بما يندفع إليه رغبة العقل من كشف مجهول، أو استكناه معقول، وكان يمكنهم أن يبلغوا من مطالبهم ما شاءوا، وكان الجمهور من أهل الدين يكنفهم بحمايته، ويدع لهم من إطلاق الإرادة ما يتمتعون به في تحصيل لذة عقولهم، وإفادة الصناعة، وتقوية أركان النظام البشري، بما يكشفون من مساتير الأسرار المكنونة...

    "وما كان عاقل من عقلاء المسلمين ليأخذ عليهم الطريق أو يضع العقاب في سبيلهم إلى ما هدوا إليه .. لكن يظهر أن أمرين غلبا على غالبهم: الأول، الإعجاب بما نُقل إليهم عن فلاسفة اليونان، خصوصاً عن أرسطو وأفلاطون، ووجدان اللذة في تقليدهما لبادئ الأمر. والثاني، الشهوة الغالبة على الناس في ذلك الوقت، وهو أشأم الأمرين. زجوا بأنفسهم في المنازعات التي كانت قائمة بين أهل النظر في الدين، واصطدموا بعلومهم في قلة عددهم مع ما انطبعت عليه نفوس الكافة، فمال حماة العقائد عليهم.

    "وجاء الغزالي ومن على طريقته فأخذوا جميع ما وجد في كتب الفلاسفة مما يتعلق بالإلهيات وما يتصل بها من الأمور العامة أو أحكام الجواهر والأعراض ومذاهبهم في المادة وتركيب الأجسام وجميع ما ظنه المشتغلون بالكلام يمس شيئاً من مباني الدين، واشتدوا في نقده، وبالغ المتأخرون منهم في تأثرهم حتى كاد يصل بهم السير إلى ما وراء الاعتدال، فسقطت منزلتهم من النفوس، ونبذتهم العامة، ولم تحفل بهم الخاصة، وذهب الزمان بما كان ينتظر العالم الإسلامي من سعيهم"

    أما بخصوص اشتباك علم الكلام مع الهيئات الحاكمة، فليس ثمة صعوبة تُذكر أمام صاحب القراءة الأمينة والمنظمة، لحوادث تاريخنا الإسلامي، في تبين عمق هذا الاشتباك ومتانته! خذ مثلاً ذهاب الخليفة المأمون المعتزلي إلى اعتبار القرآن مخلوقاً في الزمان امتحان لا يجوزه إلا ثابتو الإيمان، وهو ما عُرف في التاريخ بالمحنة. وخذ أيضاً سنة خلفاء المسلمين في اختيار القضاة من بين الفقهاء والمتكلمين، فقد كان القرآن هو مرجع الشرع والقانون، ومن ثم كان "فقه القانون" فرعاً من الفقه وعلم الكلام. لكن القضاة سرعان ما وجدوا أنفسهم، في مواجهة كثرة الحالات غير المعروفة، مضطرين للاستعانة بالسنة وهكذا صار الحديث المصدر الثاني للتشريع.

    ولماذا التاريخ؟! خذ مثلاً ما يحدث في دوائرنا الفكرية والأكاديمية، من جانب بعض القائمين على تدريس "حب الحقيقة والنُشدان الحُر لها" في معاهدنا العريقة! تجد أن تأثر هؤلاء بالتواجد الأخطبوطي لعلم الكلام واضح، وان "النفعية" قد انتقلت إلي نفوسهم، ومن ثم استعصى عليهم التمييز بين أسس التفكير الفقهي ونظيره الفلسفي! يحيي هويدي، أستاذ الفلسفة المرموق بجامعة القاهرة في ستينيات القرن الماضي، أحد هؤلاء الذين انتقلت إلى تفكيرهم الفلسفي "نفعية" التفكير الفقهي، فقد ألف كتيباً صغيراً بعنوان: "حياد فلسفي"، اكتفي ـ هنا ـ باقتباس فقرتين من مقدمته، دون تعليق(48):

    "الفكرة الرئيسية التي تدور حولها صفحات هذا الكتاب الصغير، تتلخص في البحث عن إمكانية قيام حياد فلسفي يساند، من قريب أو بعيد، الحياد السياسي الذي أصبح شعاراً لنا ولرابطة الشعوب الإفريقية الآسيوية في المجال الدولي.

    "وأسارع فأطمئن القارئ الأكاديمي الحريص على أن تظل الفلسفة بمنآه عن السياسة، أن هذا الكتاب لن يشتمل على أي إقحام متعمد للفلسفة في السياسة. على الرغم من أن هذا الإقحام ليس في حد ذاته عيباً. فما يجب أن تظل الفلسفة بعيدة عن واقعنا الثوري الذي نعيش فيه. والحق إنني لا أدري لم يستجيب الأدب والفن وجميع فروع الدراسات الإنسانية لواقعنا الثوري على هذا النحو الرائع الذي نلمسه، ونطالب به، وننفذه في برامجنا، وتظل الفلسفة وحدها بمفردها بمعزل، مع أنه كان عليها ـ باعتبارها علم المبادئ ـ أن تتقدم الصفوف استجابة لتلك الصيحات التي أخذت ترتفع من الكثيرين ومن الأدباء أنفسهم تنادي بضرورة اقدام الفلاسفة على مثل هذه الخطورة. وذلك من أجل أن يوضحوا للجميع بعض الأفكار والمفاهيم الجديدة التي يستخدمها كثير من الناس استخداماً غير موفق، وتتضارب الآراء بشأنها لا لشيء إلا لأنها لم توضع في الإطار الفلسفي المناسب".

    رابعاً، الإنسان ليس مجرد حيوان مُطعم بالعقل:
    يُعامل الإنسان في مجتمعاتنا الموغلة في التخلف على أنه "مجرد حيوان مُطعم بالعقل"! يعرف هذا بسهولة من يُخالط أبناء عالمنا العربي، بشقيه ـ الفقير والغني ـ! ألم أقل ان نظمنا التربوية المُغرضة تستأصل، بدربة، من عقول وقلوب النشء ملكة النقد والابتكار! وان غرس اليقين، في العقول والقلوب، صيرنا بحق "أمة من غنم"!

    من هنا، وفي ضوء ما نلمسه من تواجد أخطبوطي لعلم الكلام في حضارتنا الإسلامية، ليس أمام المرء سوى التساؤل حول ما إذا كان هذا العلم "النقلي" ينظر إلي الإنسان على أنه "مجرد حيوان مُطعم بالعقل ـ على الأقل على الصعيد العملي ـ" أم أن الإنسان عنده أرقى وأسمى من ذلك؟ تساؤل كهذا، لابد وأن يُزعج عبيد المصالح، لحرصهم على ألا تتجاوز حريتنا ما يسمح به طول "الحبل" الذي يُحيط بمصائرنا!

    أذكر أني ـ وعلى غير عادتي ـ ذهبت لحضور ندوة نظمتها "الجمعية الفلسفية المصرية" مشكورة، عن الراحل محمد أركون. وفيها دار نقاش طويل ومُكرر بين المتحدثين والحضور، حول العقل وتعريفه وماهيته وموقف الدين منه و..الخ! أذكر أيضاً أن أحد الحضور ـ لا أذكر اسمه للأسف الشديد ـ تساءل في حياء عن مدى مشروعية اختزال "الصيغة البشرية"، وهي الأرقى والأسمى، في مجرد "حيوانية مُطعمة بعقل استاتيكي جاف"! ولشد ما أدهشني أن كلمات الرجل، ورغم خطورتها وصلتها الوثيقة بفكر "الأنسني" الراحل أركون، لم تستوقف أحداً، لا من المتحدثين ولا من الحضور، بل وجدتهم يمضون قدماً في مناقشة موقف أركون مما أتصوره قضايا كلامية! ساعتها تأكدت من أن علم الكلام يطرد الفلسفة، وأنه بحق "مقبرة الفلاسفة"!

    فرق شاسع بين نظرة علم الكلام إلى الإنسان، وبين نظرة الفلسفة له! وهو ما يفسر عدم استساغة حضارتنا، وفي ظل التواجد الأخطبوطي لعلم الكلام، من علوم القدماء سوى المنطق، كونه يتعاطى مع العقل الجاف، ولسوف اقتبس هنا تعريف الغزالي لهذا العلم، لدلالته المهمة(49): "هو النظر في طرق الأدلة والمقاييس، وشروط مقدمات البرهان، وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه، وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان. وليس في هذا ما ينبغي أن يُنكر، بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات".

    الفلاسفة في حضارتنا الإسلامية ـ ومنهم العملاق ابن رشد ـ ليسوا بعيدين كثيراً عن هذه النظرة الدونية لطبيعة الكائن البشري، كونهم لم يجرؤوا ـ ربما لحداثة تجربتهم، واشتداد سطوة الفقهاء وعلماء الكلام ـ على الذهاب إلى أبعد من الافتتان بآراء فلاسفة ـ كأرسطو وأفلوطين ـ! هم مثلاً لم يُناهضوا الرق(50)، ولم يعيروا أي اهتمام للأدب اليوناني الخصب، رغم أنهم ورثة الكنز اليوناني الفلسفي ـ العلمي والنظري ـ، وأنهم من نقلوه إلى أوروبا، بعد اغنائه قدر جهدهم! فالملاحظ أن أعمال الناثرين والمؤرخين، وكذلك الإنتاج المسرحي اليوناني الهائل، الذي كان لابد لعصر النهضة الأوروبية من اتخاذه رافد الهام ومتكأ نحو المستقبل، والذي كان في مستطاع أبناء حضارتنا استنهاله بكل سهولة، لم تكن مؤثرة في نفوس مُبدعي حضارتنا(51)!

    قارئي الكريم، أوردت في صدر هذه المقالة، قول أحد الحكماء إن الجهلاء هم الذين يظنون أن المباني الجميلة ومباهج الحياة وألوان الترف ـ إن هي توافرت ـ هي التي تشهد برقي الحضارة. وقوله أيضاً إن شعور الفرد بحريته وكرامته الإنسانية، هو برهان علو الحضارة دائماً وأبداً، هو ذلك الشيء الفذ الذي يجب الاهتمام به وتنميته إلى أقصى حد! أوردت أيضاً قول الحكيم نفسه انه ليس هناك ما يمكن أن يؤدي إلى مثل هذا الرقي كالتربية الخلاقة، وتزويد الفرد بالقدرة على قراءة الأمور بطريقة أمينة ومنظمة، تجعله قادراً على التفكير النقدي ودفع الحياة للأمام!

    "كيف يمكن تفسير ذلك التعامي الواضح من جانب القائمين على تدريس الفلسفة عندنا عن هذا التجفيف المنهجي المُستدام لمنابع التفكير الفلسفي في مجتمعاتنا، من خلال غرس اليقين في عقول وقلوب النشء، بل وذهاب هؤلاء في تعاميهم إلى حد "التنطع"؟! وهل ثمة إمكانية للحديث عن وجود "تواطؤ" ما؟!". تلك تساؤلات، كنت قد وعدتك، قارئي الكريم، في صدر هذه المقالة، بالتحقق من مدى وجاهة طرحها.

    تحقق كهذا الذي وعدت بالسعي لانجازه، لم يكن الاقتراب منه ممكناً، بدون استكشاف دهاليز "التفكير الفقهي"، وليس "الفلسفي"! لأنه لا يوجد "تفكير فلسفي" عندنا، ما يوجد هو "تفكير فقهي"، يُلقى في روع أبناء مجتمعاتنا البائسة أنه "تفلسف أو بحث حُر عن الحقيقة"، تُراعى فيه خصوصيتنا الحضارية!! وراء هذه المغالطة المشئومة وكما تبين صفحات هذه المقالة، يتمترس تجار الآلام وفلاسفة الضرار! وبفضل هذه المغالطة المشئومة يظل الإنسان عندنا مسخاً باهتاً، بل وزاهداً في استكشاف نفسه والحياة، كأن عليهما قصاصة ورق تقول: "للمشاهدة فقط..لا تلمس هذه الأشياء"!
    ما أقبح هذه المُزايدة الرخيصة والأبدية على خصوصيتنا الثقافية! وما أقبح خنوثة التخلف في مجتمعاتنا، تلك التي لطالما استعصت على التفكيك! الحق أنه لا أمل عندي في خلاص قريب لأبناء حضارتنا، فنفوسهم نزيلة "شرك" لعين غاية في الإحكام والمتانة، استثمر "الآخر المحلي" عبقريته الآثمة في تشييده، عبر مئات السنين، وأراه لم يخسر، لأنه لا خلاص لمسخ، وأبناء أمتنا على نحو ما نرى ، ما بين ممسوخ، أو صانع مسوخ! خاصة في عقود ما بعد الكولونيالية، أعني عقود ما بعد رحيل المستعمر الأوروبي عن بلادنا، وعودة "الآخرية المحلية/العربية"، في أشد صورها "خسة"، إلى الانفراد بمقاليد الأمور، مدعومة بالآخريتين العالمية والإقليمية!

    الكتابة والبحث عندي كقتال فُرض على جندي، عليه فقط أن يُقاتل، وليس له أن يسأل عما إذا كان سينتصر أم لا؟ إذ لابد للإنسان من قضايا يدافع عنها ويموت من أجلها، لا أن يقنع بحياة ذل، حريته فيها بمقدار ما يسمح به قيد "الآخر" اللعين!

    والحمد لله أني أتيت إلى الوجود في هذه المرحلة المتقدمة نسبياً من مسيرة الجنس البشري على طريق الحياة، فما أحرز من رقي معرفي، وما تركه لنا نبلاء الحضارات المختلفة، من روائع لا تموت، وما بلغه البحث والتقصي عن خبايا لطالما سُكت عنها في عصور الانغلاق والعزلة، على نحو ما حصل معنا، وما أزهق من نفوس طاهرة، سطر أصحابها بدمائهم الذكية وصايا الحرية والشرف والكرامة، كل هذه الأمور وغيرها، لم يعد معها بمقدور بشر أن يزعزع إيماني بـ"الله والحرية"!

    بقيت لي كلمة أخيرة، ألهمتني إياها أحداث "تونس" الأخيرة والتي سمعت بها بينما كنت أضع اللمسات الأخيرة لمقالتي هذه: إن القارئ النزيه والأمين لتاريخنا وحاضرنا وربما مستقبلنا أيضاً ـ نحن العرب ـ لا يجد ثورات بالمعنى الحقيقي، بل هيجان أغنام ساءها أن عصى الراعي غليظة، وأن ما هو مُتاح أمامها من علف وإناث لا يُوزع بينها بالعدل! هيجان كهذا ورغم احترامنا الكامل لخطورة دوافع أصحابه، تقتصر تداعياته، وكما يحكي التاريخ، على رموز نخبوية بعينها، يُضحى بها، لحماية البنية التحتية للتخلف، والحيلولة دون فتح أبواب الحرية أمام الهائجين!

    الثورات الحقيقية، ليست كانقلابات العسكر، أو كهيجان مُتضرري البطالة والغلاء والفساد والمرض، فهي "ثقافية" في جوهرها، ينهض أنصارها، في إصرار وجلد، بعبء تفكيك البنى التحتية للتخلف في مجتمعاتهم! فلا تغيير حقيقي دون موقظين عظام، أعني "فلاسفة"، يعبدوا الطريق، ويحرروا النفوس وليس الأجساد فقط، من تيه لا يرحم، عبر التمكين المنهجي لحب الحقيقة، والنُشدان الحُر لها، في نسيج ثقافتهم المحلية! ولا تغيير حقيقي ما ذاعت دعاوي: التنوير الديني والتجديد الفقهي وتحويل العلوم النقلية إلى فلسفية..الخ(52)، كونها "ضرارية" لذاتها وليس لأصحابها!

    أيها التائهون في صحراء "الكلام"، هلموا لقد طال السفر!

    الهوامش:
    ـــــــــ
    (1) البعض ـ ولست منهم ـ يرى أنه لكي تكون عبارة "الفكر الأنسني" ذات بريق ودلالة يُعتد بها فلابد لها أن تظل دوماً فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية! في هذه المقالة، أعني بالفكر الأنسني رؤيتي المقترحة له. وفيها لا تعني الأنسنية سوى أن يُحقق الإنسان، أي إنسان، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الجنسية..الخ، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسباً لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوعها في إطار الخصائص العامة للأنسنية والتي تتمثل فيما يلي: 1ـ معيار التقويم هو الإنسان. 2ـ الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة. 3ـ تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها. 4ـ القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. 5ـ تأكيد النزعة الحسية الجمالية. للمزيد راجع للكاتب: مقالات في الفكر الأنسني، كتاب منشور على الانترنت.
    (2) في تثمينها لقدر الإنسان في الذود بشرف عن حرية عقله وقلبه، تذهب رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني إنما يُعد نتاجاً لصراع طويل ومرير بين إنسان(ذات) لا يملك سوى حرية عقله وقلبه التي وهبه الخالق إياها، ليستعين بها على ترويض الحياة، وبين(آخر) يُصر على الاستئثار بالحرية، ليتسنى له العبث بمقدرات رفاق الحياة! فـ(الآخر)، في فكرنا الأنسني، عادة ما يعمد إلى آليات بعينها لتكريس اغتراب أخيه(الذات) ثقافياً، أعني تكريس تنازله عن حقه في نقد وتطوير ثقافته ـ أو طريقة حياته الشاملة ـ ليظل هذا الأخ المسكين(الذات) مغترباً ذليلاً طيلة مقامه في ضيافة الحياة، يستهلك فقط ما يجود عليه به (الآخر) عبد المصلحة، حتى أنه بمرور الزمن، يفقد المغترب قدرته على النقد والتطوير، ولا يملك إلا الانتظار! ولا فرق في فكرنا الأنسني بين آخر عربي أو صهيوني أو أمريكي أو سعودي أو هندي أو ..الخ! تشويه النفوس واسترقاقها لا يخفف من فداحته وكارثية تبعاته، أن يقف وراءه أخ مُسلم أو عربي أو صهيوني أو غربي..الخ. اغتصاب الحق المُقدس في الحرية ـ هدية الله للبشر ـ، لا تُجيزه قرابة حضارية أو دينية أو قومية..الخ! راجع للكاتب: تهافت الآخر، كتاب منشور على الانترنت. وراجع للكاتب أيضاً: الاغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، 2006).
    (3) أنطون سعادة[1مارس1904ـ8يوليو1949]، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولد في بلدة الشوير في جبل لبنان. قام بإطلاق حركة مواجهة قومية شاملة خلال حرب فلسطين 1948. وكان رد فعل الحكومة اللبنانية مباشراً، إذ أصدرت سلسلة قرارات منعت بموجبها الحزب من عقد الاجتماعات العلنية وحدثت عدة صدامات بين أعضاء الحزب والسلطة خلال احتفالات آذار 1949 وبعد الانتخابات البرلمانية الملغاة لجأ على أثرها سعادة إلى دمشق. استقبله حسني الزعيم، وبعد شهر، سلمه للسلطات اللبنانية وفق صفقة يوم 7تموز1949 فحاكمته وأعدمته فجر يوم 7 تموز1949.
    (4) لا يختلف مفهوم الحضارة عن نظيره الخاص بالثقافة كثيرا، فكلاهما يشير إلى طريقة حياة شعب معين، غير أن الحضارة هي الكيان الثقافي الأوسع، أو بمعنى آخر هي أعلى تجمع ثقافي من البشر وأعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يميز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهى تعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات، والتحقق الذاتي للبشر. وهناك مستويات للهوية لدى البشر، فساكن القاهرة قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة من الاتساع: مصري، عربي، مسلم. والحضارة التي ينتمي إليها هي أعرض مستوى من التعريف يمكن أن يعرف به نفسه، أي أنها "نحن" الكبرى التي نشعر ثقافيا بداخلها أننا في بيتنا، في مقابل "هم" عند الآخرين خارجنا. وقد تضم الحضارات عددا كبيرا من البشر مثل الحضارة الصينية، أو عددا قليلا مثل الكاريبي الأنجلوفوني. وعلى مدى التاريخ وجدت جماعات صغيرة كثيرة ذات ثقافات مائزة وتفتقر إلى معين ثقافي أوسع لهويتها. وكانت الفروق تتحدد حسب الحجم والأهمية بين الحضارات الرئيسية والفرعية أو بين الحضارات الرئيسية والحضارات الجهيضة. وطبقا لهنتنجتون تتمثل الحضارات الرئيسية المعاصرة في الصينية، واليابانية، والهندية، والإسلامية، والغربية، والروسية الأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، فضلا عن الأفريقية. إلا أن الباحثين وإن اتفقوا بشكل عام في تحديدهم للحضارات الرئيسية في التاريخ وتلك الموجودة في العالم الحديث، فإنهم غالبا ما يختلفون على إجمالي الحضارات التي وُجدت في التاريخ. لمزيد من المعلومات راجع: صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998)، ص 67 ـ 80.
    (5) هاري أوسترين ولفسون علم بارز من أعلام الاستشراف الأمريكي في القرن العشرين. أنجز مشروعاً ضخماً لدراسة بنية الفكر الديني. وأشرف على نشر المتن الرشدي الذي حفظته اللغتين العبرية واللاتينية وضاع أصله العربي. أستاذ بجامعة هارفارد. من مؤلفاته: "فلسفة فيلون"، "فلسفة آباء الكنيسة"، "نقد كريسكاس لأرسطو".
    (6) لُقب أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي بـ"فيلسوف العرب" لأنه أول من اشتغل بالفلسفة من ذوي الأصول العربية. ازدهر في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. كان في بدايته معتزلياً. شارك في تهذيب الترجمات الفلسفية عن اليونانية وعن السريانية. يمثل على وجه العموم المغادرة من الكلام إلى الفلسفة.
    (7) هناك ثلاثة أعمال ـ كُتبت باللغة العربية ـ تؤرخ لنشأة علم الكلام ومراحل تطوره، اثنان منها لمسلمين هما: الشهرستاني(1086ـ1153م) وابن خلدون(1332ـ1406م)، وواحد ليهودي هو موسى ابن ميمون(1135ـ1204). كل من الشهرستاني في "الملل والنحل"، وابن خلدون في "المقدمة": يُقدمان علم الكلام لا بما هو نسق موحد في مقابل العقلانية الدينية عند من اصطلح على تسميتهم "الفلاسفة"، بل يقدمانه بالأحرى بما هو نسق تتوزعه آراء مقابلة لفرق متعارضة فيما بينها. وما يجمع بين الشهرستاني وابن خلدون في تقديمهما لعلم الكلام هو أنهما، على حين يشيران إلى بعض التأثيرات الفلسفية عليه، لا يذكران أي تأثير مسيحي على علم الكلام بوجه عام، برغم أن الشهرستاني يتحدث عن تأثير مسيحى على اثنين من المتكلمين، وأن ابن خلدون يشير مباشرة إلى نوع ما من التأثير المسيحي على علم الكلام في مجموعه عندما يقول، في محاولته لتفسير ترجمة الأعمال العلمية اليونانية، ومن بينها الفلسفة، إلى اللغة العربية، إن أحد أسبابها كون المسلمين "تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها". وعلى النقيض من الشهرستاني وابن خلدون، كان ابن ميمون ينتمي إلى من يُسمون في ذلك الوقت عند المسلمين بالفلاسفة، مع أنه كانت له فلسفته الدينية الخاصة، التي تميز بها عن المتكلمين كذلك، حتى في بعض المعتقدات التي كانت مشتركة ـ كما يقول ـ بين اليهودية والإسلام جاء تصوره لعلم الكلام. وبناء عليه، فإنه يُقدم علم الكلام، لا في تطوره التاريخي عبر مرحلتي وجوده، لكنه يقدمه بالأحرى على نحو ما وجده في عصره، في القرن الثاني عشر، بعد أن كانت فرقتا المعتزلة والأشاعرة، على السواء قد اكتسبتا الطابع الفلسفي، كل منهما بطريقته. للمزيد راجع: هاري أ. ولفسون، ترجمة مصطفي لبيب عبد الغني، فلسفة المتكلمين في الإسلام، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 2005)، ص 95ـ113.
    (8) انظر مثلاً هذه الآيات القرآنية: "ليس كمثله شيء"، سورة الشورى، أية رقم 11 & "لم يكن له كفواً أحد"، سورة الإخلاص، أية رقم 4.
    (9) لفظ "مبتدعة" Innovatorsالذي يصف ابن خلدون به كلاً من غلاة المشبهة وأولئك الذين استخدموا صيغة "جسم لا كالأجسام" ربما بدا لأول وهلة أنه مستخدم هنا بمعنى "هراطقة" Hereticsلأن لفظ بدعة Innovationيستخدمه من بعد ـ وبالمعنى الخاص للهرطقة ـ في الإشارة إلى المعتزلة. غير أنه، وبسبب تبني الحنابلة مؤخراً لصيغة "جسم لا كالأجسام" وورود هذه الصيغة أيضاً على لسان الأشعري، يتضح تماماً ـ بحسب ولفسون ـ أن ابن خلدون يستخدم ببساطة لفظ "مبتدعة" هنا للدلالة على أولئك الذين استحدثوا شيئاً جديداً. ويتضح من هذا فيما يرى ولفسون أيضاً، تبعاً لما نعرفه من ابن خلدون، أن صيغة "جسم لا كالأجسام" قد استُخدمت لدى البعض من أهل السنة في معارضتهم للتشبيه الصريح وذلك قبل استخدامها عند هشام بن الحكم الشيعي الذي كان يقول بالتشبيه الصريح.
    (10) مكانة الايطالي كرلو الفونسو نلينو من بين المستشرقين جميعاً مكانة ممتازة لا يساويه فيها ـ بحسب فيلسوفنا عبد الرحمن بدوي ـ غير جولتسيهر ونلدكه. وهو يمتاز ببحوثه التحليلية الدقيقة وسعة اطلاعه على مختلف المسائل الإسلامية والعربية.
    (11) راجع: كرلو الفونسو نلينو، "بحوث في المعتزلة"، في عبد الرحمن بدوي(محرر ومترجم)، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية: دراسات لكبار المستشرقين، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1965)، ص 173ـ198.
    (12) اشتينر[1841ـ1889]: مستشرق سويدي، وُلد في زيورخ 1841. ودرس اللاهوت واللغات الشرقية أولاً على يدي هتسش1807ـ1875، ثم على يدي فليشر. ثم صار في 1870أستاذاً للعهد القديم من "الكتاب المقدس" واللغات السامية في جامعة زيورخ خلفاً لأبرهرد اشرادر1836ـ1908، مؤسس علم الأشوريات في ألمانيا. توفي عام 1889. والعمل الذي اشتهر به اشتينر هو كتابه: المعتزلة(1865).
    (13) للعملاق عبد الرحمن بدوي كلمات خطيرة عن جولدتسيهر وصحبه تكفينا جهد التعريف بالرجل، كما أنها تستحق التوقف أمامها طويلاً. يقول بدوي: "يشاء الله أن يهب الإسلام ـ المقصود هنا الإسلام كحضارة ـ من الأوروبيين من يؤرخون له كسياسة فيجيدون التأريخ، ومن يبحثون فيه كدين وحياة روحية، فيتعمقون هذا البحث ويبلغون الذروة فيه أو يكادون، ومن يقبلون على الجانب الفيلولوجي منه فيظفرون بنتائج على جانب من الخطر كبير. فكان على رأس هؤلاء الأخيرين تيودور ندلكه ـ صاحب كتاب "تاريخ القرآن" ـ ، وعلى رأس أولئك الأولين يوليوس فلهوزن. وكان سيد الباحثين فيه من الناحية الدينية خاصة، والروحية عامة، اجنتس جولتسيهر"!
    (14) المنطق الأرسطي في صميمه معني قبل كل شيء "بالطبيعة" الثابتة لا "بالفيزيقا" المتغيرة. هو معني "بالأنواع" من حيث ماهياتها الأزلية التي لا تتغير بتغير الظروف وتغير الأفراد. فالإنسان مثلاً ـ من حيث هو ماهية ثابتة ـ هو موضوع العلم، وأما الأفراد الذين يجيئون ويذهبون فلا يتعلق بهم علم يقيني، وإذن فليسوا مما يعنى به المنطق. وحتى إن ذُكر فرد من الأفراد، فلا يُذكر من حيث هو فرد قائم بذاته، بل يُذكر من حيث هو حقيقة جزئية تتمثل فيها حقيقة النوع، ولذلك لا يجوز في المنطق الأرسطي أن تُعرف فرداً، لأن التعريف ينصرف إلى النوع وحده، والتعريف هو الصورة التي يتمثلها الجوهر باعتباره موضوعاً للمعرفة، ولو كملت لك تعريفات الأنواع كملت لك المعرفة بالوجود كله. من هنا تتضح لنا ـ بحسب نقد جون ديوي له ـ بعض الجوانب الرئيسية في المنطق الأرسطي، فأولاً: ليست صور ذلك المنطق صورية، لأنها ليست بمعزل عن الكائنات الحقيقية التي منها تتألف المعرفة العلمية. ثانياً: تتألف المعرفة في صورها المنطقية من التصنيف والتعريف، فإذا صنفنا الكائنات القائمة في الطبيعة أنواعاً، ثم عرفنا كل نوع بماهيته، كملت معرفة الكون. وثالثاً: ليس هنالك مجال لمنطق يعنى باختراع الجديد، إذ أن حقائق الأنواع كلها قائمة في نسق كامل مغلق، وكل ما نستطيعه هو أن نكشف عما هنالك، وهذه هي مهمة التعلم، فما التعلم إلا أن يظفر المتعلم بما هو معلوم من قبل ـ كالتلميذ حين يتعلم ما قد كان من قبل معلوماً للمعلم، أو ما قد كان من قبل معروضاً في كتاب. فمهمة الباحث هي أن يطوي الأفراد الجزئية تحت النوع الذي يتمثل فيها بماهيته، ثم يحاول أن يحدد تلك الماهية تحديداً عقلياً، وهكذا لم يكن لاختراع الجديد مكان، ما دام الأمر كله مقصوراً على وقوع الإنسان على شيء كان موجود بالفعل. وهكذا كانت الصلة وثيقة بين المنطق عند أرسطو وبين مذهب اليونان في حقيقة الكون. على أية حال، أهم ما في المنطق عند أرسطو فيما يرى الفيلسوف جون ديوي هو الاستدلال القياسي syllogism، وقد بناه أرسطو على أساس فلسفته الوجودية التي كانت تجمد الأنواع في ماهيات ثابتة. وإذا كان أمرها كذلك، كنا إذا وصفنا ماهية نوع ما في المقدمة الكبرى، ثم ذكرنا في المقدمة الصغرى نوعاً يندرج تحت النوع الأول، جاءت النتيجة بأن النوع المشمول بشترك مع النوع الشامل في جوهره. للمزيد عن المنطق الأرسطي ونقده راجع: جون ديوي، ترجمة زكي نجيب محمود، المنطق: نظرية البحث، (القاهرة: دار المعارف، مكتبة الدراسات الفلسفية، 1960).
    (15) أبو الهذيل العلاف(752ـ840م): هو شيخ المعتزلة البصريين. أخذ الاعتزال عن "عثمان الطويل" أحد أصحاب "واصل بن عطاء". اطلع على الفلسفة اليونانية وتأثر بها واقتبس من أقوالها. بدأ مذهب المعتزلة يصطبغ معه بصبغة فلسفية. ذاعت شهرته في مجادلة الخصوم، وعُرف عنه أنه يقطع الخصم بأقل الكلام.
    (16) النظام المتوفى سنة 845م: هو إبراهيم بن سيار بن هانيء البلخي، أعظم شيوخ المعتزلة وأغزرهم إنتاجا وأكثرهم تعمقاً في دراسة الفلسفة. خلط كلام الفلاسفة بكلام المعتزلة. يري البغدادي صاحب "الفرق بين الفرق" أنه أخذ أكثر أقواله من الثنوية والسُمنية وجماعة من الفلاسفة. انفرد النظام بمسائل تخصه منها نفي الجزء الذي لا يتجزأ وقوله "بالطفرة" و"بالكمون" في تفسيره لطبائع الأشياء. كما قال بنظرية في الخلق المتجدد للعالم على الدوام.
    (17) أبو موسى المزدار(أو المردار) عيسى بن صبيح. متكلم، زاهد، تلميذ بشر بن المعتمر وأستاذ الجعفرين. وافق أستاذه بشراً في القول بالتولد وزاد عليه جواز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل التولد. كان شديد التطرف والمغالاة في عقائده.
    (18) للمزيد عما عُرف بـ"المحنة"، راجع: ألفرد جيوم، "الفلسفة والإلهيات"، في مجموعة من الباحثين، ترجمة حسين مؤنس وآخرين، تراث الإسلام، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، المشروع القومي للترجمة، سلسلة ميراث الترجمة، العدد رقم 1107، 2007)، الجزء الأول، 280ـ284.
    (19) مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة العلوم الاجتماعية، 2007)، ص300ـ301.
    (20) حول ظاهرة "العدوى النفسية"، راجع: غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، الآراء والمعتقدات، (تونس: دار المعارف للطباعة والنشر، 1995)، ص130ـ134.
    (21) راجع: حازم خيري، آلام من نسيج خاص، كتاب منشور على الانترنت.
    (22) للمزيد راجع: هوارد ر. تيرنر، ترجمة فتح الله الشيخ، العلوم عند المسلمين، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 2004).
    (23) رتشارد ماك كيون، "موقف الفلسفة تجاه تنوع الثقافات"، في مطبوعات اليونسكو، ترجمة حافظ الجمالي، أصالة الثقافات/مجموعة مقالات من مطبوعات اليونسكو، (القاهرة: الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي، دار الفكر العربي، 1963)، ص 7ـ37.
    (24) راجع تقويم بدوي العام لمشروعه الخاص بتحقيق ونشر ما وصل إلى الحضارة الإسلامية من التراث الفلسفي اليوناني. وراجع أيضاً عبارته الخطيرة: "في وسع المرء أن يجد هذا التأثير الغامر للفكر اليوناني في كل فروع العلم ـ المنقول منه والمعقول ـ في الحضارة الإسلامية، حتى ليمكن أن يُقال دون أدنى مبالغة إنه لولا الفكر اليوناني لما وجدت ثقافة علمية عند العرب والمسلمين في القرون الستة الأولى من الإسلام". راجع: عبد الرحمن بدوي، دراسات ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981)، ص7ـ14.
    (25) محمد عبده، رسالة التوحيد، (بيروت؛ قبرص: الجفان والجابي & دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، 2001)، ص62ـ79.
    (26) الغزالي، تحقيق عبد الحليم محمود، المنقذ من الضلال لحجة الاسلام الغزالي، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1952)، ص65.
    (27) هل يجرؤ باحث في دوائرنا الفكرية والأكاديمية ـ مثلاً ـ على فضح وادانة سير "النخاسين ـ باعة البشر ـ" في مؤخرة الجيوش الإسلامية الظافرة، لشراء ما كان يجود به الفاتح(!!) العربي السخي في الماضي ـ من أسرى وسبايا ـ، بأبخس الأثمان، دون أن يجد هذا الباحث من يرميه بالتجديف في عصمة الأسلاف وكمالهم!! للتوسع في القراءة حول الموضوع، راجع: عبده بدوي، السود والحضارة العربية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976).
    (28) للمزيد عن المصطلحات السياسية في الحضارة الإسلامية راجع: برنار لويس، ترجمة إبراهيم شتا، لغة السياسة في الإسلام، (قبرص: دار قرطبة للنشر والتوثيق والأبحاث، 1993).
    (29) راجع: إجنتس جولدتسيهر، "موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل"، في عبد الرحمن بدوي(محرر ومترجم)، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية/دراسات لكبار المستشرقين، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1965)، ص 123ـ172.
    (30) للمزيد راجع: ميزرا لطف الله خان، ترجمة صادق نشأت وعبد النعيم حسنين، جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني كما يقدمه ابن اخته ميرزا لطف الله خان، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1957).
    (31) راجع: أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1948)، ص 57ـ121.
    (32) راجع على سبيل المثال: جورج جي. إم. جيمس، ترجمة شوقي جلال، التراث المسروق/الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة، (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة آفاق عالمية، رقم65، 2008). عبد الرحمن بدوي، دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، (القاهرة: هيئة الكتاب، مكتبة الأسرة، 2004). عباس محمود العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، (القاهرة: بدون ناشر، بدون تاريخ).
    (33) في بلادي ـ مثلاً ـ جرى العرف على اعتبار خمسينيات وستينيات القرن الماضي زمناً للفن الجميل! فعادة ما تظهر المذيعة "الحسناء" على شاشة التليفزيون الوطني، وهي تُحادث زميلة أو ضيفة أو ضيف، عن ذلك العصر الأسطوري الحالم، ونقاء ضمائر وسرائر رواد الفن القُدامى، في السينما والمسرح والرواية والقصة ....الخ! ولا تعليق لي على مثل هذه الأكذوبة الكبرى، سوى شهادة سمعتها من الممثل المصري أحمد رمزي، وقد تجاوز الثمانين من عمره، في لقاء أجرته معه المخرجة الشهيرة إيناس الدغيدي أو "الجريئة" كما يطلقون عليها في بلادي(!!). قال رمزي، بنبرة لا تخلو من ألم عظيم إنه كان زمن الخوف. خاف الجميع، حتى هو شخصياً على حد تعبيره، كما استُغلت صانعات الروائع على نحو شديد الانحطاط.
    (34) راجع للكاتب: "إشكالية الوافد والموروث في الثقافة العربية"، مقالة منشورة على الانترنت.
    (35) هانز هينرش شيدر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، روح الحضارة العربية، (بيروت: دار العلم للملايين، 1949). ص 7ـ16.
    (36) عبد الله عزام، العقيدة وأثرها في بناء الجيل، (صنعاء، بيروت: مكتبة الجيل الجديد، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، 1990)، ص 102.
    (37) راجع هذا العمل الموسوعي المهيب: تيودور نولدكه، ترجمة جورج تامر(وآخرين)، تاريخ القرآن، (بيروت: مؤسسة كونراد ـ أدناور، 2004).
    (38) من أهم كتابات لسنج هذا الكتاب: لسنج، ترجمة حسن حنفي، تربية الجنس البشري، (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2006).
    (39) راجع للكاتب: "فلسفة الضرار واقع كارثي"، مقالة منشورة على الانترنت.
    (40) المعلومات عن الجنسين "السامي" و"الحامي" مُستقاة من هذ المرجع: جوتييه، ترجمة محمد يوسف موسى، المدخل الى الفلسفة، (القاهرة: بدون ناشر، 1945)
    (41) ارنست رنان، ترجمة عادل زعيتر، ابن رشد والرشدية، (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1957)، ص 13ـ18.
    (42) راجع للكاتب: "أبطال عظماء أم باعة لصكوك الحرية"، مقالة منشورة على الانترنت.
    (43) راجع تقديم حسن حنفي للرسالة: سبينوزا، ترجمة حسن حنفي، رسالة في اللاهوت والسياسة، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1991)، ص 5ـ106.
    (44) للمزبد عن آراء فيلون راجع: إميل بريهييه، ترجمة محمد يوسف موسى وعبد الحليم النجار، الآراء الدينية والفلسفية لفيلون الاسكندري، (القاهرة: وزارة المعارف العمومية & شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1954).
    (45) أحمد عمر هاشم، قواعد أصول الحديث، (القاهرة: دار الشباب للطباعة، 1983)، ص 182ـ184.
    (46) راجع على سبيل المثال: أبو حنيفة النعمان & ابن إدريس الشافعي، الفقه الأكبر في التوحيد، (القاهرة: المطبعة العامرة الشرقية، 1324هـ).
    (47) محمد عبده، م. س. ذ، نفس الصفحات.
    (48) راجع: يحيي هويدي، حياد فلسفي، (القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، المكتبة الثقافية، رقم83، 1963)، ص5ـ7.
    (49) الغزالي، م. س. ذ، ص 66ـ67. وراجع أيضاً: نيقولا ريشر، ترجمة محمد مهران، تطور المنطق العربي، (القاهرة: دار المعارف، 1985).
    (50) راجع التناول الرشدي لمسألة "الرق": الإمام أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، (القاهرة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1975). الجزء الثاني.
    (51) جاك ريسلر، ترجمة خليل أحمد خليل، الحضارة العربية، (بيروت؛ باريس: منشورات عويدات، سلسلة عام 2000، 1993)، ص 91ـ92.
    (52) راجع على سبيل المثال لا الحصر: نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2003). حسن حنفي، التراث والتجديد/موقفنا من التراث القديم، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1987). حيدر ابراهيم، لاهوت التحرير/الدين والثورة في العالم الثالث، (الخرطوم: مركز الدراسات السودانية، 2004). وليم سيدهم اليسوعي(محرر)، لاهوت التحرير/رؤية عربية إسلامية مسيحية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008). محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الاسلام، (القاهرة: دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، 2006). المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، تجديد الفكر الاسلامي/أعمال المؤتمر العام الـ21 للمجلس عام 2009، (القاهرة: وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 2009). كاترين كلاوسينج، "تحليل منهج الأستاذة أميمه أبو بكر"، في هنرييته هينش(محرر)، المرأة والمرأة/رؤية لواقع المرأة المعاصر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010). صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2003). محمد سعيد العشماوي، جوهر الإسلام، (القاهرة: سينا للنشر، 1993). علي شريعتي، بناء الذات الثورية، (بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم، 2005). علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، (القاهرة: دار الهلال، كتاب الهلال، 2000). خالد محمد خالد، من هنا..نبدأ، (القاهرة؛ بغداد: مؤسسة الخانجي بالقاهرة & مكتبة المثني ببغداد، 1963). جعفر محمد نميري، النهج الإسلامي..كيف، (القاهرة: المكتب المصري الحديث، 1984). القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975 وفقا لآخر التعديلات، ( القاهرة: الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، 1999).

















    الفصل الثالث
    أي دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي(*)!
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    "إن المجتمع ـ الموجّه ـ يبدو وكأنه
    لا يقبل الشك، وهنا تكمن المُشكلة، إنها
    الولع في التبرير وتصديق أي شيء"
    دوستويفسكي

    ما المفكر "الأنسني" إلا ذاكرة مضادة ـ على حد تعبير الرائع ادوارد سعيد ـ، بمعنى ما، تملك خطابها المعاكس المخصوص الذي يمنع الضمير من أن يُشيح بنظره، أو أن يستسلم للنوم! وكما أن التاريخ لا ينتهي ولا يكتمل أبداً، كذلك الأمر بالنسبة إلى بعض المسائل الجدلية التي يستحيل مصالحتها، أو تجاوزها، بل إنها ليست قابلة حقاً لأن تُطوى في نوع من التوليفة الأرقى، هي بلا ريب الأنبل..

    أصيل فكرنا الأنسني أصالة الضمير! قاسٍ هو قسوة الحقيقة! غير أن الخطر كل الخطر في مناهضته واضطهاد أصحابه، ناهيك عن تجفيف منابعه، كما هو حاصل في مجتمعاتنا المُتخلفة، منذ جلاء المُستعمر الأوروبي عن أرضنا!

    ثمة دروس عظيمة يمكن استخلاصها من عقود استقلالنا الزائف! فكائناً ما كان نُبل الأهداف التحررية، إن صح القول بوجودها،لدى مؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"، فإنها لم تمنع للأسف الشديد من انبثاق بدائل عربية شديدة الانحطاط للأنظمة الاستعمارية المُغادرة، ساعد على التمكين لها تشبع الوجدان العربي بفهم مُخنث للبطولة، الحرية فيه هبة، لكن ليس من الله، وإنما من المُستبد العادل(1)!

    فُقدان الحرية في مجتمعاتنا ليس يُفهم على أنه عُبودية، بل يُفهم على أنه وصاية تُمارس لخيرنا وخير الوجود بأسره! استقلالنا الوطني حتمي وبديهي، طالما خلت البلاد من الأجانب المُسلحين! إلى هذه الدرجة من الرداءة، وصل الفكر الشائع بين أبناء مجتمعاتنا! الهروب من "الحقيقة" أعلى مراحل التخلف!

    من هنا، يأتي حرصي على التمرد على التعاطي العربي "اللاثوري" مع الثورات! فكل انتفاضة في تاريخنا "تُخفق" في بلوغ أهدافها، تُصبح فتنة شيطانية زائلة(2)، يُشيع أصحابها بالاستهجان والنسيان، إما إلى القبور أو إلى المُعتقلات!

    وكل انتفاضة "تنجح" في بلوغ أهدافها، هي ثورة مُباركة خالدة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها! القراءة النزيهة والمنظمة لأحداثها خيانة للوطن ولدماء الشهداء! ثوراتنا العربية دائماً ما يقوم بها أبطال معصومون! ومن ثم، لا يجوز المساس بهم، من قريب أو بعيد! إنهم رُسل العناية الإلهية لبلادهم!

    الطريف في الأمر، انه ومع مرور الزمن غالباً ما يثبت خلاف ذلك!!

    مقالتي هذه محاولة لاستكشاف جذور وملابسات ثوراتنا الأخيرة(3)، والتي أتمناها "نبع الهام"، لا "ضريح ولي"! وأملي أن أوفق في إنشاء موقع جدير بالهجوم عليه حقاً! رغم ما تؤكده الثورات نفسها ـ وهنا يكمن الخطر ـ، من وجود فقر في التفكير الحُر، والنفوس الحُرة القادرة على قراءة نزيهة ومنظمة للأحداث!

    أبدأ رحلتي مع الثورات الأخيرة، بمشهد رأيته على شاشة التليفزيون الوطني في بلادي! رأيت شاباً يتحدث عن طموحاته! علمت لاحقاً من حديثه انه يعمل في صناعة السينما، وأنه عائد لتوه من الولايات المتحدة! ما يهمني هنا هو حديث هذا الشاب عن أمله في صناعة فيلم عن بلاده، يُصور فيه الشوارع والناس والبنايات..الخ! لا لشيء وإنما على حد قوله ليثبت للغربيين أننا أسوياء مثلهم!

    حديث المخرج الشاب بدا غريباً بعض الشيء، فاستوقفته المذيعة باندهاش، طالبة التوضيح! فأجابها في ثقة وأريحية يُحسد عليهما انهم في الولايات المتحدة الأمريكية لا يرون في الشرق الأوسط سوي العنف وترويع الآمنين أو الإرهاب على حد قوله. ولا يعرفون أو يعترفون لأهله بدور يُذكر في الحضارة الحديثة!
    تمرد "أخرق" على ناموس الحياة، أخرج شعوبنا وبلادنا من التاريخ!

    بيئة عالمية "جديدة" لم نُشارك في صُنعها:
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    في مؤلفه القيم "القوى العظمى: التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 إلى 2000"، وفي إطار تحليله لتطور النظام العالمي في العصور الحديثة(4)، أكد بول كنيدى أن انسحاب الولايات المتحدة السريع من الالتزامات الخارجية بعد عام 1919، والتوجه الانعزالي الروسي تحت حكم البلاشفة، أفرز نظاماً عالمياً لا يرتبط ـ بصورة غير مسبوقة ـ بالواقع الاقتصادي الجوهري.

    فرغم ضعف قوة بريطانيا وفرنسا إلا أنهما كانتا في بؤرة المسرح السياسي العالمي! ولكن تعرض وضعهما في ثلاثينيات القرن العشرين لتحديات دول ناهضة عسكرياً كإيطاليا واليابان وألمانيا، حيث كانت الأخيرة عازمة على السعي الأكيد نحو فرض هيمنتها على أوروبا، بصورة أكبر من سعيها في عام 1914.

    وفي الخلف ظلت الولايات المتحدة أكبر الدول الصناعية في العالم، وكانت روسيا الستالينية ـ نسبة إلى الزعيم ستالين ـ تتحول بسرعة إلى قوة صناعية عظمى. وبالتالي تمثل مأزق الدول الناهضة عسكرياً في وجوب توسعها بأسرع وقت ممكن إذا شاءت ألا تخضع لمشيئة العملاقين القاريين(الولايات المتحدة الأمريكية & الاتحاد السوفيتي). في حين تمثلت ورطة القوى القائمة ـ كفرنسا وبريطانيا ـ في مواجهة تلك الدول الناهضة، وهو ما ينهك قواها بالضرورة.

    وقد أكدت الحرب العالمية الثانية، بكل ما حملته من تغيرات، على هذه المفاهيم. فرغم الانتصارات المبكرة التي حققتها دول المحور، إلا أنها في النهاية لم تنجح في مواجهة اضطراب الموارد الإنتاجية التي فاقت كثيراً مثيلاتها في الحرب العالمية الأولى، واستطاعت فقط تنحية فرنسا جانباً وإنهاك بريطانيا قبل أن تخبو هي نفسها أمام القوة الأكبر، لينفتح المجال أمام حلول "الثنائية القطبية" في العالم، حيث سار التوازن العسكري بحذى التوزيع العالمي للموارد الاقتصادية.
    ميلاد هذا النظام الدولي ـ السابق على "الثنائية القطبية" ـ تواكب مع ظهور الاستعمار الأوروبي الحديث، حيث خرجت القوى الأوروبية تضرب في المجهول، وعادت مُحملة بثروات العوالم الأخرى، القديم منها والجديد. بيد أن السلوك الأوروبي لم يكن ـ وقتها ـ خروجاً على المألوف، فقد انخرطت معظم القوى الدولية في سلوكيات مماثلة، تراوحت ما بين ممارسة الاستعمار أو مساندته أو على الأقل قبوله ـ لخدمته مصالحها أو لعدم تعارضه مع تلك المصالح ـ!

    ومع اضطلاع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، إبان الفترة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الأخير، بالقيادة العالمية، من خلال كتلتيهما الغربية والشرقية، ساند القطبان الأعظم وكتلتاهما استقلال الدول المُستعمرة ـ وفي مقدمتها بلادنا ـ استقلالاً "زائفاً"، يسمح بانبثاق بدائل محلية شديدة الانحطاط للأنظمة الاستعمارية المُغادرة، تعمل ـ بوعي أو بلاوعي ـ على تكريس تخلف شعوبها، من خلال تجفيف منهجي لمنابع الحرية، يتجاوز في خسته المُمارسات الاستعمارية! وبحسب التاريخ، لم تقدح معاداة أي من القوتين العظميين لحكام بأعينهم في مساندتها لأنظمتهم ولمبدأ الاستقلال الزائف، فغالباً ما كان مصدر العداء عدم احترام الحاكم لواحدة أو أكثر من مصالح تلك القوة في المنطقة(5).

    بانهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك كتلته الشرقية، لم تتخل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها عن مساندة الاستقلال الزائف للبلاد العربية ـ على خلاف موقفهم المناهض له في دول إفريقيا جنوب الصحراء(6) ـ! حدث هذا، على ما يبدو، لعدم انتفاء دوافع تلك المساندة(7)، باستثناء الدافع الخاص باحتواء المد الشيوعي في العالم العربي، في إطار ما أصطُلح على تسميته "الحرب الباردة".

    نهاية الحرب الباردة لم تحقق السلام على الأرض، كما توقعت الولايات المتحدة وحلفاؤها! صحيح أنها أحدثت استرخاء للتوترات الإستراتيجية، وأتاحت فرصة للتركيز على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ـ من منظور المصالح الغربية بطبيعة الحال ـ، غير أنه بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا يفسرون بشكل ملائم جميع الأحداث التي تقع في العالم على أساس الانتصارات أو الهزائم للولايات المتحدة أو للاتحاد السوفيتي، أصبح العالم المعاصر كتلة متشابكة من المتناقضات، ووجب على الأكاديميين وصناع السياسة إيجاد طرق جديدة يعرفون بها العالم!

    وهذا بالضبط ما حصل! على سبيل المثال، ظهرت وجهة نظر يزعم أنصارها ان الدور التاريخي لـ"الأمة ـ الدولة nation-state" قد انتهى، مثلما انتهت حقبة "الديناصورات"، ويجب أن ترفضه خرائط القرن الـ21، على أنه دور تقادم عليه العهد(8)! إلى جانب العديد من الخرائط الأخرى للوضع الدولي "ما بعد الحرب الباردة"، لخص باستور ستاً منها، واصفاً إياها بأنها الأكثر تأثيراً(9):

    [1] العولمة Globalization: إن أوجه التقدم التي حدثت في التكنولوجيا والاتصالات المقترنة بالقوة المتصاعدة للشركات متعددة الجنسيات قد عولمت السياسة والاقتصاد وقللت من دور الدولة. هذه العملية "غير الارتجاعية" يُتوقع أن تؤدي بشكل حقيقي إلى اقتصاد بلا حدود، وتحسن مستويات المعيشة للجميع.

    [2] صدام الحضارات Clash of Civilization: يتحدد النظام العالمي الجديد بالصراع بين الحضارات وليس بالتكامل العالمي. ويُميز صمويل هنتنجتون بين تسع حضارات رئيسية: الغربية، وأمريكا اللاتينية، والأفريقية، والإسلامية، والصينية، والهندوسية، والأرثوذكسية، والبوذية، واليابانية. ويزعم هنتنجتون أن التنافس بين الدول الكبرى قد حل محله صدام الحضارات. فالتكامل الاقتصادي لن يجعل هذه الثقافات تتجانس، لكنها سوف تظل متمايزة ولا يمكن التوفيق بينها.

    [3] النظام العالمي الجديدNew World Order : إن انتهاء التنافس على القوة العظمى أتاح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن يلعب الدور الذي أنشئ من أجله: باتخاذ إجراءات جماعية لمنع وإزالة العقبات التي تهدد السلام، وتعزيز حقوق الإنسان. والتحالف الذي نشأ تحت مظلة الأمم المتحدة وأخرج العراق من الكويت كان علامة على ميلاد هذا النظام. والذي ظهر في الوقت المناسب، حيث قللت العولمة من قدرة الدول على إدارة الأنشطة العابرة للحدود الإقليمية بشكل فعال. ولا يمكن إلا لشكل واحد من أشكال الحكم العالمي أن يتعامل مع مشاكل انتشار أسلحة الدمار الشامل أو التقلبات المالية السريعة أو التدفق الضخم للاجئين أو الخلافات التجارية أو التدابير المنظمة لإبادة شعب أو ثقافة.

    [4] السلام الديمقراطيThe Democratic Peace : إن قضايا السياسة العالمية هي شأن من شئون قضايا السياسة المحلية، ويعتمد السلام على انتشار قيم ونظم الديمقراطية، فالدول الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضاً على الأقل بعد أن تترسخ فيها الديمقراطية. ولذا تحدث التهديدات الرئيسية للسلام العالمي بين الدول التى يحكمها دكتاتوريون أو بين دول ذات أنظمة دكتاتورية ودول ديمقراطية.

    [5] وحدة عموم الأقاليم :Pan-Regions ضغطت التكنولوجيا المسافات، ومنذ عام 1947 أزالت الاتفاقيات الدولية معظم الحواجز التجارية والاستثمارية. ومع ذلك، فالنتيجة لم تكن عالماً واحداً بل ثلاثة عوالم: فقد ازدادت التجارة داخل كل إقليم من الأقاليم الثلاثة(أوروبا، وأمريكا الشمالية، وشرق آسيا)، بسرعة أكبر من التجارة بين الأقاليم بعضها وبعض. ويهيمن على كل إقليم من هذه الأقاليم قوة: الاتحاد الأوروبي من خلال ألمانيا الموحدة، وأمريكا الشمالية من خلال الولايات المتحدة، وشرق آسيا من خلال اليابان، لكن الصين تنازعها الهيمنة بشكل متزايد. هذه الأقاليم الثلاثة تمثل نسبة 80% من إنتاج العالم وتجارته.

    [6] الدول States: حدث تغير جوهري في النظام الدولي بينما ظلت دوله تلعب الدور الأكثر أهمية. وكما هو الحال دائماً، فالدول الكبرى لها قدرة أكبر في التأثير على طبيعة قواعد النظام الدولي وشكلها. غير أن جميع الدول لها حق التصويت في المنظمات الدولية التي تطبق القواعد على نطاق كبير من الأنشطة.

    توحي النظرات الاعتبارية الخمس "الأولى" بأن عصر الدولة القومية قد انتهى بسبب التآكل السريع للسيادة من خلال التفكك الثقافي أو التكامل العالمي أو التنظيم الدولي أو مجموعة تشتمل على دول مختلفة. غير أن تحليلاً أدق ـ فيما يرى باستور ـ يتيح للمرء أن يرى الدور الرئيسي الذي لعبته الدول في كل هذه الرؤى، كما يعترف بذلك العديد من المناصرين لهذه الرؤى. وعلى سبيل المثال، فعلى الرغم من أن هنتنجتون يؤكد على أن المتغيرات الثقافية تعتبر أكثر أهمية في تفسير سلوك الدول، فإنه يعترف أيضاً بأن الدول ستظل اللاعب الرئيسي في شئون العالم، وتتضمن سيناريوهات الصراعات التي طورها في كتابه الشهير "صدام الحضارات"(10)، على صراع بين الدول الكبرى وليس بين الحضارات.

    ويقول توماس فريدمان أن الدول الكبرى يجري استبدالها بأسواق كبرى(سوبر ماركت)، لكنه يزعم أنه بسبب العولمة والحدود المفتوحة فسيكون للدول شأن أكبر وليس أقل في وضع القوانين وتنفيذها. "تتطلب العولمة القابلة للاستمرار هيكلاً مستقراً للقوة، ولا توجد دولة أكثر أهمية لذلك من الولايات المتحدة. فالانترنت وغيرها من التكنولوجيات التي يصممها وادي السيليكون Silicon Valley لنقل الأصوات الرقمية والصور التليفزيونية والبيانات حول العالم، وعمليات التكامل التجاري والمالي المستمرة في تعزيزها بابتكاراتها، وأيضاً كل الثروة التي تتولد عن ذلك، كلها تحدث في عالم تعمل على استقراره قوة غير ضارة، عاصمتها واشنطن دي سي. فمن ناحية، يرجع عدم اندلاع حرب بين دولتين توجد بهما مطاعم ماكدونالدز إلى التكامل الاقتصادي، ولكنه يرجع أيضاً إلى وجود القوة الأمريكية واستعداد أمريكا لاستخدام هذه القوة ضد أولئك الذين قد يهددون نظام العولمة، بدءاً من العراق إلى كوريا الشمالية. فلن تنجح اليد الخفية للسوق بدون وجود قبضة خفية. ولا يمكن أن تنجح مطاعم ماكدونالدز بدون ماكدونيل دوجلاس مصمم طائرة السلاح الجوي الأمريكي إف ـ15. وتسمى القبضة الخفية، التي تحفظ للعالم الأمان الذي يسمح لتكنولوجيات وادي السيليكون بالازدهار، جيش الولايات المتحدة، وسلاحها الجوي، ومشاة بحريتها. وهذه القوات المقاتلة والمؤسسات يدفع لها بالدولار دافع الضرائب الأمريكي"(11).

    السلام الديمقراطي يقوم على أساس الدول، وخريطة عموم الإقليم تتكون أيضاً من دول، تكون الغلبة فيها لإحدى دول الإقليم. فالولايات المتحدة تصدر 90% من الإنتاج الكلي و73%من التجارة إلى أمريكا الشمالية، واليابان تصدر 70% من الإنتاج الكلي وثلث التجارة إلى عشر دول في شرق آسيا. وتصدر ألمانيا23% من إنتاجها الكلي و28%من تجارتها إلى دول الاتحاد الأوروبي.

    في القرن التاسع عشر، بدت القومية فكرة سياسية أكثر ضعفاً من فكرتي الليبرالية والاشتراكية، بيد أن الأفكار الثلاثة وجدت تعبيراً لها بصفة رئيسية داخل الدول. فقد غرست القومية في الدول الطاقة والتوجه الذي كان أحياناً ايجابياً وأحياناً مدمراً، على حد تعبير باستور. وبالمثل، وفيما يرى باستور أيضاً، يجري مع نهاية القرن العشرين إعادة تعريف مصالح وأولويات الدول عن طريق العولمة والهوية والديمقراطية، وبواسطة فاعلين جدد(المنظمات غير الحكومية، والمنظمات الدولية، والمؤسسات متعددة الجنسيات..الخ)، يعززون هذه المصالح والأفكار.

    صفوة القول، إن الدول لا تزال هي الفاعل الرئيسي في النظام الدولي، غير أن كلاً من هذه الرؤى الأخرى تزيد من فهمنا للأرضية التي تناور عليها الدول للدفاع عن أنفسها أو إعلاء مصالحها. والسؤال: أي الدول اليوم هي الأكثر أهمية؟ نحتاج إذن لتعريف "القوة"، وبعدها نُحدد الدول الأقدر على التأثير ـ عالمياً ـ.

    "القوة" مُصطلح مراوغ! وفي محاولة جوزيف ناي الابن لتعريفها، قارن في البداية القوة بالطقس ـ الذي يسهل التحدث عنه أكثر من فهمه ـ وبعد ذلك قارنها بالحب الذي يسهل معايشته عن تعريفه أو قياسه! وإذا عُرفت القوة بالمصطلحات العسكرية التقليدية كقدرة على سحق العدو، حينئذ فإن الأسلحة النووية تعتبر المؤشرات الرئيسية، ولا تزال الولايات المتحدة وروسيا من أكبر دول العالم قوة، وإذا عُرفت القوة بقدرة الدولة على إنتاج السلع والخدمات، فسوف يكون إجمالي الناتج المحلي هو المؤشر الأفضل، وأعلى إجمالي تمثله دول كالولايات المتحدة.

    مفهوم القوة تغير كثيراً مع الزمن، على نحو واضح، ففي القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر كان يُعتقد على نحو واسع أن الحكومات التي تستطيع تعبئة أكبر عدد من الجيوش وإطعامهم ويمكنها أن تجبي الضرائب من أكبر عدد من السكان سوف تفوز في الحروب، لذا كانت القوة غالباً ما تكافئ عدد سكان الدولة ومساحات الأراضي التي تستزرعها. وفي القرن التاسع عشر، كانت الصناعة والسكك الحديدية مصادر أكثر أهمية عن الزراعة أو مساحة الأراضي. وكان لدى روسيا عدد سكان أكبر من ألمانيا لكنها كانت أضعف منها، لأنها كانت تفتقر إلى ما كان لدى ألمانيا من السكك الحديدية الحديثة، والبنية الصناعية.

    وبدءاً من صناعات النسيج الأولى والثورات الصناعية ومروراً بالثورة الكيمائية والنووية والمعلوماتية ـ أياً كان ما يُطور من تكنولوجيا جديدة أو معرفة أو ما يُمتلك من ثروات يُعتمد عليها ـ، فإن الدولة تجد نفسها في مقدمة منحنى القوة. فاختراع بريطانيا للآلة البخارية ووفرة الفحم جعلاها في مقدمة الثورة الصناعية. وعلاوة على ذلك، كانت أنواع معينة من الدول قادرة بشكل أفضل على استغلال مراحل معينة من التصنيع، فالاتحاد السوفيتي على سبيل المثال، كان قادراً على استخدام قوة التخطيط المركزي لتطوير صناعات الصلب الضخمة والكيماويات والمعدات الرأسمالية، غير أن اقتصاده الموجه أصبح عبئاً في عصر الكمبيوتر. تعلمت اليابان أن الطريق الصعب باستخدام الجيش من أجل الحفاظ على البترول والفحم كما فعلت في ثلاثينيات القرن ال20، أكثر تكلفة وأقل فاعلية من الاعتماد على السوق والتكنولوجيا، وهي ما اتجهت إليه بعد خمسة عقود.

    الحكمة اليوم هي أن الدولة تستمد قوتها من النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي، وتصبح التكنولوجيات مصدراً للقوة إذا أمكنها اختصار الزمن أو المسافة أو الفضاء، فالانترنت تُعتبر بحق التكنولوجيا الجديدة الأكثر قوة لأنها تنقل المعرفة والمعلومات إلى أشخاص أكثر وبصورة أسرع وأرخص وأسهل من أي وسائل اتصالات أخرى موجودة، ففي العقد من 1988 إلى 1998 الذي استخدمت فيه الانترنت على نطاق واسع، عملت الانترنت على تحفيز الصناعة بأكملها، وبحلول 1998 كان ثلث النمو الاقتصادي للولايات المتحدة يُعزى للانترنت.

    الانترنت وقوة المعلومات تزيد من قدرة الأفراد والمنظمات غير الحكومية على التأثير في السياسة الخارجية والشئون السياسية الدولية. ولن نجد ـ والكلام لباستور ـ مثالاً أفضل لهذا من جودي ويليام، وهي سيدة شابة تعمل من خلال منزل متواضع في ولاية فيرمونت. ففي غضون ست سنوات من خلال عملها على الانترنت، استطاعت ويليام أن تنظم ائتلافاً من 1300منظمة غير حكومية في 60دولة وقامت بصياغة اتفاقية دولية لمنع إنتاج وتخزين واستخدام الألغام الأرضية على مستوى العالم. وعلى الرغم من معارضة الولايات المتحدة وروسيا والصين، فقد أعدت المنظمات غير الحكومية حملة لوبية ناجحة استطاعت أن تجعل 122 دولة توقع اتفاقية في أوتاوا في ديسمبر 1997. وفازت ويليامز بجائزة نوبل لدورها في تنظيمها، واستخدام سيدة أعمال عادية لتكنولوجيا جديدة من أجل تعزيز معيار دولي، يعتبر هذا نوعاً جديداً من القوة في عصر جديد.

    في عالم الحكم المطلق والحماية الجمركية تُعتبر الأرض مصدر القوة، وفي عالم التجارة الحرة تعتبر الأرض أقل أهمية، فدولة صغيرة مثل سنغافورة أو دولة تتكون من مجموعة جزر مثل اليابان يمكن أن تكون دولة ثرية وقوية. وكما ذكر ريتشارد روزكرانس فإن فهمنا لمعنى القوة قد تغير مثلما تغير العالم من "الدولة الإقليميةterritorial state" إلى "الدولة التجاريةtrading state" إلى "الدولة الافتراضيةvirtual state"، حيث تكون المعلومات وجميع عناصر الإنتاج إجمالا لها القدرة على الحركة والتأثير. ميزة متغيرات القوة المادية(العسكرية والسكان والاقتصاد والأراضي والثروة الطبيعية) هو أنه يمكن قياسها ويُعترف بها عالمياً على أنها مؤشرات للقوة. أما القوة غير المادية فهي معنوية ومن المستحيل قياسها، غير أن هناك مؤشرات بديلة لروعة جمال وجاذبية أي دولة، فقوة الولايات المتحدة الأمريكية غير المادية تظهر في المهاجرين والطلاب الذين يفدون إليها.

    العلاقة بين القوة المادية والقوة غير المادية لم تُكتشف بعد بشكل كاف، والعلماء كلما حاولوا فهم "القوة" استعصت الإحاطة بها! لكنه، وفيما يرى باستور، توجد بعض التوضيحات المفيدة. أولا، يمكننا أن نفرق ما بين المؤشرات العسكرية والاقتصادية للقوة المادية حتى لولم يكن في استطاعتنا مقارنتها أو إجمالها بسهولة. ثانياً، جعلت فكرة القومية والمعايير الدولية من استخدام القوة المادية أكثر تكلفة، ومن ثم تزايدت أهمية القوة غير المادية. ثالثاً، لا توجد إجابات بسيطة عن أسئلة مثل أي أنواع القوة التي يحتمل أن تكون أكثر فاعلية في إجبار أو إقناع خصم، حتى في الحرب، بل بصفة خاصة في وقت السلم أو أثناء المفاوضات.

    على أية حال، من شأن تحليل سريع لمؤشرات القوة المادية والقوة غير المادية أن يُظهر، أن الدول السبع التالية: بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين، هي الدول الكبرى في العالم..

    ولقد كانت للولايات المتحدة الأمريكية القوة الاقتصادية التي مكنتها من أن تحتل المرتبة الأولى على المسرح العالمي منذ بداية القرن العشرين، غير أن إمكاناتها العسكرية لم تبلغ درجة التفوق إلا بعد دخولها الحربين العالميتين ـ الأولى والثانية ـ. قوة الولايات المتحدة الأمريكية لم تتراجع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أو حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، ولكن على الرغم من وضعها البارز هذا، فإنها أظهرت على نحو مُلفت قدراً من التناقض بشأن زعامة العالم!

    هناك دول أخرى، في رأي باستور، قد تنضم أو تحل محل الدول الكبرى في القرن الحادي والعشرين. وتعتبر الدول المرشحة الأكثر وضوحاً حالياً قوى إقليمية، لما لها من تأثير ملحوظ في مناطقها. ومن المحتمل أن يزيد تأثيرها عن تأثير الدول الكبرى. ففي أمريكا اللاتينية، تعتبر البرازيل والأرجنتين والمكسيك قوى إقليمية. وفي أفريقيا، نيجيريا وجنوب إفريقيا. وفي الشرق الأوسط، العراق وإيران ومصر. وفي آسيا، الهند واندونيسيا والباكستان لها تأثير خارج حدودها.

    قارئي الكريم، ذلكم هو الوضع العالمي "الراهن"، كما تبدو ملامحه الرئيسية في الفكر الاستراتيجي الغربي! وكما رأينا، لم نُشارك في صنع هذه البيئة العالمية الجديدة! من هنا، ولسجناء الاعتقاد في عظمة الاستقلال العربي الزائف لبلادنا، وفي الكاريزمية "الاصطناعية" للآباء المؤسسين لدولة "ما بعد الاستعمار"، أقول:

    "وحدها الحقيقة تُحرركم"!

    الأنظمة الاستبدادية ودولة "ما بعد الاستعمار"(12):
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ

    هذه المقالة ليست سرداً/وصفاً لأحداثٍ، فالسرد "الغائي" عملية تتقنها مراكز البحوث عندنا أو العارفون ببواطن الأمور، فيما يتعلق بالأحداث الجارية!! فإلى هؤلاء جميعاً يرجع الفضل في تزويد الجمهور العربي بمخزونٍ كافٍ من المعلومات ـ أفترض جدلاً صحته ـ، بما يكفي لامتلائه معلوماتياً! بقي لجمهورنا العربي أن يعرف كيف يُحقق ويُحلل هذا الكم من المعلومات المُلقي في روعه!

    قراءتي هذه لن يكون لها أي معنى إذا لم تتجاوز السرد "الغائي" للأحداث الجارية، إلى قراءة نزيهة ومنظمة لها! وعليه، لا أنوي مُحاكاة ما تشهده مجتمعاتنا من تنبوءات يومية "مُبتذلة"، كون أصحابها يتعاطون مع الأحداث على خطورتها من واقع خبراتهم الطويلة مع مسابقات "كرة القدم"! وهو أمر لا يخلو من طرافة، وإن كان متوقعاً، في ظل شغل "كرة القدم" لأبناء أمتنا، لأكثر من نصف قرن!

    التنبوء اليومي عملية محفوفة بالمخاطر، ويغلب عليها طابع المغامرة، خصوصاً إذا احتكمنا إلى الأخطاء التي تُرتكب ـ بوعي أو بلا وعي ـ من جانب أكثر مفكرينا شهرة أو أكثر الناس علماً ببواطن الأمور. أما التنبوء متوسط الأجل فهو ينطوي على قدر أقل من المخاطرة ويتمتع بمزايا أفضل خصوصاً عندما يُوظف بطريقة المصباح الكاشف الذي تضيء الأشعة الصادرة عنه جوانب الحاضر بأكثر مما تحاول أن تستكشف خطوط المستقبل في الواقع الذي نعيشه.

    وربما كان من الأفضل والأهم ـ والاقتراح لمارسيل ميرل ـ أن نطرح أسئلة جيدة بدلاً من أن نحاول البحث عن إجابات لأسئلة رديئة، ولسوف أحاول!

    "نظام الحكم" ـ أو "النظام السياسي" ـ هو أحد العناصر التي لابد منها لكيان/شخصية الدولة، إلى جانب الشعب والإقليم. أو بعبارة أخرى، "النظام السياسي" هو مجرد تسمية لأنواع الحكومات أو أشكال الحكم! وثمة تصنيف مُتداول يقول بإمكانية التمييز بين ثلاثة أنواع رئيسية من الحكومات(13): 1ـ الحكومة البرلمانية. 2ـ الحكومة الرئاسية. 3ـ حكومة الجمعية الوطنية أو نظام الحكم المجلسي فيما يسميه البعض. والمبادئ الأساسية التي تميز كل نوع من أنواع الحكومات هي تداخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في الحكومة البرلمانية، وانفصالهما في الحكومة الرئاسية، وأولوية السلطة التشريعية في النوع الأخير.

    ولقد اشتُق مفهوم "النظام system" في ميدان العلوم الطبيعية أولاً، لكي يأخذ في الاعتبار وجود علاقة بين العناصر الخاصة بمجموعة معقدة(النظام الشمسي مثلاً). وتم نقل هذا المفهوم، على أسس غير دقيقة، إلى ميدان دراسة المجتمع اعتباراً من القرن التاسع عشر فقط. وقد أسهمت أعمال علماء الرياضة في وضع القواعد النظرية لمفهوم النظام، كما أسهمت أعمال علماء الأنثروبولوجيا والاقتصاد في إدخال التحليل النسقي إلى الحقل الاجتماعي، ومع ذلك فقد تعين الانتظار حتى منتصف القرن العشرين قبل أن يظهر مفهوم واضح ومتماسك للنظام الاجتماعي، وذلك من خلال الدراسات التي قام بها تالكون بارسون(14).

    النظام الاجتماعي في أعمال بارسون صُمم على أساس أنه مجموعة مركبة من الوظائف المتنوعة. يقوم بكل وظيفة من هذه الوظائف، وبطريقة مميزة، قسم محدد من أعضاء المجموعة: فتقوم الأبنية العائلية بالمحافظة على النموذج، وتقوم الأجهزة الاقتصادية بالتكيف مع الضغوط الخارجية، وتقوم السلطات السياسية باتخاذ القرارت وتقوم المؤسسات الاجتماعية والثقافية بالعمل على استمرار الوفاق العام. وتتوافر للجماعات الأكثر كمالاً واتقاناً فقط، وظيفتان أخريان هما القدرة على تغيير الأهداف المرغوب الوصول إليها، والقدرة على التحول الذاتي بدون المساس بالشخصية. ولمنتقدي المدخل الوظيفي لبارسون، تؤكد التجربة، والرأي لأنصار بارسون، انه إذا كان صحيحاً أن الأنظمة الاجتماعية تحوز من الموارد ما هو ضروري لبقائها، إلا أن هذه الأنظمة مُعرضة للأعطاب الوظيفية، مثلها مثل الأعضاء البيولوجية، فهذه وتلك مُعرضة فيما يرى مارسيل ميرل، في ظروف معينة، للفناء التام إذا انفجرت من داخلها، أو تعرضت للضغط من خارجها.

    مُستفيداً من أعمال بارسون، عمد دافيد إيستون إلى بناء النظام السياسي، على ما يلي: أولاً، أهمية العلاقة بين النظام وبيئته. ثانياً، أهمية ضبط إيقاع النظام عن طريق سلطة قادرة على الرد الملائم على التحديات ـ القادمة ـ من البيئة.

    تحليل النظام ـ أو التحليل النسقي ـ ينطوى على دراسة مجمل التفاعلات التى تحدث بين النظام وبين بيئته. و"النظام" المكون من مجموعة محددة من العلاقات، هو في حالة اتصال مع بيئته من خلال آلية "المدخلات" و"المخرجات". وتتكون المدخلات من مجموعة المطالب والمعضدات المتجهة إلى النظام باعتبارها كل واحد . وفي داخل النظام تتحول المطالب والمعضدات تحت تأثير رد الفعل المركب للعناصر التأسيسية للنظام نفسه لتثير في النهاية رد فعل شامل من جانب سلطة نظم الايقاع، يعبر عن الطريقة التى يسعى بها النظام نحو التكيف مع التحريضات والضغوط النابعة من البيئة. وبينما يشكل رد الفعل الشامل هذا "المخرجات" استجابة response النظام أو رده على "المدخلات"، فإنها تمهد في الوقت نفسه لدائرة جديدة من رد الفعل "التغذية المرتجعة Feed-back" والتى تسهم بدورها في تعديل البيئة والتى منها ستنطلق مطالب ومعضدات أخرى.

    من هنا، اشتق ميرل تعريفه لـ"النظام" بأنه: مجمل العلاقات بين عدد محدد من اللاعبين الذين يضمهم نمط بيئي معين ويخضعون لصيغة تنظيمية ملائمة.

    "نظام الحكم" عبارة ترهبها الأذن العربية ولا ترتاح لها كثيراً على نحو مُلفت، ربما لارتباطها في الوجدان الشعبي لدولة "ما بعد الاستعمار" بالحكومات الاستبدادية/الدكتاتورية، ولنقرأ قول "الخطير" محمد حسنين هيكل، على خلفية اندلاع الاحتجاجات الطلابية المناهضة لنظام الحكم في مصر عام 1968(15):

    "النظام المصري الذى حكم ابتداء من سنة 1952 لم ينشأ في بيئة سياسية، أعني(والكلام لهيكل) أن الثورة كان يجب بالمنطق العادي أن تنبع من جو آخر غير القوات المسلحة التى خرجت منها الطلائع التى قادت الثورة فيما بعد فعلاً".

    وربما أيضاً يرجع عدم الارتياح الشعبي لعبارة "نظام الحكم" لارتباطها بأحكام قضائية "دموية" "جائرة"، لطالما صدرت في حق شرفاء، طيلة عقود "ما بعد الاستعمار"، بزعم مناهضتهم للشرعية القائمة وتآمرهم لقلب "نظام الحكم"!

    حديثي في هذه المقالة عن الأنظمة العربية الحاكمة، لا أعني به سوى الأنظمة التى وُجدت في دولة "ما بعد الاستعمار"، واستوطنت الفضاء السياسي فيها لأكثر من نصف قرن، فقد تزامن ميلاد هذه الأنظمة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية واقرار القوتين العظميين ـ كما ذكرنا ـ لمبدأ الاستقلال "الزائف" للبلدان المُستعمرة، وفي مقدمتها بلدان عالمنا العربي وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء!

    هذه الأنظمة العربية الاستبدادية في دولة "ما بعد رحيل الاستعمار" ـ أو دولة "ما بعد الحرب العالمية الثانية" ـ، منذ مجيئها إلى الوجود وحتى انهيارها الذى بدأ فيما أري مع الاطاحة بنظام صدام حسين في العراق ولا يزال مُستمراً حتى الآن، وعلى اختلاف مشاربها، ما بين قومي واسلامي وبعثي وشيوعي وناصري واشتراكي..الخ، كانت ولا تزال حريصة على توارث وتكريس مبدأ الاستقلال "الزائف"! وهي، وإن بدت متنافرة، تلتقي على تجفيف منابع الحرية!

    ولمن يسأل: لماذا سبقتنا مناطق كإفريقيا جنوب الصحراء في التخلص من انظمة "ما بعد الاستعمار"، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي؟ ولماذا تأخرت الاطاحة بهذه الأنظمة في عالمنا العربي، إلى ما بعد هجمات سبتمبر 2001! رغم ما نعلمه جميعاًً من تزامن حصول البلدان العربية والافريقية، على الاستقلال الوطني!

    بل إن دولة كمصر كان لها فضل السبق!! وهو ما أغرى على ما يبدو نظامها الحاكم في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بالمُزايدة، بل والمُتاجرة بجهوده في دفع الأفارقة إلى الاستقلال، رغم حتميته، لدعم القوتين الأعظم له!

    بالطبع، لا أقصد من قولي هذا التهوين من جهود الأنظمة المصرية "ما بعد الاستعمار"، فهي مشكورة، ما أقصده هو التنبيه لأهمية تخليص الماضي من زيفه وأكاذيبه الكبرى، كون هذا أصون للتاريخ! فأن تعرض نصف الحقيقة وتخفي نصفها الآخر أخطر ألف مرة من أن تُخفي الحقيقة برمتها. لم يعد مقبولاً أن نُعمى عن بديهيات، صيرنا الجهل بها "لعبة" الأمم! دعم حكوماتنا ظل وثيقاً لحكومات إفريقية بعينها(16)، اشتهرت باستبدادها وتكريسها المُر لمبدأ الاستقلال الزائف!

    في مؤلفه القيم "الموجة الثالثة"(17)، حدد هنتنجتون معنى الديمقراطية بإيجاز بأنها نهج للحكم يقوم على الانتخابات الحرة والمؤسسات الثابتة وعلى تداول السلطة بين الأحزاب في نظام تعددي يكفل الحرية وتكافؤ الفرص لجميع الأحزاب السياسية القائمة وحرية الاختيار لكل الناخبين. ويقابلها على النقيض النظام الشمولى الذي يتولى الحكام في ظله السلطة إما بحكم المولد أو الصدفة أو الثراء أو العنف أو التعيين. والديمقراطية كما يحددها هنتنجتون ليست نظاماً للحكم وإنما هي "نهج" يُتبع في إطار نظام الحكم. فهناك ملكيات شمولية وأخرى ديمقراطية، كما أن هناك أنظمة حكم جمهورية شمولية وأخرى ديمقراطية. لكن الديمقراطية لا تتناسب بالطبع مع أنظمة الحكم العسكرية أو الدكتاتورية الفردية!

    في المؤلف نفسه تحدث هنتنجتون عن تقارير صدرت عام 1990، تؤكد أن التحول الجماعي إلى الديمقراطية الذي كانت تشهده أوروبا الشرقية، على خلفية تفكك الاتحاد السوفيتي، دعم المطالبة بالتغيير عندنا، ودفع الحكام في مصر والأردن والجزائر إلى الاسراع بإتاحة مزيد من المجال السياسي للتعبير عن السخط. ولتعضيد زعمه، أورد هنتنجتون تعليقاً، لصحفي مصري، على الانهيار الجماعي للأنظمة الشيوعية، هذا نصه: "لا مفر من الديمقراطية الآن. فكل هذه الأنظمة العربية لا خيار أمامها إلا أن تنال ثفة شعوبها وترضخ للخيار الشعبي"!

    وفي تفسيره لعدم تحقق رؤية الصحفي المصري ـ والتى تستند إلى فرضية "العدوي"، أو "كرات الثلج"، أو "ظاهرة الدومينو" كسبب(18) ـ، أكد أستاذ هارفارد الراحل هنتنجتون أن الثورة الديمقراطية العالمية كانت يمكن أن تفرز في أية دولة مناخاً خارجياً يدفع ويساعد على التحول الديمقراطي، لكنها لم تكن تستطيع أن تُفرز الظروف ـ الداخلية ـ اللازمة للتحول الديمقراطي في الدولة.

    "كرات الثلج" أو "ظاهرة الدومينو" والتى كان تأثيرها واضحاً عام 1990، على التحول الديمقراطي في كل من بلغاريا ورومانيا ويوغوسلافيا ومنغوليا ونيبال وألبانيا، كانت وحدها ـ والكلام لا يزال لهنتنجتون ـ تُعد ضعيفة كسبب للتحول الديمقراطي في غياب الظروف الملائمة في تلك الدول التى تأثرت بها.

    تحليل هنتنجتون "صحيح" و"بارع" كالعادة! غير أنه "ناقص" و"لا يخلو من غرض"! كونه يتعامى بدمٍ بارد، كدأب أغلب التحليلات الغربية، بل والعربية أيضاَ(!!)، عن تحميل الولايات المتحدة وحلفائها أية مسئولية عن اعاقة توافر "الظروف الداخلية اللازمة للتحول الديمقراطي" في بلادنا، متجاهلاً دور بلاده اللاانساني في التمكين لمبدأ الاستقلال الزائف في دولة "ما بعد الاستعمار"(19)!

    على أية حال، هنتنجتون قسم "القوى الداخلية" التى حالت برأيه دون المزيد من التحولات الديمقراطية في دول العالم، في تسعينيات القرن ال20، كما يلي:

    [1] العقبات السياسية: من العقبات السياسية غياب التجربة الحقيقية مع الديمقراطية عن الدول التي ظلت على الشمولية في تسعينيات القرن الماضي. وإن كان هذا برأي هنتنجتون لا يمثل مانعاً حاسماً أمام التحول الديمقراطي. هنتنجتون كان قد توقع اختفاء عقبة واحدة خلال تسعينيات القرن الماضي وهي الزعماء الذين أقاموا هذه الأنظمة الشمولية أو الذين ظلوا في السلطة طويلاً في هذه الأنظمة، لأنهم عادة ما يتحولون إلى متشددين، يعارضون أي تحول ديمقراطي! موت هؤلاء الزعماء أو رحيلهم عن السلطة يؤدي إلى إزالة عقبة من طريق التحول الديمقراطي في بلادهم، ولكن لا يؤدي بالضرورة إلى حدوث التحول.

    من العقبات الأخرى الكؤود التي حالت في نظر هنتنجتون دون التحول الديمقراطي، غياب الالتزام الحقيقي بالقيم الديمقراطية بين الزعماء السياسيين في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وان هؤلاء الزعماء حين يخرجون من مناصبهم، نجد لديهم ما يكفي من الأسباب للدفاع عن الديمقراطية. اختبار مدى التزام هؤلاء الزعماء بالديمقراطية يأتي حين يكونون في السلطة لا يزالون. وبرأي هنتنجتون ان الأنظمة الديمقراطية بأمريكا اللاتينية كانت تتم الاطاحة بها بانقلابات عسكرية في العادة. وقد حدث ذلك بالطبع في الشرق الأوسط وآسيا، إلا أن القادة المنتخبين أنفسهم في هذه المناطق كانوا برأيه مسئولين عن سقوط الديمقراطية، ومن هؤلاء أنديرا غاندي في الهند وفرديناند ماركوس في الفلبين وسوكارنو في أندونيسيا.

    [2] الموروث الحضاري: هناك رأي يرى أن المواريث الحضارية التاريخية الكبرى في العالم تتفاوت بشدة في مدى ملاءمة توجهاتها وقيمها ومعتقداتها وأنماط السلوك فيها لنمو الديمقراطية. فالموروث الحضاري المعادي للديمقراطية يعوق انتشار المعايير الديمقراطية في المجتمع وينكر شرعية المؤسسات الديمقراطية، وبالتالي فهو يحول دون قيام هذه المؤسسات بمهامها. وطبقاً لهذا الرأي، لا تتناسب الديمقراطية إلا مع الدول الشمالية الغربية وربما وسط أوروبا وما خرج عنها من مستوطنين. ومن الشواهد الداعمة لهذا الرأي:

    · ان الديمقراطية الحديثة نشأت في العالم الغربي.

    · ان معظم الدول الديمقراطية منذ بدايات القرن الـ19 هي دول غربية.

    · ان الديمقراطية انتشرت خارج نطاق شمال المحيط الأطلنطي، في المستعمرات البريطانية السابقة، وفي الدول التى تعرضت لنفوذ أمريكي طاغٍ، وأخيراً في المستعمرات الايبيرية السابقة بأمريكا اللاتينية.

    · ان الدول الديمقراطية ال58 عام 1990 شملت 37 دولة أوروبية غربية ومستوطنة أوروبية ودولة أمريكية لاتينية ومستعمرة استرالية وست دول أخرى(اليابان، وتركيا، وكوريا الجنوبية، ومنغوليا، وناميبيا، والسنغال). وكانت عشرون دولة من الدول الثلاثين التى تحولت إلى الديمقراطية في الموجة الثالثة(20)، إما دولاً غربية أو دولاً سيطر عليها النفوذ الغربي.
    ثمة نسخة أقل حدة من عقبة الموروث ترى أن المسألة ليست أن حضارة ما أو أخرى تلائم الديمقراطية وتتقبلها وإنما أن هناك حضارة ما أو بعض الحضارات تُعادي الديمقراطية! الكونفوشية والاسلامية هما الأكثر شهرة! وبرأيي هنتنجتون يزيد ما يلي من حدة العوائق التى تواجه الديمقراطية في حضارتنا:

    · عدم طرح فكرة الديمقراطية للبحث النزيه المنظم. في حين أن الآراء التى ترى في بعض المواريث الحضارية عوائق تحول دون تحقيق التطور باتجاه ما أو آخر يجب أن يُعاد النظر فيها وأن تُحاط بقدر من الشك.

    · إن المواريث الحضارية التاريخية الجليلة كالحضارة الاسلامية هي كيانات مُعقدة من الأفكار والعقائد والتعاليم والكتابات والافتراضات وأنماط السلوك. وأية ثقافة عظيمة بها بعض العناصر التى تناسب الديمقراطية. وعن العناصر المناسبة للديمقراطية في الحضارة الاسلامية وكيف وتحت أية ظروف يمكن إلغاء العناصر غير الديمقراطية، يتساءل هنتنجتون!

    · حتى وإن كان الموروث الحضاري بمثابة عائق في طريق الديمقراطية، فإن التراث يتسم بالدينامية والحركة لا بالسلبية والجمود. فالمعتقدات السائدة والتوجهات الجارية في المجتمع تتغير، وبينما تحافظ الثقافة السائدة على عناصر الاستمرارية في المجتمع فإنها تختلف اختلافاً واضحاً عما كانت عليه قبل جيل أو جيلين. التراث يتطور، ولعل التنمية الاقتصادية نفسها ـ والكلام لهنتنجتون ـ هي من أهم أسباب التطور الحضاري.

    [3] العقبات الاقتصادية: الفقر يمثل عائقاً رئيسياً، بل ربما كان أكبر عائق في سبيل التنمية الاقتصادية. ويتمثل مستقبل الديمقراطية على مستقبل التنمية الاقتصادية. والعوائق في طريق التنمية الاقتصادية برأي هنتنجتون هي عوائق في طريق اتساع نطاق الديمقراطية. غالبية الدول التي كانت تؤهلها ظروفها للتحول الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي هي دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالرخاء الاقتصادي لهذه الدول كان مصدره الصادرات النفطية، وهو موقف عزز السيطرة البيروقراطية للدولة وبالتالي هيأ مناخاً لا يتناسب والتحول للديمقراطية. إلا أن ذلك لم يكن معناه استحالة التحول الديمقراطي بالضرورة.

    فقد مارست البيروقراطيات الحكومية في دول أوروبا الشرقية سيطرة أكبر من سيطرة دولنا المُصدرة للنفط. تلك السيطرة قد تنهار عند نقطة معينة في هذه الدول النفطية بنفس الصورة الفجائية التي انهارت بها في دول أوروبا الشرقية!

    موجة التحول الديمقراطي التي اجتاحت العالم في تسعينيات القرن العشرين كان من الممكن أن تصبح سمة سائدة في سياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقتها ـ والكلام لهنتنجتون ـ تتحد قضية الاقتصاد والموروث الحضاري معاً. فما هي أشكال السياسة وأنماطها التي يمكن أن تظهر، حين يتفاعل الرخاء الاقتصادي مع الموروث الحضاري؟! في مناقشته لهذا التساؤل المهم يقرر هنتنجتون ان التحول الديمقراطي في دول العالم الإسلامي يدعم نفوذ حركات سياسية واجتماعية لها وزنها ويحوم الشك حول التزامها بديمقراطية نظام الحكم.

    [هل تستمر الحكومات ـ القائمة في بداية تسعينيات القرن ال20 ـ فيما بدأته من انفتاح سياسي وتُجري انتخابات تتنافس فيها الجماعات الإسلامية دون قيود؟ وهل تحصل الجماعات الإسلامية على الأغلبية؟ وإذا فازوا بالانتخابات، فهل يسمح الجيش(الذي يُعد شديد العلمانية في دول كالجزائر وتركيا وباكستان واندونيسيا) لهم بتشكيل الحكومات؟ وإذا شكلوا حكومات، فهل ستتبع سياسات إسلامية متشددة تقوض دعائم الديمقراطية وتقضي على العناصر ذات التوجهات الحديثة في المجتمع، وهل ستُشكل تهديداً للمصالح الغربية في بلدانها ومُحيطها!]

    بهذه التساؤلات "الحائرة"، فسر لنا هنتنجتون بعبقريته المعهودة موقف بلاده وحلفائها "الضبابي" من مسألة التحول الديمقراطي في بلادنا، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والانهيار الجماعي للأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. دون أدنى إشارة تُذكر من جانبه لمسئولية بلاده عن هدم الإنسان العربي وحرمانه من حقه في نقد وتطوير ثقافته، من خلال صيانتها لأنظمتنا القمعية ولمبدأ الاستقلال "الزائف"، بزعم تفويت الفرصة على الاتحاد السوفيتي في استقطاب الأنظمة العربية إلى جانبه! وهو ما سمح لحُكامنا بافتعال معارك وهمية، ساعدتهم من جهة على التجفيف "الكارثي" لمنابع الحرية، ومن جهة أخرى أكسبتهم شعبية واسعة!

    مالا يعلمه الكثيرون من أبناء مجتمعاتنا "كارهة الحقيقة" هو أن كل ما يدور عندنا من أحداث، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما يدور في العالم ـ خاصة الغربي ـ، ولا يمكن فهمه إلا بإدراك مختلف عناصر هذا الترابط(21). إن أي شيء وكل شيء في حياتنا أصبح على نحو مُتزايد له صلة بما يدور في العالم. فكيف يمكن أن نتجاهل هذه الصلات ولا نسعى إلى فهمها والتعامل معها بكل أبعادها؟ وكيف نظل ننظر إلى الأشياء وعلاقاتها، كأنها تبدأ وتنتهي عند حدودنا "الجغرافية"؟!

    الطريق إلى هجمات 11 سبتمبر2001":
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    للرئيس العراقي الراحل صدام حسين ونظامه خصوصية شديدة في التاريخ العربي المعاصر، ليس فقط لطريقة إعدامه "الثأرية"، على يد ضحايا ظُلمه، وإنما أيضاً لكونه أول حاكم عربي، يُطاح به وبنظامه على خلفية هجمات 11سبتمبر!

    والسؤال: لماذا كان صدام حسين ونظامه أول ضحايا الغضبة الأمريكية؟

    ثمة أحداث قديمة، على ما يبدو، تقف وراء اختيار الولايات المتحدة لصدام حسين ونظامه، كمتنفس لغضبتها، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001!

    كانت السياسة الأمريكية تجاه النظام العراقي في ثمانينيات القرن الماضي "انتهازية" كالعادة! فقد "مالت" الولايات المتحدة بالفعل ناحية العراق أثناء الحرب الإيرانية/العراقية، مُعتبرة إيران "الإسلامية" بمثابة التهديد الأخطر على المصالح الغربية في الخليج! دون أدنى مبالاة بوقوع مئات الآلاف من الضحايا في تلك الحرب التى استمرت ثماني سنوات(1980ـ1988)، قدمت خلالها الولايات المتحدة وبريطانيا للنظام العراقي معلومات استخباراتية وطائرات هليكوبتر لاستخدامها في هجماته بالأسلحة الكيماوية ضد إيران ـ، وأيضاً في حملاته ضد الأكراد(22) ـ، كما حالت الدولتان دون إدانة مجلس الأمن وقتها لهذه الجرائم!

    حرب طويلة وطاحنة على هذا النحو، كان لها تأثير "قاتل" على الاقتصاد العراقي. فقد تدهور الناتج القومي الاجمالي في عام 1988، رغم أنه بدأ يستعيد عافيته عام 1989. ووصل معدل التضخم إلى 45% في عام 1990. وظلت ثمار انتصارات صدام بعيدة عن متناول أبناء شعبه، على حد تعبير مايكل بالمر(23)!

    ومع ذلك، فقد كان العراق غنياً بالنفط، ولديه قطاع زراعي مُنتج، غير أن قبضة صدام حسين "الحديدية"، ورفضه لتخفيض الإنفاق الحكومي، وأمره باستمرار مشروعات التنمية والتطوير النوعي في القوات العسكرية، واحتفاظه بالجيش العامل على نفس المستوى تقريباً الذي بلغه في السنة الأخيرة لحربه مع ايران. كل هذه الأمور وغيرها زادت من الضرورات الاقتصادية بالنسبة لصدام. وبات لزاماً عليه ـ ما لم يعمل على إبطاء الزخم لاستعادة النشاط الاقتصادي أو خفضه بدرجة كبيرة قواته المسلحة ـ، أن يُقنع أنظمة الخليج بإسقاط المليارات المدين بها لهم! وبأن يخفضوا صادراتهم النفطية ويمنحوا العراق حصة أكبر من الإنتاج في إطار منظمة "الأوبك"! وبأن ينقلوا استثماراتهم من الولايات المتحدة!

    وإذا أضفنا إلى ذلك كله "النسخة العراقية" لمحضر الاجتماع "الشهير" بين صدام حسين وجلاسبي السفيرة الأمريكية في بغداد، والتي نشرها العراقيون فيما بعد، والتي تفضح إبلاغ السفيرة لصدام بأنه "ليس للولايات المتحدة رأي فيما يتعلق بالمنازعات العربية ـ العربية، مثل خلافكم مع الكويت حول الحدود"، فيما كان يبدو، إن صح الزعم العراقي، أنه إعطاء "ضوء أخضر" للعراقيين للغزو!

    أقول إنه إذا أخذنا كل هذه الأمور في الاعتبار، فقد تتبدد بعض أوهامنا! كارثة أن تُعالج مثل هذه الحوادث الخطيرة في تاريخنا المُعاصر على طريقة فيلم "العاصفة" لخالد يوسف، حين اختزل مأساة الغزو في أخوين مصريين، حارب أحدهما إلى جانب النظام العراقي، وحارب الثاني إلى جانب نظام بلاده وحلفائه!
    على أية حال، كانت الكويت بالفعل مصيدة موت حقيقية للجيش العراقي، ولم يكن قرار صدام حسين بإرسال المزيد والمزيد من الرجال والمعدات إلى "محافظته التاسعة عشرة" التي فتحها حديثاً ينبع من إستراتيجية عسكرية مدروسة تستهدف إلحاق الهزيمة بهجوم القوات المتحالفة(24)، بل كان ينبع فيما يرى مايكل بالمر من إستراتيجية سياسية، قُصد بها ردع هجوم من هذا النوع عن طريق إثارة شبح حمامات الدم في أذهان زعماء التحالف من الغربيين، فالدم الغربي عزيز!

    الصراع على الكويت والذي حُسم لصالح قوات التحالف بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، كان رغم كل شيء، أول أزمة في سنوات ما بعد الحرب الباردة! بدا فيه جلياً ما أسفر عنه انتهاء الحرب الباردة من تعديل في بعض عناصر المعادلة الجغرافية ـ الاقتصادية! فاحتواء الشيوعية لم يعد يجبر الولايات المتحدة على ضمان التدفق المستمر للنفط من الخليج إلى أوروبا الغربية. ومع ذلك فإن الأهمية الكلية للعناصر الجغرافية ـ الاقتصادية في السياسة الخارجية الأمريكية قد زادت. والأسباب فيما يرى بالمر، هي: أولاً، إدراك أصحاب القرار السياسي الأمريكي، وأغلبية الشعب الأمريكي، انه ليس في مصلحة الولايات المتحدة حدوث انهيار في اقتصادات شركائها التجاريين الرئيسيين في أوروبا وآسيا. وثانياً، ان نمو اقتصادات الدول الديمقراطية الجديدة في أوروبا الشرقية يعتمد، جزئياً، على توافر النفط الشرق أوسطي رخيص السعر. وثالثاً، من المرجح أن يزداد اعتماد أمريكا على بترول الخليج العربي المستورد. وبوجه عام ـ والكلام لمايكل بالمر ـ فإن الشعب الأمريكي ينفر من الموافقة على تشييد المزيد من محطات الطاقة النووية، خوفاً من الحوادث ومن المشكلات المتصلة بإنتاج النفايات النووية، كما يرفض الشعب زيادة عمليات الحفر للتنقيب عن النفط قبالة الشواطئ، خشية تلوث المياه وأماكن الاستحمام في البحر، ويرفض إحراق المزيد من الفحم، حتى لا يزداد تلوث الهواء وحتى لا يسقط المطر الحمضي!!

    إريك هوسكين، وهو طبيب كندي، كان منسق فريق هارفارد في العراق، علق على وحشية الهجوم على الشعب العراقي في "عاصفة الصحراء" بقوله: إن القصف بالقنابل عام 1991 قد انهى بصورة فاعلة كل ما هو حيوي للبقاء البشري في العراق، الكهرباء والماء وأنظمة الصرف والزراعة والصناعة والرعاية الصحية!، أما الصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان، فقد ادعى بوقاحة أن الأفضل في كل العوالم، بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، هو ديكتاتور آخر مثل صدام حسين أو على حد قوله: قبضة حديدية لعصبة عراقية دون صدام حسين!

    وقبل انتخاب بوش الابن كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية قامديك تشينيودونالد رامسفيلدوپول وولفويتز، بكتابة مذكرة تحت عنوان "إعادة بناء القدرات الدفاعية للولايات المتحدة" فيسبتمبر2000 ، أي قبل عام منأحداث 11سبتمبر2001. في هذه المذكرة ورد ما معناه انه بالرغم من الخلافات مع نظام صدام حسينوالذي يستدعي تواجدا أمريكيا في منطقةالخليج العربيإلا أن أهمية وأسباب التواجد الأمريكي في المنطقة تفوق سبب وجودصدام في السلطة(25).

    على أية حال، ما حصل هو أن الرئيس بوش الأب تردد في أن يُحل ديكتاتور آخر مكان صدام، لأنه فيما يرى محمود ممداني لم يكن متيقناً من التداعيات الإقليمية على بقية حكوماتنا وإيران وتركيا(26)، التي يمكن أن يؤدي إليها تغيير النظام العراقي! ومن ثم اكتفى بمواصلة عقاب العراق في زمن السلم، حتى يُبعد نظامه عن أن يكون مُسلحاً بطريقة فعالة ضد أي أحد، غير مواطنيه!

    كان القصف المتكرر للعراق يجري في موازاة "نظام غير محدد من العقوبات الاقتصادية". وكانت الأمم المتحدة قد تبنت العقوبات الاقتصادية كجزء من دستورها لعام 1945 وكوسيلة لصيانة النظام الكوني. واستخدمت العقوبات الاقتصادية، منذ ذلك الوقت وحتى توقيعها على العراق، أربع عشرة مرة، منها اثنتا عشرة مرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. غير أن العراق يمثل أول دولة توقع فيها العقوبات على بلد بصورة شاملة منذ الحرب العالمية الثانية، بمعنى أن كل من أوجه صادراتها ووارداتها قد أصبح، في آخر الأمر، خاضعاً لإشراف الأمم المتحدة وعُرضه لفيتو الولايات المتحدة الأمريكية! وقد كشف هذا النظام من العقوبات الاقتصادية عن تطور جديد وخبيث بحق في تاريخ النزاع الأقل حدة!

    فقد ادعى، وهو يشن حملة باعتبارها حملة من أجل حقوق الإنسان، أنه يهدف إلى تخفيف عقوبة مُستحقة بالفعل، طبقاً لحكم شروط قانون خاص "بالسلع الإنسانية"، التي يشرف عليها "منسقو الأمم المتحدة للمعونة الإنسانية"! لقد أطلق ذلك في الحقيقة العنان للقتل "الدنيء" لمئات الآلاف من الأطفال والمرضى في العراق! "إن الولايات المتحدة تحتاج إلى قوة كافية حتى تمنع أي مُتحدٍ يحلم، في أي زمان، بتحدينا فوق المسرح العالمي"(27)، هدف مُحدد وواضح تضمنته وثيقة الإستراتيجية الشهيرة التي رسمها بول وولفويتز في السنة الأخيرة لبوش الأب!

    حقيقة مُحزنة ـ حقاً ـ أن بزوغ الولايات الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية وحيدة، قد سار جنباً إلى جنب مع طلبها أن تُستثنى من أي حكم دولي للقانون. وهي لم تتردد، في الوقت نفسه، عن المطالبة بتطبيق انتقائي لحكم القانون، ساعية إلى استخدام القانون كأداة لوضع الدول الأخرى تحت المحاسبة.

    العاملون المدنيون الدوليون، على أعلى مستوى، الذين أصروا على أن تقبل أمريكا بحكم القانون قد استُهدفوا وتُركوا أمام اختيار واحد: أن يستقيلوا أو يُعزلوا، وكان أكثر هؤلاء بروزاً وشهرة هو السكرتير العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي، الذى قاده اقتناعه العاطفي الساذج ـ والكلام لممدوح ممداني ـ إلى أن انتهاء الحرب الباردة سوف يُفسح الطريق للحكم العالمي للقانون، مما قاده إلى اختلافات عدة مع مادلين أولبرايت، وأدى في النهاية إلى رسالة واضحة من إدارة كلينتون أن ترشيحه سوف يُواجه بالفيتو إن هو سعى إلى فترة ثانية في منصبه!

    صبر واشنطن نفذ عندما بدأ بطرس غالي ممارسة استقلاله في التطبيق!

    انتقد غالي انشغال واشنطن بالبوسنة "حرب الأغنياء" وإهمالها الصومال، حيث "يُحتمل موت ثلث السكان جوعاً"، ورواندا حيث اتهم الولايات المتحدة "بالوقوف في كسل" والمشاركة فقط عندما تهلك المذابح بالفعل القسم الأعظم من السكان. إن العديد يؤمنون أن غضب واشنطون قد بلغ الذروة في أبريل 1996، عندما أصر غالي على نشر نتائج استقصاء الأمم المتحدة التي أوضحت تورط إسرائيل ـ كالعادة(!!) ـ في قتل حوالي مائة من المدنيين الذين اخذوا رهائن في معسكر الأمم المتحدة في قانا بجنوب لبنان. ونجحت الولايات المتحدة، في النهاية، في استبدال بطرس غالي بأفريقي آخر، هو كوفي عنان، وكيل السكرتير العام للأمم المتحدة لحفظ السلام خلال مذابح رواندا العرقية، الذي أصبح أكثر تناغماً بكثير مع ما تدعو إليه واشنطن. فقد جاء صعود كوفي عنان إثر أزمتين كبيرتين واجهتهما الأمم المتحدة: الأولى يوغوسلافيا السابقة، والثانية رواندا. وبينما لم يكن بطرس غالي راغباً في اتباع قيادة الناتو والموافقة على المطالب الأمريكية بالقصف الجوي للصرب بمعيار يتجاوز القصف الرمزي التزم عنان على الفور!

    صفوة القول، انه بينما كان العالم على مشارف الألفية الثالثة، استقرت الولايات المتحدة في وضع القوة الفائقة الوحيدة، وقامت من الناحية الفعلية بتهميش الأمم المتحدة. ووعدت، بالمقابل، بإقامة "نظام عالمي" أكثر عدالة. وباسم هذا المشروع، قادت وكسبت ـ كما رأينا ـ حرب الخليج ضد العراق. غير انه، حالما انتهى هذا القتال، ظلت على انحياز فاضح لصالح إسرائيل، على حساب حقوق الفلسطينيين. وعلاوة على هذا، ورغم الاحتجاجات الدولية، أبقت الولايات المتحدة ـ وكما رأينا أيضاً ـ على حصار شرس ضد العراق، يترك هامشاً لبقاء النظام غير أنه يقتل آلاف الأبرياء. ولم يعد هذا "النظام العالمي الجديد" يبدو أكثر عدالة في نظر المليارات من سكان دول المناطق المتخلفة. وقام كل هذا بإحداث جرح غائر، بصورة خاصة، في الوجدان الشعبي للعالمين العربي والإسلامي، وهو ما ساهم بقوة في خلق تربة مُلائمة، ازدهرت عليها رؤى إسلامية معادية للغرب بصفة عامة، ولأمريكا بصفة خاصة! ساعد على تعميق هذا العداء الدعم الغربي ـ المُستتر أحياناً، والمُعلن أحياناً أخرى، حسب "المصلحة" ـ للأنظمة في دولة "ما بعد الاستعمار"، والتي تجاوزت في استهدافها للنفوس "الحُرة" كل حد!

    "السبتمبريون" وتغيير الأنظمة العربية:
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    عقب انتهاء الحرب الباردة بدا أن التطرف من المنظور الأمريكي لم يعد صنوين، اليسار والحركات الشيوعية، بل أصبح مُرتبطاً بشكل أكبر وتدريجي ببعض قوى الإسلام السياسي التي خرجت من أفغانستان بعد انتهاء الحرب بها بالانسحاب السوفيتي منها عام 1989 لتبحث عن ميادين أخرى لحروبها المقدسة وبثقة كبيرة في النفس وإحساس بالانتصار، وبشكل متزايد. ولما سبق ذكره من أسباب ـ وغيرها ـ، بدأت هذه القوى تركز سهامها على أمريكا منذ محاولة الاعتداء على مركز التجارة العالمي في نيويورك في عام 1993 ومروراً بالهجوم على السفارتين الأمريكيتين بنيروبي ودار السلام عام 1998 وصولاً إلى ضربات في مدينة نيويورك أيضاً، والهجوم على البنتاجون بواشنطن في سبتمبر2001.

    ولكن، ومع ذلك، بقي البعد الراديكالي القومي في معادلة ما تسميه واشنطن بقوى التطرف، سواء تمثل ـ في مراحل ـ في الأنظمة الحاكمة في ليبيا والعراق وسوريا(والأخيرتان مرتبطين في الذهنية السياسية الأمريكية الغالبة بعداء مُفترض لحزب البعث تجاه الولايات المتحدة)، أو في شكل تنظيمات سياسية مثل التنظيمات الفلسطينية اليسارية والقومية. كما بدا قلق واشنطن تجاه تحالفات عبر خطوط التماس الأيديولوجية بين حكومات وتنظيمات مثل ما تعتبره محوراً سورياً وإيرانياً، يشمل أيضاً حزب الله اللبناني وتنظيمات فلسطينية مثل حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجهاد الإسلامي وغيرهم! هذا التطرف، برأي الولايات المتحدة الأمريكية، يهدد إمدادات الطاقة والنفط إليها وإلى حلفائها الغربيين، كما أنه يشكل خطراً على أمن إسرائيل ووجودها وتميزها في المنطقة، بالإضافة إلى خطره على الاستقرار، والأنظمة القريبة من أو المُتحالفة مع أمريكا بالمنطقة!

    ربما يعتقد البعض أن هدف [الحرب ضد الإرهاب]، حديث نسبياً، وتحديداً أتى عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولكن الحقيقة خلاف ذلك(28)، فالولايات المتحدة الأمريكية كانت ترمي بالإرهاب تنظيمات فلسطينية ولبنانية ويسارية وقومية، قبل عقود من هجمات 11سبتمبر، بسبب قيام بعض التنظيمات بخطف طائرات في عقدي السبعينيات من القرن العشرين من القرن الماضي والثمانينيات من القرن الماضي، كما أن الخارجية الأمريكية تُصدر قائمة سنوية بأسماء التنظيمات التي تعتبرها إرهابية وأخرى بأسماء الدول التي تتهمها برعاية الإرهاب. والقائمتان تضمان دولاً ومنظمات غير إسلامية، أساساً يسارية، وإن كان عدد هؤلاء بات في تناقص عبر السنوات الأخيرة، خاصة بعد 11/9(29)! ولشد ما تحظى هجمات 11سبتمبر بخصوصية شديدة وأهمية استثنائية، في التاريخين العالمي بصفة عامة، والعربي والإسلامي خاصة، من نواحٍ عديدة:

    [1] من ناحية "شراسة" الهجمات ورمزيتها:

    من تقرير اللجنة الوطنية الأمريكيةالخاص بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، نعلم أن أسامة بن لادن(سعودي) وأيمن الظواهري(مصري) أصدرا من مقريهما بأفغانستان في فبراير 1998 فتوى باسم الجبهة الإسلامية العالمية، أكدا فيها إعلان الولايات المتحدة الحرب على الله ورسوله، وطالبا المسلمين بقتل الأمريكيين في شتى أنحاء المعمورة، واعتبرا ذلك فريضة إسلامية. وطبقا للتقرير، لم تفرق الفتوى بين العسكريين والمدنيين، فكلاهما إرهابي، وكلاهما هدف مشروع لأبناء الأمة الإسلامية. ولم تكن تلك الفتوى الأولى لأسامة بن لادن، فقد صدرت عنه فتاوى عديدة مماثلة، أكد التقرير إباحتها لدماء الأمريكيين(30).

    ومن ذلك فتواه الصادرة في أغسطس عام 1996، والتي طالب فيها المسلمين بطرد الجنود الأمريكيين من الأراضي المقدسة في المملكة العربية السعودية، إلى جانب إشادته بالهجمات التي استهدفت المصالح العسكرية الأمريكية فيالسعودية،وبـــيروت(عــام1983)، وعــدن(عـام1992)، والصومــال(عام 1993). فقد اعتبر بن لادن الانسحاب الأمريكي من الصومال هزيمة ساحقة للأمريكيين، حالت دون نهوض أتباعه بفريضة الجهاد هناك، على النحو الذي حدث في أفغانستان. وكذلك تطرق التقرير الأمريكي لأهمية التجربة الأفغانية في صياغة فكر بن لادن وأتباعه(31)، فقد وصل بن لادن إلى أفغانستان وعمره لم يتجاوز الثالثة والعشرين عاماً، وتمكن بفضل قدراته وثروة أسرته الطائلة من تقديم كثير من الدعم للمقاومة الأفغانية ضد القوات السوفيتية. وبالفعل نجح هو وأتباعه في دعم القدرة القتالية للمقاتلين الأفغان، إلى أن أعلنت موسكو في أبريل 1988 اعتزامها سحب قواتها العسكرية من أفغانستان خلال 9شهور.

    حينئذ، سعى بن لادن وعبد الله عزام(فلسطيني) لتثمين الخبرات القتالية المتوفرة لدى أتباعهما. وبالفعل أسسا تنظيم القاعدة، للاضطلاع بالمهام القتالية في شتى أنحاء المعمورة. وبرغم إبداء عزام رغبته في توجيه قدرات القاعدة للمساعدة في إقامة حكومة إسلامية في أفغانستان، ثم تحرير فلسطين في مرحلة لاحقة، نجح بن لادن في تغليب رؤيته الخاصة بتجهيز أتباعه للجهاد في شتى أنحاء المعمورة. وباغتيال عزام في 24 نوفمبر 1989، أضحى بن لادن زعيماً منفرداً لتنظيم القاعدة. ومنذ ذلك الحين عمد لدعم الجهاد الإسلامي ـ طبقاً لرؤيته ـ في مختلف أرجاء الأرض. ومن ذلك نشاطاته الواسعة في السودان، إبان مشاركة الترابي.

    وطبقاً للتقرير نفسه، استند تنظيم القاعدة بصورة ملموسة إلى الأتباع من مختلف الدول العربية، وهو ما بدا واضحاً في تشكيل المجموعات التي اضطلعت بتخطيط وتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد أهداف أمريكية، حيث حمل أعضاء تلك المجموعات جنسيات عربية مختلفة، فضلاً عن اضطلاع خالد شيخ محمد بالتخطيط لتلك الهجمات، فبرغم انتمائه لأصول عرقية غير عربية، إلا أنه نشأ وتربى في الكويت، وانتمى لجماعة الإخوان المسلمين في السادسة عشر من عمره. وفى الولايات المتحدة الأمريكية، حصل على مؤهله الجامعي في الهندسة الميكانيكية في ديسمبر 1986. ومنذ ذلك الحين ، بدأت رحلته التي قادته إلى التخطيط لهجمات سبتمبر 2001. ففي أحد لقاءاته مع بن لادن، عرض خالد عليه فكرة تدريب مجموعة من الطيارين للقيام بتفجير مبانٍ داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وبالفعل لاقى الاقتراح استحسان بن لادن، وحصل خالد على الضوء الأخضر لبدء التجهيز لعملية 11/9 في أواخر عام 1998، أو أوائل 1999.
    ولم يلبث خالد أن انتقل إلى قندهار للعمل مع تنظيم القاعدة عن كثب، تلبية لدعوة بن لادن، حيث تمت مناقشة الخطة عدة مرات مع أسامة بن لادن، وتم كذلك تحديد الأهداف الأمريكية المطلوب تدميرها بواسطة الطائرات المخطوفة، علاوة على تحديد العناصر المنوط بها تنفيذ العملية، والتي جرى حصرها في التقرير الأمريكي، على النحو التالي: 1ـ محمد عطا(مصري) 2ـ وليد الشهري(سعودي) 3ـ وائل الشهري(سعودي) 4ـ سطام السقامى(سعودي) 5ـ عبد العزيز العمرى(سعودي) 6ـ هاني حنجور(سعودي) 7ـ نواف الحزمى(سعودي) 8ـ خالد المحضار(سعودي) 9ـ ماجد موقد(سعودي) 10ـ سالم الحزمى(سعودي) 11ـ مروان الشيحى (إماراتي) 12ـ فايز أحمد(الامارات) 13ـ أحمد الغامدى(سعودي) 14ـ حمزة الغامدى(سعودي) 15ـ مهند الشهري(سعودي) 16ـ زياد جراحي (لبناني) 17ـ سعيد الغامدى(سعودي) 18ـ احمد الحزناوى(سعودي) 19ـ أحمد النعمى( سعودي).

    وبالإضافة لنهوضه بعبء توفير العناصر البشرية اللازمة لتنفيذ هجمات سبتمبر، تحمل تنظيم القاعدة ـ بحسب التقرير ـ تكاليف العملية التي تراوحت بين 400000 و 500000 دولار أمريكي. وبحلول الحادي عشر من سبتمبر 2001، نُفذت الخطة الموضوعة في وضح النهار، حيث اقتحمت الطائرات المخطوفة، بركابها، برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، ومبنى وزارة الدفاع "البنتاجون" بواشنطن، وهو ما أسفر عن إزهاق آلاف الأرواح في دقائق معدودة، وتدمير البرجين تدميراً كاملاً، فضلا عن تدمير جزء من مبنى وزارة الدفاع.

    الولايات المتحدة لم تلبث أن أعلنت أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر إعلان صريح للحرب عليها! وهو ما يُعضد زعمنا بتفرد هذه الهجمات ورمزيتها، فقد قام بها "السبتمبريون"، وهم مجموعة من الشباب الثائر، جاءوا من دول عربية مختلفة، ينتمون لتنظيم إسلامي هو "القاعدة"، ويحملون في صدورهم عداءً شديداً للغرب! ساءهم أن يصون الغربيون، بزعامة الولايات المتحدة "المُهيمنة"، الأنظمة العربية والتي هي برأيهم لاإسلامية ظالمة، لا دين للقائمين عليها سوى المصلحة، ولا سند لهم إلا الغرب! رسالة "قوية" كهذه، لم يكن لرمزيتها الواضحة أن تخفى على الغربيين، خاصة وأنهم يعرفون عن أوطاننا أكثر مما يُسمح لنا أن نعرف!

    "الرسالة الرمزية"، عادة ما تقف وحدها أمام المُتلقي لها! وهو ما يُفسر التباين الحاد في ردود الأفعال على رسالة من هذه النوعية، كون الأمر يتوقف، إلى حد كبير، على وعي المُتلقي، ومدى عبقريته في استنطاق "الرمز" المُرسل!

    والتالي مُحاكاة "مُتخيلة"، في سياق النسيج الحضاري العام، لما يمكن أن يتمخض عنه الاستنطاق الأمريكي المصلحي لرسالة السبتمبريين "اليائسة"(32):

    · الرسالة قادمة من أفغانستان "يثرب الجديدة"، والراسلون هم الأفغان العرب "المُهاجرون الجدد" الذين فروا بدينهم من العالم العربي موطنهم الأصلي!

    · الرسالة تُمثل قوى الاسلام السياسي، على اختلاف أطيافها!! فعادة ما يتركز الخلاف الجوهري بين هذه القوى المُتلاسنة، حول مسألة مشروعية أو عدم مشروعية مُناهضة الأوضاع القائمة والعمل على تغييرها الجذري بالقوة!

    · الرسالة تُنبه بقوة إلى انتهاء صلاحية الأنظمة العربية "القمعية" في دولة "ما بعد الاستعمار"! من ناحية قدرتها على احتواء قوى الإسلام السياسي ـ "ترهيباً" أو "ترغيباً" ـ، ومن ناحية قدرتها على صيانة المصالح الغربية!

    · الرسالة تُحذر من خطورة التمادي الاسرائيلي في استهداف وتهميش قوى الاسلام السياسي في فلسطين، على نحو ما هو حاصل في البلاد العربية!

    · الرسالة تؤكد قدرة فائقة وغير مسبوقة على اختراق العمق الغربي! وتنبه إلى خطورة تواجد قيادات وكوادر من قوى الاسلام السياسي في الغرب!

    · الرسالة تستعرض على نحو عبقري "قوة الضعف"! فأصحابها يستهينون، بل ويتحدون في جرأة "مُذهلة"، عدم التكافؤ "الهائل" في القوة، بينهم وبين حكومات العالم الغربي! كما أن الرسالة تستعرض إصرار وعناد أصحابها، وقدرتهم على المُناورة واستخدام العنف الشديد، دون دول أو أنظمة، يُمكن الثأر منها! وباستخدام أحدث ما أنتجته الحضارة الغربية من "تكنولوجيا"!

    · الرسالة تُلوح بكبرياء المسلمين الجريح! وفي هذا استدعاء لفكرة "الخلافة الإسلامية"، وتأكيد لتصور الغرب عن تشبع نسيج الإسلام بروح حربية!

    · الرسالة تضع الغرب أمام خيارين: إما مواجهة هجمات "بالغة العنف"، ضد المصالح الغربية في كل مكان، وإما الاعتراف بقوى الإسلام السياسي والسعي لدمجها في الأنظمة السياسية في العالمين العربي والإسلامي! ففي توقيت متقارب مع دخول تنظيم "القاعدة" في ما يسمى "الجبهة العالمية لقتال الصليبيين واليهود والأمريكان" عام 1998! وهو ما يعتبره الخبراء في مجال الإرهاب نقطة الانطلاق على طريق هجمات 11/9! فاجأت الجماعة الإسلامية الجميع بمبادرتها عام 1997 والتي أقرها عمر عبد الرحمن من محبسه في الولايات المتحدة الأمريكية، بوقف كل العمليات المسلحة داخل مصر وخارجها، ووقف البيانات الإعلامية المحرضة عليها، علاوة على إبداء الجماعة رغبتها المُلحة في الاندماج في العمل السياسي السلمي، على نحو ما تُطالب جماعة الإخوان منذ سنوات! ففي مارس 1994، وعقب دعوة مبارك للحوار الوطني، وقبل أن تصدر قرارات مؤتمر الحوار أصدر الإخوان أول وثيقة منذ سنوات طويلة تعبر عن رأيهم في الشورى وتعدد الأحزاب، أكدوا فيها أن الأمة مصدر السلطات وأن الشورى لا تختلف في أهدافها عن الديمقراطية، وأن اختلاف الآراء هو تكامل وتنوع للنظر لابد منه لاستجلاء الحق والوصول إلى الأًصلح والأرجى في المنفعة، خصوصاً إذا اقترن هذا بالتسامح وسعة الأفق والبعد عن التعصب وضيق النظرة، كما أكدوا في هذه الوثيقة أن الشرع ترك الباب مفتوحاً للمسلمين فيما يدخل في إطار تنظيم المباح. وبعد عرض هذه الأفكار، تقول الوثيقة: "لذا فإننا نؤمن بتعدد الأحزاب في المجتمع الإسلامي، وأنه لا حاجة لأن تضع السلطة قيوداً من جانبها على تكوين ونشاط الجماعات أو الأحزاب السياسية، وإنما يُترك لكل فئة أن تعلن ما تدعو إليه وتوضح منهجها ما دامت الشريعة الإسلامية هي الدستور الأسمى..كما اننا نرى أن قبول تعدد الأحزاب في المجتمع الإسلامي يتضمن قبول تداول السلطة بين الجماعات والأحزاب السياسية وذلك عن طريق انتخابات دورية".

    [2] من ناحية الإذعان الغربي لرسالة "السبتمبريين":

    [ناس تخاف ما تختشيش]، لشد ما ينطبق هذا المثل المصري "العبقري" على الغرب! فعلى خلفية رسالة "السبتمبريين" الممهورة بدمائهم، بات واضحاً أمام صُناع السياسة في العالم الغربي ـ وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ أن ثمة احباطات مكبوتة شديد التأزم في وجدان الشارع العربي، لم يعد مُمكناً السكوت عنها! وأن الغربيين أنفسهم لم يعودوا بمنأى عن التداعيات بالغة العنف لهذه الاحباطات، من جراء تورطهم، المُعلن أو حتى المُستتر، مع الأنظمة المناهضة لقوى الإسلام السياسي في دولة "ما بعد الاستعمار"! بات واضحاً أمامهم أن إبقائهم على هذه الأنظمة القمعية الفاقدة للشعبية، يحتاج لإعادة تقييم، على نحو عاجل وجذري، لتلافي المزيد من الهجمات على المصالح الغربية في كل مكان!

    أمارات عديدة تعضد زعمي بالإذعان الغربي لرسالة السبتمبريين، أبرزها:
    يتبع

  2. #2
    · ما ورد في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة عن البيت الأبيض في سبتمبر 2002، والتي تُعد بحق إحدى أهم الوثائق الأمريكية الصادرة بعد هجمات 11سبتمبر، فقد أعاد الأمريكيون خلالها صياغة رؤيتهم للعالم ولمنطقتنا، باعتبار أن عالم "ما بعد11سبتمبر" يختلف عن عالم "ما قبل11سبتمبر". أهمية هذه الوثيقة، بالنسبة لنا كعرب، تنبع من إعادة صياغتها لرؤية الولايات المتحدة لمقدراتنا. فقد أطاحت بالمبادئ التي دأبت الولايات المتحدة على الأخذ بها في تعاطيها مع قضايانا، بكافة مستوياتها، واستبدلت بها مبادئ أخرى، قد تُمكن حال الالتزام بها وعدم الالتفاف عليها لمناهضة الاستبداد في ربوعنا الطيبة. فلأول مرة تُعلي الولايات المتحدة قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، في خطابها المُوجه لمجتمعاتنا، على خلاف دعمها "التاريخي" لحكوماتنا القمعية، ومساندتها لها في قبضتها الحديدية، وفي تكريسها الصارم لغياب الحرية، وللاستقلال الزائف! والتالي إيجاز لأهم المبادئ الحاكمة للإستراتيجية الأمريكية، إزاء أوطاننا(33):

    1. ضرورة إعلاء الكرامة الإنسانية للإنسان العربي، فالتمتع بالحرية والعدالة حق مشروع له ولغيره. ولم يعد مقبولاً إعفاء أمة بعينها من الالتزام باحترام كرامة أبنائها. فكل أب وأم يطمحان لتزويد ذريتهما بحظ وافر من التعليم والمال والأمان. وتلك حقوق مشروعة، فليس هناك على وجه الأرض من يطمح لأن يقمع أو يسترق أو يُروع بزوار الفجر. والولايات المتحدة ملزمة بتثمين تلك الحقوق في علاقاتها مع دول العالم المختلفة.

    2. ضرورة الجدية العربية في مكافحة الإرهاب، ففي حربها الضروس ضد الإرهاب في شتى أنحاء المعمورة سترسى الولايات المتحدة مبدأ السيادة المشروطة. أو بعبارة أخرى، لن تفرق الولايات المتحدة بين الإرهابيين والدول التي تمدهم بالمأوى أو المساعدة، فكلاهما هدف مشروع في الحرب ضد الإرهاب العالمي. ولن يحول حائل بين الولايات المتحدة الأمريكية وتعقب أولئك الإرهابيين أينما حلوا.

    3. ضرورة استمرار تدفق النفط العربي، فالولايات المتحدة وحلفاؤها يتوقعون من الدول النفطية العمل الدءوب على توفير الاحتياجات العالمية من النفط، خاصة لها ولحلفائها. باعتبار النفط أحد أهم مصادر الطاقة المتاحة، إلى جانب ارتباطه المباشر بالحياة الاقتصادية والصناعية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. هذا إلى جانب حرص الولايات المتحدة على العمل مع الحلفاء والشركاء التجاريين لتنمية وتطوير مصادر أخرى أنظف للطاقة.

    4. ضرورة الانخراط الأمريكي في جهود فض الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، مع مراعاة مبدأين مهمين، كما هو الحال مع أي صراع إقليمي آخر. الأول، السعي الأمريكي لبناء علاقات ومؤسسات دولية قادرة على المساعدة في إدارة الأزمات المحلية فور بزوغها. الثاني، التحرك الأمريكي بقوة لمساعدة من يرغبون في مساعدة أنفسهم. مع التزام الولايات المتحدة بمساندة إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، تعيش في سلام وأمن جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل. فالفلسطينيون كأي شعب آخر، يحق لهم التمتع بحكومة ترعى مصالحهم وتستمع لأصواتهم. وفى حالة انصياعهم للديمقراطية وحكم القانون وتصديهم للفساد والإرهاب، يمكنهم الاعتماد على المساندة الأمريكية لإقامة دولة فلسطين. وفيما يخص الإسرائيليين، عليهم تطوير علاقتهم بالفلسطينيين تبعاً للتقدم المحرز في الموقف الأمني، وإيقاف الأنشطة الاستيطانية في الأراضي المحتلة، ومساندة قيام دولة فلسطينية مستقلة.

    · تحرك إدارة بوش(الابن) نحو إحداث تغيير جذري في الأنظمة العربية ـ بدءاً بالعراق، على أمل جعله نموذجاً يُغري بقية دول المنطقة بمحاكاته ـ، وبرغم ما اشتُهر عن هذا التحرك العنيف وعن صاحبه من إخفاق، يُظل برأيي دليلاً على تفهم الغرب لرسالة السبتمبريين، وخطورة استمرار عدم احتواء وقمع قوى الإسلام السياسي في الأنظمة العربية! يُفهم ذلك من نقد أولبرايت لإخفاق بوش في ترجمة إستراتيجية بلاده لواقع، ومن عدم رفضها للإستراتيجية نفسها(34):

    "اعتقد جورج دبليو بوش أن لديه نهجاً أفضل(من سلفه كلينتون). فازدرى القادة الفلسطينيين، ولم يكتف باحتواء صدام حسين فحسب، بل باشر ـ مُقتنعاً بأن القوة الأمريكية تستطيع إقامة الديمقراطية على الفور ـ بتنفيذ خطة أحادية لتحويل الشرق الأوسط بأكمله. وبذلك العمل أحال الهيكل الأمني غير المثالي إلى حطام.

    "في الشرق الأوسط، يشكل تأثير كرة البلياردو في الشئون الدولية خطراً كبيراً. فالكرات لا تصطدم الواحدة بالأخرى فحسب، بل عند ضربها بقوة كافية، تنفجر وتُشعل الكرات الأخرى إذا التقت بشكل خاطئ. ومن ثم تحلل غزو العراق إلى حرب أهلية مُتعددة الأطراف، فاقمت التوتر بين المسلمين السنة والشيعة، وزادت نفوذ إيران، وأوصلت تركيا إلى شفير نزاع مع الأكراد العراقيين، ومنحت "القاعدة" حياة جديدة. انقلب الرأي العام في أماكن كثيرة من العالم ضد الولايات المتحدة، في حين احتل القادة الذين يتحدون الولايات المتحدة(وإسرائيل) بشكل مباشر قوائم الأكثر شعبية في أوساط المسلمين. وقد حاولت إدارة بوش متأخرة أن تبطل الضرر بالهبوط بالمظلة على النزاع العربي الإسرائيلي لتجد إطار العمل الذي دعم ذات يوم عملية السلام بحاجة إلى إعادة بناء من الصفر.

    "لقد قامت البراعة الأمريكية في التعامل مع مخاطر القرن العشرين على دعامتين: القيادة الأمريكية والمشاركة التامة لشركائنا في الحلف. ولن نستعيد موقعنا في الشرق الأوسط والخليج إلا إذا وضعنا أولاً جدول أعمال يدعمه حلفاؤنا ويمكن التوفيق بينه وبين احتياجات البلدان الرئيسية الأخرى. وحتى عندئذ سنكون في نقطة البداية، إذ علينا استعادة ثقة الموجودين في المنطقة. ولكسب تلك الثقة، علينا أن نحسن فهم ما يريده الشعب في الشرق الأوسط، ولماذا يقومون به. لن نستطيع إقناع أحد إذا لم ننجح في فهم رأيهم بأنفسهم وبنا"!!

    · تعامي الساسة الغربيين ـ أمثال أولبرايت وغيرها ـ عن دور بلادهم "الانتهازي"، في الإبقاء على أنظمة دولة "ما بعد الاستعمار"، رغم ما دأبت عليه هذه الأنظمة وما اشتُهر عنها من تجفيف منهجي لمنابع الحرية في أوطانها، وجعلها مواتية لتفريخ العنف، وقمع وحشي لقوى الإسلام السياسي! كل هذا يُعزز بقوة زعمنا بوقوف الهلع الغربي من عنف الإسلاميين، والرغبة في احتوائهم، وراء التخلي الغربي، المُحير للبعض، عن الأنظمة العربية "الموروثة"! ولو أن جرائم السيد بوش ـ كما تسميه أولبرايت(35) ـ، جرت في جنح الظلام، ولم يتنبه أحد إليها، ما وجدنا أولبرايت أو غيرها، يوبخون بوش على هذا النحو العلني!

    · مُضي بوش قُدماً في ترجمة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة إلى واقع، رغم الخسائر الأمريكية في العراق، يشي بإصرار أمريكي واضح على عدم تجاهل رسالة "السبتمبريين"! يبدو ذلك واضحاً في وثائق أمريكية عديدة، في مقدمتها مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، كماطرحته الولايات المتحدة على مجموعة الدول الصناعية الثماني، لبلورة موقف موحد تجاهه خلال قمة المجموعة! صحيفة الحياة اللندنية نشرت في فبراير 2004 نص المشروع، والتالي فقرات من المقدمة، تشي بهلع غربي واضح من احباطات مكبوتة(36):

    "يمثل [الشرق الأوسط الكبير] تحدياً وفرصة فريدة للمجتمع الدولي، وساهمت النواقص الثلاثة التي حددها الكتاب العرب لتقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002، 2003: الحرية، والمعرفة، وتمكينالنساء، في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثمانية الكبار.

    "وطالماتزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة،سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. إنالإحصائيات التي تصف الوضع الحالي في [الشرق الأوسط الكبير] مروعة ـ ذكر النص المنشور للمشروع بعضها ـ!

    "وتعكس هذه الإحصائيات أن المنطقة تقف عند مفترق طرق. ويمكن للشرق الأوسط الكبير أنيستمر على المسار ذاته، ليضيف كل عام المزيد من الشباب المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية. وسيمثلذلك تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعةالثماني"!

    · أمارة أخرى شديدة الوضوح تعضد زعمنا بالهلع الغربي من الإرهاب الخارج من منطقتنا والإدراك الأمريكي لوقوف الأوضاع العربية وراء تفريخه! إنها وثيقة "تخطيط المستقبل الكوني" التي أصدرها مجلس المخابرات القومي الأمريكي عام 2004(37)، والتي بُنيت في جزء منها على مشاورات متعددة مع خبراء المنظمات غير الحكومية حول العالم. ففي فقرة شديدة الارتباط بحضارتنا وعالمنا العربي، عنوانها "انتشار الشعور بعدم الأمن"، ذهبت الوثيقة إلى أن الإرهاب والصراعات الداخلية في الدول يمكن أن تؤدي إلى اضطراب في مسيرة العولمة، وذلك من خلال زيادة تكاليف توفير الأمان للتجارة الدولية التي قد تنجم عن زيادة القوات الخاصة بحراسة الحدود، والتأثير السالب على أسواق الائتمان. ومن واقع استطلاعها لآراء الخبراء في مجال الإرهاب، ترى الوثيقة أن غالبية الجماعات الإرهابية الدولية سيستمر انتماؤها إلى ما أسمته الإسلام الراديكالي المتشدد. وأن دوائر تأثير هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة ستتسع، سواء في داخل الشرق الأوسط أو خارجه، بالإضافة إلى أوروبا الغربية وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا! إحياء المشاعر الدينية المتطرفة، فيما ترى الوثيقة، سيصاحب اتجاهات التضامن مع المسلمين في مناطق الصراع، كفلسطين والعراق وكشمير..الخ!

    الوثيقة المخابراتية ترى أيضاً انه لو حدث انقلاب إسلامي مُباغت في إحدى بلاد الشرق الأوسط، فإن ذلك سيؤدي إلى انتشار الإرهاب في كل المنطقة، مما قد يعطي اليقين لهذه الجماعات بأن حلم استعادة "الخلافة الإسلامية" قابل للتحقيق! وسيساعد على انتشار هذا المد الإسلامي المتطرف الشبكات غير الرسمية من الجمعيات الخيرية الإسلامية والمدارس الإسلامية، والتي يمكن أن تصبح مصدراً لتفريخ عناصر راديكالية. الوثيقة تشير لمؤشرات على أن بعض الحركات الإسلامية المتطرفة والإرهابية تطمح إلى الانقلاب على عدد من الحكومات العلمانية، وتأسيس حكومات إسلامية بدلاً منها. ولا شك أن الحركات المُضادة للعولمة، والجماهير المعادية لسياسات أمريكا، يمكن أن تتعاطف، فيما ترى هذه الوثيقة الأمريكية الخطيرة، مع هذه الجماعات الإسلامية المتشددة.

    التفتت الوثيقة أيضاً إلى ظاهرة مهمة هي من آثار الثورة الاتصالية وخصوصاً شبكة الانترنت وانتشار استخدام آلية البريد الالكتروني. فقد أدى ذلك في مجال التنظيمات الإرهابية إلى عدم حاجتها لبناء جماعات إرهابية مركزية، مما أدى لانتشار الخلايا الإرهابية التي تضم عدداً محدوداً من الأشخاص في عديد من البلاد. وبحسب الوثيقة، استطاعت الجماعات الإرهابية ببراعة استخدام الفضاء المعلوماتي Cyber Space في الاتصال ونشر ثقافة الإرهاب وتبادل المعلومات. وقد تؤدي بعض الصراعات الدولية مثل الاحتلال الأجنبي للعراق بكل آثاره السلبية على الشعب العراق إلى أن تصبح بعض البلاد مثل العراق، أرضاً خصبة لتنمية كوادر الإرهابيين الذين يستطيعون الانتقال بإرهابهم من بعد.

    وطبقاً للوثيقة نفسها، هناك شواهد على أن جماعات من المجاهدين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، مستعدون للذهاب إلى أي بلد في العالم "للجهاد" ضد أعداء الإسلام. وهناك أيضاً مخاوف شديدة في البلاد الغربية من احتمال أن يلجأ الإرهابيون الذين ينتمون إلى جماعات إسلامية متطرفة لاستخدام السلاح البيولوجي ضد أهداف مُختارة بعناية. وتشير الوثيقة إلى مخاطر تعاون الجماعات الإرهابية مع العصابات الإجرامية في دول شتى، وخصوصاً مع تجار المخدرات الدوليون، وعناصر الجريمة المنظمة. وانه إذا أضفنا احتمالات اختراق العصابات الإرهابية لشبكات المعلومات في الغرب وتخريبها، فمعنى ذلك أن ما يطلق عليه حرب الشبكات ستضاعف من المخاطر هي والحروب الفضائية Cyber war.

    وتنتهي الوثيقة بسيناريو افتراضي، أطلقت عليه "دورة الخوف"، حاول استكشاف ما الذي يمكن أن يحدث لو تزايد انتشار أسلحة الدمار الشامل، وما هي احتياطات الأمن التي يمكن اتخاذها. وإذا كان يمكن للدول أن تكافح تجارة السلاح غير المشروعة، فإن مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل تبدو بالغة الصعوبة. ومرد ذلك إلى أنه إذا انتشرت أسلحة الدمار الشامل، فإن دولاً متعددة قد ترى ضرورة أن تتسلح بها لتدافع عن أنفسها، وهكذا تزيد دائرة عدم الأمان في العالم.

    · وأخيراً هناك الميل الأمريكي "المشروط" للاعتراف بصعود حركة المقاومة الإسلامية(حماس) في فلسطين ـ وهي أبرز قوى الإسلام السياسي وأكثرها شعبية في فلسطين ـ، أولاً، بفوزها في انتخابات المجلس التشريعي في يناير 2006 والتي لم تُشكك الولايات المتحدة الأمريكية في شرعيتها(38)، وثانياً باستيلائها على السلطة في قطاع غزة، بعد عملية الحسم العسكري الناجحة!

    في الكتاب الأبيض، الذي صدر عن المكتب الإعلامي لحماس، في نوفمبر 2007، بعنوان: "عملية الحسم في قطاع غزة..اضطرار لا اختيار"، عرضت الحركة تفصيلاً لما اعتبرته استفزازات مقصودة، فرضت عليها خيار الحسم في قطاع غزة! تحدث الكتاب مثلاً عن خطة "دايتون" الأمريكية، والتي خُطط على ما يبدو لتسريبها عن طريق صحيفة أردنية، ومواقع الكترونية! خطة "دايتون" كشفت عن نوايا أمريكية لدعم واسع للرئاسة الفلسطينية ولفتح على حساب حركة حماس! الكتاب تحدث أيضاً عن "فوضى أمنية منظمة"، وانسحاب لقوات الشرطة الموالية لفتح، واحتجاجات مُسيسة..الخ! حركة حماس، وبحسب ما جاء في كتابها الأبيض عن ملابسات عملية الحسم، دفعتها على ما يبدو يد عارفة بها وبفتح، إلى حسم الموقف في غزة لصالحها من خلال سلسلة من الاستفزازات المنهجية(39)!

    [3] من ناحية رداءة التعاطي العربي مع الهجمات:

    السبتمبريون "ضحايا" و"جناة"! "ضحايا" لأنهم أبناء دولة "ما بعد الاستعمار"!! فأيمن الظواهري(الرجل الثاني في تنظيم القاعدة) مصري من مواليد عام1951، وأسامة بن لادن(الرجل الأول في تنظيم القاعدة) سعودي من مواليد عام 1957! الظواهري وابن لادن لم تتفتح أعينهم إلا على أنظمة استبدادية، يبذل القائمون عليها قصارى جهدهم ـ بدعم "خارجي"، مُستتر أحياناً، ومُعلن أحياناً أخرى ـ، في تدجين عقول وقلوب مواطنيهم، عبر تجفيف منابع الحرية أمامهم!

    ضحايا لأن الطُغاة في أوطاننا يأتمرون بأوامر السيد الغربي! ألم يكن ابن لادن شاباً عندما جاءت الأوامر لحُكامنا أن ألقوا بشباب بلادكم في آتون حرب طاحنة، ليس دفاعاً عن حرية وإنما دفاعاً عما كان يجهله بن لادن وصحبه(40)! أما كونهم "جناة"، فمرجعه إقدامهم "اللاانساني" على التفتيش في ضمائر البشر ومحاكمتهم على أساس عقائدهم، بل واتخاذهم من هذا ذريعة لإزهاق ما تسنى لهم من أرواح بريئة، ناسين أن أكثر الناس ظلماً وخيانة لشعوبهم من المسلمين!

    التعاطي العربي مع "السبتمبريين" ورسالتهم الخطيرة لم يأخذ في الاعتبار ـ كالعادة ـ أياً من هذه الأمور! ولشد ما تصدق على مفكرينا مقولة أولبرايت "إن طول النظر أمر نادر عند العرب"! صدقت امرأة، وخاب فكرنا الاستراتيجي!

    أذكر أني وقعت يوماً على كتاب صغير(41)، تحدث صاحبه في مقدمته عن عزمه التأصيل لفكر استراتيجي واعد، يستمد أصوله من حضارتنا الإسلامية العتيقة! وهو ما دفعني لقراءة الكتاب بنهم، وليتني لم افعل! لقد اكتشفت أن الانجاز الوحيد لمؤلف الكتاب، هو اقتراحه استبدال مصطلح "المذخورية" بالإستراتيجية!

    من ناحية أخرى، توجد مراكز البحوث العربية الإستراتيجية، وهي على قدر طيب من الأهمية، ليس لما تُخرجه من رؤى إستراتيجية نزيهة ومُنظمة، فهي فقيرة من هذه الناحية، ولكن للاطلاع الواسع من جانب العاملين فيها، والمتعاونين معها، على إنتاج أبرز مراكز البحوث الإستراتيجية في العالم(42)، فضلاً عن قيام هذه المراكز بترجمة العديد من هذه الإصدارات العالمية، خاصة الغربية.

    لم يكن مُمكناً ـ وفكرنا الاستراتيجي على هذا القدر من التواضع ـ أن يفلت التعاطي العربي مع هجمات سبتمبر وتداعياتها من الرداءة! لنتأمل مثلاً عجز الأنظمة العربية الواضح عن التقدير السليم لخطورة رسالة "السبتمبريين"، وجدية التعاطي الغربي، خاصة الأمريكي، معها! وربما يكون الزعيم الراحل ياسر عرفات، في تبرعه بدمه لضحايا الهجمات(43)، نموذجاً لسذاجة وانتهازية قراءة حكوماتنا لطبيعة المُتغيرات، وما يُتوقع أن يكون عليه عالم "ما بعد 11سبتمبر"!

    قراءة إستراتيجية نزيهة ومُنظمة لما أحدثته هجمات "السبتمبريين" من تداعيات، خارج الولايات المتحدة وداخلها(44)، كانت كفيلة بالتنبيه إلى سذاجة وانتهازية تعاطي حكوماتنا معها! ما لاحظته هو غياب مثل هذه القراءات! باحثونا لم ينبهوا إلى حرص حكوماتنا "المكشوف ـ على الأقل للغربيين ـ"، على استغلال هجمات 11/9، في تشويه صورة الإسلاميين في الداخل والخارج، وفي تقديم نفسها كبديل "وحيد" للفوضى والعنف، في منطقة الشرق الأوسط والعالم!

    عوامل عديدة على ما يبدو ساهمت بقوة في تعميق قناعة أنظمتنا السلطوية "المُغادرة"، بإمكانية الالتفاف على الإصرار الغربي الشديد على مداواة البيئة العربية المُحتقنة، كونها ملائمة برأي الغربيين ورأينا لتفريخ العنف والإرهاب:

    · تخبط إدارة الرئيس بوش(الابن) الشديد في ترجمة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، في شقها المعني بالعالم العربي، إلى واقع، لابد وأنه ساهم بقوة في طمئنة الأنظمة العربية ـ سواء الصديقة لأمريكا أو المناوئة لها، وكلاهما هنا سواء ـ إلى صعوبة، بل استحالة، تكرار السيناريو العراقي معها، نظراً لكارثية المأزق الأمريكي في العراق، وما ألحقه بسمعة الولايات المتحدة من ضرر شديد! لم يدر بخلد حكوماتنا أن ثمة بدائل أخرى "ناعمة"، يمكن ان يلجأ إليها الغربيون، لإدراك ما عجزت قوتهم "الخشنة" الجبارة، عن الوصول إليه!

    خذ مثلاً ما أحدثته إدارة الرئيس بوش من جدل واسع بشأن استخدام القوة في أعقاب 11/9. فوفقاً لنص الإستراتيجية الأمريكية للأمن القومي: "بالنظر إلى أهداف الدول المارقة والإرهابيين، فإن الولايات المتحدة لا تستطيع الاعتماد فقط على وضعية رد الفعل كما كنا نفعل في الماضي. إن عدم القدرة على ردع مهاجم محتمل، وطبيعة التهديدات الفورية اليوم، وحجم الضرر المحتمل الذي يمكن أن يُلحقه بنا أعداؤنا، لا تتيح لنا ذلك الخيار. لذا لا يمكننا أن ندع أعدائنا يسددون الضربة الأولى"! الصخب الذي استُقبل به ما يُدعى بمذهب "الضربات الاستباقية" أدى بالفعل إلى تحويل انتباه العالم في وقت حرج عما فعلته "القاعدة" إلى ما تفعله الولايات المتحدة، رغم ـ والكلام لمادلين أولبرايت ـ عدم صحة الزعم باكتفاء الولايات المتحدة تاريخياً بوضعية رد الفعل، فقد استخدمت الولايات المتحدة القوة عدة مرات دون أن تُهاجَم، ففي الربع الأخير من القرن ال20 فعلت ذلك كثيراً!

    أيضاً، وعلى خلفية ما يُعرف بمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، اجتمعت الانتخابات في العراق وأفغانستان وجورجيا وأوكرانيا ولبنان لتوليد موجة مدية، بلغت ذروتها فبل الأوان! ولقد أيدت كونداليزا رايس عندما زارت مصر عام 2005 بشجاعة الإصلاحات الديمقراطية. غير أنها، عندما عادت بعد سنتين التزمت الصمت حيال القضية نفسها. كان الدرس المُستقى ـ في رأي الأمريكيين ـ في الفترة الفاصلة أن العديد من العرب، عندما تُتاح لهم حرية الاختيار، لا يختارون ما تحبه أمريكا! وبالتالي وجدت الإدارة، التي سبق وزعمت أن الاعتماد على الحكام العرب غير المنتخبين من أجل الاستقرار كان خطأ تاريخياً، نفسها وللغرض نفسه، مُتلبسة باللجوء إلى حكام غير منتخبين، أسمتهم المعتدلين!

    وعندما تحدث الرئيس بوش عن التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط فيما كان العراق يحترق، فسر الرأي العام العربي ـ بإيعاز من الأنظمة العربية ومفكريها ـ النوايا الأمريكية بأنها تهديد لحكامهم وأوطانهم المُستقلة(!!) أكثر مما اعتبروه خطة أمريكية لنشر الليبرالية السياسية! الأمريكيون فارقتهم براعتهم في التعبير عن دعمهم بطرق لا تُثير ارتياب الشعوب في أن التغيير بيدها لا بيد الغرب! دعاة غزو العراق أخبروا أنفسهم على ما يبدو أن العرب يحترمون القوة الخشنة، وأن إظهار "الصدمة والرهبة" سيقنع الجميع في المنطقة بأن الولايات المتحدة الأمريكية مُصممة على فرض إرادتها. وتوقعوا أن يُفسح هذا الطريق أمام البنتاجون لإسناد السلطة إلى المنفيين العراقيين المؤيدين لأمريكا. بوش لم يكن له ـ وكما تعاتبه المخضرمة أولبرايت ـ، أن يتجاوز في هذا كله الإشارات التي يشيع ارتباطها بالمثالية، تقصد استخدامه لها كغطاء: احترام القانون الدولي، احترام الأمم المتحدة، التعاون مع الحلفاء، الاهتمام بمبادئ الحرب العادلة(!!).

    التخبط في معالجة المأزق العراقي زاد الطين بله! الرئيس بوش لم يستقر على التحول الديمقراطي كسبب رئيسي للغزو إلا بعد أن ظهر حُمق منطق إدارته "المُستهجن". فبما أنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل ولا ارتباط ذو مغزى بين صدام حسين والقاعدة، صار لابد من طرح نظرية جديدة لتبرير الحرب. لم يكشف بوش إلا في نوفمبر2003، أي بعد مرور ثمانية أشهر على الغزو، عن استراتيجيتة للحرية في الشرق الأوسط. وأتبع هذا الإعلان بسلسلة مزاعم لم تلق قبولاً في مجتمعاتنا، عن الديمقراطية باعتبارها ترياقاً للإرهاب وتجفيفاً لمنابعه!

    الرئيس بوش لم يتنبه على ما يبدو لاستفادة القاعدة من قدرتها على تصوير نفسها بأنها مدافعة عن الإسلام ضد الصليبيين الامبرياليين وصنائعهم من الأنظمة العربية غير المنتخبة. وكذا لم يتنبه للتأثير المُعاكس لحرب العراق على القدرات الأمريكية العسكرية. لأنه وعلى الرغم من أن الأعداء المحتملين ـ والكلام لأولبرايت ـ لا يشكون في قدرة الأمريكيين على إلحاق الضرر بهم، فقد تعلموا استخدام الجبروت الأمريكي ضد الأمريكيين، بطرق عديدة، منها: أـ تصوير الدمار وبث الصور في العالم أجمع، لاسيما عندما يسقط مدنيون بين الضحايا! بـ توجيه الضربات إلى الغرب لإثارة رده الأخرق بإعمال الجبروت أكثر من الفكر فيسقط "شهداء" جدد وتبرز أدلة جديدة على أن الإسلام تحت الحصار. ويتطوع العديدون مُقابل كل مُسلم يُقتل، ويسعون إلى الثأر بسفك دماء جديدة.

    رسالة الرئيس بوش إلى كل دول العالم، في أعقاب 11/9، كانت: "إما أن تكونوا معنا وإما ضدنا". رسالة كهذه كانت ستكون ملائمة لو استمر تحديد الرئيس للعدو على حاله. فقد كان توحيد معظم العالم ضد من فجر الأبرياء أمراً سهلاً. لكن بوش فارق الحكمة، حين شوش بعد ذلك القضية بالسماح بتحويل التركيز عن القاعدة. فسرعان ما وجدت الولايات المتحدة نفسها تطالب الآخرين بأكثر من الوقوف معها ضد أسامة بن لادن. صارت تطالبهم بالتغاضي عن "أبو غريب"، وقبول "جوانتانانو"، والتصديق على غزو العراق، والرؤية الأمريكية للشرق الأوسط. في وقت كانت القاعدة تقدم للعالم خياره، بين المسلمين الذين يعانون وأمريكا المولعة بالحرب. ترك ذلك العديد من الأشخاص في حيرة من أمرهم.

    فهم لا يريدون الموافقة على تكتيكات القاعدة، لكنهم لا يريدون الاقتراب من أمريكا كثيراً! حول الجلاد بوش ـ لسوء حظه ـ الحلفاء إلى متفرجين!

    · عدم تنبه حكوماتنا "المُغادرة" لحتمية أن تواجه ـ شاءت أم أبت ـ، حقائق البيئة العالمية الجديدة، والتي تشهد قتالاً ضارياً من جانب أبناء الغرب وحلفائهم، لإعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم، فحضارة الغرب تُمثل محوراً لعالم اليوم! بطل "فالدن 2"، عبر بدقة عما يُتوقع أن يكون عليه هذا النظام الجديد من الهيمنة الغربية، حين قال(45): "إننا نلتزم نظاماً للسيطرة بحيث أن المُسيطر عليهم يشعرون بأنهم أحرار، على الرغم من أنهم يخضعون لقانون أشد صرامة من النظم القديمة. إذ عن طريق تصميم دقيق وحذر للثقافة نتحكم في نوازع السلوك، وليس في السلوك النهائي، أي نتحكم في الحوافز والرغبات والأماني. وها هنا تصبح مسألة الحرية غير ذات موضوع"! ثم يتساءل بطل "فالدن 2": ماذا بقي لكي نفعله بعد ذلك؟ ما رأيك في تصميم الشخصيات؟ والتحكم في الأمزجة؟ هل يبدو ذلك الأمر خيالياً؟ ولكن بعض التقنيات متاحة، ويمكن إعداد كثير غيرها تجريبياً. إننا نستطيع أن نحلل السلوك الفعال ونصمم التجارب لاكتشاف كيف نغرس ما نريد في الشباب. الإنسان ضعيف، يمكن إخضاعه للسيطرة، ويكون ضحية..!

    · ارتضاء حكوماتنا، على نحو شديد "الاستهتار" و"الانتهازية"، فتح حدود بلادنا، لبعثات بحوث غربية، أو مشتركة، من كل حدب وصوب، تقوم بعمليات مسح شاملة، في الحضر والريف، تناولت بحوثاً اجتماعية ونفسية وطبيعية..الخ. لتعود بمعلوماتها ونتائج بحوثها إلى بنوك المعلومات المملوكة للحكومات الغربية ـ خاصة الأمريكية(46) ـ، أو الشركات متعدية القوميات التي تمول هذه المشروعات البحثية الاستطلاعية بسخاء واضح! وتظل هذه المعلومات حبيسة البنوك، تخرج بقدر وحسب المصلحة، ملك للمتحكمين في مصائر المُستضعفين في الأرض، ونحن في طليعتهم، وإن صور لنا جهلنا وتُجار الآلام خلاف هذا!

    · تعويل حكامنا الشديد على إمكانية نجاح جهودهم الرامية لتأجيج حملات التشهير المتبادلة بين العرب والغربيين ـ خاصة الأمريكيين ـ، في تشتيت انتباه الطرفين عن ضلوعهم وأنظمتهم في تهيئة البيئة الملائمة لتفريخ الإرهاب والعنف في أوطانهم، عبر تجفيف منابع الحرية وحرمان شعوبهم من حق النقد والتطوير! أغرى حكوماتنا بهذا اشتباك مفكرين عرب بارزين مع هذه الحملات ـ رفضاً أو قبولا، وكلاهما هنا سواء ـ، حتى أن أحدهم خصص كتاباً لمناقشة الأمر(47)!

    · استهانة أنظمتنا "المُغادرة" بالشعوب، استناداً لكونها موجهة، يسهل انقيادها والتأثير عليها، من خلال الإحكام التقليدي للسيطرة على وسائل الإعلام الرسمية ورموز الخطاب الديني الرسمي ومؤسسات العنف..الخ! غفلت أنظمتنا على ما يبدو عن خطورة ما تشهده الساحة العربية في السنوات الأخيرة من توحش للإعلام البديل(48)، والخطاب الديني غير الرسمي(49)، والاحتجاجات السياسية(50)، فضلاً عن الرواج المُؤرق لمنظمات المجتمع المدني ومُعظمها مُمول من الخارج(51)! لم يدرك حكامنا أن الزمام يُسحب بدُربة وحذر من يدهم!

    · أنظمتنا الاستبدادية أيضاً لم تتنبه أو أنها تنبهت واستهانت بخطورة قنوات الاتصال الغربية مع بعض القوى الداخلية الطامحة بقوة إلى التغيير، ومن بينها بعض قوى الإسلام السياسي، خاصة بعد هجمات 11سبتمبر، وإعلان الولايات المتحدة إستراتيجيتها الجديدة للأمن القومي! الغرب على ما يبدو أعاد قراءة المشهدين العربي والإسلامي، بانتهازيته "العارية" المعهودة، بحثاً عن أمان مواطنيه "المفقود"، ومصالحه المُعرضة إلى الخطر، في أرجاء العالم! القراءة الغربية كشفت عن مُغريات عديدة، لخيار التغيير في الحكومات "القائمة"(52):

    1. انتهاء صلاحية الأنظمة القمعية "الموروثة" في العالم العربي "ما بعد الاستعمار"! وعجزها الكارثي عن مواكبة المستجدات على كافة الأصعدة والمستويات، وهو ما يتجلى في تردي الأوضاع المعيشية، واستشراء الفساد وعلانيته، وتزايد الاحتجاجات الشعبية، وإصرار الأنظمة على قمع قوى الإسلام السياسي وعدم احتوائها في النظام السياسي، فضلاً عن نزوع بعض هذه القوى للتخريب، محلياً وإقليميا وعالمياً، على نحو بالغ العنف!

    2. مشكلة الغرب، والحال كذلك، مع حركات أكثر مما هي مع أنظمة حكم، إلى أن يصل الإسلاميون إلى السلطة! قوى الإسلام السياسي، باعتبارها الوحيدة تقريباً المناهضة للغرب، بعد تهاوي الشيوعية، وبمساعدة غير مقصودة من آليات القهر في الدولة، استطاعت أن تحقق احتكارها للعمل إزاء غياب الآخرين، وذلك باعتبارها المعارضة الجادة الوحيدة، لأنظمة قمعية ضعيفة الشعبية، واستطاعت أن يكون لها تواجدها المؤثر وأن تحقق جاذبية "المحظور"، واكتسبت وضعاً له "سحره"، يعكس الحضور الدائم والبسيط لشعارها: "الإسلام هو الحل". وحيث أن هذه القوى محرومة من فرصة المشاركة الواسعة في الحكم، فإن لها ترف الإعلان عن الحل، دون أن تكون عملياً ملزمة بإثبات حقيقيته، بالنسبة للكم الهائل من المشكلات العويصة المُحتاجة إلى حل. تفاعل هذه القوى، بأطيافها المختلفة، مع العملية السياسية والاندماج فيها وحده الذي سيُفضي إلى أن تفقد هذه القوي في النهاية جاذبيتها الراهنة، ومن ثم تصبح أدخل في الطابع العام العادي.

    3. القوة السلبية لحالة اليأس الاجتماعي تشير إلى أن الهدف الرئيسي في المجتمعات العربية والإسلامية هو تحسين الأوضاع الداخلية فحسب! ففكرة "الحرية" لا تؤرق الإنسان العربي! وأمثال إدوارد سعيد ومحمد أركون وغيرهم من موقظي "الشرق" العظام ليس لهم حضور يُذكر في الفضاء العربي! فضلاً عن قناعة العربي بأولوية الاستقلال ولو زائف(!!)، على الحرية، وهو ما يُفشل أي تدخل خارجي "مُباشر" "خشن"، لاقتلاع القمع!

    4. وجود احتمال قوي في أن يشهد العالم الإسلامي وصول حركة أو أكثر من الحركات الإسلامية إلى السلطة في المستقبل المنظور، والأرجح أن يتم ذلك في العالم العربي. وأكثر البلدان احتمالاً لظهور سلطة إسلامية فيها هي البلدان التي: ا ـ ترتفع فيها نسبة النمو السكاني وتزداد فيها مظاهر العجز عن الوفاء بمتطلبات المجتمعات الناشئة في المدن على نطاق واسع. ب ـ والتي تتفاقم فيها مستويات المعيشة المنخفضة بسبب تفشي الفساد. ج ـ والتي قضت الحكومات فيها على معظم المعارضة السياسية الهادفة ومن ثم أصبح الإسلاميون دون منافس. د ـ والتي استخدمت الحكومات فيها العنف الضاري لسحق قوة الإسلاميين، وهو ما لم يؤد إلا إلى الاستقطاب وتفاقم المشكلة. هـ ـ والتي زعم الإسلاميون فيها أنهم وحدهم أصحاب القوة المعارضة الشرعية الوحيدة داخل الشارع العربي.

    5. سوف تسعى قوي الإسلام السياسي حال وصولها للسلطة، إلى دعم القوة الحقيقية للدول الإسلامية ـ وهو هدف لا يكاد ينفرد به رجال الحكم والقادة الإسلاميين ـ، في صورة علاقات مع الدول الأقوى في الغرب، بغية التعامل من أرضية تهيئ لها قدراً من المساواة، بدلاً من حالة الضعف الاستراتيجي. وسوف يتضمن هذا النهج السعي من أجل تحقيق قوة عسكرية أكبر، بما في ذلك امتلاك أسلحة الدمار الشامل، لإقامة علاقات مع الغرب على أساس من التكافؤ على الصعيد الاستراتيجي على الأقل.

    6. من هنا، يلزم استباق المباغتة، والمُبادرة بإحداث تغيير واسع النطاق في الشرق الأوسط، بمنأى عن الأنظمة القمعية في دولة "ما بعد الاستعمار"! فقوى الإسلام السياسي هي التي تهدد، أكثر من غيرها، النظام المستقر في غالبية البلدان المسلمة، أكثر مما تهدد الغرب نفسه! والإسلام السياسي يستغل أسباب السخط والاستياء الناجمة عن هذه الأنظمة القديمة العاجزة، ويضع خطته على أساس العمل للاستيلاء على السلطة وتغيير الوضع القائم. هذا "الخطر" ـ وهو واقع يتهدد الكثير من الأنظمة المُتسلطة ـ، لا سبيل إلى مواجهته ومعالجته في نهاية المطاف إلا عن طريق قبول قوى الإسلام السياسي كطرف جديد وإدماجه إلى حد ما داخل النظام السياسي. ذلك أن استبعادها سوف يُقضي في الغالب الأعم إلى مزيد من المواجهة والعنف، وإلى احتمال وقوع انفجار. إن عملية دمج الإسلاميين بنجاح داخل النظام السياسي مُعقدة جداً وتستلزم حذراً وبراعة! فقد يُفضي سوء معالجتها إلى مزيد من زعزعة النظام السياسي. وليس ثمة حل يسير أو بسيط ما دامت القوى المسئولة عن العنف والتطرف مُستثناة ولم تُحتوى.

    7. إمكانية التوصل مع التيار الرئيسي في قوى الإسلام السياسي لحد أدنى من القيم المشتركة، يمكن الالتقاء عنده، خاصة فيما يتعلق بالتعددية السياسية!

    8. والملاحظ أن القدر الأكبر من الخلاف القائم والمحتمل بين العالمين الإسلامي والغربي لا يتضمن بالضرورة الإسلام السياسي من حيث هو في ذاته. إذ قد تظهر المواجهة كتعبير عن إحباط أو عن عداوة من جانب المسلمين غير الموالين تحديداً للإسلام السياسي، وإنما لهم مع هذا شكاواهم التي تؤثر على سلوكهم تجاه الغرب، وتجعله مُشبعاً بالمشاعر المناهضة!

    9. الحضارة الإسلامية أميل دون غالبية الحضارات إلى الاعتقاد بأنها قادرة على الصمود وأنها سوف تصمد لفترات طويلة من الزمن أمام الصعاب الدولية القاسية دون أن تسعى إلى لحل وسط بشأن وحدة موقفها. ويمثل هذا في نظر الغرب تعبيراً عن التعصب والجمود والعزوف عن مواجهة حقيقة علاقات القوى غير المتساوية. وتفهم الحضارة الإسلامية هذا باعتباره رفضاً للمساومة بشأن الكرامة والسيادة في مواجهة القوة العظمى. علاوة على هذا، فإن "الشهادة" مندمجة بانتظام في القاموس السياسي للإسلام أكثر مما هو الحال في معظم الثقافات الأخرى! والإسلام السياسي ينزع لمرونة أقل في تعاملاته، خاصة مع الغرب، ومع القوى المنافسة له علي الإقليم، إذا ما رئي أن الحل "الوسط" هو الناتج عن علاقات قوى "غير متكافئة".

    10. وحيث أن الإسلام كما هو متوقع يمثل الرمز الجليل للمصالح الإقليمية المتصارعة، فإنه قد يحتل حتماً على الأرجح القدر الأعظم من حوار الشمال والجنوب. وعلى نحو أكثر عمومية، نجد أن تطلعات العالم المتخلف بسبيلها إلى أن تفرض مطالبات متزايدة على الأمم المتقدمة، بغية بناء علاقات قائمة على قدر أكبر من الإنصاف والكرامة. وإن فشل الدول الغربية في التلاؤم مع هذه المطالب من شأنه أن يشجع نزعة التطرف في العالم المتخلف في صورتيها القومية والإسلامية. ولا ريب في أن المعاملة الخشنة الفظة التي تسود العلاقات السياسية بين الجانبين من شأنها أن توسع نطاق الجانب الأيديولوجي في علاقات المواجهة، بل وربما تُفضي بالضرورة إلى تكتل دول العالم المتخلف في صورة جبهات متعارضة.

    في وسط كل هذه الأجواء المُربكة والمُلتهبة، جاء "الملاك" أوباما ليمحو عن عالمنا البائس شرور "الشيطان" بوش(53)، ويُعيد للإنسانية المُروعة أمانها المفقود، ويهب للمعذبين خلاصهم! أذكر أن بعض النوبيين الذين أعرفهم، بادروا بتوزيع الحلوى، ابتهاجاً بالمُخلص أوباما، لا لشيء إلا لامتلاكه بشرة سمراء مثلهم! وأذكر أيضاً أن واعظاً تحدث في تليفزيون بلادي أثنى على الرجل كثيراً! لا لشيء، وإنما لما يُروج عن أصوله المسلمة! وأذكر أن شيخ الأزهر الراحل طنطاوي ألف كُتيباً(54)، مدح فيه الضيف بما يستحق وما لا يستحق، على خلفية إلقاء أوباما خطابه "الخداعي" في جامعة القاهرة "المُلطخة بانحطاط المُستوى"!

    وقتها كتبت في مقالة نشرتها على الانترنت، عنوانها "الله والحرية"، ما نصه: "جاء أوباما ليعتذر عن وعد سلفه بوش لشعوبنا بتخليصها من زوار الفجر، وإعادتها إلى التاريخ بعد خروجها منه! جاء أوباما ليُسعد الآخر العربي ويُشقينا!". ظننت وقتها ـ أنا وغيري ـ أن ثمة تراجع أمريكي عن الالتزام بإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، في شقها المعني بمجتمعاتنا! وأن فشل الجلاد بوش في العراق وأفغانستان، وما لحق بسمعة الولايات المتحدة من تلطيخ، على خلفية التعذيب الوحشي للعراقيين في "أبو غريب"، وللإسلاميين في "جوانتانانو"، وللفلسطينيين في معتقلات إسرائيل، سيدفع حتماً الساسة الأمريكيين بانتهازيتهم المعهودة لإعادة النظر في مسألة تهجير مجتمعاتنا من دولة "ما بعد الاستعمار"!

    كان منبع حزني إزاء ما تصورته وغيري تراجعاً أمريكياً، هو خوفي من عدم اهتبال فرصة كهذه! فالمراجعات الغربية للاستراتجيات، كما هو حاصل الآن على خلفية هجمات 11 سبتمبر من الأحداث الاستثنائية! فالغرب لا يُعيد حساباته "شديدة الأنانية والانتهازية" إزاء بلادنا وشعوبنا وحضارتنا كل يوم! بل هي استراتيجيات مدروسة بعيدة المدى، يتم الإبقاء عليها، ما بقيت المصالح الغربية مصونة! دون أدنى اعتبار لآلام الشعوب، التي يتأثر، بل يتوقف مصيرها على هذه الاستراتيجيات! بوصفها الطرف الأضعف والأقل قدرة على تقرير المصير!

    الكارثة الأشد، هي اعتماد الغربيين الدائم في سعيهم المحموم لخلق أوضاع بعينها وتكريسها، على كتيبة من قيادات محلية "موثوق بها"، لا تخلو من طموح جارف واعتزاز شديد بالذات، تُبادر على نحو مُذهل بالتقاط الطُعم والنضال من أجل الأوضاع الجديدة المُستهدف الوصول إليها وتكريسها! ومن وراء هذه الزعامات المهيبة ـ أو الآباء المؤسسين ـ يأتي القطيع "المقهور" ليُناضل ويهتف ويفتدي بدمه ما يتصوره انتصاراً غير مسبوق، وزعامة، وإن كانت مستبدة وقاسية بعض الشيء، لكنها قادرة بثوريتها على انتزاع الحُلم من رحم المستقبل!

    الغرب ولعلمه بأهمية هذه القيادات المحلية، خاصة عند التأسيس لمراحل جديدة، كما في دولة "ما بعد الاستعمار"، يساهم في بناء هذه القيادات وتلميعها، والتي قد يضطر لاحقاً حال توحشها إلى مناهضتها، بل والتخلص منها إن أمكن، ليضمن عدم تنبه القطيع لقواعد اللعبة! "المحلي" ضرورة لتمرير الوضع الجديد!

    شعوبنا لا تعي ولا أظنها راغبة أو حتى قادرة أن تعي، فكرة دولة "ما بعد الاستعمار"! رغم اننا ـ وعلى ما يبدو ـ على مشارف دولة جديدة، أقترح تسميتها دولة "ما بعد هجمات 11 سبتمبر"، لارتباط نشأتها بالهجمات، بشكل أو بآخر، شأنها في ذلك شأن دولة "ما بعد الاستعمار" المُغادرة، والتي ارتبطت نشأتها هي الأخرى، وعلى نحو مُماثل، بانتهاء الحرب العالمية الثانية وزوال الاستعمار التقليدي، ونشوء دول، تسمح بانبثاق بدائل محلية، تُجهض باستبدادها الاستقلال!

    ثوراتنا والتهجير من دولة "ما بعد الاستعمار":
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    أخيراً، وفي مُباغتة مُربكة للأنظمة العربية القمعية وللشعوب أيضاً(!!)، وفي غياب تصريحات بوش "الاستفزازية" بدأ التهجير الجماعي لمجتمعاتنا من دولة "ما بعد الاستعمار"! إلى أين؟ لا أحد يدرى على وجه الدقة! ما أعرفه هو اننا نتحرك صوب دولة "ما بعد 11/9"! وهي قريبة الشبه، على ما يبدو، بتلك الدولة التي لطالما بشر الجلاد بوش بها، وحاول دفع شعوبنا إليها قسراً، غير أن أحداً لم يُصدقه! في حين اكتفى الملاك أوباما بمنح البركة ووصف التهجير بالمُلهم(55)!

    أوباما ذهب في إعجابه بالثورة المصرية وفي حنوه على قياداتها الشابة إلى حد ما نشرته جريدة "نيويورك تايمز" مؤخراً، ونقلته عنها جريدة المصري اليوم، تحت عنوان "نيويورك تايمز: أوباما يريد وائل غنيم رئيساً لمصر وسعى لتنحيةمبارك"! الجريدة الأمريكية الرصينة كشفت عن أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أكد لأحد مساعديه أنه يريد أن يصبحوائل غنيم، الناشط السياسي، عضو ائتلاف الثورة، "رئيس مصر القادم"! لافتةإلى أن أوباما يأمل أن يفوز "شباب الشارع" فى المرحلة المقبلة فى مصر،وقال: "وذلك ما اعتقده طريقاً طويلاً وصعباً". الجريدة قالت أيضاً: "إن مستشاري الرئيس الأمريكيأكدوا أن أوباما قرر أن يدفع بالرئيس السابق حسنى مبارك بعيداً، وذلك كانعكس ما نصح به المستشارون، خاصة بعد أن شاهد خطاباً لمبارك فى قاعته بالبيتالأبيض"(!!)، مشيرةً إلى تخوف أوباما من إحباط أحلام الشباب المصرى، وعلىرأسهم غنيم "فتى جوجل" - على حد تعبيره - ودورهم فى مرحلة الانتقالالتدريجى نحو الديمقراطية في مصر(56).

    وعلى صعيد آخر، اعتبرت "نيويورك تايمز" الأمريكية أن مقتل أسامة بن لادن، زعيمالقاعدة، يعتبر علامة فارقة في معركة أمريكا لمكافحة الإرهاب، واصفة ذلكبأنه فرصة لإعادة أوباما صياغة رده على الاضطرابات فى العالم العربي بعد فترةسبات مُحبطة للتعليق على الأوضاع في ليبيا والصراع على السلطة في اليمن، والقمع الوحشي في سوريا وتراجع وهج الثورة المصرية!

    ما يحدث تمثيلية هزلية، لا تنطلي إلا على أصحاب النفوس المُدجنة، وهُم كُثرُ في مجتمعاتنا المُوجهة! لا يعني هذا بالطبع، إنكاري لأهمية ثوراتنا وما أريق فيها من دمٍ غالٍ! ما أود قوله هو أن ثوراتنا الأخيرة، والتي تتخذ شكل كُرة ثلج مُتدحرجة من بلد لآخر، ولا أحد يدري أين سيكون ذوبانها، أخطر وأعقد من أن تُفهم على هذا النحو الساذج الذي يُروج له الآن في بلادنا، بوعي أو بلا وعي!

    تسيد مثل هذا الفهم المُبتذل ـ في بساطته ـ للأحداث الأخيرة، من شأنه أن يحرم شعوبنا فرصة تزخيمها، وتعظيم حصادها! لا نُريد لثوراتنا العربية الفارقة أن تُختزل في دماءٍ جسورة أريقت! أو في مظاهرات "مليونية" تُجيش(57)! فالشهداء أبداً لا يطلبون ثمناً لدمائهم! والأبطال أبداً لا يبيعون "صكوك الحرية"!

    ما ينقص شعوبنا هو أن تنظر إلى ثوراتها في تواضع، وتبحث عن مواطن القوة فيها لتزخيمها والبناء عليها! ومواطن الضعف، لتقويتها وتجنب ما قد يترتب عليها من مخاطر! ولشد ما يؤلمني تعاطي المشتغلين بالفكر عندنا، على اختلاف مشاربهم، مع ثوراتنا "المُباغتة" بلا ثورية! ففي حين، يجاهد البسطاء في بلادي الحيرة وعدم القدرة على تفهم حقيقة ما يدور حولهم، نجد المشتغلين بالفكر في بلادنا على عهدهم!! ثوراتنا لم تستلهم آراء موقظي الشرق العظام، وإنما مطالب الجماهير الخطيرة والمُلحة، والتي تمس احتياجاتهم الأساسية، أكثر مما تُغطي احتياجاتهم الإنسانية الأشمل والأرقى! وهو أمر مُتوقع في مجتمعات، لا يقتات أبناؤها، سوى ما يجدونه على الفضائيات وألسنة الوعاظ والجرائد والفيس بوك!

    قادة الرأي ومجتمعاتنا..أعمى يقود أعمى!!

    الحق أني لست أدري، ما إذا كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تكون فيها الأنظمة المُغادرة والشعوب الثائرة خارج التاريخ؟ ثوراتنا تُعري على نحو مخزٍ "الإفلاس الحضاري" لمجتمعاتنا، وإن رُوج لخلاف ذلك!

    في ندوة عقدتها الجمعية الفلسفية المصرية مؤخراً بعنوان "ثورة 25 يناير بين القطيعة المعرفية والزمن المتسارع"، وكان المتحدث فيها السيد يسين. تقدم أحد الحضور، وهو أستاذ جامعي على ما أعتقد، بسؤالٍ لا يخلو من دلالة على "الخيبة القوية"، يستفسر فيه، عما إذا كان لأساتذة الفلسفة من جيل الوسط، على حد تعبيره، أي دور في مصر "ما بعد ثورة 25 يناير"! سؤال كهذا، لا يترك مجالاً للمُزايدة أو التعمية، فهو إشارة مهمة لبلوغ مجتمعاتنا "أعلى مراحل التخلف"!!

    السائل التعس فاته أن مُحبي الحقيقة، أو المشتغلين بالفلسفة، لا تُحركهم الأحداث، وإنما الأفكار! وأن أفكارهم قد يُستضاء بها أو ببعضها، داخل مجتمعاتهم أو خارجها! كما أن مُحبي الحقيقة لا يشتبكون مع الواقع، ناهيك عن مُغازلته!

    المفكر المصري حسن حنفي، في مقالة له وجدتها منشورة على الانترنت، بعنوان(58): "عُذراً شعب مصر!"، أبى حنفي إلا أن يتبع سنة مُفكرينا غير الحميدة، في مُهادنتهم، بل ومُغازلتهم، للأسف الشديد، واقع مُجتمعاتهم! فبدلاً من تزخيم حنفي للثورة، عبر نقدها وتطويرها، أسهب في الاعتذار، بل وفي الإلحاح على "الشعب المصري" لقبوله، على نحو "درامي"! بالطبع، لا أقصد بقولي هذا التطاول على مفكر مرموق، فحنفي، برأيي ورأي الكثيرين، المفكر الإسلامي الأبرز والأنشط! ولكم أتمنى عليه أن يخلع عباءة الفقيه فبلادنا ظمأى للفلاسفة!

    ظهور أعمال فكرية عربية رصينة، ينهض أصحابها بواجب إعادة قراءة مشهدي "ما بعد الاستعمار" والثورة، أمر مصيري!! الناس في بلادي، حتى أفراد الحشود الثائرة، إذا ما استمعت إلي تحليلاتهم، تجدهم أشد جهلاً بأنفسهم والحياة من الأنظمة "المُغادرة"! ولا أقصد بالحياة هنا، الشئون اليومية، من أكل وشرب وزواج وعمل وصلاة..الخ، بل مناخ العصر الحالي، بتعقيداته وما بعد حداثيته!

    خذ مثلاً هذا التصريح "الما بعد استعماري ـ نسبة إلى دولة ما بعد الاستعمار"، والذي جرى على لسان نائب المرشد العام للإخوان المسلمين، وهي طليعة قوى الإسلام السياسي في بلادي، كما في كثير من بلدان العالمين العربي والإسلامي! تصريح كهذا ما كان ليُقال، لولا تيقن صاحبه من "انقياد" المُتلقي!

    نائب المُرشد العام، وعلى طريقة مُؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار" ـ وفي طليعتهم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ـ، خاطب حشداً مهيباً، بقوله(59):

    "نستعد للحكومة الإسلامية .. وهدفنا الوصول إلى سيادة العالم"!!

    هكذا مرة واحدة!! حد علمي أن الإخوان لا يملكون مركزاً بحثياً واحداً يُعتد به، يُمكن لباحثيه النهوض بمهمة إجراء دراسات استطلاعية وتفكيكية، للمجتمعات، محلياً وإقليمياً وعالمياً، على نحو ما يفعل الغرب مع قوى الإسلام السياسي ومجتمعاتنا وغيرها! حد علمي أن الإخوان لا يملكون الرغبة أو القدرة على نقد وتطوير ميراثهم الذاتي، ناهيك عن ميراثنا الحضاري، وإلا ما رأيناهم اليوم يرددون مُصطلحات "غربية"، كالديمقراطية والتعددية والأحزاب..الخ(60)!

    مُصطلحات كهذه، فضلاً عن عدم تشبع نسيجنا الحضاري بها، لا تتفق تماماً مع أفكار مؤسس الجماعة "الفذ" حسن البنا! ولو أن قيادات الإخوان شغلت نفسها بعض الشيء، إلى جانب انشغالها بـ"البيزنس" والانتخابات النقابية والأعمال الخيرية والأنشطة الدعوية والدعائية وأخيراً تأسيس المقار المهيبة..الخ(61)! أقول لو أنهم شغلوا أنفسهم إلى جانب كل هذا ببناء صروح بحثية وتربية كوادر "حقيقية" من المفكرين الاستراتيجيين، لكان الأمر الآن أفضل كثيراً لهم ولبلادنا الحائرة!

    أغلب الظن أن عقوداً عديدة من الصراع من أجل البقاء، في مواجهة دولة "ما بعد الاستعمار"، بكل خستها، استنزفت قوى الجماعة، وشغلتها عن تحولات "جوهرية" في مصادر القوة، على نحو سيؤثر حتماً عليها، وعلى بلادنا، باعتبار الجماعة، وبعدم مُمانعة غربية(62)، الأقرب إلى الحكم في دولة ما بعد 11/9!

    ثمة قوى أخرى لا تقل عجزاً، عن قوى الإسلام السياسي، في مواجهة الواقع الحضاري المُتردي، أفرزتها دولة "ما بعد الاستعمار"، لعل أكثرها تشوهاً، تلك التي تستلهم ما يُسمى بمشاريع النهضة لمؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"!

    الانتقال من دولة إلى دولة في التاريخين العربي والإسلامي، على نحو ما حصل مثلاً مع دولة الأمويين ثم مع دولة العباسيين..الخ، عادة ما تنهض به عبقرية فذة من نسيج خاص، يتمتع صاحبها بسمات، تجعله أقرب ما يكون إلى شخصية "البطل ـ في الوجدان الشعبي ـ"، أو "المستبد العادل"! وهو ما يُغري الناس بإتباعه، والتعويل عليه في خلاصهم، مدفوعين بحوافز الإذعان، عامة كانت أم خاصة، تلك التي عادة ما يُفرط البطل في بذلها! المُقزز في الأمر، هو إبداء الشعوب، بما فيها الضحايا أنفسهم(63)، حرصاً مُخنثاً على عبادة البطل، واعتبار تفتيشه في الضمائر، وتجفيفه لمنابع التفكير الحُر، بقعة في ثوب طاهر!

    دراويش الآباء المؤسسين لدولة "ما بعد الاستعمار"، هم أخطر وأعقد ما أفرزته هذه الدول، على خلاف ما يعتقده الكثيرون. كون هؤلاء الآباء واجهة مهيبة وزاهية لدولة، لا تختلف ممارساتها كثيراً في خستها، عن ممارسات الأنظمة الاستعمارية، سواء بوعي من هؤلاء الآباء المؤسسين أم بلا وعي! المهم، أنهم اندفعوا أو دُفعوا إلى حيث لا ينبغي لهم ولا لشعوبهم أن يكونوا! ما يزيد الطين بلة، هو حدوث ذلك وسط صخب إعلامي، ومعارك مُفتعلة، لا تتفق مع مقاصد التمكين للحرية في النفوس، وما ينبغي للأحرار أن يكونوا عليه! لقد سهلوا مهمة الغرب، من حيث لا تدري الشعوب وربما من حيث لم يدروا هم أنفسهم!

    إعادة إنتاج ما يسمى بالمشاريع النهضوية لمؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"، بل وربما أيضاً إعادة إنتاج هؤلاء المؤسسين أنفسهم(64)، يعكس حنيناً ماضوياً جذاباً، في ظل الإفلاس الحضاري الراهن، وافتقاد مفكرينا القدرة على القراءة النزيهة والمنظمة للأحداث! فحتى اللحظة، لا أذكر أني قرأت دراسة، تجمع بين دفتيها شتات آلامنا عبر العقود الأخيرة، أعني منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورحيل الاستعمار عن أرضنا، من خلال منهج قوي ومُبتكر!

    ما يحدث دائماً وأبداً في دوائرنا البحثية والأكاديمية، هو تفتيت "غائي" لعقود دولة "ما بعد الاستعمار"، واختزال آلامها في مجرد أخطاء، أو حتى خطايا، لبعض حكامها! في مصر مثلاً، تجد من يحدثك عن ناصر، باعتباره أسطورة، ويذم السادات! ثم تجد من يحدثك عن السادات باعتباره آية في الذكاء، ويذم ناصر! وقد تجد في المستقبل من يحدثك عن مبارك باعتباره الأكثر حكمة، على الأقل خلال سنواته الأولى، قبل انضمام نجله "جمال" إليه، إلى آخر هذا الهراء!

    من هنا، يأتي انحيازي لمقولة الأمريكية المُخضرمة مادلين أولبرايت [إن بعد النظر نادر في العالم العربي](65)! قصر نظر شعوبنا ومفكرينا، يمثل برأيي تحدياً جباراً، أمام ظهور جيل جديد واعد من المُبدعين وواضعي البحوث الرصينة، لا يبالغ في توقير الآباء المؤسسين، بقدر ما يحرص على تفكيك وتجاوز عجزنا المأساوي، عن بناء رؤى إستراتيجية، تجمع شتات عقود دولة "ما بعد الاستعمار"! فبدون ذلك، لا أمل في تحري جذور آلامنا، والفوز بالمستقبل!

    على الضفة الأخرى من نهر ثقافتنا، يوجد "دُعاة العولمة" و"دراويش ما بعد الحداثة"(66)! ولعل أبرز هؤلاء، على الأقل إعلامياً، وائل غنيم، وهو شاب مصري، نشط بقوة في مساندة محمد البرادعي(67)، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحاصل كذلك علىنوبل للسلام، بعد عودته إلى مصر في فبراير 2010! تلك العودة التى كانت على الأرجح بداية نهاية الرئيس مبارك ونظامه!

    فقد انتهى الأسبوع الأول لوصول البرادعي إلى القاهرة، بإعلان تشكيل "الجمعية الوطنية للتغيير"، وهي تجمع فضفاض من مختلفالمصريينبجميع انتماءاتهم السياسية والمذهبية رجالاً ونساءً، بمن في ذلك ممثلين عن المجتمع المدني والشباب تهدف إلى التغيير في مصر(68)! حيث كان هناك اتفاق عام على ضرورة توحد جميع الأصوات الداعية للتغيير في إطار جمعية وطنية، طُلب منمحمد البرادعيأن يكون في مقدمتها ومن خلفها، وبحيث تكون إطارًا عامًا ينطوي تحته جميع الأصوات المطالبة بالتغيير! هذا التنوع هو ما أثمر عن حوالي المليون توقيع علي بيان [معاً سنغيّر]، في أقل من سبعة أشهر من تاريخإصدارهفي 2مارس 2010 ـ وهو الهدف الذي شكّك في إمكانية تحقيقه الموالون للنظام القائم آنذاك ـ! تم هذا من خلالموقعالجمعية، والموقعالذي أطلقته جماعة الإخوان، وحملة طرق الأبواب التي قام بها شباب الجمعية، والحركات المشاركة بها.

    مساندة وائل للبرادعي، وللجهود الساعية لإحداث تغيير في مصر، اتخذت مسارات عديدة، منها مثلاً قيامه بتأسيس الموقع الرسمي لحملة دعم البرادعي! وإليه أيضاً يُنسب الفضل في الدعوة، من خلال ابتكاره الرهيب "كلنا خالد سعيد"(69)، إلى الاحتجاجات الأخيرة، التي أرغمت مبارك على القبول بالتنحي!

    في حديث لوالد وائل مع جريدة الحياة اللندنية، قال(70): "إنه وابنه وائل وكل أولاده لا يحبون السياسة، وإنما هم ناشطون اجتماعيون فحسب، وليست لديهم أي ميول". الدكتور سعيد غنيم(60 عاماً) المقيم في السعودية، كشف أن نجله وائل غنيم(30 عاماً) تعرض لتعذيب نفسي وبدني أثناء احتجازه لمدة 12 يوماً قبل نجاح الثورة الشعبية في مصر. الدكتور غنيم ذكر أيضاً للجريدة نفسها أن وائل هو ابنه البكر، وقال إنه ترعرع وتعلّم في السعودية حتى بلغ عمره 13 عاماً. الدكتور غنيم أوضح أن نجله وائل كان يعشق التعامل مع الكومبيوتر منذ طفولته. وقال إن نجله وائل متزوّج بأمريكية مسلمة تعرّف إليها على أثير "الإنترنت"!

    ولمزيد من الضوء على دور وائل غنيم في اسقاط النظام المصري، أقتبس هنا من معلومات نشرتها جريدة الدستور المصرية(71)، زعمت الحصول عليها ضمن مجموعة من المستندات والوثائق من داخل جهاز أمن الدولة المصري، ترتبط بثورة 25 يناير! المعلومات تتضمن اعتراف القائم على إنشاء وإدارة صفحة "خالد سعيد" على "الفيس بوك"، المُفرج عنه ـ وقتها طبعاً ـ وائل محمد عباس غنيم، بقيامه باطلاع أحد قيادات شركة جوجل الأمريكية(من أصل يهودي) جيرارد كوهين بأمر إنشائه للصفحة المُشار إليها منذ قرابة الستة أشهر، حيث تردد الأمريكي المذكور على البلاد والتقاه يوم 27 يناير ليلة مظاهرة جمعة الغضب، الأمر الذي يُرجح معه، والكلام نقلاً عن المستند الأصلي، أن تكون تلك الشركة غطاء لأعمال استخباراتية، خاصة عقب توسطها لدى وزارة الخارجية الأمريكية، لإخلاء سبيل وائل على الرغم من كونه لا يحمل الجنسية الأمريكية!
    ولنقرأ أيضاً وفي السياق نفسه، بعض ما كتبه صلاح منتصر في الأهرام عن "فتى جوجل" وائل غنيم والذي أعلن قبل تنحي طاغية مصر القوي حسني مبارك بساعات، ومن قناة العربية أنه أقوى من حسني مبارك وأقوى من عمر سليمان(72)! عن قصة وائل غنيم مع ثورة 25 يناير، ومع قيادي بارز في الحزب الوطني الحاكم ـ قبل الثورة ـ، هو حسام بدراوي(59سنة). يقول منتصر(73):
    "طوال الأيام التي مضت كان يتردد علي ألسنة شباب التحرير اسما كان معروفا بينهم لكنه كان مجهولا خارج دائرتهم, وهو اسم وائل غنيم خبير الإنترنت والفيس بوك والتويتر وكل وسائل الاتصالات الحديثة وصاحب صفحة كلنا خالد سعيد التي استقطبت الآلاف علي غير معرفة وجمعتهم عبر شاشات الكمبيوتر والتليفونات المحمولة التي غيرت العصر.
    "كان وائل غنيم وهو يعمل في دولة الإمارات مديرا للتسويق بشركة جوجل الشهيرة بالشرق الأوسط قد طلب من شركته إجازة عاجلة لأمر عائلي, إلا أن الحقيقة أنه جاء إلي مصر ليشترك في تظاهرة25 يناير يوم الغضب والتقي لأول مرة بزملاء عرفهم عن طريق الإنترنت, وأصبح منذ ذلك اليوم مقيماً معهم, وفي مساء الخميس(27 يناير) اختفي وائل غنيم فجأة. وعبثا حاولت أسرته معرفة مكانه, فقد سألت المستشفيات والمشرحة وكل أصدقائه دون أن تستدل عليه. وكان من بين الذين اهتموا بوائل حسن حسام بدراوي وشقيقته داليا بدراوي رواد ميدان التحرير, اللذان سألا الأب حسام إن كان يستطيع أن يساعد في معرفة مكانه.
    "كانت أول مرة يسمع فيها حسام باسم وائل غنيم وقد اتصل في نفس اليوم الاثنين7 فبراير بمدير أمن الدولة واكتشف ببساطة أن وائل المختفي الذي دوخ أهله بحثا عنه وأبكي أباه الليالي لدرجة هددت بفقده عينه الوحيدة التي يري بها, مقيم في الجهاز منذ اختطافه دون أن يكلف أحد خاطره بإبلاغ الأسرة, فقد كان من تقاليد التعذيب حجز الشخص وجعله يعيش معزولا وهو معصوب العينين طوال فترة حجزه لا يرى أحدا من الذين يسألونه أو يتكلمون معه إلي أن يشاء الله أمرا كان مقضيا.
    "احتاج الأمر إلي الاتصال بالنائب عمر سليمان والنائب اتصل بوزير الداخلية حتى تمكن بدراوي من الحصول علي قرار بالإفراج عن وائل مساء الاثنين7( فبراير) وظل منتظرا في مكتب وزير الداخلية اللواء محمود وجدي حتى جاء وائل مع مدير الأمن شخصيا, وبعد لقاء الوزير صحبه بدراوي إلي بيته.
    "وفي نفس الليلة كان وائل غنيم حديث مصر عندما استضافته مني الشاذلي في برنامجها المعروف العاشرة مساء, وقد استطاع وائل بصدقه وبراءته ونقائه أن يهز ملايين المصريين وهو يبكي بدموع صادقة شهداء الرفقة الذين كشفت صورهم أنهم من طبقة قادرة, وأنه علي عكس الخوف الذي كان يملأ نفوس الكثيرين من المصريين من أن تأتيهم الثورة من جياع العشوائيات, فقد جاءت الثورة من الأسر القادرة علي يد شباب الإنترنت الذين وصفهم وائل بأن كل مشكلتهم أنهم يحبون مصر وأنهم لا يعملون لحساب احد وانهم يوم خرجوا يوم25 لم يكونوا تحت قيادة احد من الإخوان أو من غيرهم فلم يكونوا أنفسهم يعرفون في ذلك اليوم اين يذهبون!
    "مساء الأربعاء كما سبق وبعد أن عاد بدراوي إلي بيته مهزوما بعد إبلاغه انهيار كل ما حاوله مع مبارك بالطبع بسبب جمال وانس الفقي, فوجئ باتصال من وائل غنيم يقول له إنه ومجموعة من شباب الثورة يريدون لقاءه لأمر بالغ الأهمية وان لديهم رسالة عاجلة الي الرئيس!".

    على أية حال، التسريبات الأمنية لاعترافات وائل غنيم ـ والذي ترك عمله مؤخراً في جوجل، ولحق بركب المجتمع المدني في مصر، ليُساهم من خلاله، وعلى حد قوله، في مكافحة الفقر وتطوير التعليم(74) ـ، وما رواه الجورنالجي المصري صلاح منتصر، نقلاً عن مذكرات حسام بدراوي، أستاذ التوليد وأمراض النساء وعضو في "لجنة السياسات" بالحزب الوطني الحاكم قبل الثورة، وعضو لجنة حقوق الإنسان، يستدعيان الماضي على نحو مُذهل! فاسم "جيرارد كوهين" الوارد ذكره في اعترافات وائل غنيم، يأخذنا إلى الماضي غير البعيد! جيرارد أو جارد ـ على ما يبدو ـ شخصية استخباراتية، لا تخلو منها دوائر المخابرات والسياسة والدبلوماسية الغربية! مثل هذه الشخصيات، دائماً ما تكون آية في الدهاء وسعة الاطلاع على حضارتنا! وغالباً ما يكون أصحابها من جيل الشباب، ليسهل عليهم الإحساس بأقرانهم في المجتمعات الأخرى، ناهيك عن تحريكهم إن لزم!

    جارد كوهين، له كتاب مُهم، بعنوان(75): "أطفال الجهاد Children of Jihad"، أهداني صديق نسخة منه، لم أطلع عليها بعد! قال صديقي عن جارد انه دبلوماسي أمريكي، قام بجولة في العالم العربي منذ سنوات، أثمرت هذا الكتاب الشائق، على حد تعبير صديقي! وفيه دعا جارد لتوجيه فريضة الجهاد لدى الشباب في العالمين العربي والإسلامي، نحو الطُغاة المحليين، بدلاً من الغرب!

    جارد كوهين بعبقريته هذه، يُذكرني بأمريكي آخر، لا يقل عنه عبقرية، كتب قليلون عن دوره المُهم في تهجير المصريين إلى دولة "ما بعد الاستعمار"! إنه كيم روزفلت! أحمد مرتضى المراغي ـ آخر وزير داخلية في حكومة ما قبل اندلاع ثورة 23 يوليو، والتي دُفع بالمجتمع المصري على أثرها إلى دولة "ما بعد الاستعمار" ـ، يقول عن روزفلت في مذكراته إنه قابله في حفل عشاء أقامه السفير كافري في السفارة الأمريكية، ويصفه لنا بقوله(76): "بعد انتهاء العشاء قال لي المستر كافري أنه يريد أن يقدم لي صحافياً وكاتباً أمريكياً يهتم بشئون الشرق الأوسط، ووضع في ذلك مقالات وكتباً وأن اسمه كيم روزفلت، وكنت ـ والكلام للمراغي ـ قد سمعت عنه ولم أره من قبل. ولما قدمني إليه رأيت مظهره مظهر طالب في الجامعة يكثر من المطالعة ولا تهمه موسيقى الجاز. يضع نظارة كبيرة الإطار ويتكلم بصوت خافت ويخالس النظر. يحدق تارة ويخفض البصر تارة أخرى في حياء! لا أدري إن كان مصطنعاً أو أنه طبيعي. لم يخل حديثي معه من الشيوعية. ووجه إلى أسئلة عن النشاط الشيوعي في مصر. ثم فاجأني بقوله:
    ـ هل تعلم أني قابلت الملك فاروق وأنه استبقاني للغداء معه. وتكلمت معه كثيراً عن الشيوعية فقال لي الملك انه يعرف عن الشيوعية أضعاف ما يعرف وزير الداخلية وجميع رجال الأمن.
    وضحك روزفلت ضحكة تحمل كثيراً من السخرية. وضحكت لأنني أعلم أن هذا طبع فاروق.."!

    إلى هنا ينتهي وصف المراغي لكيم روزفلت، أما الجزء الأهم من حديث المراغي فهو عن دور ذلك الشاب الأمريكي وبلاده في الدفع بمصر إلى دولة "ما بعد الاستعمار"، وفيه تعزيز لزعمنا بتشابه مناخ 25 يناير مع مناخ 23 يوليو:

    "لا أظن أن المصادفة المحضة هي التي أتت بكيم روزفلت إلى القاهرة، خصوصاً أنه تبين أن كيم روزفلت هو من كبار رجال المخابرات الأمريكية، وكان له دور بارز في ما بعد في إسقاط حكومة مصدق في إيران.

    "وليست المصادفات هي التي أتت برجال الأعمال الأمريكيين إلى القاهرة، ولا هي التى جعلت الحكومة الأمريكية تُضاعف عدد رجال السفارة الأمريكية في القاهرة.

    "كل ذلك في وقت كانت مصر في حالة غليان ضد الحكم القائم وعلى رأسه الملك فاروق. وكانت حركة الضباط الأحرار قد اشتد ساعدها إلى أبعد مدى، وجابهت الملك في انتخابات نادي الضباط وأعلنت تحديها له بترشيح اللواء محمد نجيب لرئاسة نادي الضباط ضد مرشح الملك اللواء حسين سري عامر.

    "وكانت منشورات الضباط الأحرار تغمر شوارع المدن المصرية. وكانت أسماؤهم معروفة أكثرها لدى الحكومة وقائد الجيش حيدر. فكيف لا تكون معروفة لدى المخابرات الأمريكية والبريطانية؟ بلي كانت معروفة. ولما يئس الأمريكان والانجليز من فاروق اتجهوا نحو حركة الضباط الأحرار وحاولوا الاتصال بها. وجرت هذه المحاولة عن طريق ضابطين في الجيش هما: البكباشي عبد المنعم أمين، وقائد الجناح على صيري. فماذا كان موقف الضباط الأحرار؟".

    سؤال المراغي الأخير شديد الأهمية!! أجابت عليه محنة دولة "ما بعد الاستعمار"، والتي تُهجر منها شعوبنا الآن، وهي أكثر تخلفاً وأقل إحساسا بالعار مما كنا عليه وقت دخولنا إليها، على يد الشاب روزفلت، وشباب "23 يوليو"!

    على الضفة الأخرى من نهر ثقافتنا، يوجد أيضاً أحد أبرز دُعاة العولمة وما بعد الحداثة في بلادي! إنه السيد يسين! ففي مقدمة مختاراته المنشورة، بعنوان "الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي"(77)، يخبرنا يسين انه بدأ مسيرته العلمية كباحث مساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1957، وأنه الآن أستاذ لعلم الاجتماع السياسي ومستشار لمركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام(78). يقول يسين عن عام 1990 انه نقطة الانقطاع العلمية في مسيرته العلمية! ففيه انتقل من منصبه كمدير لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، ليشغل لمدة عامين منصب أمين عام منتدى الفكر العربي بعمان.

    في هذا العام، وعلى خلفية انهيار العالم القديم، شعر السيد يسين أن إطاره النظري المتماسك ـ على حد وصف يسين نفسه ـ الذي سبق أن وجه دراساته وبحوثه قد انهار هو الآخر! يسين يضيف انه ربما عبر بوضوح عن هذه الحقيقة ببحث كتبه باللغة الانجليزية، وشارك به في ندوة الحوار العربي الياباني الذي نظمه وعقد في عمان عام 1992، بعنوان "سقوط النماذج العلمية وتحديات حول الحوار"، نُشرت ترجمة عربية له في المجلة الاجتماعية القومية عام 1992.

    وأثناء وجوده بعمان، بدأ يسين اطلاعه المُكثف والمُستمر حتى "الآن"، وكما هو واضح من كتاباته، على الأدبيات الغربية المغمورة آنذاك، والتي كانت معنية بالتنظير لما بعد الحداثة! ترك هذا تأثيراً واضحاً، على فكر السيد يسين وميله الواضح إلى العولمة والما بعد حداثية! وللسيد يسين كتاب مهم، بعنوان "العولمة..والطريق الثالث"(79)، يقترب في عنوانه، إلى حد ما، من كتاب "الطريق الثالث..تجديد الديمقراطية الاجتماعية"(80)، لعالم الاجتماع البريطاني أ. جيدنز!

    في كتابه "العولمة..والطريق الثالث"، يصف السيد يسين العولمة بقوله: "لا نبالغ إذا قلنا إن العولمة كمصطلح ومفهوم أصبح من أكثر المفاهيم تردداً على ألسنة الزعماء والقادة والسياسيين والباحثين والمثقفين في مختلف أنحاء العالم.

    "وليس هذا غريباً على أي حال. فقد تدفقت موجات العولمة الاقتصادية والتي تتمثل أساساً في الاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول، ووحدة الأسواق المالية والائتمانية في العالم، والدور البارز الذي أصبحت تلعبه الشركات دولية النشاط، بالإضافة إلى تصاعد قوة المؤسسات الدولية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وإذا أضفنا إلى ذلك إنشاء منظمة التجارة العالمية والتي كانت خاتمة لجولات الجات التي امتدت عقوداً من السنين، لقلنا إنها تتويج ورمز في نفس الوقت لعملية العولمة الاقتصادية التي تشمل العالم منذ عقود.

    "وللعولمة أيضاً تجليات سياسية، ظهرت على وجه الخصوص بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية عصر الحرب الباردة، وزوال الشمولية إلى الأبد. وأبرز تجلياتها الدعوة إلى الديمقراطية التي أصبحت أساساً لشرعية أي نظام سياسي معاصر، والتعددية واحترام حقوق الإنسان"!

    أستاذ علم الاجتماع السياسي، ومستشار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، لم يفته ـ وهو الحاصل على جائزة مُبارك في العلوم الاجتماعية لعام 2007 ـ، توجيه النصح والإرشاد إلى صُناع القرار العربي، والجامعات، ومراكز الدراسات، إلى أهمية التعامل مع تحديات العولمة القادمة!

    فالعولمة في رأي يسين متعددة، ومُعقدة، وذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية، والطريق الوحيد المُتاح أمام بلادنا هو التفاعل "الايجابي" الخلاق معها! الطريف هو خُلو مكتبتنا، على نحو مخيف من أي دراسات تلبي دعوة يسين!

    الدراسات الموجودة كلها، بما فيها إصدارات ما يُسمى بـ "مدرسة الأهرام" البحثية، لا تخرج عن كونها قراءات روتينية "عقيمة" للمتغيرات العالمية، وتأثيراتها المُحتملة على منطقة الشرق الأوسط، في ضوء أحدث إصدارات مراكز البحوث الإستراتيجية الغربية Think Tank، دون أدنى محاولة لتحطيم محرمات البحث العربي، ودون أدنى تزخيم لميراثنا الحضاري، وقد أوشك على التعفن!

    في كتابه "بحثاً عن عالم أفضل"، وُفق الرائع كارل بوبر في وصف المُغادرة إلى "ما بعد الحداثة" ـ أو المُغادرة من التنوير إلى التحكم ـ، بقوله(81): "إنني آخر بقايا التنوير، أي أنني عقلاني أومن بالحقيقة، وأومن بالعقل البشري .. وحين أقول إنني آخر بقايا التنوير أقصد أن رجل التنوير يتحدث بأبسط ما يستطيع من استخدام اللغة، حديثاً يتسم بالوضوح والبساطة والقوة، مثل أستاذنا العظيم برتراند راسل، لأن الهدف من بساطة اللغة هو التنوير، وليس التسلط"!

    سكينر، أشهر علماء النفس السلوكي الحديث، في كتابه "ما وراء الحرية والكرامة"، والذي تُرجم إلى العربية بعنوان: "تكنولوجيا السلوك الإنساني"، يضعنا في قلب "ما بعد الحداثة"، ويُنبئنا بموت "الإنسان الداخلي المستقل"، بقوله(82):

    "عندما يتبنى علم السلوك إستراتيجية الفيزياء والبيولوجيا، يُستعاض عن الإنسان المستقل الذي كان السلوك ينسب تقليدياً إليه بالبيئة التي نشأ وتطور فيها الجنس البشري، والتي يتشكل فيها سلوك الفرد ويُصان(..).

    "في الصورة التقليدية يرى الشخص العالم من حوله، ويختار الملامح المراد رؤيتها، ويميز ما بينها، ويحكم عليها بالصلاح أو السوء، ويغيرها ليجعلها أفضل ـ أو أسوأ إن كان مهملاً ـ، ويمكن أن يعتبر مسئولا عن عمله، فيثاب أو يعاقب على النتائج. أما في الصورة العلمية، فيعتبر الشخص عضواً في أحد الأجناس شكلته طواريء البقاء التطورية، ويبدي عمليات سلوكية تضعه تحت سيطرة البيئة التي يعيش فيها، وإلى حد كبير تحت سيطرة بيئة اجتماعية بناها هو وملايين من الناس ممن هم على شاكلته وحافظوا عليها خلال تطور الثقافة. أما اتجاه علاقة السيطرة فيعكس الأمر: الشخص لا يؤثر على العالم، لكن العالم يؤثر عليه(..).

    "التحليل التجريبي ينقل مسئولية تحديد السلوك من الإنسان المستقل إلى البيئة، وتصبح البيئة هي المسئولة عن تطور الجنس البشري وعن الذخيرة التي يكتسبها كل عضو. لم تكن الكتابات القديمة عن أثر البيئة كافية، لأنها لم تستطع أن تفسر وتشرح كيفية عمل البيئة، وكان يبدو أن الكثير متروك للإنسان المستقل ليقوم به. غير أن الظروف والطوارئ البيئية تضطلع الآن بالوظائف التي كانت توكل إلى الإنسان المستقل، وهنا تبرز بعض الأسئلة. هل أُلغى الإنسان إذن؟

    "انه بالتأكيد لم يلغ بصفته جنساً بشرياً أو بصفته فرداً يحقق انجازات. الإنسان الداخلي المستقل هو الذي ألغى، وتلك خطوة إلى الأمام. ولكن ألا يصبح الإنسان حينذاك مجرد ضحية أو متفرجاً سلبياً على ما يحدث له؟ انه حقاً مسيطر عليه من جانب بيئته، ولكن علينا أن نتذكر بأنها بيئة هي إلى حد كبير من صنعه الخاص. إن تطور الثقافة تدريب جبار على ضبط النفس. كثيراً ما يُقال أن وجهة النظر العلمية عن الإنسان تقدم إمكانات مثيرة. إننا لم نر بعد ما يمكن للإنسان أن يصنع من الإنسان."!

    في السياق نفسه، تأتي مقابلة أجراها محمود سعد مع مصطفى حجازي، إبان ثورة 25 يناير. مُقدم البرامج المصري وصف حجازي بمُنظر الثورة!! بحوث هذا العالم اللبناني تدخل في إطار علم النفس الاجتماعي العيادي(83)، الذي يدرس الظواهر النفس اجتماعية بالطريقة العيادية، وتهدف على نحو "ما بعد حداثي" غامض، إلى توفير الأفكار اللازمة لمواجهة الخوف والقهر والعنف! حجازي بدأ رحلته البحثية على ما يبدو في لبنان، لاعتقاده بأن انفجار العنف فيها، والأشكال التي اتخذها، وما يحيط به من ظروف، وما تحركه من قوى وعوامل، فرصة كاشفة لما يعتمل في بنية المجتمع المتخلف من عنف، وما يصطرع فيها من مآزق وتناقضات، وهي بالتالي تبين ما يتعرض له الإنسان في ذلك العالم من قهر واعتباط، وما يحل بقيمته الإنسانية من هدر. حجازي يرى أيضاً أنه إذا ما اتخذ العنف وما يدفعه من قهر وهدر لكيان الإنسان في الحالة الراهنة، طابعاً صارخاً ومأساوياً، فإنه هو نفسه، فاعل في بنى المجتمعات المتخلفة على تعددها، ومحرك لها، ومحدد لأنماط العلاقات والاستجابات فيها، إنما بأشكال مقنعة وغير مباشرة، وراء حالة من السكون الظاهري! ذلك هو افتراضه الأساسي الذي دفعه إلى الحديث عن سيكولوجية الإنسان المقهور باعتباره النتاج الرئيسي للتخلف الاجتماعي، وهو ما دفعه أيضاً لرفض التطور "الطبيعي" للمجتمع العربي(84)!

    هدف حجازي واضح! هدفه تفكيك الذهنية العربية، ثم وعن طريق الهندسة العكسيةReverse Engineering، يتم بالتحكم فيها وتحريكها إلى حيث يُراد!

    في حوار آخر مع حجازي، نُشر في "المصري اليوم"، بعنوان: "مصر فى حاجة إلى وثيقة إعلان استقلال إنساني تسبق الدستور"، قدمت الجريدة العالم اللبناني ـ والذي أراه غامضاً بعض الشيء ـ، لقرائها بهذه الكلمات(85): "عمل الدكتور مصطفى حجازي في مجال صناعة الفكر، وهو مؤسس مركز متخصص في الفكر الاستراتيجي، وشركة تعمل في مجال الحوكمة، وتطوير مؤسسية الشركات، والكيانات الصغيرة، ويشمل مجال عمله تقديم خدمات إستراتيجية، لتطوير الكيانات والمجتمعات"! ثم تضيف الجريدة المذكورة: "لكن للرجل ـ تقصد حجازي ـ قصة ورؤية، الأولى مع الثورة حيث كان أحد العقول التي سعت إلى "مأسسة" ميدان التحرير، حتى تتحقق منه الأهداف المرجوة، وبعد الثورة يطرح رؤية جديدة تتجاوز الحزبية والأيديولوجية الضيقة، وتتسم بالعمومية الجامعة"!!

    مصطفى حجازي، وكما يبدو من أحاديثه وكتاباته، ينتمي إلى ما يُعرف بـ"الأنسنيين الجُدد"(86)، وهو اسم يُطلق على الباحثين في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، من ذوي الأساس العلمي! هؤلاء ـ ويا للخطر ـ يفكرون مثلهم مثل علماء الكيمياء والفيزياء..الخ، اختلافهم الرئيسي، وربما الوحيد، عن غيرهم من العلماء، هو الموضوع الذي يكتبون عنه، وليس في تفكيرهم الغائي!

    في رده على سؤال "المصري اليوم" حول ما إذا كان استبداد الحاكم هو المشكلة الرئيسية، أجاب حجازي بلغة مُهندسي المجتمعات ومُصممي الثقافات: "الأهم من الاستبداد كان نزع الإنسانية، على مدار فترات طويلة سواء كانت قهراً أو طوعاً. وتلك هي البداية الأساسية لأي عملية إعادة هيكلة سواء لشركة أو لوطن(!!)، بأن نعيد الإنسانية أو ما يسمى أنسنة الكيان، وعندما ننتهي من الأنسنة نصل إلى مرحلة وضع الرؤية الكلية، فى إطار هذه الإنسانية، ثم ننتهي إلى ما يسمى المأسسة."! ثم أضاف عالم النفس العيادي: "والأنسنة بمعنى بسيط جداً هي أن نعيد لهذا الكيان المعايير التي يترتب عليها نجاحه أو فشله، في أي مجتمع، سواء صغر أو كبر، بما يحقق قدراً من الحرية والعدل والكرامة لأشخاصه"!

    ونظراً لخطورة حديث حجازي ودلالاته، فيما يتعلق باحترافيته ودوره في تأهيل كوادر الثورة في بلادي مصر، أكتفي ودون تعليق، باقتباس فقرات منه:

    "بدأنا منذ أكثر من 10 سنوات مع الكثير من شباب المجتمع المصري محاولات كي نؤصل هذه الطريقة في التفكير، لتحفيزهم على نبذ حالة الادعاء الموجودة في المجتمع المصري.

    "قبل الثورة كان هناك لقاءات متلاحقة مع فئات عمرية مختلفة واعية من الشباب. الكثير من هؤلاء الشباب كانوا من رموز الثورة(المصرية)، وكنا نركز معهم على مفهوم ملكية الوطن، ليكون راسخاً بداخله، وهو ما ظهر في حملة خالد سعيد، وكلمة البلد بلدنا، وما جاء في لقاءات من هذا النوع، لكننا لم نكن نعلم كيف نمارس هذه الملكية، ومن هنا بدأت التجليات، التي لا أدعى أننا كلنا أصحابها.

    "(..) كانت هناك لقاءات أسبوعية مع سياسيين، ليكتمل المشهد السياسي كله، وكنا متفقين معهم على مشروع إعادة إحياء مؤسسة السياسة المصرية، وكان أحد أسمائه الشائعة هو "البديل الآن"، كي نعيد هيكلة مؤسسة السياسة المصرية على أسس إنسانية جديدة، وكان لدينا أمل أنه خلال سنة أو سنة ونصف تتحول حالة تحريك الوعي هذه إلى شعلة تدفع إلى التحرير الإنساني، وهذا هو الملمح الذي استطاعت الثورة أن تعيده مرة أخرى، خاصة أن المجتمع كان قد نزعت عنه إنسانيته، وليس الاسترداد السياسي الذي يعد أحد تجليات الإنسانية، وربما يكون أكثرها ظهورا، لكننا لدينا مشاكل أخرى نعيشها حتى هذه اللحظة، وإن كنا معنيين بمعالجتها خلال الفترة المقبلة، ومن هذه المشاكل انتزاع الإنسانية، وفكرة أن تكون الحرية ليست ضرورة عند كتلة حرجة من المجتمع، فإن ذلك لا يبنى عليه المجتمع، ولهذا بدأنا بعودة الإنسانية أكثر من عودة العقل والوعي(!!)، إلى قطاعات من المجتمع المصري وإعادتهم إلى أوقات خلقت منهم كائناً جديداً يُسمى:

    [إنسان حُر مصري]
    "(كانت إستراتيجيتنا خلال تلك الفترة) أن نرسخ لفكر الحركة بلا قائد، والمدرسة التي تبنيناها تقوم على ذلك، وعلى أن المجتمع سيبقى دائما متفرقاً ومتنوعاً في وحداته، وهذا هو منتهى الثراء، وركزنا أن يتعلموا كيف يتعايشون، ويتآزروا، فنحن نعمل على قاعدة كيفية خلق التوافق المجتمعي على قيم مشتركة.

    "الجمعية الوطنية للتغيير، التي ضمت عدداً من القوى الوطنية، كانت معنية بالبعد السياسي فقط، ولها كل الاحترام والتقدير، وكل الفضل فيما حدث من تراكم، لكنهم رغم ما كانوا عليه من هذه الشاكلة فهم جزء من كل المجتمع، لكن ما كنا ومازلنا ندعو إليه هو خلق تيار عام رئيسي لمصر، وهو التيار الذي ينشئ الدولة، ويبقى فوق الدستور، فهو ما قبل الدولة وما فوق الدستور.

    "قرأت في الشارع المصري من يوم 25 تحديدا أن هناك توجهاً جديداً، وأن هناك وجوهاً جديدة، كان أهم ما فيها أنها لم تكن بالضرورة مسيسة، والأهم أنها كانت تطالب بإمكانيتها، وهو المطالبة بنوع من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهذا التوجه الجديد رأيت يوم 25 يناير أنه جديد على الشارع وهذا هو أخطر شىء أبحث عنه إذا ما كنت أبحث عن إصلاح المجتمع، وأن أجد كتلة من المصريين تطالب بما يتناسب مع إمكانياتها، وكانت تلك هي القضية الحقيقية بالنسبة لي، وبالتالي يصبح إصلاح المجتمع ليس فقط في أنك ترفع الاستبداد السياسي وإنما متمثل في أنك تحاول أن تعيد له إنسانيته، وطالما ظهرت هذه الكتلة على الأرض أصبح لدينا كتلة حرجة يمكن أن تكون نواة للتيار الرئيسي.

    "كنت أقول لهم ـ لم يذكر لمن(!!) ـ إنني أرى غد تحرير وليس ميدان تحرير، فكانت هناك فترة لتحريك الوعي، تلتها فترة لمساحة من التحرير، وفى يوم 28 يناير كان المعنى بالتحرير هو من يحرر مصر من استعمار الفساد وعملت ما هو أشبه باختبار بسيط للناس، هل ترى مصر محتلة الآن وكانت الإجابة بها نوع من المراوحة سابقاً لكن في هذه اللحظة كانت الإجابة قطعية "نعم مصر محتلة"، وبالتالي أصبحت فكرة النزول إلى الشارع وأصبح الثوار طرفا فى صنع القرار، ولقد جاء حرص الشباب على النزول بالعلم دليلا على تأكيد الملكية، وهذا هو مطلب التحرير الأساسي "استعادة الملكية" وليس إسقاط رأس النظام، وكان ثالث مطلب هو أن يكون معك حلم البناء، لأن فكرة الثورة لن تمتد إلى الأبد، فالثائر الحقيقي معنى بكامل مراحل ثورته، فإسقاطه للنظام إلى مرحلة التهاوي هذه مرحلة أولى لابد منها، لكن الهدف النهائي هو استعادة الملكية.

    "إسقاط النظم في الثورات ضرورة، ولكنها ليست كافية، فالفعل لا يأتي بالمقصود إلا إذا جاء بضرورته وكفايته، وضرورة الثورات تأتى في إسقاط النظم السابقة، وكفايتها فى بناء نظام جديد على خلفية المرجعية الفكرية، التي أتت بفكرة إسقاط النظام لأنه لا يحقق كذا وكذا، وأتت بالنظام الجديد لتحقيق العدل والكرامة لكل المصريين، كما يتوافق عليهما هذا المجتمع..."!

    مجتمعاتنا العربية ـ وكما نرى ـ، في مواجهة وضع كارثي! أولاً، هناك الموروث "الجامد"، والذي حيل بين أبناء أمتنا وبين نقده وتطويره، إبان دولة "ما بعد الاستعمار"، بكل ما شهدته من إرهاب وعنف، وتفتيش في الضمائر، وتجفيف لمنابع التفكير الحُر! فرصتنا كانت ذهبية للخروج من "المأزق الحضاري"! لو أن نور الحُرية لم يُطفأ، ولو أن "باعة صكوك الحرية"، لم يقوموا بتدجين النفوس!

    ثانياً، هناك الوافد "الما بعد حداثي"، والذي يحرص دُعاته، بانصرافهم الواضح عن التنوير وإيقاظ وعي الإنسان العربي بالنفس وبالوجود، إلى التحكم في أفكار البشر وسلوكهم، من خلال هندسة مجتمعاتهم وثقافاتهم، وإتاحة أوضاع معيشية أفضل، تهيئ بدورها الأجواء المواتية لعبودية مُختارة وهيمنة "غير مرئية"(87)! وافد "ما بعد حداثي" مُخيف، لا يؤمن بالتطور الطبيعي للإنسان والمجتمع، ولا يؤمن بأهمية تنوع الأفكار وازدهارها، وحق الإنسان في الاختيار، والتقدم! لا يؤمن بحق البشر في صُنع مصائرهم وإنما بأن تُصنع لهم مصائرهم!

    مجتمعاتنا تواجه كل هذه القوى العاتية بإفلاس حضاري غير مسبوق! ولمن يزعم أنه لا ضرر في الأمر على هويتنا الحضارية، ووجودنا الإنساني! أقول إنه حتى لو صح القول برواج مقولات "ما بعد الحداثة" في الغرب، فلا خوف على الغربيين منها، كون مجتمعاتهم شديدة الثراء! شقت طريقها بجسارة وجرأة نحو الحاضر! إنها مجتمعات ملآى بالفلاسفة وحُماة التفكير "الحُر" في مواجهة التفكير العلمي واللاهوتي، على خلاف مجتمعاتنا، بفقرها "المُدقع" في النفوس الحُرة!

    هل نوشك أن نُلدغ من الجُحر مرتين؟
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    نشرت "الواشنطن بوست" مؤخراً، مقالة بعنوان(88): "الخرس العربي إزاء موت بن لادن"، في سياق الجدل الدائر حول مدى مشروعية إلقاء جثمان ابن لادن، في البحر، وحرمانه من قبر، يضم رفاته، ويسمح لأفراد عائلته بزيارته!

    مقالة "الواشنطن بوست"، على قصرها، تُنبهنا من حيث لا تقصد، إلى مسألة شديدة الأهمية، وهى وجود إرادة غربية، الغريب أنها مُعلنة(!!)، مدعومة بتخلف مُخنث، وتعاون قوى محلية، همها خلط الأوراق، وحجب نور الحقيقة!

    النوايا الغربية بدت حاضرة في حفاوة المقالة المذكورة بما رصدته في الشارع العربي من تضاؤل لمكانة بن لادن، عند جيل الشباب العربي، مقارنة ببوعزيزى الشاب التونسي الذي تسبب بإحراقه لنفسه في تفجير الثورة في تونس، والذي اختصته المقالة بالبطولة. لا لشيء، وإنما على حد قول المقالة، لاكتفائه بإحراق نفسه، في سبيل انتخابات حرة، وحكم رشيد، وإنهاء الفساد في تونس. بوعزيزي لم يرتكب خطيئة العنف في حق الغرب، على خلاف "السبتمبريين"، الذين أقضوا بهجماتهم الاستشهادية/الجهادية، مضاجع الغربيين ونالوا من أمنهم!

    مجتمعاتنا العربية تُوشك أن تُلدغ مرة "ثانية" من الجُحر الأمريكي!

    يدعوني لهذا التوقع، ما أراه حولي من حجب للحقائق واستهانة "استفزازية" بوعينا! صحيح أن ما يحدث هو نتيجة منطقية لإفلاسنا الحضاري، وتأكد خروجنا من التاريخ! غير أني، وإيماناً منى بمقولة جرامشي الرائعة "تشاؤم المفكر، وتفاؤل الإرادة"، أعمد هنا إلى إلقاء الضوء على بعض الحقائق المسكوت عنها، بوعي أو بلا وعي، في ثوراتنا الأخيرة، اعتماداً على سذاجة مجتمعاتنا وصعوبة تصورها، للطبيعة المُعقدة وغير العفوية لهذه الثورات! فهي فوضى شديدة التنظيم! والأنظمة "المُغادرة"، لم يكن لها لتفلت، في ظل تحالف "غير مُعلن"، بين طُلاب رؤوسها!

    في قلب ثورة 25 يناير، توجد حركات عديدة، من أبرزها "حركة شباب 6 أبريل"(89)، ومُنسقها العام المهندس/أحمد ماهر(90)! الدوائر الغربية تعرف ماهر ورفاقه، أكثر منا! في "المصري اليوم"، صادفت خبراً صغيراً، بعنوان "منسق 6 أبريل يتهم أوباما بدعم مبارك"! يقول الخبر(91): "أحمد ماهر المنسق العام لحركة شباب 6 أبريل اتهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما بدعم النظام القمعي للرئيس السابق حسني مبارك، ضد النشطاء والسياسيين داخل مصر طوال السنوات الأخيرة، وأشار إلى تذبذب مواقف إدارة أوباما في الأيام الأولى للثورة المصرية. وانتقد ماهر خلال محاضرتين ألقاهما بجامعتي "هارفارد" و"ماساشوستسي" خلال زيارته أمريكا مؤخراً، السياسة الأمريكية الداعمة للأنظمة القمعية في العالم العربي، بهدف الحفاظ على مصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة".

    وبمراجعة الموقع الإلكتروني لشباب 6 أبريل(92)، وجدت ما يؤكد الخبر:

    "علي هامش زيارة عمل خاصة ـ (!!) ـ في أمريكا، شن المنسق العام لـ6أبريل هجوما حادا علي الإدارة الأمريكية في بعض الجامعات الأمريكية، حيث ألقي الزميلين المهندس أحمد ماهر مؤسس حركة شباب 6 أبريل والمنسق العام لها، والزميل وليد راشد محاضرتين في كل من جامعتي هارفرد وجامعة ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهما من أكبر الجامعات علي مستوي العالم، استعرضوا خلالهما تجربة حركة التغيير المصرية منذ عام 2005 والتجارب الشبابية حتى انتصار حركة التغيير علي مبارك في انتفاضة 25 يناير الشعبية، وهو الذي حرص خلاله عدد من الطلاب والشباب من دول العالم المختلفة متابعته لمحاولة التعلم من التجربة المصرية وخصوصا تحركات الشباب"!

    لم أكن أعرف أحمد ماهر، ولم أكن قد سمعت عنه أو حتى قرأت له! ومن هنا، بدأت أسأل عنه بعض الشباب المُشارك في الثورة ـ على نحو عفوي ـ، والمُتابع للفيس بوك! فوجئت أنهم لا يعرفونه، ولم يعرفوا عن دوره في الثورة!

    من الشاب إذن، وكيف يعرفه الأكاديميون في أعرق الجامعات الأمريكية، ولا يعرفه المشاركون في الثورة أنفسهم! من هنا، بدأ اهتمامي بماهر وحركته، والتي يُلخص موقعها الالكتروني فلسفتها، بهدف تسويق الفكرة وتجنيد النُشطاء:
    "تمر مصر الآن بظروف عصيبة ربما تكون الأسوأ في تاريخها من تدهور في جميع المجالات وأصبح من الصعب بل ومن المستحيل الحديث عن أي محاولات اصطلاحيه وخصوصا مع رفض النظام الحاكم لأي محاولات أو أراء لتعديل أو تصحيح مساره.
    "نهدف إلى تغيير الوضع السيئ في مصر عن طريق تكتل شبابي أو منظمة شبابية ضخمة(دون تحديد للشريحة العمرية للمجموعة لكن القوام الأساسي للشباب) ذات أفكار مبدعة ومتجددة تسعى للانتشار والتوعية وتحريك الأحداث السياسية في مصر وخلق أنشطة مبتكرة يسانده ادوار إصلاحية و الضغط المستمر في سبيل التحقيق الهدف.
    "نوع التغيير الذي تنتهجه المجموعة: التغيير اللاعنفى.
    "العناصر الرئيسية المكونة للمجموعة: الشباب من الجنسين..مستقل و مؤدلج..دون النظر للانتماءات الفكرية المختلفة للأعضاء يسعون لهدف واحد"!

    فلسفة الحركة، تعكس رغبة ضارية في الحشد، والهدف واضح: إسقاط النظام الحاكم في مصر! الحكومة المصرية، على ما يبدو، لم تُقدر خطورة الحركة! رسائل يجدها الزائر لموقع الحركة على "الفيس بوك"، تؤكد يما لا يدع مجالاً للشك، عدم احترام الحكومة للحركة، وانخداعها بهيافتها "الاصطناعية"!

    ساعد على ذلك حداثة عهد ثقافتنا بأفكار كالنضال باستخدام اللاعنف، وبما يمكن أن تفضي إليه من نتائج خطيرة، فالخبرة العربية تكاد تكون معدومة في هذا الصدد! ساعد على ذلك أيضاً كسر قيادات الحركة للصورة النمطية للثائر في الذهنية العربية، والتى تسيدت المشهد السياسي في دولة "ما بعد الاستعمار"، وحرص هذه القيادات الذى قد لايكون دائماً عفوياً على الأخطاء الاملائية، ومظهر "الشباب السيس"! فضلاً عن الاعلان الطفولي "الخداعي" عن النوايا والأهداف!

    وقع النظام في الفخ! قادة الحركات "الشبابية" ليسوا حفنة من "الشباب السيس"(93)، ولكنهم على أرقي مستوى من التدريب على "التغيير اللاعنفي"! في مقالة نشرتها جريدة "النيويورك تايمز"(94)، أوردت الجريدة كلام أحمد ماهر عن استفادة الحركة وقياداتها من كتابات جين شارب(95)! وهو أستاذ أمريكي للعلوم السياسية في جامعتي هارفرد وماساتشوستس بالولايات المتحدة، وخبير عالمي في "النضال باستخدام اللاعنف"، ومؤسس "ألبرت أينشتين"(96)، وهي تعمل على تطوير دراسة عالمية، واستراتيجية للعمل باستخدام اللاعنف في الصراعات!

    مقالة "النيويورك تايمز" كشفت أيضاً عن أن المنسق العام لحركة شباب 6 أبريل أحمد ماهر، عرف كتابات جين شارب، أثناء اطلاعه عن كثب على تجربة الصرب في إسقاط نظام حكم ميلوسوفتش الديكتاتوري أوائل عام 2000، عبر انتفاضة "سلمية"، تأثرت بأعمال شارب النظرية والتي تأثر فيها بالرائع غاندي!

    المقالة أيضاً كشفت عن ورشة عمل نظمها "المركز الدولي للنضال باستخدام اللاعنف"، في القاهرة منذ سنوات، وكانت ورقة شارب "198 طريقة للنضال باستخدام اللاعنف"، ضمن الورشة! المقالة نقلت عن مدونة وناشطة مصرية حضرت الورشة، ثم قامت بعدها بتنظيم ورشة مُماثلة، قولها ان نشطاء تونس ومصر الذين حضروا الورش كانوا دُعامة قوية في ثورتي مصر وتونس! فضلاً عن قيام بعضهم بترجمة أجزاء من أعمال جين شارب إلى اللغة العربية!

    كشفت المقالة كذلك عن قيام إيران عام 2008 بعرض "فيديو"، يضم جين شارب، والسيناتور الأمريكي جون ماكين(97)، ورجل المال جورج سوروس، اتهمت فيه شارب بالعمل مع المخابرات، وتسهيل اختراق بلاده للدول الأخرى!

    الطريف في الأمر، هو نقل مقالة "النيويورك تايمز" عن شارب علمه بوضع جماعة الاخوان أحد كتبه: "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية"، على موقعها الالكتروني! وأيضاً وصفها لانفعالاته أثناء متابعته للثورة في مصر من منزله!

    في مقالة ذات صلة لـZune Stephen، رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة سان فرانسيسكو، والخبير في مجال "النضال باستخدام اللاعنف"، عنوانها(98): "صربيا..بعد مرور 10 سنوات"، تحدث ستيفن عن الحركة الصربية ""Otpor(99)، وهو اسم يعني "المقاومة"! تحدث عن إسقاطها لنظام ميلوسوفتش، من خلال انتفاضة سلمية، استندت إلى أفكار شارب، واهتمام أمريكي "غامض"! الحركة الصربية، والكلام للخبير الأمريكي، بعد بلوغ أهدافها، لم تلبث أن حُلت! بعض قادتها قاموا بتأسيس مركز أطلقوا عليه CANVAS، أرادوا به نقل خبراتهم، ونظموا ورش عمل، حضرها نُشطاء من مصر ودول عربية ومن أنحاء العالم!
    في حوار مع أحمد ماهر، أجرته "الشرق الأوسط"(100)، أثناء الثورة وقبل تنحي مبارك، كشف ماهرعن تفاصيل الإعداد للاحتجاجات التي انطلقت في 25 يناير، بحكم موقعه في قيادة غرفة العمليات! وهي غرفة تشكلت ـ والكلام لماهر ـ قبيل انطلاق الاحتجاجات بنحو 15 يوما، وكان يتم الاجتماع فيها يوميا لمناقشة تفاصيل روتينية تتعلق بتقييم مدى انتشار الدعوة للاحتجاجات على مواقع الانترنت، ومن خلال البيانات التي يتم توزيعها على المواطنين في المناطق الشعبية، وكذلك دراسة ابتكار آليات جديدة للتظاهر بهدف التغلب على الوسائل التي تتبعها دائما أجهزة الأمن لإجهاض الاحتجاجات! وقبل الاحتجاجات بيومين تم التوصل ـ والكلام لا يزال لماهر ـ إلى آلية جديدة مفادها أن يتم تقسيم النشطاء إلى مجموعات تتكون كل مجموعة من 30 إلى 50 ناشطا يتم توزيعهم على المناطق الشعبية والميادين العامة لإطلاق شرارة الاحتجاجات، ولم يكن أي من أعضاء هذه المجموعات يعرف المكان المحدد للتظاهر، وكان قائد كل مجموعة هو الوحيد الذي يعرف مكان بدء المظاهرة على أن يلتقي ببقية أعضاء مجموعته في مكان ما، قبل البداية بقليل، ثم يتوجه مع مجموعته إلى المكان المتفق عليه!

    قدرات تنظيمية "احترافية" "راقية" على هذا النحو، لشباب، الكل يعرف عنه أنه "سيس"، وأنه موضع تندر البسطاء في بلادنا(101)، لابد وأنها تحد من إمكانية، النفي القاطع لتواطؤ "غير ضار"، لاسبيل الآن لمعرفة تفاصيله، بين قوى الداخل وبين قوى خارجية صاحبة مصلحة، من بينها الولايات المتحدة والثمانية الكبار!

    في عصر العولمة، لا مجال للتخفي أو خلط الأوراق على نحو ساذج، إنه عصر الأقوياء! حركة شباب 6 أبريل وغيرها، لابد وأن يعوا هذا! يدعوني لقول هذا، ما أراه تخبطاً من قيادات الحركة، في التعاطي مع التسريبات الأمريكية الأخيرة(102)، حول علاقة الحركة بقوى الخارج، ومصادر تمويلها! التسريبات الأمريكية، لابد وأن تحدث، وإن اعتقدت قيادات 6أبريل أو غيرها، خلاف ذلك!

    القيادات الشبابية عليها التعاطي مع "ما بعد ثورة 25 يناير"، بشكل مُغاير لما اعتدنا عليه في ثقافتنا! صحيح أنها برعت، مع غيرها من قوى الداخل، في إنجاح ثورتنا، غير أن الأمر بعد الثورة شديد الاختلاف! مصلحة بلادنا وقوى الخارج لم تعد مُتطابقة! ونُشدان المغانم بات وارداً(103)، وهو ما يُحتم الشفافية!

    قارئي الكريم، أراني ما أردت بحديثي هذا عن حركة شباب 6 أبريل، والتي نحمد لها، هي وبقية قوى الداخل، وفي طليعتها جماعة الإخوان، جهودهم الباسلة في الإطاحة بطاغية، سوى التنبيه لوجود إمكانية لأن تُلدغ بلادنا من الجُحر الأمريكي ثانية! أمريكا ساعدتنا في الماضي على الدخول إلى دولة "ما بعد الاستعمار"، عن طريق روزفلت وغيره! غير أن الثُوار وقتها اندفعوا، وكانوا من الشباب أيضاً، وتلك هي المفارقة، إلى حيث لا ينبغي لهم ولا لبلادهم أن تكون!

    قد تُفضي نصيحتي هذه ببعض قوى الداخل المُشاركة في الثورة، وبخاصة من قيادات الشباب، لأن تخسر الحاضر، غير أن بلادنا حتماً ستربح المستقبل!

    إلى أين نحن ذاهبون؟
    ــــــــــــــــــــــ

    رداً على سؤال عماد الدين أديب لمبارك، في حوار شهير، عن مدى إمكانية وجود أغلبية في البرلمان ليست لحزب يخص الرئيس، قال الرجل(104):

    "نرجع لفترة ما قبل الثورة ـ يقصد ثورة 23 يوليو ـ ماذا كان يحدث؟ لم يكن هناك حزب أغلبية إلا الوفد وأحياناً لم يكن يحصل على الأغلبية، وكان يضطر للدخول في ائتلاف. حزب الأغلبية يستطيع أن يقود بلداً مثل مصر، ولكن لو حزب ليس له أغلبية ستكون حكومة ائتلافية، فمن يريد أن يلعب في البلد يلعب عن طريق البرلمان، ويُسقط أي حكومة ائتلافية. أنا لا أريد الدخول في تفاصيل. الثورة تعجلت وخرجت قبل موعدها المحدد لها من قادتها لماذا؟ لأن هناك ثلاث أو أربع وزارات تم تغييرها في خلال 48 ساعة ووقتها كان تعداد البلد 18 مليوناً واليوم التعداد 72 مليوناً لن نستطيع تحمل حكومة ائتلافية، لأنها لن تبقى أكثر من سنة، وبعد ذلك تتشاجر الأحزاب المؤتلفة مع بعضها البعض، لابد أن يكون هناك حزب أغلبية لكي تسير البلاد، أنا أقولها للتاريخ فأنا لن أعيش للأبد."!

    التنافس على السيادة في المجتمع المصري، كما في بقية المجتمعات العربية الثائرة وربما غير الثائرة أيضاً، وفيما يرى أغلب المهتمين بالشأن العربي والإسلامي، غالباً ما سينحصر، على الأقل لسنوات قليلة قادمة، بين قوى الموروث من جانب(وفي طليعتها الإسلام السياسي، وفلول ما بعد الاستعمار، من دراويش الآباء المؤسسين والشيوعيين والبعثيين والناصريين..الخ)، وبين قوى وافدة أفرزتها الثورة، وهي مُغايرة للأولى في أمور ومُشابهة لها في أخرى!

    قوى الموروث، وفي طليعتها قوى الإسلام السياسي، يُهيمن عليها التفكير الفقهي، بطبيعته النفعية والتي لا تنال بحالٍ من مكانته العظيمة! فالتفكير الفقهي، وعلى خلاف التفكير الفلسفي، لا يُمارس، إلا تحت إكراه التبجيل الدفاعي أو الهجومي أو الاثنين معاً، وذلك طبقاً لأوضاع المجتمع الاجتماعية والقانونية والسياسية..الخ! صاحب التفكير الفقهي مُكلف إما بمرافقة إرادات القوة والتوسع، وإما بتدعيم الأطر الثقافية القائمة والمهيمنة، من خلال مقاومة المشاريع المنافسة، وجعل هذه الأطر أكثر تخشباً وصلابة! طبيعة نفعية كهذه تٌُعادي التفكير النقدي!

    أما قوى الوافد(وفي طليعتها قيادات بارزة من شباب الثورة)، فيهيمن عليها التفكير العلمي! والذي يتشابه مع الفلسفي، في النُشدان الحُر للحقيقة، وإن اختلف عنه في أن النُشدان إنما يتم من خلال التجربة، وليس من خلال البحث النظري!

    وهو ما يلفت الانتباه إلى وجود أرضية "نفعية" مشتركة بين التفكير الفقهي والعلمي، ويُفسر لنا ما نلحظه ، تاريخياً، من عدم وجود عوائق أمام النبوغ العربي في العلوم، على خلاف الفقر العربي المُدقع في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية! يؤكد زعمي هذا، على ما يبدو، ما يشهده فضاؤنا الثقافي اليوم من اهتمام أبرز باحثينا وعلمائنا بالعلوم الاجتماعية، على خلفية مُغادرتها إلى "ما بعد الحداثة"، وغزو التفكير العلمي، لهذه العلوم، كما للإنسانيات، على أيدي الأنسنيين الجُدد!
    من هنا، تتواضع حظوظ التفكير الفلسفي، أي النُشدان الحُر للحقيقة من خلال البحث والتقصي، كلما قوي التفكير العلمي أو الفقهي، فما بالك إن اتحدا!

    "صدام خلاق"، أو على الأقل عدم ارتياح مُتبادل، بين أنصار التفكيرين العلمي "ما بعد الحداثي" والفقهي، قد يمنح بعض الأمل في عدم مناهضة التفكير الفلسفي أو التضييق عليه، عن طريق تجفيف المنابع، وغرس اليقين في النشء!

    لكل إنسان في بلادنا الحق في النُشدان الحُر للحقيقة! أنا لا أريد لدمي أن يُراق، ولا لأمتي أن تفقد هويتها! لا أريد ليدي أن تُغل، وحفنة من الأقزام تعبث بمصيري! لا أريد ليدي أن تُغل، وأيدي خفية ترسم لي الطريق وتنتحل إرادتي! أنا أنتمي إلى الحضارة الإسلامية، ولا أرضى بغيرها بديلاً! أريد لحضارتي أن تقرر مصيرها، ولأبناء حضارتي أن يمتلكوا الحق والقدرة على نقدها وتطويرها! لا أريد لحضارتي أن تموت، فأفقد بموتها هويتي! محمد(ص) قبل أن يكون رسول الإسلام هو جدي، لا أرضى له إهانة أو ظُلماً! نحن محبو الحقيقة لا نكره الأديان، وكيف؟ وفي رحاب الإسلام وُلدنا ووُلدت حضارتنا! لسنا أقل من غيرنا غيرة على موروثنا الحضاري، وحرصاً على تزخيمه! لسنا كارهين لقوى الإسلام السياسي، ومنها خرج بن لادن، ليُعيد وصحبه ـ رحمهم الله ـ، كتابة التاريخ العربي!

    لا نريد لعبث الغربيين بدمائنا ورفات أبناء حضارتنا أن يستمر! ماذا يبقي لأمة يُعبثُ برفات موتاها! لا استقلال لأمتنا، بمنأى عن المصادر الحقيقية للقوة؟

    الحرية والمعرفة وجهان لعملة واحدة، فلا حرية بدون معرفة، ولا معرفة بدون حرية! لم يعد لائقاً أو حتى ممكناً دوام التعاطي مع ثوراتنا بلا ثورية وبلا شفافية! لا خير في ثوراتنا إن لم تصمد أمام النقد ولا خير فينا إن لم ننقدها! ثوراتنا خطوة مهمة على الطريق إلى الحرية، لكنها ليست الخطوة الأخيرة! فلم تزل الأحلام في الصدور تجول! ولم تزل النفوس تهفو لفضاء الحرية الرحب!

    أحلامي كثيرة! أحلم ببلادي ملآى بأصحاب النفوس الحرة ومحبي الحقيقة! أحلم بأن يُولد من رحم ثوراتنا من يأخذ بيدنا إلى الرقي الحضاري! أحلم بمكتبات بلادي ملآى ببحوث تُناقش في نزاهة وموضوعية كل شيء! أحلم بجيل قادر على تشريح آلامنا، لا ليتحكم فينا، كما يفعل "الما بعد حداثيون"، من مهندسي الثقافات ومُصممي المجتمعات، وإنما ليوقظ وعينا إزاء دفع الحياة إلى الأمام والتحليق في سماء الحرية والإبداع! أحلم بإعلان استقلال جديد وحقيقي هذه المرة، ليس لأوطانٍ فحسب، وإنما لنفوسٍ ترفل في غلائل التخلف والغرور! أحلم بلجان صدق ومصالحة، يعترف أمامها جلادي عقود "ما بعد الاستعمار"، ويُبدون الندم على آثامهم، ثم يكون العفو الجميل! لا نريد لأشواك الثأر أن تُمزق وشائج الرحمة!

    أحلم بتجفيف منابع العداوة بين أبناء الجيرة الواحدة! أحلم بتدريس القيم والأخلاقيات العليا المُشتركة في مدارسنا، وترك تعليم تفاصيل الأديان للجهات غير الرسمية! أحلم بضمائر تُشيد في النفوس! أحلم بالوازع الأخلاقي، إلى جانب الوازع الديني! لم يعد مُحتملاً، والتعقيدات الحياتية على هذا النحو، الاكتفاء في تربية النشء بصيغة "افعل ولا تفعل"! لم يعد مُحتملاً أن يهرب الناس من "العيب" و"الأصول"، إلى "حلالٍ" حمال أوجه! لم يعد مُحتملاً الاكتفاء بالتخويف من عذاب النار والترغيب في نعيم الجنة! أورثنا هذا انحطاطاً أخلاقياً، وهوساً بالطقوس!

    أحلم بنزع "طاقية الإخفاء" من فوق رأس الانحطاط الأخلاقي في مجتمعاتنا، ليبدو عارياً، لا تستره سوى خرقة العار! أحلم بعرش الأديان في قلوب وعقول البشر، وليس في مؤسسات الحكم! الله عز وجل ليس لعبة أولي الأمر!

    أحلم بتزخيم ثقافة شباب "الفيس بوك"، حتى لا يظلوا فريسة سهلة، لكل من هب ودب! سذاجتهم كانت مفيدة، في الثورات الأخيرة، ولكن ليس كل مرة تسلم الجرة! أحلم بالإنقاذ الإنساني السريع لغير القادرين على الصراخ، وسط الفوضى الراهنة، من نزلاء مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية، ونزلاء السجون والمعتقلات، والمُعدمين، والصُم والبكم، وأصحاب الحالات الخاصة..الخ! أحلم بتعفف دولة "ما بعد هجمات11سبتمبر" للقروض والمعونات والهبات، فلا أمر من خبز الإحسان! أحلم باعتماد حكوماتنا على الذات، حقناً لهوية على حافة الزوال!

    أحلم بأن تُدرس مجتمعاتنا جيداً قبل وضع الخطط والاستراتجيات! أحلم بتخلي حكامنا الجُدد عن عشوائية وفهلوة أسلافهم في دولة "ما بعد الاستعمار"! أحلم بالإبقاء على، بل وتطوير، مشروع عظيم كالقراءة للجميع وعدم أخذه بجريرة السيدة سوزان مبارك، فحد علمي أنها لم تطلب وضع صورتها على أغلفة الإصدارات! أحلم بمفكرين وفلاسفة من نسيجنا الحضاري، ينهضون بنقد وتطوير حضارتنا ونسترشد بهم حين يسود الظلام! أحلم بأن أعرف عن نفسي وحضارتي أكثر أو على الأقل مثل ما يعرفه الغربيون! أحلم بأن تكون لي حرية مفكريهم في البحث والتقصي! أحلم بألا تروج كتابات من قبيل "تاريخنا المُفترى عليه" ليوسف القرضاوي! ولا عبارات من قبيل "يا أهل أطفيح اسمعوا وأطيعوا" لصفوت حجازي! ولا أفكار من قبيل "دولة مدنية ذات مرجعية دينية" لجماعة الإخوان!

    أحلم بأن يتوقف توحش "الحزبية الدينية"، أعني هذا التشرذم العنقودي إلى جماعات مُتلاسنة، بل وأحياناً مُتناحرة: جماعة الإخوان، جماعة السلفيين، جماعة الجهاد، الجماعة الإسلامية..الخ! فدين محمد واحد، وهو الإسلام! ورب محمد واحد وهو الله! أما ما بدأه البنا، فأراه افتئاتاً "غير مقصود" على وحدة المسلمين!

    أحلم بأن يتكرم علينا وائل غنيم وأحمد ماهر وإسراء عبد الفتاح..وغيرهم، بمعاملتنا نحن أصحاب البلد بنفس الشفافية التي يتعاملون بها مع الغرب! نحن أحق بمعرفة الحقيقة! نحن من عانى آلام "ما بعد الاستعمار"! نحن من هتف وصفق للظلم ومجد في الطغاة! نحن من دفع ثمن الدعم الغربي لاستقلالنا الزائف! نحن من فقد الكرامة والقدرة على القراءة النزيهة والمنظمة للأحداث! نحن من دُجن!

    لماذا يعرف الغربي عن ثورة بلادي كل شيء، وأجهل أنا وغيري من المصريين كل شيء! لماذا تُخفي هذه القيادات "المحلية" عن المصريين، بل وحتى عن أتباعهم من الشباب، كل شيء، وفي الغرب، يُفضون بكل شيء! إلاما تظل شعوبنا جاهلة بالحقائق، مُحاطة بالأكاذيب والأوهام، وهي دائماً من يدفع الثمن!

    أحلم بأن أعرف ما يعرفه الغربيون عن الثورة وقياداتها في بلادي! أنا لا أطمئن كثيراً لما يحصل! خاصة والتعامل مع ثوراتنا لا يزال خلو من الثورية أو الشفافية! ثورة مصر الأخيرة وكما رأيتها، كانت أشبه بجراحة بارعة، استؤصل فيها سرطان النظام من جسد بلادي، غير أن الجسد لا يزال على وضعيته البائسة! ثورة مصر محض قدرة مُخيفة على التحريك والحشد، مع وعي "مُعلب" "بارد"!

    منبع الخصوبة في الثورات هو تشبع نسيجها بوعي حُر مفتوح، يقويها ويدفع المشاركين فيها إلى نقد وتطوير ثقافتهم، وليس التفاخر بالانقياد الأعمى!

    كلمة أخيرة: لماذا ننتظر مجيء الحُرية؟ ولا نُعلن أنفسنا أحراراً؟ الثورات الأخيرة تُثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أنه "قد توجد الثورة، ولا يوجد الوعي"!

    الهوامش:
    ــــــــــ
    (*) هذه المقالة مُهداة إلى كل أطباء وطبيبات المُستشفيات الحكومية في بلادي مصر، الذين ـ ورغم التواضع الشديد لما يحصلون عليه من رواتب ـ، رفضوا في نُبل ونخوة الاشتراك في الإضراب "الفئوي" الأخير، لنقابة أطباء مصر، وفضلوا خصم يوم الإضراب من رصيد أجازاتهم، وذلك لعجزهم عن مقابلة آلام مرضاهم، وأغلبهم من البسطاء، والطبقات الأكثر معاناة، بالأنانية واللامبالاة!
    (1) حول الفهم العربي المُشوه لمفهومي "البطولة" و"الاستقلال"، راجع: حازم خيري، "أبطال عظماء أم باعة لصكوك الحرية"، مقالة منشورة على الانترنت.
    (2) في أعقاب انتفاضة 18 & 19 يناير سنة 1977، عُقدت ندوة في التليفزيون العربي(المصري)، قام بإدارتها المذيع المصري الشهير أحمد فراج، وكان ضيوفها، هم: الشيخ محمد متولي الشعراوي وزير الأوقاف والدولة لشئون الأزهر، والمستشار علي علي منصور، والمفكر الإسلامي البهي الخولي، وصوفي أبو طالب رئيس جامعة القاهرة، وزكريا البري أستاذ الشريعة بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وصلاح الدين عبد الوهاب مستشار وزارة السياحة. ما جرى في الندوة من آراء يُعضد في مجمله زعمنا، بتوقف حكم شعوبنا على الانتفاضات، ليس على نزاهة قصدها، وإنما على ما تُحرزه من نجاح في بلوغ أهدافها! راجع نص الندوة: التليفزيون العربي، ندوة التليفزيون العربي: السلام الاجتماعي في الإسلام، (القاهرة: بدون ناشر، 1977). وحول الانتفاضة نفسها، راجع: أحمد بهاء الدين شعبان، 48 ساعة هزت مصر: رؤية شاهد عيان لوقائع وأحداث 18 & 19 يناير1977، (القاهرة: هفن للترجمة والنشر والبرمجيات، 2009).
    (3) حديثي عن الثورات العربية الأخيرة، سيكون لثورة 25 يناير في بلادي النصيب الأكبر منه، كوني تابعتها عن كثب، وأعرف عنها أكثر من غيرها.
    (4) بول كيندي، ترجمة عبد الوهاب علوب، القوى العظمى: التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 إلى 2000، (الكويت & القاهرة: دار سعاد الصباح & مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، 1993).
    (5) في مؤتمر استضافته الخارجية الأمريكية في يناير 2004، حول الوثائق الأمريكية لحرب 1967، بمناسبة الإفراج عن بعض الوثائق الأمريكية الخاصة بتلك الحرب، أشار عدد من المشاركين في مداخلاتهم إلى أن العلاقات المصرية الأمريكية في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت تتقدم كلما تجمد الصراع العربي/الإسرائيلي، دون أدني اهتمام يُذكر بمناهضة النظام الحاكم آنذاك للحرية. وبالمقابل كانت تلك العلاقات تتدهور كلما اشتعل ذلك الصراع، وهو ما عكسه الرئيس أنور السادات في السبعينيات من القرن العشرين حينما جعل دور مصر في حل الصراع العربي/الإسرائيلي مدخلاً للتقارب المصري الأمريكي، وهو أيضاً ما تعزز لاحقاً في ظل الرئيس مبارك! راجع: وليد محمود عبد الناصر، من بوش إلى أوباما: المجتمع والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، (القاهرة: مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع، 2010)، ص127-129. حجة أخرى تُعضد زعمي، أوردها عادل حمودة في جريدة الفجر، في عددها الصادر في 4/4/2011، بحديثه عن أن السادات أصبح عبئاً على الادارة الأمريكية ومشروع السلام العربي الإسرائيلي، رغم انه كان نفذ خطواته الأولى، لكن الدول العربية ـ خاصة المعتدلة منها على حد تعبير حمودة ـ طالبت برحيله كي تقبل بركوب قطار التسوية! كان الأمريكيون قد سعوا للضغط على السعودية كي تعيد علاقتها ـ المقطوعة بسبب كامب ديفيد ـ بمصر، تمهيداً لمستقبل أهدأ مع إسرائيل ولو بعد حين. وكان بطل هذه الضغوط سفير واشنطن السابق في القاهرة هيرمان أيلتس وزميله في الخارجية روبرت شتراوس. وحسب وثائق طهران، فإن واشنطن طلبت وقف الحملات الإعلامية المتبادلة بين مصر والسعودية وعدم سحب ودائع السعوديين من البنوك المصرية وترك القطاع الخاص السعودي يستثمر أمواله في مصر. وفي تلك الفترة التقى روبرت شتراوس بولي العهد السعودي وقتها فهد بن عبد العزيز الذي قال في ذلك اللقاء: "إننا مستعدون لقبول مطالب أمريكا بشرط إقصاء السادات عن حكم مصر وبيجين عن حكم إسرائيل"! وأمام دهشة الدبلوماسي الأمريكي راح الأمير فهد يشرح له طبيعة العرب الانفعالية التي تجعلهم يقبلون سياسة ما من شخص ما ولا يقبلونها من شخص آخر. والمقصود أن إزاحة السادات ستزيل الثأر الشخصي بينه وبين القادة العرب. وأنه سيذهب حاملاً معه كل الأوزار! وهو ما سيجعل من السهل عليهم الوقوف في طابور التسوية! ولكن شتراوس قال: "إن إقصاء بيجين عن حكم إسرائيل ممكن. التركيبة الديمقراطية تتيح ذلك بسهولة. أما إقصاء السادات عن حكم مصر فأمر غير ممكن لأكثر من سبب. إن السادات بوصفه رئيس أكبر دولة عربية أصبح عضواً فعالاً في المجتمعين الدولي والأمريكي ويساعد الولايات المتحدة في سياسة الانفراج الدولي، ثم انه لا يزال يتمتع بشعبية لا بأس بها في مصر. إنه أقوى الضعفاء في العالم العربي"! رحم الله القائل: حكام العرب محض أحجار على رقعة شطرنج، يُطاح بهم وبأنظمتهم حين ينتهي دورهم، ويخلو المسرح أمام غيرهم، ليلعب الدور نفسه، ويُمارس الخسة نفسها!
    (6) في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، بدأت الدول الغربية والمؤسسات الدولية الخاضعة لها في إنتاج سياسات جديدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء مفادها ربط اقتراب هذه الدول والمؤسسات أو بعدها عن الدول الأفريقية بمدى تبني هذه الدول لبرامج الإصلاح الاقتصادي والسياسي، التي تنطوي على التحول نحو اقتصاد السوق والأخذ بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، بعد أن كانت الدول الغربية تتجاهل غياب الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان في كثير من دول إفريقيا جنوب الصحراء، إبان اشتعال الحرب الباردة بين الشرق والغرب. ولقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية كالعادة في مقدمة القوى الدولية التي مارست ضغوطاً على إفريقيا جنوب الصحراء للأخذ بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، حيث أعلن أنتوني ليكAnthony Lake، مستشار الرئيس كلينتون للأمن القومي في مايو 1993، أنه لزاماً على دول إفريقيا جنوب الصحراء التحرك تجاه الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. للمزيد راجع: Todd J. Moss, "U.S. Policy and Democratization in Africa: The Limits of Liberal Universalism", The Journal of Modern African Studies, Vol. 33, No. 2, 1995, PP. 189-209. Larry Diamond, "Promoting Democracy in Africa: U.S. and International Policies in Transition", In John W. Harbeson & Donald Rothchild (eds), Africa in World Politics: Post Cold War Challenges, (London: Westview Press, 1995), PP.252-272.
    (7) المساندة الأمريكية لمبدأ الاستقلال "الزائف" لدولة "ما بعد الاستعمار" في عالمنا العربي، شديدة التعارض مع الزعم الأمريكي بالحرص على حماية الكرامة الإنسانية في شتى أنحاء المعمورة. والتالي أهم دوافع المساندة الأمريكية، والغربية عموماً، لمبدأ الاستقلال "الزائف" لدولة "ما بعد الاستعمار" في عالمنا العربي: 1ـ في إطار الحرب الباردة بين القطبين الأعظم، سعت الولايات المتحدة الأمريكية للوقوف في وجه المد الشيوعي في العالم العربي، من خلال سعيها لاستقطاب الأنظمة العربية الحاكمة. ليس ذلك فحسب، فقد دعمت الولايات المتحدة الأنظمة الموالية لها، واقترن حرصها على حماية مصالحها في العالم العربي، بعملها على تجنب اندلاع أية مواجهات مع الاتحاد السوفيتي. فعلى خلاف الوضع في أوروبا، حيث وجدت خطوط فاصلة بين مناطق نفوذ القطبين الأعظم، افتقدت منطقة الشرق الأوسط مثل هذه الخطوط الفاصلة، مما عظم إمكانية اندلاع مواجهة عالمية بين القطبين الأعظم في أحيان عديدة. وفي إطار سعيها المحموم لاستقطاب الأنظمة العربية وضمها لمعسكرها، ساندت الولايات المتحدة مبدأ الاستقلال "الزائف" للدول العربية، في محاولة من جانبها لاسترضاء وإغراء تلك الأنظمة، على غرار نهجها مع الأنظمة الحاكمة في دول أفريقيا جنوب الصحراء، قبل انتهاء الحرب الباردة واختفاء الخطر الشيوعي من القارة الأفريقية. 2ـ أضافت الثورة الاقتصادية، التي أثارها اكتشاف النفط في العالم العربي، دافعاً آخر للولايات المتحدة لمساندة مبدأ الاستقلال الزائف في العالم العربي، لاعتقادها بارتباطه بحماية مصالحها الاقتصادية، الماثلة في ضمان حصولها على النفط اللازم لها ولحلفائها، بأسعار مواتية. واعتقادها كذلك بارتباط الاستقلال الزائف بتكريس أنماط استهلاكية، تسمح بتحويل العالم العربي إلى سوق رائجة للمنتجات الأمريكية، خاصة دوله المنتجة للنفط، فالسوق العربية واحدة من الأسواق الأسرع نمواً على مستوى العالم. بالإضافة إلى اعتقادها بارتباط الاستقلال الزائف باستدامة الحاجة العربية للخبرات البشرية الأمريكية، وتدفق الاستثمارات العربية في أراضيها، على نحو يسمح باستغلال الأموال المدفوعة ثمناً للنفط العربي. 3ـ دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1948، على تأكيد التزامها الكامل بضمان أمن ورفاهية دولة إسرائيل، باعتبارها ركيزة للإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة. وبالفعل، لم تأل الولايات المتحدة جهداً للوفاء بالتزاماتها تجاه إسرائيل، وهو ما بدا واضحاً في أمور عديدة، منها تزويدها باحتياجاتها التنموية والدفاعية. وأتت المساندة الأمريكية للاستقلال الزائف للدول العربية في الإطار نفسه، لاعتقاد أمريكي ـ ثبتت صحته ـ مفاده أن الاستقلال الزائف من شأنه تكريس تخلف وضعف العالم العربي، بصورة تضمن إجهاض مساعيه، لاستعادة الحق العربي المغتصب . وقد أثبت التاريخ صدق الحدس الأمريكي، فقد باءت المحاولات العربية الرامية لاستعادة الحق العربي بالفشل. إلى جانب نجاح الولايات المتحدة في استمالة بعض الأنظمة العربية لممالأة إسرائيل، وإن أعلنت خلاف ذلك. 3ـ شكل تهميش المجتمعات العربية الإسلامية أحد أهم دوافع مساندة الولايات المتحدة لمبدأ الاستقلال العربي الزائف، باعتباره السبيل الأنسب، لتكريس الأوضاع المتردية في العالم العربي، الذي يشكل ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ خطراً داهماً على الغرب، لاعتناق أغلبية أبنائه للإسلام. وهو ما عبر عنه صموئيل هنتنجتون صراحة في كتابه صدام الحضارات بقوله: "يقول بعض الغربيين بما فيهم الرئيس كلينتون إن الغرب ليس بينه وبين الإسلام أي مشكلة، و إنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين. أربعة عشر قرنا من التاريخ تقول عكس ذلك. العلاقات بين الإسلام والمسيحية سواء الأرثوذوكسية أو الغربية كانت عاصفة غالبا. كلاهما كان الآخر بالنسبة للآخر. صراع القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة، إذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمر والعميق بين الإسلام والمسيحية. أحيانا، كان التعايش السلمي يسود، غالبا كانت العلاقة علاقة تنافس واسع مع درجات مختلفة من الحرب الباردة..عبر القرون كانت خطوط العقيدتين تصعد وتهبط في تتابع من نوبات انبعاث مهمة، فوقفات، وانتكاسات. الاكتساح العربي الإسلامي في اتجاه الخارج من بداية القرن السابع إلى منتصف القرن الثامن أقام حكماً إسلاميا في شمال أفريقيا وأيبيريا والشرق الوسط وفارس وشمال الهند، ولمدة قرنين تقريبا كانت خطوط التقسيم بين الإسلام والمسيحية مستقرة. بعد ذلك، في أواخر القرن الحادي عشر، أكد المسيحيون سيطرتهم على البحر الأبيض المتوسط الغربي، غزوا صقلية، واستولوا على طليطلة، وفى 1095 بدأت المسيحية الحملات الصليبية، ولمدة قرن ونصف القرن حاول الحكام المسيحيون ـ مع نجاح متناقض ـ أن يقيموا حكما مسيحيا في الأرض المقدسة والمناطق المجاورة في الشرق الأدنى، وخسروا آخر موضع لقدم هناك في عام 1291، في نفس الوقت كان الأتراك العثمانيون قد ظهروا على المسرح. أضعفوا بيزنطة في البداية، ثم غزوا معظم البلقان بالإضافة إلى شمال أفريقيا، واستولوا على القسطنطينية في 1453 وحاصروا فيينا في 1529..الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك، وقد فعل ذلك مرتين على الأقل"! راجع: Michael Sterner, "The Middle East and the Superpowers: The View from Washington", Paper presented to The Middle East and the Superpowers: 25 th Near East Conference, Princeton university, Held on October 25 – 26, 1979, PP.12- 30. وأيضاً: صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات - إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998) ، ص 338 – 339.
    (8) حول وجهة النظر هذه، راجع: لورينا باريني(محرر)، ترجمة نانيس حسن عبد الوهاب، دول وعولمة: استراتيجيات وأدوار، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2007).
    (9) روبرت أ. باستور(مُحرر)، ترجمة هاشم أحمد محمد، رحلة قرن: كيف شكلت القوى العظمى بنية النظام الدولي الجديد، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010).
    (10) صامويل هنتنجتون، م. س. ذ.
    (11) توماس ل. فريدمان، ترجمة ليلى زيدان، السيارة ليكساس وشجرة الزيتون: محاولة لفهم العولمة، (القاهرة: الدار الدولية للنشر والتوزيع، 2002). وللمزيد من وجهات النظر المتباينة إزاء "العولمة"، راجع: ج. جالبرث & س. منشيكوف، ترجمة شهرت العالم، التعايش بين الرأسمالية والشيوعية، (القاهرة: حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، كتاب الأهالي، رقم 33،1991). ريتشارد روزكرانس، ترجمة عدلي برسوم، توسع بلا غزو: دور الدولة الافتراضية في الامتداد للخارج، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 2001). كلاوس موللر، ترجمة محمد أبو حطب خالد، العولمة، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010). كريستوف أجبتون، ترجمة طارق كامل، العالم لنا: العولمة الليبرالية والحركات الاجتماعية المناهضة لها، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006). أوتفريد هوفه، ترجمة عبد الحميد مرزوق، مواطن الاقتصاد & مواطن الدولة & المواطن العالمي[الأخلاق السياسية في عصر العولمة]، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010). أنطوني كينج(محرر)، ترجمة شهرت العالم(وآخرين)، الثقافة والعولمة والنظام العالمي، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2001). جاري بيرتلس(وآخرون)، ترجمة كمال السيد، جنون العولمة: تفنيد المخاوف من التجارة المفتوحة، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1999). سمير أمين، مناخ العصر: رؤية نقدية، (القاهرة & لندن & بيروت: سينا للنشر & مؤسسة الانتشار العربي، 1999). جون جراي، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة & مكتبة الشروق، 2000). محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الاسلام اليوم، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2000). هانس ـ بيتر مارتين & هارالد شومان، ترجمة عدنان عباس علي، فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، رقم 238، أكتوبر 1998).
    (12) مُصطلح "الدولة" مُشتق من الأصل اللغوي العربي "دول"، بمعانيه الأصلية "الاستدارة، التحول، التغير، التغيير، التتابع كل في أثر الأخر". ويُستخدم على سبيل المثال عند الحديث عن تحول الفصول، وورد في القرآن الكريم(سورة آل عمران، آية رقم 140) للحديث عن تداول الأيام الحلوة والأيام المُرة بين الناس. واستخدم في مرحلة مبكرة جداً في اللغة العربية في معنى قريب من المعنى الاصطلاحي الموجود في الانجليزية للكلمة Turn، وهناك مواضع عديدة في الشعر العربي القديم حيث تشير الدولة إلى تحول شخص ما إلى النجاح والسلطة أو إلى دائرة الانتباه والظهور فحسب. وفي صيغة "دولة" المذكورة في القرآن (سورة الحشر، آية رقم 7) تعني بوجه عام امتلاك ما كان متداولاً بين عدد من الأشخاص. هذا المعنى وتعبيرات أخرى متشابهة تستند في الحقيقة على صورة عادية لدوران عجلة الحظ والدوران البطيء لعجلة القدر التي ترفع رجلاً أو عدداً من الرجال وتخفض رجلاً أو عدداً آخر من الرجال. ويُؤرخ الاستخدام السياسي عموماً لكلمة الدولة من ظهور الخلافة العباسية في منتصف القرن الثامن الميلادي/الثاني الهجري، فقد كان للأمويين دورهم والآن جاء دور بني العباس. وهناك العديد من النصوص في هذه الفترة تعبر عن هذا المفهوم وتستخدم هذه المصطلحات، وعندما يلاحظ ابن المقفع أن "الدنيا دول" فمن الواضح أنه لا يقصد أن العالم يتكون من حكومات أو أسر حاكمة، ويمكن أن تعني العبارة في العربية الحديثة المعنى الذي يقصده وهو أن الدنيا مليئة بالصعود والهبوط والتقلبات. وقد استغرق دور العباسيين فترة طويلة من الزمن، وأصبحت كلمة "دولة" عن طريق سلسلة من الانتقال التدريجي تؤدي معنى البيت العباسي الحاكم ثم بشكل أكثر عمومية الأسرة ثم أخيراً الدولة بمعناها المعاصر State، وتطور الكلمة من معناها الأولي "الدوران حول" إلى مفهوم حكومي عالمي بمعنى شديد الخصوصية أمر لا نظير له! ولسوف أستخدم كلمة الدولة في هذه المقالة بمعناها القديم والحديث، حسب الحاجة! استخدمها بمعنى State عند الحديث عن الأقطار العربية كل على حدة(اليمن، مصر، قطر، تونس،...الخ)! أما المعنى القديم للدولةTurn ، فسوف أستخدمه للتعبير عما تشي به ثوراتنا الأخيرة، أعني إمكانية انتقال مجتمعاتنا العربية من حال إلى حال، فالدور على ما يبدو قد حان لمُغادرة شخصيات وتوجهات بعينها للسلطة وحلول شخصيات وتوجهات أخرى مكانها. بعبارة أدق، أستخدم مصطلح الدولة هنا للتمييز بين دولة "ما بعد الاستعمار" في العالم العربي، والتي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وحتى وقوع هجمات 11سبتمبر2001، وبين الدولة التي يتم تهجير مجتمعاتنا العربية إليها الآن، والتي أقترح تسميتها "دولة ما بعد هجمات11سبتمبر"! وللمزيد عن مفهوم الدولة في حضارتنا الإسلامية، راجع: برنار لويس، ترجمة إبراهيم شتا، لغة السياسة في الإسلام، (قبرص: دار قرطبة للنشر والتوثيق والأبحاث، 1993).
    (13) بطرس بطرس غالي & محمود خيري عيسى، مدخل إلى السياسة، (القاهرة: دار وهدان للطباعة والنشر، 1979)، ص153-294.
    (14) مارسيل ميرل، ترجمة حسن نافعة، سوسيولوجيا العلاقات الدولية، (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1986).
    (15) دار الكاتب العربي، وثائق النكسة تحت أضواء التجربة المرة، (بيروت: دار الكاتب العربي، 1969)، ص193. وفي الصفحة رقم 178 من الكتاب الوثائقي نفسه، وتحت عنوان "رجعت ريمه لعادتها القديمة"، نقل الكتاب عن عدد جريدة الأهرام، الصادر في 4/5/1968، هذا الخبر: "بإجماع 99.989% نال برنامج 30 مارس موافقة المواطنين وتأييدهم، في الاستفتاء الذي جرى يوم أول أمس"!
    (16) راجع: محمد فايق، عبد الناصر والثورة الأفريقية، (بيروت: دار الوحدة للطباعة والنشر، 1984). حلمي شعراوي، الفكر السياسي والاجتماعي في أفريقيا، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010). محمد عبد العزيز إسحاق، نهضة أفريقية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971). مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج، (القاهرة: مكتبة دار العروبة، 1957).
    (17) صامويل هنتنجتون، ترجمة عبد الوهاب علوب، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، (الكويت & القاهرة: دار سعاد الصباح & مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، 1993).
    (18) في كتابه "الموجة الثالثة"، يضع هنتنجتون ما يمكن أن نسميه إما "تأثير العرض العملي" أو "العدوى" أو "الانتشار" أو "المحاكاة" أو "كرات الثلج" بل و"ظاهرة الدومينو"، كأحد العوامل التي ساعدت على قيام الموجة الثالثة من التحول إلى الديمقراطية في العالم الحديث. فالتحول الديمقراطي الناجح في دولة يشجع على التحول الديمقراطي في دول أخرى، إما لأنها جميعاً تواجه مشكلات متماثلة أو اعتبار التحول الديمقراطي دواء لكل مشكلاتها، أو لأن الدولة التي تحولت إلى الديمقراطية على درجة من القوة أو تعد مثالاً سياسياً وثقافياً يُحتذى. ويرى البعض أن تأثير "المظاهرات" له أهمية نسبية بين الأسباب البيئية الخمسة التي شاعت في تحليلها. وقد أوضحت الدراسات الإحصائية للانقلابات وسائر الظواهر السياسية وجود نمط العدوى ولو في بعض الظروف على الأقل.
    (19) حازم خيري، تهافت الآخر، كتاب منشور على الانترنت.
    (20) موجة التحول الديمقراطي، فيما يرى هنتنجتون، في كتابه "الموجة الثالثة"، عبارة عن مجموعة من حركات الانتقال من النظام غير الديمقراطي إلى النظام الديمقراطي، تحدث في فترة زمنية محددة وتفوق في عددها حركات الانتقال في الاتجاه المضاد خلال نفس الفترة الزمنية. كما تشمل الموجة عادة تحولاً ليبرالياً أو تحولاً ديمقراطياً جزئياً في النظام السياسي، ولا يتحول إلى الديمقراطية تحولاً تاماً. وفيما يرى هنتنجتون، حدثت ثلاث موجات من التحول إلى الديمقراطية في العالم الحديث. وكان لكل من هذه الموجات أثرها في عدد صغير نسبياً من الدول، وفي كل موجة كانت تحدث بعض حركات الانتقال باتجاه اللاديمقراطية. كما لم تكن كل حركات التحول إلى الديمقراطية تحدث في أثناء موجات ديمقراطية، فالتاريخ لا يتصف بوحدة الاتجاه! فكانت كل من الموجتين الأوليتين من التحول إلى الديمقراطية تليها موجة مضادة عادت فيها الدول إلى الحكم اللاديمقراطي. وأنه لمن العسف أن نحاول تحديد لحظة محددة حدث فيها تحول نظام ما إلى الديمقراطية، كما يصعب أيضاً تحديد لحظة معينة لبداية موجة من التحول إلى الديمقراطية أو عنها. ولكن من المفيد لنا ـ والكلام لا يزال لهنتنجتون ـ أن نتعسف ونحدد تواريخ موجات التحولات السياسية، كما يلي: 1- الموجة الطويلة الأولى من التحول إلى الديمقراطية 1828-1926. الموجة المضادة الأولى 1922-1942. 2- الموجة القصيرة الثانية من التحول إلى الديمقراطية 1943-1962. الموجة المضادة الثانية 1958-1975. 3- الموجة الثالثة من التحول إلى الديمقراطية 1974- (لم يحدد هنتنجتون لهذه الموجة نهاية محددة)!
    (21) في بداية سنة 1992 سافر شريف حتاته إلى الولايات المتحدة بعد أن تعاقد هو وزوجته نوال السعداوي على العمل كأستاذين زائرين في جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا. كان التعاقد معهما لمدة سنة ولكن العقد تجدد في الجامعة مدة امتدت خمس سنوات. هكذا عاش حتاته والسعداوي لمدة خمس سنوات في أحد أهم المراكز الثقافية والتعليمية في القارة الأمريكية، في مؤسسة تساهم في صنع الكوادر، والايديولوجيات، وتدرس الظواهر المتعلقة بعصرنا، ومنها تلك الظاهرة التي اصطلح على تسميتها "العولمة". هذا الكتاب مكون من الدراسات والمقالات التي كتبها حتاته في الفترة الممتدة بين1993 و1998، قام بتجميعها وتنسيقها في محاولة لتقديم ما يعتقد المفكر المصري انها نظرة أوضح وأشمل لظاهرة العولمة، وتأثيرها على حياة المصريين، وعلى المنطقة التي نحيا فيها. راجع: شريف حتاته، العولمة والإسلام السياسي، (القاهرة: حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، كتاب الأهالي، رقم 65، 1999).
    (22) سمير الخليل، جُمهورية الخوف: عراق صدام حسين، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1991).
    (23) للمزيد راجع: ما يكل أ. بالمر، ترجمة نبيل زكي، حراس الخليج: تاريخ التوسع الدور الأمريكي في الخليج العربي1833-1992، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1995).
    (24) الولايات المتحدة والعراق وقفا أمام مواجهة يائسة محتومة، وكل منهما كان يحاول تجنيد الحلفاء وحشد القوات في ما أسماه العسكريون الأمريكيون "مسرح العمليات الكويتي"، الذي كان يضم منطقة الكويت وما حولها على رأس الخليج العربي. ورغم جهود صدام حسين القصوى، فإن نداءاته الداعية إلى شن حرب مقدسة ضد الغرب وحلفائه من العرب لم تكتسب سوى القليل من الأنصار. فقد حصل صدام على تأييد ضئيل ولكنه صريح من اليمن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكوبا، والأردن. ووقفت القوات العراقية في الكويت المحتلة وحدها، باستثناء حفنة من الميليشيات الفلسطينية التي تم تجنيدها في مدينة الكويت. أما الولايات المتحدة، فقد كانت أكثر نجاحاً بكثير في بناء الائتلاف ليس في الغرب فقط، بل أيضاً بين صفوف العرب وفي أنحاء العالم الثالث. وضمنت الولايات المتحدة مساندة المجتمع الدولي بما فيه الاتحاد السوفيتي، والذي بدونه كان مجلس الأمن سيصبح عاجزاً. واقترب دور الأمم المتحدة في الأزمة من ذلك الدور كان يتصوره مؤسسو المنظمة إبان الحرب العالمية الثانية. وانضمت 38 دولة إلى الائتلاف ضد العراق، وأرسلت قوات وطائرات وسفناً وفرقاً طبية وأموالاً لمساندة الجهود الجارية. راجع: نفس المرجع، ص 172.
    (25) راجع نص المذكرة: Rebuilding America Defense: Strategies, Forces and Resources for a New Century, A Report of The Project for the New American Century, September 2000.
    (26) محمود ممداني، ترجمة فخري لبيب، المسلم الصالح..والمسلم الطالح: أمريكا وصناعة الحرب الباردة وجذور الإرهاب، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009).
    (27) Patrick E. Tyler, U.S. Strategy Plan Calls for Insuring No Rivals Develop: A One –Superpower World, The New York Times, March 8,1992.
    (28) في 11يناير1949، نشرت الصحف بياناً للشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، استنكر فيه اغتيال رئيس الحكومة المصرية آنذاك النقراشي باشا. وجاء في بيان البنا ما نصه: "فما كانت الجريمة ولا الإرهاب ولا العنف من وسائلها ـ يقصد دعوة جماعة الإخوان ـ، لأنها تأخذ عن الإسلام وتنهج نهجه وتلتزم حدوده". استخدام البنا لمصطلحي "العنف" و"الإرهاب"، يؤكد معرفة من قبلنا بهما. راجع النص الكامل لبيان البنا في: عصام حسونة، شهادتي: 23يوليو..وعبد الناصر، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1990)، ص56-57.
    (29) وليد محمود عبد الناصر، م. س. ذ.
    (30) اعتمد الكاتب في رصده لأحداث 11 سبتمبر على الرواية الأمريكية، ليس لكونها الأكثر مصداقية، ولكن لكونها الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث راجع: National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, The 9/11 Commission Report: Final Report of the National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, (New York: W. W. Norton, 2004).
    (31) راجع: رولان جاكار، ترجمة منار رشدي، الاسم! أسامة بن لادن: الملف السري لأكثر إرهابي يبحث عنه العالم، (القاهرة: مجموعة الشرقاوي الدولية المحدودة، 2002).
    (32) راجع على سبيل المثال: منصور معدل(محرر)، ترجمة عبد الحميد عبد اللطيف، مسح القيم العالمي: القيم كما تدركها جماهير العالم الإسلامي والشرق الأوسط، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010). عمر عبد الرحمن، كلمة حق: مرافعة الدكتور عمر عبد الرحمن في قضية الجهاد، (القاهرة: دار الاعتصام، بدون تاريخ). عبد الله عزام، العقيدة وأثرها في بناء الجيل، (صنعاء & بيروت: مكتبة الجيل الجديد & دار بن حزم، 1990). أيمن الظواهري، الولاء والبراء: عقيدة منقولة وواقع مفقود(2002)، منشور على الانترنت. عبد اللطيف المناوي، شاهد على وقف العنف: تحولات الجماعة الإسلامية في مصر، (القاهرة: أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي، 2005). أسامة إبراهيم حافظ & عاصم عبد الماجد محمد، مبادرة وقف العنف: رؤية واقعية..ونظرة شرعية، (القاهرة: مكتبة العبيكات، سلسلة تصحيح المفاهيم، 2004). ضياء رشوان(محرر)، المراجعات من الجماعة الإسلامية إلى الجهاد، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، 2008). سيد قطب، معالم في الطريق، (القاهرة: بدون ناشر، 1968). مصطفى مشهور، قضية الظلم في ضوء الكتاب والسنة، (القاهرة: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، 1986). محمد عمارة، الفريضة الغائبة: عرض وحوار وتقييم، (القاهرة: دار ثابت للنشر والتوزيع، 1982). عمر التلمساني، الحكومة الدينية، (القاهرة: دار الاعتصام، 1985). مجموعة من الباحثين في المكتب الإعلامي للإخوان المسلمين، حماة..مأساة العصر، (بدون بلد: من منشورات التحالف الوطني لتحرير سورية، بدون تاريخ). سيفيرين لابا، ترجمة حمادة إبراهيم، الإسلاميون الجزائريون بين صناديق الانتخاب والأدغال، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2003). إيفون يزبك حداد(محرر)، المسلمون في أمريكا، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1994). خالد مشعل، حركة حماس وتحرير فلسطين: حوارات مع غسان شربل، (بيروت: دار النهار للنشر، 2006). لجنة المحامين لحقوق الإنسان، الإسلام والعدالة: مناقشة لمستقبل حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، (نيويورك: لجنة المحامين لحقوق الإنسان، 1997). خالد أبو الفضل(وآخرون)، ترجمة سامر زيتون، مكانة التسامح في الإسلام، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006). ريموند ويليام بيكر، ترجمة منار الشوربجي، إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد، (عمان: المركز العلمي للدراسات السياسية، 2009). أحمد كمال أبو المجد، رؤية إسلامية مُعاصرة: إعلان مبادئ، (القاهرة: دار الشروق، 1991). يوسف القرضاوي، في فقه الأولويات: دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة، (القاهرة: مكتبة وهبة، 1996). عبد الرزاق أحمد السنهوري، ترجمة نادية عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989). المنظمة المصرية الكندية لحقوق الإنسان & منظمة أقباط الولايات المتحدة، الإعلان المصري: ورقة عمل من أجل مصر ديمقراطية حديثة، (مونتريال & واشنطن: المنظمة المصرية الكندية لحقوق الإنسان & منظمة أقباط الولايات المتحدة، 2002). أبو الأعلى المودودي & حسن البنا & سيد قطب، الجهاد للأئمة الثلاثة، (القاهرة: المختار الإسلامي للنشر والتوزيع، 1995). الإخوان المسلمون، موجز عن الشورى في الإسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم، (القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، مارس1994) ـ لم أطلع على بيان الإخوان، واعتمدت في معلوماتي عنه على هذا المرجع: عبد العاطي محمد أحمد، الحركات الإسلامية في مصر وقضايا التحول الديمقراطي، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1995) ـ.
    (33) في تصديره لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، أكد جورج بوش(الابن) أن بلاده ستعمل جاهدة لترجمة لحظة التفوق الأمريكي إلى عقود من السلام والرفاهية والحرية، مُسترشدة ـ في سبيل ذلك ـ بالمبادئ التالية: 1ـ إعلاء الطموحات الخاصة بالكرامة الإنسانية. 2ـ تقوية التحالفات الرامية لهزيمة الإرهاب العالمي والعمل لمنع الهجمات الإرهابية ضد الولايات المتحدة الأمريكية وأصدقائها. 3ـ العمل مع الآخرين لإنهاء الصراعات الإقليمية. 4ـ منع أعداء الولايات المتحدة من استخدام أسلحة الدمار الشامل لتهديد الأمريكيين أو حلفائهم أو أصدقائهم. 5ـ تدشين عصر جديد من النمو الاقتصادي العالمي عبر الأسواق والتجارة الحرة. 6ـ توسعة دائرة التنمية من خلال فتح المجتمعات وبناء البنية التحتية اللازمة للبنايات الديمقراطية. 7ـ تطوير أجندات للفعاليات التعاونية مع المراكز الأخرى الرئيسية للقوة العالمية. 8ـ إحداث تغييرات في مؤسسات الأمن القومي الأمريكي لمواجهة تحديات وفرص القرن الواحد والعشرين. راجع: United States of America, The National Security Strategy of the United States of America, White House, September 2002 .
    (34) راجع: مادلين أولبرايت، ترجمة عمر الأيوبي، مذكرة إلى الرئيس المُنتخب: كيف يمكننا استعادة سمعة أميركا ودورها القيادي، (بيروت & القاهرة: الدار العربية للعلوم ناشرون & مكتبة مدبولي، 2008)
    (35) المعروف أن الرئيس بوش(الابن) مجد نفسه وقرن أعماله بالمشيئة الإلهية، وهو ما أدى إلى نتائج كارثية, نالت بشدة من سمعة الولايات المتحدة! ولنتذكر مقابلة أولبرايت "الشهيرة" عام 1996، في برنامج "60 دقيقة" الذي تقدمه "ليزلي ستال"، وكانت حينها مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة. ففي ردها على سؤال مقدمة البرنامج حول النصف مليون طفل عراقي الذين ماتوا بسبب الحصار.."إن عدد الأطفال الذين ماتوا بسبب الحصار، كما تعلمين، يفوق الذين ماتوا في هيروشيما، فهل الأمر يستحق ذلك؟"، أجابت مادلين أولبرايت في قسوة ولا مبالاة، لا تُحسد عليهما: "أعتقد أنه خيار صعب .. لكن الأمر يستحق ذلك"!
    (36) الشرق الأوسط الكبير، هو مصطلح أطلقته إدارة الرئيس الأمريكيجورج دبليو بوشعلى منطقة واسعة تضم كامل العالم العربيإضافة إلىتركيا وإسرائيل وإيران وأفغانستانوباكستان. الإدارة الأمريكية أطلقت المصطلح في إطار مشروع شامل يسعى إلى تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حسب تعبيرها، في المنطقة. وقد أعلن عن نص المشروع فيمارس2004بعد أن طرحته الإدارة الأمريكية علىمجموعة الدول الصناعية الثماني. (ويكيبيديا) صحيفة الحياة اللندنية نشرت نص المشروع، في عددها الصادر في 13 فبراير 2004، ونقلته عنها CNN العربية في 1/3/2004.
    (37) نقلاً عن: السيد يسين، إعادة اختراع السياسة من الحداثة إلى العولمة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006). ص177-181.
    (38) سعد الدين إبراهيم، "هل حقيقة سيقفز الإخوان على الثورة؟"، جريدة المصري اليوم، 23/4/2011.
    (39) المكتب الإعلامي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، الكتاب الأبيض: عملية الحسم في قطاع غزة اضطرار لا اختيار، (فلسطين: المكتب الإعلامي ـ حركة المقاومة الإسلامية حماس، 2007).
    (40) راجع الهامش رقم (31).
    (41) محمد أبو زيد الفقي، المذخورية: الفكر المستقبلي عند المسلمين، (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1995).
    (42) "والسؤال ينبغي إثارته بالنسبة لكتابه رؤى عالمية، هو ما سر تفرد كتابات الدكتور السيد أمين شلبي في ميدان العلاقات الدولية؟ والإجابة أن هذا السر يكمن في أنه قارئ ممتاز لتحولات النظام الدولي، ومطلع اطلاعاً واسعاً على إنتاج أبرز مراكز البحوث الإستراتيجية في العالم". من مقدمة السيد يسين لهذا الكتاب: السيد أمين شلبي، رؤى عالمية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010)، ص7-9.
    (43) نقلاً عن (ويكيبيديا). هناك أيضاً اختطاف قوات الأمن السورية عام 2001، لرفاعي أحمد طه، أثناء مروره بسوريا، قادماً من الخرطوم. عدة وساطات حاولت التدخل لإطلاق سراحه، ونظراً لبطء الإجراءات فقد ظل في أحد السجون بدمشق إلى أن وقعت هجمات 11سبتمبر2001. ومن ثم أسرعت السلطات السورية بتسليمه إلى مصر، ومن ثم فقد فوتت على الجهات الوسيطة فرصة إطلاق سراحه. وهكذا اتخذت السلطات السورية من تسليم رفاعي إلى الأمن المصري قرباناً لتبييض ساحتها لدى الأمريكان الذين كانوا في حالة هياج وسعار مخيف! رفاعي مصري، من مواليد 1954، وهو أمير الجماعة الإسلامية بكلية التجارة جامعة أسيوط1977-1980. رفاعي عضو مؤسس لمجلس شورى الجماعة الإسلامية، سافر إلى أفغانستان عام 1987، وأسس مع طلعت فؤاد قاسم ومحمد الاسلامبولي مجلس شورى الجماعة في الخارج وأصدروا نشرة المرابطون لتعبر عن مواقف الجماعة. راجع: عبد اللطيف المناوي، م. س. ذ، ص280-303.
    (44) راجع مثلاً: جيفري ملنيك، ترجمة عزة الخميسي، 11سبتمبر2001 ثقافة أمريكية جديدة: إعادة بناء أمريكا، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2001). ناعوم تشومسكي، 11 سبتمبر، (القاهرة: ميريت للنشر والمعلومات، 2002).
    (45) نقلاً عن: شوقي جلال، العقل الأميركي يُفكر: من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010).
    (46) راجع في هذا الخصوص Report of the Advisory Group on Public Diplomacy for the Arab & Muslim, Changing Minds Winning Peace: A New Strategic Direction for U.S. Public Diplomacy in the Arab & Muslim World, October 1, 2003. Submitted to the Committee on Appropriation, U.S. House of Representatives.
    (47) جلال أمين، عصر التشهير بالعرب والمسلمين: نحن والعالم بعد11سبتمبر2001، (القاهرة: دار الشروق، 2007).
    (48) راجع: ياسر بكر، الإعلام البديل ON LINE، (القاهرة: مطابع حواس، 2010). وأيضاً: نهى ميللر، ترجمة حنان عبد الرحمن الصفتي، صناعة الأخبار العربية، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010).
    (49) راجع على سبيل المثال: أحمد كمال أبو المجد، م. س. ذ. يوسف القرضاوي، م. س. ذ. الإخوان المسلمون، م. س. ذ.
    (50) على سبيل المثال، وفيما يخص مصر: دينا شحاته(محرر)، عودة السياسة: الحركات الاحتجاجية الجديدة في مصر، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، 2010)،
    (51) راجع: شهيدة الباز، المنظمات الأهلية العربية على مشارف القرن الحادي والعشرين: مُحددات الواقع وآفاق المستقبل، (القاهرة: لجنة المتابعة لمؤتمر التنظيمات الأهلية العربية، 1997). أماني قنديل، الموسوعة العربية للمجتمع المدني، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008). موسى شتيوي(وآخرون)، التطوع والمتطوعون في العالم العربي: دراسات حالة، (بدون بلد: الشبكة العربية للمنظمات الأهلية، بالتعاون مع مؤسسة ساساكاوا اليابانية، 2000). فرانك آدلوف، ترجمة عبد السلام حيدر، المجتمع المدني: النظرية والتطبيق السياسي، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009). مارينا أوتاوي & توماس كاروذرز، ترجمة محمود بكر، المعونة الأجنبية لدعم الديمقراطية: هل هي تمويل لنشر الفضيلة؟، (القاهرة & واشنطن: مركز الأهرام للترجمة والنشر & مؤسسة كارنيجي للسلم الدولي، 2006).
    (52) راجع: جراهام إي فوللر & إيان أو. ليسر، ترجمة شوقي جلال، الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1997). وأيضاً: أوليفيه روا، ترجمة لارا معلوف، عولمة الإسلام، (بيروت & لندن: دار الساقي، 2003).
    (53) راجع في هجاء شاعر عربي لبوش: عبد الحميد زقزوق، منتظر الزيدي: أول ديوان شعر في العالم يصدره شاعر عن واقعة ضرب بوش بالحذاء في العراق بتاريخ 16/12/2008، (القاهرة: مطابع دار أخبار اليوم، 2009).
    (54) محمد سيد طنطاوي، تأملات في خطاب الرئيس باراك أوباما من منظور إسلامي، (القاهرة: مطابع روزأليوسف، هدية مجلة الأزهر المجانية لشهر شعبان، 1430هـ).
    (55) "علينا أن نربى أبنائنا ليكونوا مثل الشباب المصري"، بهذه الكلمات أعرب الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن انبهاره الشديد بثورة 25 يناير في مصر. (ويكيبيديا، نقلاً عن جريدةالمصري اليوم17/2/2011).
    (56) جريدة المصري اليوم، 12/5/2011. نقلاً عن نيويورك تايمز، الصادرة في 11/5/2011 [ وقد نبهني إلى هذا الخبر، وزودني بالكثير من المعلومات القيمة في هذا الخصوص، المفكر الكبير جورج شمالي www.ulinet.org، فإلى سيادته الشكر كل الشكر] راجع: Mark Landler, Obama Seeks Reset in Arab World, The New York Times, May11,2011.
    (57) ما أشبه الليلة بالبارحة! "ميدان التحرير" هو الاسم الذي أطلق على أشهر ميادين مصر بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952! حالة من التوهج والتألق عاشها المصريون في ميدان التحرير حين رددت الملايين المحتشدة منهم وراء اللواء محمد نجيب قسم التحرير! بدا الأمر حينها وكأن المصريون بهذا القسم يتطهرون ومعهم المكان الذى صار جزء لا يتجزأ من تاريخهم الوطني شاهداً على ما مضى ومشاركاً في ما هو قادم، ردد المصريون قسم التحرير وراء القائد العام للقوات المسلحة في الميدان قائلين: "اللهم إنك تحب الأقوياء وتكره المستضعفين وتنشر رحمتك على الذين يؤثرون الموت العزيز في سبيل الحرية على الحياة الذليلة في مجال الاستعباد. اللهم وإنك قريب ترى وتسمع وإنا لنقسم بذاتك العلية على أن نعمل ما في وسعنا لإرساء قواعد الحياة المقبلة لوطننا المفدى على أصول محررة من العبودية، منزهة عن الهوى، موصولة بالحق والعدل. وأن نبذل في سبيل ذلك كل ما تقتضيه مصلحة أمتنا ويبغيه شرف بلدنا، وأن يكون شعارنا دائماً: الاتحاد والنظام والعمل. اللهم فاشهد وأنت خير الشاهدين". للمزيد، راجع: العدد التذكاري الصادر بمناسبة ثورة 25 يناير، سلسلة أيام مصرية، رقم العدد40/2011م، وعنوانه: [ميدان التحرير في ذاكرة التاريخ].
    (58) حسن حنفي، "عذراً..شعب مصر"، www.alazma.com، 13 فبراير2011. وفي السياق نفسه، يأتي حديث رمضان بسطويسي أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس عن الثورة، والذي نشرته جريدة الأهرام تحت عنوان "سر الثورة يكمن في احترام الصمت بدلاً من ثرثرة الهواء". في ختام حديثه، ورداً على سؤال حول ما إذا كان سيشرع في عمل كتاب عن فلسفة الثورة المصرية، قال بسطويسي: "لا يمكن الحديث الآن عن فلسفة للثورة المصرية على النحو الذي كتبه محمد حسنين هيكل ووضع جمال عبد الناصر اسمه عليه، لأن فلسفة الثورة المصرية هي فلسفة الحياة اليومية في مصر وهو نص بالغ الخصوصية. والفلسفة لا تتحدث عن موضوعات لم تتضح ملامحها بعد"! راجع نص الحديث، في جريدة الأهرام، مُلحق شباب التحرير، العدد رقم [53]، 4/4/2011.
    (59) نقلاً عن جريدة المصري اليوم، 23/4/2011.
    (60) Reuel Marc Gerecht, How Democracy Became Halal, The New York Times, February 6,2011.
    (61) في عددها الصادر في 24/4/2011، نشرت جريدة المصري اليوم خبراً عن انتقال "الإخوان" من المنيل إلى مقر جديد بالمقطم، وأن الافتتاح يوم 21مايو! الجريدة أوردت وصف مهدي عاكف المرشد العام السابق للجماعة، في تصريحات سابقه له، المقر الجديد بأنه يشبه "القصر"! الجريدة أرفقت صورة لواجهة المقر!
    (62) أثناء انعقاد المؤتمر السنوي الثاني عشر لأمريكا والعالم الإسلامي، والذي يُنظمه معهد بروكنجز، الشهير في واشنطن، بالاشتراك مع وزراء الخارجية القطرية(12ـ14/4/2011)! وحينما سُئلت هيلاري كلينتون عن رأي بلادها في وصول "الإخوان" للحكم في مصر، أجابت بقولها إن الموقف الرسمي للولايات المتحدة، هو ترك هذا الأمر للمصريين أنفسهم، مثلما حدث مع الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب العربية. وأنه في حالة فوز حماس، فإن الولايات المتحدة لم تشكك في شرعية تلك الانتخابات، ولكنها ليست مُجبرة على التعامل مع حكومة من حماس، إلا بشروط ثلاثة، أعلنها الجمهوريون وهم في السلطة في الولايات المتحدة. وأن الديمقراطيين وهي منهم في السلطة الآن، مستمرون على نفس النهج والشروط الثلاثة، وهي الإقلاع عن استخدام العنف ضد الأطراف الأخرى، وفي مقدمتها إسرائيل، والاعتراف بإسرائيل نفسها. واحترام المعاهدات والالتزامات الدولية التى وقعتها كل الأطراف في السابق. المرجع: سعد الدين إبراهيم، م. س. ذ. داليا مجاهد مستشارة أوباما أكدت على المعنى نفسه، في لقائها بشباب إعلامي الثورة. ولقد نشرت جريدة الأخبار، في عددها الصادر في 6أبريل2011، وتحت عنوان "داليا مجاهد مستشارة أوباما لشباب إعلامي الثورة: التخطيط كان لتولي جمال مبارك الحكم بأي طريقة"، ما نصه: "أكدت داليا مجاهد مستشارة الرئيس الأمريكي أوباما للشئون الإسلامية أن أمريكا لديها قلق من تحول مصر لدولة إسلامية يحكمها الإخوان المسلمون لأن هناك خطراً على إسرائيل، ولكن في حالة التزام الإخوان بعدم تغيير المعاهدات والاتفاقيات بما يضمن الأمن لإسرائيل فلا يوجد مانع من مشاركة الإخوان في الحكومة أو الحكم، وضربت مثالاً بالمملكة العربية السعودية التي تطبق الشريعة الإسلامية وتربطها علاقات صداقة وطيدة بأمريكا ولا تمثل خطراً على إسرائيل بعكس إيران. وقالت نتوقع حصول الإسلاميين على جزء من مقاعد البرلمان وليس الأغلبية. وأضافت أن السلفيون أصبحوا يمثلون لغزاً لدى الأمريكان لأنهم ظهروا على الساحة ولديهم طموحات سياسية". داليا نفت أن تكون أمريكا أو إسرائيل تقفان خلف الثورات الشعبية في الدول العربية. الاخوان المسلمون كانوا على ما يبدو على دراية "مُبكرة" بالشروط الأمريكية، ومن هنا كان حرصهم على التأكيد العلني لقبولهم بهذه الشروط، فقد نشرت جريدة المصري اليوم، في عددها الصادر في 19/2/2011، تحت عنوان "الإخوان: نحترم جميع المعاهدات الموقعة بين مصر وإسرائيل"، تصريحات للمرشد العام للإخوان محمد بديع، ولمحمد سعد الكتاتني عضو مكتب الإرشاد ووكيل مؤسسي حزب الحرية والعدالة! الجريدة نقلت عن الأخير قوله: "إن الجماعة تحترم جميع المعاهدات الموقعة بين مصر وإسرائيل"! إلى جانب توضيحه أن "إعادة النظر فيها ترجع للشعب والأطراف التي وقعتها، إذا ما رأت أنها تحقق الهدف من إبرائها". كما نقلت الجريدة عن الكتاتني إضافته لشبكة "سي إن إن" العربية: "الجماعة عارضت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، حينما كانت تناقش. ولكن عندما تم توقيعها وأقرت أصبحت واقعاً يجب احترامه"! وحول مناهضة الإخوان لمعاهدة السلام مع إسرائيل، قبل دمجهم في النظام السياسي المصري، بفضل "ثورة 25 يناير"، راجع: عمر التلمساني، حقائق وثوابت(1): لا نخاف السلام..ولكن!، (القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1991).
    (63) "سيرى القارئ موقف الرفاق من جمال عبد الناصر، وكيف كان هذا الموقف ـ الذي يراه البعض مُحيراً ـ موقفاً مبدئياً، فمن بين القصائد العديدة التي يضمها كتابنا الوثيقة، لن يجد القارئ غير قصائد تُعد على بعض أصابع اليد الواحدة تهاجم عبد الناصر شخصياً(......). إن ما سيجده القارئ من موقف تحمله الأغلبية الساحقة من قصائد الديوان، هو نفس الموقف الذي حير البعض في الستينيات بعد الإفراج عن الشيوعيين، حيث تعاونوا مع النظام في مؤسساته السياسية والإعلامية، وفي السبعينيات، أثناء الموجة العارمة لطوفان الهجوم على عبد الناصر وعصره(....).". من مقدمة هشام السلاموني لمختارات من قصائد الشعراء الشيوعيين المصريين في المعتقلات المصرية فيما بين 1945ـ1965، راجع نص المقدمة في: لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، هديل اليمام وراء القضبان/مختارات من قصائد الشعراء الشيوعيين المصريين في السجون والمعتقلات فيما بين 1945ـ1965، (القاهرة: دار العالم الثالث، 2008)، ص9ـ23. وأيضاً: مصطفى عبد الغني، المثقفون وثورة يوليو: الشهادات الأخيرة، (القاهرة: مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع، 2010)
    (64) انظر مثلاً إلى "الناصريين"، تجدهم وكما هو واضح من اسمهم ينتسبون إلى الراحل عبد الناصر، مؤسس دولة "ما بعد الاستعمار" في مصر، والذي يحظى بزعامة وشعبية واسعة في التاريخ العربي الحديث.
    (65) مادلين أولبرايت، م. س. ذ، ص225.
    (66) لأخذ فكرة عن "ما بعد الحداثة"، راجع: أحمد حسان(مُعد ومترجم)، مدخل إلى ما بعد الحداثة، (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابات نقدية، رقم 26، 1994).
    (67) ولد محمد مصطفى البرادعي في الجيزة عام 1942، ودرس القانون بجامعة القاهرة. ثم بدأ حياته العملية في السلك الدبلوماسي المصري عام 1964. حصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة نيويورك. والتحق بالوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1984 حيث شغل عدة مناصب رفيعة بها. وقد انتخب كمدير عام للوكالة عام 1997 ثم أعيد انتخابه لفترة ثانية، ثم لفترة ثالثة في سبتمبر 2005. راجع: الحملة الشعبية المستقلة لدعم وترشيح البرادعي رئيساً 2011، دكتور/محمد البرادعي ابن مصر وأملها:
    www.elbaradei2011.com
    (68) تتكون الجمعية الوطنية للتغيير من شخصيات(من أبرزها وأكثرها تأثيراً جورج إسحاق، وهو مسئول المحافظات في الجمعية الوطنية للتغيير، فضلاً عن كونه أول منسق عام للحركة المصرية من أجل التغيير كفاية التي أُسست نهاية عام 2004، وهي تجمع فضفاض من مختلف القوى السياسية المصرية تهدف إلى تأسيس شرعية جديدة في مصر، بعد تنحية نظام حسني مبارك عن السلطة. وهناك أيضاً نجيب ساويرس وهو أحد أكبر رجال الأعمال المصريين)، وتيارات فكرية مختلفة، من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار، وهو ما يجعلها الهيكل المعارض الأشمل. التيارات تشمل: 1ـ حزب الغدحزب الجبهة 3ـ الديمقراطيةالإخوان المسلمونحزب الوسط المصريحزب الكرامةالاشتراكيون الثوريون 8 ـحزب العمل المصري 9ـ مصريات مع التغيير 10ـ حركة شباب 6 أبريل 11ـ الحزب الشيوعي المصري 12ـ الحملة الشعبية لدعم البرادعي ومطالب التغيير. وحول إعلان تأسيس الجمعية، راجع: Amro Hassan and Jeffrey Fleishman, Mohamed ELBaradei creates National Front for Change, Los Angeles Times, 24 February 2010. وراجع: حوار نجيب ساويرس مع جريدة الأخبار، 3/3/2011. وأيضاً: حوار جورج إسحاق مع جريدة الأخبار، 15/3/2011.
    (69) خالد محمد سعيد صبحي قاسم( 27يناير 1982 - 6 يونيو 2010)، هوشاب مصري في الثامنة والعشرين من العمر، من مدينة الإسكندرية، مصر. جرى تعذيبه حتى الموت على أيدي اثنين من مخبري الشرطة اللذان أراداتفتيشه بموجب قانون الطوارئ. سألهم عن سبب لتفتيشه أو إذن نيابة لم يجيباه وقاما بضربه حتى الموت أمامالعديد من شهود العيان في منطقة سيدي جابر. وقد أثار موته إدانة عالميةومحلية، كما أثار احتجاجات علنية في الإسكندرية والقاهرة قام بها نشطاءحقوق الإنسان في مصر والذين اتهموا الشرطة المصرية باستمرار ممارستهاالتعذيب في ظلحالة الطوارئ.ووصف حافظ أبو سعدة رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، خالد سعيد قتيل الإسكندرية، بـ"شهيد قانون الطوارئ"، مؤكداً أن هذا القانون المشبوه،الذي تم فرضه منذ عام 1981 يعطي الحق لأفراد الأمن التصرف كما يشاءون مع منيشتبه فيهم. (ويكيبيديا). وفي كتاب ياسر بكر المهم "الإعلام البديل"، لفت انتباهي قوله: "الشابة الإيرانية ندا أجا سلطان والشاب السكندري خالد سعيد جمعت بينهما طريقة واحدة في إخراج الصور وعرضها وأسلوب التناول لقضيتهما على الانترنت". راجع: ياسر بكر، الإعلام البديل ON LINE، (القاهرة: مطابع حواس، 2010)، ص151.
    (70) نقلاً عن جريدة الحياة، 21/فبراير/2011.
    (71) نقلاً عن جريدة الدستور، 7/مارس/2011. الجريدة نفسها وفي مكان متميز من العدد نفسه، نشرت هذا الخبر الذي لا يخلو من دلالة مهمة وخطيرة، لتزامنه مع التسريبات التي أشرت لبعضها في هذه المقالة: "أوباما يوفد وزير دفاعه في مهمة طارئة لمصر خشية تسريب تقارير أمنية للإعلام ومواقع الانترنت"!
    (72) ملحق عدد جريدة الفجر، الصادر في 4/4/2011.
    (73) راجع أعداد جريدة الأهرام الصادرة في: 11،18، 25 مارس2011 & 1،8،15،22 أبريل2011. عمود الجورنالجي المصري صلاح منتصر.
    (74) Julianne Pepitone, Wael Ghonim to Leave Google, start NGO in Egypt, CNNMoney.com, 25 April 2011.
    (75) لم أطلع على كتاب جارد كوهين بعد، لكني حصلت مؤخراً على نسخة صوتية من صديق، والتالي بيانات النسخة الورقية من الكتاب: Jared Cohen, Children of Jihad: a Young American Travels Among the Youth of the Middle East, (New York: Gotham Books, 2007).
    (76) احمد مرتضى المراغي، غرائب من عهد فاروق وبداية الثورة المصرية، (بيروت: دار النهار للنشر، 1976). وفي السياق نفسه يأتي كتاب لعبة الأمم لمايلز كوبلاند، وهو أمريكي قضى القسم الأعظم من حياته العملية في منطقة الشرق الأوسط. شغل منصب نائب القنصل في سوريا، إلا انه عاد إلى واشنطن في عام 1949 ليساعد في تنظيم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي أنشئت يومها. عمل مستشاراً أعلى لمؤسسة ضخمة مختصة في العلاقات الحكومية، راجع: مايلز كوبلاند، ترجمة مروان خير، لعبة الأمم ـ اللاأخلاقية في سياسة القوة الأمريكية، (بيروت: الانترناشنال سنتر، بدون تاريخ). وأيضاً: مصطفى مؤمن، النقطة الرابعة تعني الحرب!/عرض وتحليل للاستعمار الأمريكي الجديد، (القاهرة: دار النشر المصرية، 1954). الطاقة الذرية في خدمة مصر: مقتطفات من أبحاث الطلبة ورجال الأعمال الذين اشتركوا في مسابقة "ماذا تفيد مصر من تنظيم الأبحاث الدولية لتوجيه الطاقة الذرية للأغراض السلمية"، التى نظمتها مجلة الصداقة 1953، الحلقة المائة والخامسة عشرة من سلسلة "مصر وأمريكا".
    (77) للمزيد: السيد يسين، الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي، (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والبشر والتوزيع، 2008).
    (78) مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجيةهو معهد بحثي للدراسات السياسية فيمصر. أنشئ المركز عام1968فيمؤسسة الأهرام المصرية. حتى عام1972، اختص المركز بدراسة قضيةالصراع العربي الإسرائيلي،ثم توسع نطاق بحث المركز في القضايا الدولية، مع التركيز على القضاياوالأحداث التي تهم العالم العربي. (ويكيبيديا)
    (79) السيد يسين، العولمة..والطريق الثالث، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999).
    (80) أنتوني جيدنز، ترجمة أحمد زايد & محمد محيي الدين، الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010).
    (81) من كتاب "بحثاً عن عالم أفضل" لكارل بوبر، نقلاً عن: لخضر مذبوح، فكرة المجتمع المفتوح عند كارل بوبر، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، (القاهرة: الزعيم للخدمات المكتبية والنشر، 2010)، ص254.
    (82) ب. ف. سكينر، ترجمة عبد القادر يوسف، تكنولوجيا السلوك الإنساني، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، رقم 32، أكتوبر 1980).
    (83) "لأن بدايات علم النفس الايجابي كانت عام 1998، في أثناء وقت السلم والرخاء في الولايات المتحدة الأمريكية ـ وهو علم معني بدراسة الخبرة الايجابية الذاتية & السمات الايجابية الفردية & المؤسسات التي تعين على تحقيق المكونين السابقين ـ، فإن نظرتنا تنبع من أن علم النفس الايجابي ينتعش تحت تأثير الظروف السوية اجتماعياً. أما إذا توقفت عجلة الظروف الجيدة، فإن العالم سيعيد توجيه موارده نحو الدفاعات، والانهيار، وتوجيه تعاطفه نحو دراسة ضحايا الاضطرابات، وسوف تتفوق الانفعالات السلبية على الانفعالات الايجابية. لقد أدى حدوث الهجوم الإرهابي على المركز التجاري في 11 سبتمبر 2001 إلى تغيير فكرنا. ولا يعني ذلك أن علم النفس الايجابي عليه أن ينسحب، بل إنه الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى. ففي أوقات الشدة، كالوقت الراهن، فإن دراسة الانفعالات الايجابية لا تخرج عن السياق. فالثقة، والتفاؤل، والأمل، على سبيل المثال، تعيننا بطريقة أفضل عندما تكون الحياة صعبة. ففي أوقات الشدة، يكون فهم وبناء القوة والفضائل مثل التكامل، والاعتدال، والشجاعة والرؤية الصحيحة للأشياء، والولاء أكثر إلحاحا. وفي أوقات الشدة، يصبح دعم ومساندة المؤسسات الايجابية مثل الديمقراطية، والأسرة القوية، وحرية الصحافة ذا أهمية مضاعفة وملحة". راجع: مارتن سليجمان، علم النفس الإكلينيكي الايجابي"، في ليزا ج. أسبينوول & أورسولا م. ستودينجر(محرران)، ترجمة صفاء يوسف الأعسر(وآخرون)، سيكولوجية القوى الإنسانية: تساؤلات أساسية وتوجهات مستقبلية لعلم النفس الايجابي، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2006)، ص419-435.
    (84) مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية المقهور، (المغرب: المركز الثقافي العربي، 2005)، ص 9-12. وأيضاً: مصطفى حجازي، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، (المغرب: المركز الثقافي العربي، 2006).
    (85) حوار مصطفى حجازي مع جريدة المصري اليوم، راجع: المصري اليوم، 5/5/2011.
    (86) جون بروكمان(محرر)، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، الإنسانيون الجُدد: العلم عند الحافة، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، العدد 991، 2005). وراجع أيضاً: سي. بي. سنو، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، الثقافتان، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010).
    (87) راجع هذه النوعية من الكتابات الإرشادية: فولفجانج ساكس(محرر)، ترجمة أحمد محمود، قاموس التنمية: دليل إلى المعرفة باعتبارها قوة، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2008). المجلس الدولي للموسيقى(اليونسكو)، الموسيقى والعولمة: دليل كتبه سايمون ماندي للمجلس الدولي للموسيقى(اليونسكو)، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2003). مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان & هيئة المعونة الأمريكية بالقاهرة، الدليل التدريبي لدعم الشفافية ومكافحة الفساد في التعليم، (القاهرة: مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان، 2008). مؤسسة فريدريش إيبرت، إدماج قضايا النوع الاجتماعي في التنمية: دليل مرجعي، (صنعاء: مؤسسة فريدريش إيبرت، 2004). مؤسسة ثقافة السلام، ترجمة محسن يوسف، تقرير عن ثقافة السلام في العالم: تقرير المجتمع المدني في منتصف عقد ثقافة السلام، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، بدعم من كل من حكومة كاتالونيا، وزارة العلاقات المؤسسية والمشاركة، برنامج المعهد الدولي من أجل السلام، 2007).
    (88) Liz Sly, "Arab response to bin Laden death Muted", The Washington Post, 3 May 2011.
    (89) في يوم 6 أبريل من عام 2008، أعلن بعض الشباب تضامنهم مع إضراب العمال وتبنوا فكرة الكاتب الصحفي مجدي أحمد حسين أن يكون الإضراب عام في مصر وليس للعمال فقط. بدأت الحركة في تشكيل جروبات (groups)لنشر فكرة الإضراب وإرسال رسائل إلى الأعضاء المصرين بموقع face book حتى وصل عدد الأعضاء إلى سبعين ألف في أحد الجروبات الداعية للإضراب. بعد فترة تناولت بعض الصحف المصرية فكرة الإضراب والحركة وفى أيام قليلة بدأت تصل رسائل sms بشكل عشوائي داعية لإضراب عام يوم 6 أبريل.
    (90) أحمد ماهر هو منسق عام لحركة شباب 6 أبريل وأكبر أعضائها سنا. وهي الحركة التي أحدثت حراكاً قوياً في الاحتجاجات المصرية بعد الانتخابات الرئاسية في 2005، وبعد أن تم إنهاك القوى السياسية المختلفة وعلى رأسها "كفاية". أحمد ماهر كان رأس الحربة في إضراب 6 أبريل الأول في 2008، وهو الإضراب الذي أحدث دوياً هائلاً، وشارك فيه عمال المحلة، وأسقطوا صورة مبارك للمرة الأولى في تاريخ المظاهرات التي خرجت ضد مبارك. ماهر من مواليد عام 1980، ويعمل مهندساً مدنياً! وهو عضو ائتلافشبابالثورة الذي تولى إدارة الاعتصام الرئيسي في ميدان التحرير. فرض عليه موقعه أن يكون دائما بعيدا عن أماكن المظاهرات، ليتفرغ لقيادة غرفة العمليات التي تتولى ترتيب وإدارة الاحتجاجات. راجع: ملحق عدد جريدة الفجر، الصادر في 4/4/2011.
    (91) نقلاً عن جريدة المصري اليوم، 4/5/2011.
    (92) الموقع الرسمي لحركة شباب 6أبريل: http://6april.org، الجروب الرئيسي للحركة على الفيس بوك:
    http://www.facebook.com/group.php?gid=9973086703
    (93) "إحنا الشباب السيس اللي وقعنا الرئيس"، ظهر هذا المانشيت "بالبنط العريض"، في صدر الصفحة الأولى من جريدة اليوم السابع، يوم 15/2/2011. وراجع أيضاً مقالة لعبد الرحمن الأبنودي نشرتها جريدة الأخبار، في عددها الصادر في 14/4/2011، بعنوان "خليهم يتسلوا!!". عنوان مقالة الأبنودي يستدعي عبارات مُشابهة لطالما جرت على لسان مبارك، قبل تنحيه عن الحكم، رداً على تساؤلات عن مدى خطورة تحركات هؤلاء الشباب السيس على نظامه!
    (94) Sherly Gay Stolberg, Shy U.S. Intellectual Created Playbook Used in a Revolution, The New York Times, 16 February 2011.
    (95) راجع: جين شارب، ترجمة خالد دار عمر، من الدكتاتورية إلى الديمقراطية: إطار تصوري للتحرر، (بوسطن: مؤسسة ألبرت أينشتاين، 1993). ــــــ، البدائل الحقيقية، (بوسطن: مؤسسة ألبرت أينشتاين، بدون تاريخ). ــــــ، 198 طريقة للنضال باستخدام اللاعنف، (بدون بيانات). ـــ، ترجمة المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، الانتفاضة والنضال بلا عنف، (القدس: منشورات المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، بدون تاريخ). ــــ، دور القوة في الكفاح اللاعنيف، (بدون بيانات). عفيف صافية & جين شارب، ترجمة أحمد العلمي، كفاح اللاعنف وسيلة فعالة للعمل السياسي، (بدون بيانات).
    (96) موقع مؤسسة ألبرت أينشتاين: www.aeinstein.org
    (97) في كلمة ألقاها السيناتور الأمريكي جون ماكين أمام مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن عام 2004، بدا واضحاً حماسه لاستكمال إدارة بوش(الابن) ما بدأته في العراق، في إطار إعادة ترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، على خلفية هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001، راجع: John MacCain, Finishing the Job in Iraq, AIR FORCE Magazine, July 2004.
    (98) Stephen Zunes, Serbia: 10 Years Later, Huffpost World, 17 June 2009.
    (99) موقع حركة المقاومة الصربية: Otpor website حركة شباب 6أبريل أخذت اللوجو الخاص بالحركة الصربية Optor، وهو عبارة عن قبضة يد مضمومة.
    (100) نص الحوار مع أحمد ماهر، نشرته جريدة الشرق الأوسط، في 10 فبراير2011، تحت عنوان: "منسق حركة شباب 6أبريل: الاحتجاجات انطلقت بقيادة مجموعات سرية في أماكن محددة بالمناطق الشعبية".
    (101) راجع هذا الكتاب الذي صدر في القاهرة مؤخراً، وهو محاولة مشكورة لجمع الهتافات والشعارات التي كانت على اللافتات التي حملها المتظاهرون، فضلاً عن النكت التي أطلقها المصريون طوال الـ18 يوماً، واستمرت كل يوم: الشعب المصري، الشعب يريد، (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، 2011).
    (102) في أواخر2008 مثلاً دعت الخارجية الأمريكية شباب حركة شباب 6أبريل للمشاركة في مؤتمر دولي في الولايات المتحدة! الحركة أعلنت رفضها القاطع له من خلال تصويت ديمقراطي. وقد أدى ذلك إلى حدوث انقسام بين صفوف الحركة، حيث أدانت الحركة موافقة كل من إسراء عبد الفتاح وأحمد نصار على المشاركة في هذا المؤتمر، وخروجهما على حالة الإجماع وقرارات التصويت الديمقراطية داخل الحركة التي تعتبر كل من يخرج عن رأي الأغلبية العظمى من أعضاء الحركة لا يمثل إلا نفسه ويُصبح مُستبعداً من عضوية الحركة نتيجة لفعلته وعليه تحمل نتائج تصرفاته! راجع: دينا شحاته وآلاء الروبي، "الحركات الاحتجاجية الشبابية: شباب من أجل التغيير وحركة تضامن وحركة شباب6أبريل"، في دينا شحاتة(محرر)، م. س. ذ، ص269. ولقد أصدرت الخارجية الأمريكية بياناً عن المؤتمر الذي انعقد خلال الفترة من3-5ديسمبر2008، وأعلن عن قيام تجمع باسم "تحالف الحركات الشبابية"، كمعادل لإرهاب القاعدة وتحالفاتها! المؤتمر حضره قادة 17 منظمة رائدة من 15 دولة، مع خبراء من فيس بوك وجوجل ويوتيوب والـ Howcast والـMTV ومدرسة كولومبيا للقانون والخارجية الأمريكية! المؤتمر ناقش أفضل الوسائل لاستخدام الإعلام الرقمي في تشجيع الحرية والعدالة ومواجهة العنف والإرهاب والقمع، راجع: U.S. Department of State, Announcement on Alliance of Youth Movements Summit, December 3-5, Press Release, 18 November 2008. Website: America.gov. الغريب في الأمر هو ما جاء في ختام البيان من أن نقطة الاتصال الدولي حول المؤتمر اسمه: جارد كوهين، ولا أدرى ما إذا كان هو مؤلف كتاب "أطفال الجهاد" أم مجرد تشابه أسماء! وثائق أمن الدولة المصرية كانت قد تحدثت عن أمريكي له نفس الاسم، قالت عنه إنه مدير وائل غنيم في شركة جوجل، كما أنها نسبت لوائل غنيم اعترافه بأنه أطلعه على فكرة صفحة "كلنا خالد سعيد"! لا أدري، ربما يكون الأمر مجرد تشابه أسماء! على أية حال، من تداعيات المؤتمر الأمريكي الأخرى، والتي لم تلبث أن كشفت عنها تسريبات ويكليكس الشهيرة، وثيقة تقرير سري صادر عن السفارة الأمريكية بالقاهرة، في 30/12/2008، أطلقته ويكليكس في 31/1/2011! وثيقة التقرير بعنوان: APRIL 6 ACTIVIST ON HIS U.S. VISIT AND REGIME، وتحمل رقم: 08CAIRO02572! وتتحدث عن انطباعات ناشط في حركة شباب 6أبريل، لم تذكر اسمه حضر المؤتمر، واستطاع الأمريكيون إخفاء هويته! الوثيقة أوردت حديث الناشط عن خطة غير مكتوبة مع بعض القوى المعارضة في مصر، للإطاحة بالنظام، خلال 2011، وهو ما شكك كاتب الوثيقة في إمكانية حدوثه! تحدث الناشط أيضاً عن لقائه بساسة واستراتيجيين أمريكيين، رفيعي المستوى! وفي الموقع الالكتروني لمنظمة: MOVEMENTS.ORG، وهي معنية بتسهيل التواصل بين الحركات الشبابية في جميع أنحاء العالم، وتتمتع حركة شباب 6 أبريل بعضويتها! وجدت أخباراً عن تسريبات مهمة لويكليكس بشأن اطلاع أعضاء فريق الميديا الجديدة الخاص بحملة الرئيس الأمريكي أوباما بعض نُشطاء من شباب 6 أبريل الذين حضروا المؤتمر، على خبراتهم!
    (103) حول الحفاوة الأمريكية بزيارة أحمد ماهر الأخيرة إلى أمريكا بعد الثورة، راجع: Hoda Osman, Meet Egypt Revolutionaries in NYC, Huffpost New York, 29 April 2011. وراجع أيضاً: J. A. Myerson, Soccer, Cabs and Revolution: The Egyptian Youth Movement Comes to NYC, The Busy Signal, 27 April 2011.
    (104) حسني مبارك، كلمة للتاريخ، (القاهرة: دار المعارف، 2005)، ص135.




    الفصل الرابع
    أسلوب إدوارد سعيد في المرحلة الأخيرة(*)
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    بقلم: ستاثيس جورجوريس(**)
    "إيهِ يا موتُ لن تمس خلودي
    فاقضِ ما شئت لستَ وحدك تقضي!"
    فوزي المعلوف(***)

    اهتمام ادوارد سعيد بـ "أسلوب المرحلة الأخيرة" من حياة المفكرين ـ والذي ينطلق من عمل ثيودور أدورنو عن الأسلوب الموسيقي في المرحلة الأخيرة عند بيتهوفن ـ يعود إلى أوائل تسعينيات القرن الماضي. في البداية، مثل هذا الاهتمام خطوة على طريق كتابات سعيد في النقد الأدبي والموسيقي، بعد: "الثقافة والامبريالية" عام 1993 و"متتاليات موسيقية" عام 1991. أيضاً من الملائم القول بتأثر سعيد في معالجته لأسلوب المرحلة الأخيرة بتجربة مرضه القاسية والتي أودت بحياته. ولأن سعيد كان دائماً خصماً للحلول الدينية والترنسندنتالية، لم يكن ثمة احتمال أن تقوده مواجهته الشخصية مع الموت إلى نوع ما من السعي للسلام الروحي، أو ممارسة الخلاص الفلسفي، أو إيجاد حلول استرجاعية للقضايا.

    مذكرات سعيد "خارج المكان" عام 1999 ـ التي وبحسب وصفه برهنت على صعوبة الاكتمال ـ كانت بشق الأنفس محاولة للتجول خارج نبرات حياته أو توفير مرجعية استرجاعية لنوع ما من الكلية [شكل كلي ـ المترجم] السعيدية. وفضلاً عن كونها، بصورة ملموسة ومُعلنة، محاولة للاستذكار وإعادة بناء عالم اجتماعي مفقود الآن في مصطلحات عالم آخر، تسعى المذكرات لرسم خريطة لشبكة البدايات، ووصف بالغ الصعوبة لكلية حياة من نقطة ما عند نهاية الفكر. وربما يُقال أن "خارج المكان" كانت أول ممارسة لسعيد في "أسلوب المرحلة الأخيرة"، على نحو ما يُفهم، في الواقع، من تأخر ظهور مقالاته الكاشفة عن الذات، والتي من المُفترض أن تؤلف كتاباً عن أسلوب المرحلة الأخيرة. كسرد للبدايات ـ يشبه إلى حد كبير خبرة سعيد الأولى في النقد الأدبي، "البدايات" عام 1975 ـ جاءت المذكرات تأملاً واسعاً حول معلمات الحياة العلمانية، حول كفاح الإنسان لإعطاء تفسيرات فقط في حدود هذا العالم، حتى فيما يخص أمثلة تاريخية، بدا العالم وقتها عصياً وسلبياً إزاء أي نوع من المغزى.

    إن كتاباً حول "أسلوب المرحلة الأخيرة" لم يكتمل، ومع ذلك ثمة مقالات متنوعة أو مقاطع من محاضرات وكتابات في مناسبات مختلفة، عبر ال 15 سنة الأخيرة من حياة سعيد، تشي بأن المشروع كان دائماً حياً ووشيكاً. مقالة "أفكار حول أسلوب المرحلة الأخيرة" المنشورة حديثاً في London Review of Books، تُعد عرضاً مجزئاً، لكن عبقرياً للمشكلة التي كان سعيد يتحراها أو يسعى لسبر غورها، فضلاً عن أنها تطرح إطار عمل آخر كلياً يمكن من خلاله إدراك الأعمال الأخيرة لادوارد سعيد(1). وهنا يمكن ملاحظة، على نحو عرضي، أن سيمنار الدراسات العليا الذي اعتاد سعيد تدريسه في جامعة كولومبيا في تلك الأثناء، حمل عنواناً مزدوجاً "الأعمال الأخيرة/أسلوب المرحلة الأخيرة". وأعني بالأعمال الأخيرة، كتاب "الأنسنية والنقد الديمقراطي" عام 2004، والكتابات السياسية في الصحافة في السنوات الأخيرة، والتي جُمعت بعد وفاته في "من أوسلو إلى العراق وخارطة الطريق" عام 2004. ونُشرت مع مقدمة عميقة بقلم مؤرخ جامعة نيويورك توني جودت، إضافة إلى خاتمة رائعة ومؤثرة، كتبها وديع ابنه.

    حتى الوصف الأكثر بساطة لحياة سعيد وأعماله يخبرنا بالتشابك القائم بين مجالي الأدب والسياسة عنده، على نحو مستمر ووطيد، رغم احتفاظ كل مجال بمعلماته الانضباطية الصارمة، فالأدب والسياسة في تمايزهما الواضح، يسيران كعناصر مترابطة من مشروع حياة سعيد، والذي عبر عنه بمهمة النقد العلماني. لكن، ما الذي يميز بالضبط هذه الأعمال الأخيرة من مشروع سعيد المُمتد والمعني بالنقد العلماني، ويجعلنا قادرين على الحديث عن أسلوب المرحلة الأخيرة عنده؟

    في مقالته آنفة الذكر، يقدم إدوارد التوصيف الأكثر إيجازا لمفهوم مراوغ بطريقة أخرى. عائداً إلى تفسير أدورنو لأعمال بيتهوفن الأخيرة، يميز ادوارد الإصرار على ذاتية عنيدة لبيتهوفن. سواء فيما يتعلق بمادته الموسيقية التي تتجاهل المنطق التكاملي الصارم والذي كان أسلوب التوقيع السيمفوني للمؤلفين الموسيقيين، لصالح "المشاكسة والانحراف عن المسار". أو "مناهج عرضية" تشي بتخلي بيتهوفن النهائي عن إمكانية التركيب. ادوارد يشير إلى ما خلص إليه أدورنو من أن أسلوب بيتهوفن في أعماله الأخيرة، بعيد عن انجاز تركيب هارموني، كونه يُنتج تمزقاً داخلياً، يترك هذه الأعمال مُعلقة في الزمن ويصبغها برعب عنيد وكارثي.

    سعيد يوافق على أن أعمال بيتهوفن الأخيرة تظل غير متحدة بتركيب أعلى، فهي لا تتسق في أي مشروع، ولا يمكنها التصالح أو التوصل لحلول، لأن ترددها وتشظيها تأسيسي، لا زخرفي ولا يرمز لأي شيء آخر. الأعمال الأخيرة تكون تقريباً "كلية مفقودة، وبهذا المعنى تكون فاجعة"(TLS n. pag.). لكن سعيد يؤكد أن قراءة أدورنو تسعى لتعريف التأخر كعلاقة محددة بشكل يذهب إلى ما وراء المكون البيوجرافي المحض لفنان في مرحلة متأخرة، يسعى جاهداً لترك بصمته الأخيرة. مهما تكن العلاقة بالبعد البيوجرافي ـ لا أحد يقترح انه ليس ذي صلة ـ وبالتالي مهما تكن علاقة الفن بواقع بعينه، فان أسلوب المرحلة الأخيرة يشهد للفن كنقطة متطرفة تتجاهل التقاليد(بما في ذلك الخاصة بالفنان) وتقتحم التأكيد الأخرس للواقع المعاصر، الذي حتى ذلك الحين يكون قد أمد الفنان بهوية جزلة.

    التأخر إذن يصبح ظرفاً في حد ذاته: استجابة تخريبية من قبل ذكاء إبداعي إزاء محدودية الحياة غير القابلة للإلغاء، من ناحية، وإزاء إحياء بعينه عبر تذكر هائل لقوى التاريخ، من ناحية أخرى. سعيد يُقر بإيماءات أدورنو الخاصة بأسلوب المرحلة الأخيرة في توصيفه لشخصية بيتهوفن قبل المضي قدماً إلى حالتين تُجاهدان الظرف نفسه، لكنهما تأتيان من أطراف المتوسط، وتقتربان من خياله: الروائي الصقلي جوزيبي دي لامبيدوزا والشاعر اليوناني السكندري قسطنطين كفافي. انه يتعرف في كل منهما على وعي مُغاير لزمنه، بشكل مفارق، يُجرد الحاضر من صفة المراوغة والغموض، ومن ثم يشحذ قوته كتاريخ قيد الصنع. هذا التخيل المغاير لزمنه يحدوه الحصول على متعة عظيمة وثقة في موقع الأدب المنفي والخارج على المسار الذي يتجاهل سلطة الوقت الحاضر، وبناء على ذلك، لا يُصبح مستوعباً في توتر غير محسوم بين ما يكون الآن عديم القيمة، وبين ما يمكن أن ينتهي به المطاف إلى التهشم. مثل هذا الموقع بدلاً من ذلك يُعيد، بلامركزية وبعدم مضاهاة، بناء شروط الفهم النقدي لتاريخ حاضر، لتحقيقها في المستقبل. سعيد يخلص إلى أن ثمة امتياز لأسلوب المرحلة الأخيرة يتمثل في:

    "إتاحة كل من التحرر من الوهم والمتعة، بدون حل التناقض بينهما. ما يبقيهما في حالة توتر، كقوى متساوية تندفع بقوة في اتجاهات متعارضة، هو شخصية ناضجة للفنان، تخلو من التباهي والغطرسة، لا تخجل من اللاعصمة أو الثقة المتواضعة، وهي أمور تُكسبها للفنان سنوات العمر أو المنفى"(TLS n. pag.)

    هكذا، يتميز أسلوب المرحلة الأخيرة بشجاعة واضحة، وليس جرأة ساذجة، يتميز بالثبات على رؤية شخصية، لكن دون فقد الاتصال سواء بالحدود المطلقة للأخلاق أو بتحدي الحدود الذي يُمكن الإنسانية من صنع التاريخ في وجه مستقبل غير نهائي. وفي اعتقادي، ليس للقارئ الفطن أن يفتقد صدى هذه الفقرة الأخيرة في مقالة سعيد الحاسمة حول أسلوب المرحلة الأخيرة. إنها ضمناً ذاتية المرجعية، كما أنها على نحو صريح وثيقة الصلة بشكل أدبي وظرف اجتماعي.

    مقالات سعيد حول الأنسنية كانت شهيرة قبل طباعتها بسنوات. في دوائر مُعينة في الإنسانيات، لم تلق قبولاً طيباً بكل ما في الكلمة من معنى، فقد أُخذت على أنها تحمل الدليل الأكثر قوة على التحول المزعوم لسعيد ضد النظرية. المحاجة ذاعت على أكثر المستويات بساطة! على نحو قريب الشبه بالنظرية الفرنسية وقت تأوجها، في روح 1968، وما أحدثته من نقد مدمر لافتراضات التقليد الإنساني، كانت أي محاولة للدفاع وإعادة شرعنة خطاب الأنسنية ترقى لتكون ضد النظرية. هذا القياس المنطقي ليس بسيطاً فحسب، انه بالكامل غير دقيق من ناحيتين. سعيد لم يكن ببساطة ضد النظرية، ومن يسمون بمنظري ما بعد البنيوية لم يكونوا أيضاً ضد الأنسنيين. ليس ثمة انسجام أو تنافر بين مصطلحي "النظرية" و"الأنسنية". العلاقة بينهما، دائماً ما تكون، ممكنة تاريخياً، حتى قبل أن يحمل المُصطلحان أي تماسك يمكن تمييزه، حتى قبل أن يتم تسميتهما، من هيدجر وامتداداً للوراء إلى نيتشة إلى ماركس.

    سعيد بالطبع لم يُخف إحباطه إزاء ما أدركه على أنه فيتشية [التعلق بالأشياء والوله بها – المترجم] النظرية، نوع محدد من تشكيل الذات الأكاديمية باستخدام لغة مخلخلة تقوض جوهرياً أي إطار مرجعي خارجها. لقد وجد أن هذا يخون فعلاً الأغراض السياسية للنظرية ـ التي، من ولائه المبكر المُعلن لجورج لوكاش وأنطونيو جرامشي، لها معنى فقط في ارتباط جدلي بالتطبيق العملي ـ وهاجم بعنف مثل هذه الاتجاهات في كل من الدراسات الأدبية الأوروبية وما بعد الاستعمارية، والتي سبق وأن ولى هو نفسه وجهه شطر معلماتها النظرية في وقت من الأوقات. من هنا، فالتهمة الموجهة إلى سعيد هي التحول. المحاضرات حول الأنسنية قوبلت، عملياً في كل مكان في الجامعات الأمريكية، مع شعور بالخيانة من جانب هؤلاء الذين اعتبروا أثناء سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي من بين حلفائه في الإنسانيات. فضلاً عن شعور بالتفوق من جانب غرماء متنوعين بدءوا كمدافعين عن المبادئ الأنسنية الأنجلو أمريكية ضد الهجوم الخارجي.

    قراءة حريصة لكتاب "الأنسنية والنقد الديمقراطي"، مع ذلك، تبين أن سعيد أربك الجانبين معاً. هو يبدأ المحاجة بنقد حاد للأنسنية الأمريكية في الآونة الأخيرة، لأمثال آلان بلوم، وليام بينيت، أو صول بِلو الذين يمثلون "معاداة عقلانية الحياة الأمريكية" ويتصفون بـسوء تذوق أكيد للنغمة" و"زم كريه للشفاه يعبر عن الكآبة والاستنكار"، كل هذا تحت تأثير "ولع أمريكي بغيض بإضفاء الطابع الأخلاقي على التقليصية [الإرجاع إلى صيغ صغرى ـ المترجم]" واقتناع راسخ بأن "الثقافة المستحسنة هي النافعة بطريقة تعويضية غير مغشوشة وغير معقدة في النهاية". في الوقت نفسه، سعيد لا يتشدق بكلمات عن "التعددية الثقافية الكسولة" و"الرطانة المتخصصة للإنسانيات". هو يعترض على "مناهضة الأنسنية على أساس أيديولوجي" ويعتبر ذلك ممارسة سلبية تلغي بداهة سيادة موضوع التنوير، بدلاً من تفكيك افتراضات يحشدها هذا الموضوع في مشهد دائم التغير لعالم ما بعد التنوير، كي يأخذ الذاتية تحديداً بعيداً عن محاصرة أيديولوجية محكمة محتملة.

    اعتراض مزدوج الجانب ينبئ عن غرض مزدوج أيضاً. سعيد في البداية يعلن مشروعه أن يكون "ناقداً للأنسنية باسم الأنسنية"، أيضاً، وفي وقت لاحق، يُجاهر بطموحه للوصول إلى موقع "الأنسني اللاأنسني" والذي هو برأيه موقع "مشحون جدلياً" يتخذ الأنسنية لتدشين "تقنية شغب"(H 77). أي قارئ نابه لأعمال سعيد يعرف أن لغته يمكن أن تحقق التشابك الأكثر روعة للارتيابي مع الطوبائي، لكنها أبداً ليست مُلتبسة أو سفسطائية. هذه التأكيدات المتناقضة ذاتياً بوضوح، لا تقودها رغبة فاسدة في الإرباك، بل، على العكس، التزام صارم ببيان الأساليب المخادعة والمُضللة والتي بها تُنتج وتُصقل الهويات ـ وأعني بها هنا، كلاً من الأنسني و"الضد أنسني"، لكن في جوهرها كل الهويات ـ.

    بالنسبة للرجل الذي قال ذات مرة، ببساطة وإيجاز، "الامبريالية هي تصدير للهوية" ـ في مقالة له عن جان جينيه، والتي كان سيتم تضمينها في كتاب حول أسلوب المرحلة الأخيرة ـ نقد الهوية ليس مجرد موقف سياسي عرضي(كما في نقد "سياسات الهوية" على سبيل المثال)، بل موقف فلسفي يستجوب أي ممارسة للإقصاء. بدون تبني إطار عمل وجودي [منسوب إلى الأنطولوجي، علم الوجود – المترجم]، سعيد يهاجم باستمرار أي بنية، خطاب، أو مؤسسة تجعل نفسها غير خاضعة للمسائلة عن صياغة الهوية، ليس يهم ماذا تكون الضرورة التاريخية أو الإستراتيجية السياسية. من هنا، تفكيكه الدءوب للسلطات التي تُطالب بطاعة صارمة والتزام بمبادئ قبلية: قومية، امبريالية، دين، الدولة، أو تلك التعريفات للثقافة التي تُكبل مجتمعات في أطر عمل مفاهيمية للـ"حضارات" ـ كان هذا، بالطبع، زخم "الاستشراق".

    المقالات حول الأنسنية تتبع هذا الخط من التفكير فيما يخص الهوية، لكن تركز على لُب الشخصية الذي يقود إنتاج الهوية: على هذا النحو هو الإنسان. هذا التركيز يُشحذ بلا هوادة عن طريق تجاهل التفلسف المجرد حول "طبيعة الإنسان"، لكي يتقدم للأمام نطاق الممارسات البشرية ـ صنع المجتمع، صنع التاريخ ـ كحدود تأسيسية للإنسان. في هذا الخصوص، أنسنية سعيد الأنتينومية [المتناقضة – المترجم] فوق ذلك تطوير آخر لمهمة النقد العلماني، الذي يجب أن يُفهم على أنه يعمل على أرضية ما هو علماني وما هو نقدي. النص مليء بتوصيف هذه المهمة. أختار اثنين: "إن أي فهم للأنسنية يعني إدراكها بما هي ديمقراطية، مفتوحة على كافة الطبقات والخلفيات، وبما هي مسار لامتناه من الكشف والاكتشاف والنقد الذاتي والتحرر...الأنسنية مذهب نقدي"(H 21). و: "حري بالأنسنية أن تكون مدرسة في الإفصاح، لا في الكتمان أو في الإشراق الديني....[إنها] مطالبة بأن تنقب في صنوف الصمت المختلفة، وفي عوالم الذاكرة، للجماعات المرتحلة الناجية بالكاد من الفناء، كما في أمكنة النبذ والحجب، لتستخرج نمطاً من الشهادات لا تجد طريقها إلى تقارير المراسلين..."(H 73,81)

    بأخذها معاً، هذه العبارات تستهدف ممارسات خاصة وعامة عبر مطالبتها بالإفصاح ـ سعيد مُغرم باستخدام بنفس الكثرة كلمة "التقشير" [إزالة القشرة الخارجية - المترجم] ـ عن كل الاستراتيجيات الاستبعادية، سواء كانت سلطتها تُنجز باسم الذات(وامتدادها العام) أو باسم الآخر(وماهيته الضيقة). هكذا، يمكن أن نفهم دعوة سعيد "لممارسة نمط تفكير مفارق"(H 83; his emphasis) كدعوة لتدمير أي توجهات أرثوذكسية [سُننية – المترجم]، بغض النظر عن الغرض من ورائها أو تبريرها. ليس ثمة صعوبة شديدة في رؤية لماذا كل من التقليديين الدوجماطيقيين، الذين يدافعون عن نقاء المكنون الأدبي أو نقاء حقوق الإنسان، ومتعددي الثقافات الدوجماطيقيين، الذين يرفضون تأكيد أي شيء خلاف منزلتهم كأقلية، سوف يجدون الكثير مما هو مؤلم في هذا الكتاب. لكن من المحتمل أن يفوت عليهم أن اعتراض ادوارد المُفترض ليس ضد موقفهم ضمن معطيات سياسية، تاريخية أو حتى نظرية، لكن ضد أرثوذكسية موقفهم، ضد تحصنهم، عدم قدرتهم على التفكير في أن موقفهم، بعد كل شيء، يحمل كذلك، علامة دنيويته، علامة كونه مصنوعاً في لحظة مُحددة في العالم، عدم القدرة هذه تهدم وتحبس المسؤولية التاريخية عن مثل هذه المواقف، لأنها تحرمها من إدراك أن تبقى منفتحة، تماماً كما بسهولة، أن تُهدم (تُجدد، تُصنع خلاف ذلك) عندما تقتضي الأوضاع الدنيوية ذلك. سعيد بالتأكيد يستحق شرف أن يكون مفكراً كونياً، لكنه بلغ ذلك عبر كونه دائماً مفكراً دنيوياً.

    هذه الدنيوية تمنح معنى لكل من الأنسنية والنقد(الذين، على أي حال، يتشابكان) كممارسات تنخرط بثبات في الكفاح من أجل قبول واحتضان الجديد، الناشئ، غير المعروف بعد، ما لم يتم التفكير فيه، ما لم يتم تخيله بعد. هذا الموقف مهم لمحاجة سعيد عن الممارسة الأنسنية، لكنه يتواجد أيضاً في صميم توصيفه لأسلوب المرحلة الأخيرة. عند نقطة "كبر السن" ـ نقطة شيخوخة الجسد، نضج الأعمال، وصول الخبرة الحياتية لاكتمالها ـ يكون المرء من ذلك الحين منفتحاً على الجديد بإصرار أكبر، غالباً على الجديد ضد القديم، مُعارضاً بذلك ما يكون سلفاً في المكان، مُطمئناً وواثقاً. هذه الروح الحداثية القلقة والمُضطربة ـ "مُحدثة متعة وخيبة أمل بدون حل التناقض بينهما"(TLS n. pag.) ـ تتخلل جميع أرجاء المُحاجة وتفسر بالضبط لماذا هذا الكتاب، وقد كُتب على ما يبدو في قمة الحكمة الفكرية للمؤلف، مُثير بشدة لضيق الكثيرين، وتخريبي جداً.

    كتاب "من أوسلو إلى العراق وخارطة الطريق" يجمع كتابات سعيد السياسية في الصحافة أثناء السنوات الثلاث الأخيرة من حياته. العنوان يُرجع صدى دعوته لتفكيك"إعادة الترتيب الجغرافية التقنية"(H 143). معظم هذه القطع كُتبت كأعمدة منتظمة في جريدة "الأهرام ويكلي" المصرية الناطقة بالانجليزية، وتقريباً كل القطع، التي تكون قصيرة، موجزة، ومتاحة على نطاق واسع، تم التشارك فيها، وأعيد إنتاجها في جرائد متنوعة حول العالم، أو وُزعت على نطاق واسع خلال الانترنت. في هذا النمط من الكتابة لجمهور واسع من القراء، سعيد يسعى جاهداً لانجاز القوة القصوى لقالب المقالةللامساك بمتطلبات الزائل وسريع الزوال ـ عالم الواقع، السياسات اليومية ـ كقوى التاريخ التي تترك أثراً مُستمراً، كالأحداث التي تتجاوز أعمارها الدنيوية الزائلة. فقط كاتب مقال بارع، مثل إدوارد سعيد، يستطيع أن يقتنص من الزائل وسريع الزوال شعوراً قوياً بالمستقبل غير المعروف: "يخترع المرء الأهداف خطفاً ـ بالمعنى الحرفي للمفردة اللاتينية inventio التي يستخدمها علماء البلاغة للتشديد على معنى إعادة العثور على، أو إعادة تجميع انجازات ماضية، في مقابل الاستخدام الرومنطيقي للاختراع بما هو شيء تخلقه من لاشيء. وهذا يعني أن المرء يستطيع افتراض تحقيق وضع أفضل تأسيساً على وقائع تاريخية واجتماعية معلومة" (H 140)

    ما يميز هذه المجموعة من الكتابات، مع ذلك، من ناحية، شعور أعظم بعجلة، ضراوة طاقة، مُفعمة على نحو ملحوظ بما امتلكه الكاتب سلفاً من قدرة على التحمل مُلهمة، ومن ناحية أخرى، سياسات نقد ذاتي واضحة، صُقلت بتأن، أحاطت نقد الخصم بأساليب حتى اليوم غير مُستكشفة. كل هذا يعطى هذه الكتابات ـ التي تركزت، بالطبع، على القضية الفلسطينية، دون إغفال تداعياتها الكونية ـ أسلوباً متميزاً، إذا جاز لي معالجة الكتابة السياسية بمصطلح أدبي: أسلوب كتابة يتميز بحدته وعناده، ليس فقط في مضمونه، لكن أيضاً في شكله وبشده. فقط، شخصية ادوارد سعيد المركبة، الدارسة لكتابات أدورنو تجاوزت الدرس، أنتجت أسلوب الكتابة في المرحلة الأخيرة في سياق كتابة سياسية في الصحافة. وشعوري بهذه القطع، كقارئ يرمي بنظره إلى الوراء، وعلى مسافة من الفورية التاريخية التي ولدتهم، هو أن انخراط سعيد طويل الأمد في النضال الفلسطيني خدم في شحذ تركيزه الفكري على نحو لم يستطع القيام به التفكير النظري الأكثر صرامة والتواءً على النفس.

    الملمح الرئيسي في هذه النصوص هو التحدث إلى الجماهير العربية، رفع رهانات الخطاب والتفكر في ومع الجماهير العربية. من هنا، نرى الكثير من الطاقة يتم إنفاقها في استنطاق وبلورة نقدية لأشياء عربية، ليس فقط فلسطينية. يقترن هذا بسعي إلى الإخبار عن تعقيدات الواقع الأمريكي، وتبديد الأحكام المُسبقة الساذجة وضيقة الأفق إزاء المجتمع الأمريكي والثقافة والسياسات. لا يعني هذا أن نقد سعيد لسياسة إسرائيل وجبن المفكرين الإسرائيليين يكون بحالٍ أقل قسوة عما كان عليه باستمرار. الأمر، على وجه التحديد، انه مهما كان النقد لإسرائيل، فإن سعيد يسعى جاهداً ليبين، انه يجب أن يتم في سياق النقد الذاتي. لسببين: أولاً، النقد الذاتي سوف يشحذ نقد الخصم ويجعله أكثر فائدة، سوف يحركه إلى مجال التطبيق العملي؛ وثانياً، النقد الذاتي ونقد الخصم يجب أن يتزامنا لتشارك المجتمعين وتواطئهما على نحو يتعذر معالجته، في كل من التاريخ والواقع المُعاش. هذا، حسب اعتقادي، هو الموقف الأكثر راديكالية من بين مواقف سعيد في هذا الصدد في السنوات الأخيرة من رحلة كتابته، ترجيعاً لقناعته العامة بأن "الثقافات تتشابك ولا يمكن أن تُفصل عن بعضها البعض إلا بالبتر"(H 52)

    من أجل هذا السبب، سعيد سوف يهاجم بعنف الأسلوب المعاصر لمباشرة السياسات، مُتحدثاً عن السياسات الأمريكية والإسرائيلية للغزو والاحتلال، وكذلك الاستجابات الإسلامية، بعبارة تضرب مثلاً على النقد العلماني الذي أنفق حياته في النضال من أجله: "شيطنة الآخر ليست قاعدة كافية لأي نوع من السياسات اللائقة". ويمكن لنا أيضاً أن نضيف فقط أن شيطنة الآخر دائماً ما تدل على "سياسات دينية"، الفجاجة أقل مشكلاتها. ففيها نجد أن، عدم تساوي القوى، بغض النظر عن الموقع في المعادلة الذي يجد المرء نفسه فيه، يفترض هالة ميتافيزيقية، ومن ثم يُصان(حتى لو أن النية هدمه) عبر تشجيع نوع ما من الإقصاء الدوجماطيقي أو محو الوجود الفعلي للخصم. بعبارة أخرى، إنها سياسات إلغاء.

    في مقابل شيطنة الآخر، التي لابد وأن تترك ورائها آثاراً حقيقية للوحشية والهدم(بما في ذلك الهدم الذاتي)، تجيء كتابات سعيد الصحفية لتضرب مثلاً على سياسات النهضة الأنسنية. إنها تشجع النقد الديمقراطي الذي لا يتهكم على اسمه المغبون: نقد يعيش ويتكلم إلى العالم، يتجاهل مجموعة من الأنصار، وتقييماتهم الاستحسانية الفعلية، يُعيد باستمرار تشكيل دوائر المناصرين حول التقييم الاستجوابي للقضايا، وهكذا يفقدون سلطتهم البارة وينفتحون أنفسهم على إعادة التفكير التخريبي. في هذا العالم، حيث يحتل الإله على نحو مزعوم عقل اللاعبين السياسيين في أنحاء العالم ـ الذين يبررون بصعوبة الجنون والسخرية في محاولة وقحة لتمريرهما على أنهما ورع وفضيلة ـ صوت ادوارد سعيد، مُصاناً في هذه التأملات السريعة والحادة حول تاريخ قيد الصنع، يواصل إمدادنا بأسلحة مواجهة. وبرغم شغف جميع خصومه بالاحتفاء بغيابه الجسدي، نراهم لا يستطيعون تجاوز براعة الحضور الفعلي لميراثه بكل معنى الكلمة. سواء في كتابة تاريخ الماضي أو كتابة الأحداث الجارية في الحاضر، ادوارد سعيد أبداً لم يتردد في قناعته المُعلنة بأن: "كل النقد يُطرح كمسلمة ويُؤدى على افتراض أنه وُجد ليبقى"(5). أسلوب المرحلة الأخيرة هو على وجه التحديد الشكل الذي يتحدى نقائص الحاضر، فضلاً عن مسكنات الماضي، كي يلتمس هذا المستقبل، كي يطرحه ويُنجزه، حتى ولو في كلمات وصور، وإشارات وتمثيلات، تبدو الآن غامضة، في غير الأوان المناسب، أو مستحيلة.

    الهوامش:
    ــــــــــ

    (*) ثمة أمر مثير للدهشة في الحضارة الغربية، وهو نظرة أبنائها، وفي طليعتهم المفكرين ومراكز البحوث الإستراتيجية، لانجازات حضارتهم ـ على ضخامتها ـ في تواضع جم، ووعي راقٍ بحتمية غلبة النقص على أفعال الجنس البشري، فضلاً عن اتخاذهم من التراث والحاضر تكأة للوثوب نحو المستقبل، على حد تعبير الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي، الفار من جحيم الفساد الجامعي.

    في المقابل نجد أبناء حضارتنا الإسلامية بوجه عام، وثقافتنا العربية على وجه الخصوص، وقد نظروا لانجازات حضارتهم العتيقة نظرة تأليه وتقديس! ومن ثم، ينحشرون فيها، فلا يملكون لها نقداً أو تطويراً، ويعجزون عن اتخاذها تكأة للوثوب نحو المستقبل! على عكس ما يفعل أبناء الحضارة الغربية! بل يزيدون الطين بله، بإدمانهم "الشاذ" لاستنساخ انجازات الأسلاف ـ وبعضها عبقري ـ!

    لننظر مثلاً إلى تعاطي الغربيين مع "دولة المدينة"، حيث كان العالم الإغريقي يتكون من مجموعة مدن يُطلق علها اسم "دول المدينة"، وكانت هذه المدن منتشرة في جبال اليونان ووديانها وسواحلها، وفي الجزر القريبة منها. الغربيون اجتهدوا، عبر رحلة طويلة وشاقة، في تطوير "دولة المدينة"، حتى وصلوا بأنفسهم وبالعالم إلى التعريف الراهن للدولة، وهو: انها مجموعة من الأفراد يقيمون بصفة دائمة في إقليم معين، وتسيطر عليهم هيئة منظمة استقر الناس على تسميتها الحكومة.

    في مقابل ما فعله الغربيون بتراثهم السياسي، أعني نقدهم وتطويرهم لدولة الإغريق، نجد أبناء حضارتنا الإسلامية، وقد أحجموا بضيق أفق، عن فعل الشيء نفسه مع دولة النبوة والخلافة الرشيدة. يعزز مُحاجتي هذه اكتفاء مفكر إسلامي بارز كمحمد عمارة، عضو مجمع البحوث الإسلامية ورئيس تحرير مجلة الأزهر، بإصدار كُتيب صغير(هدية مجلة الأزهر المجانية لشهر شوال 1432)، بعنوان "الوثائق الدستورية في دولة النبوة والخلافة الرشيدة"، قدم له بعبارات جاء فيها:

    "إنها نماذج من الوثائق تنصف الفكر والتاريخ معاً. وتشهد لنظر المفكرين، ولجهاد الثوار، ولعدل كثير من الخلفاء. فتنفي عن تراثنا الحضاري ظلماً عظيماً ألحقه به باحثون كثيرون، كما تفتح الباب أمام المستقبل، الذي نرجو له أن يكون أكثر إشراقا .. وأخف في القيود والعقبات!".

    كلمات الرجل تشي بكارثية مأزقنا الحضاري، بل وكارثية إدراك مفكرينا، حتى البارز منهم، لكيفية الخروج من هذا المأزق! غير أن ما يدعو للاحترام حقاً هو رغبة عمارة الصادقة في تزخيم النقاش الدائر حول طبيعة دولة "ما بعد هجمات 11 سبتمبر"، والتي يجري الآن على قدم وساق تهجير مجتمعاتنا إليها، على خلفية انهيار دولة "ما بعد الاستعمار(1945-2001)، بتدخل غربي مُعلن وواقعي..

    نهاية التاريخ الإسلامي وشيكة على ما يبدو! فالنظر النزيه والمُنظم في الأدبيات الغربية، خاصة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، يكشف عن رغبة غربية ضارية في توجيه رصاصة الرحمة إلى الحضارة الإسلامية! كون أبنائها قد مروا بمرحلة طويلة من التخلف والضعف النسبي، وتخلفوا بشدة عن ركب الحضارة الإنسانية، على حد تعبير تقرير لشيرل بينارد، صادر عن مؤسسة راند، بعنوان: إسلام مدني ديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات. خطورة مثل هذه التقارير تنبع من تأكيدها لما عبر عنه الروسي ألكساندر زينوفيف، في كتابه الغرب(ظاهرة الغربوية)، من تخوف إزاء ما يشنه الغربيون على مناطق العالم من حروب باردة ثقافية، لا تعني مجرد تأثير الغرب عليها، ولا مجرد قيام تلك البلاد باستعارة بعض مظاهر نمط الحياة الغربي، ولا مجرد استعمال ما ينتجه الغرب من قيم مادية وثقافية، ولا مجرد القيام برحلات إلى الغرب، وإنما هي شيء أكثر عمقاً وأهمية. إنها إعادة بناء تشمل أسس حياة تلك البلاد، والتنظيم الاجتماعي، ونظام الإدارة، والايدولوجيا، وذهنية السكان. هذه التحولات هي الوسائل لغربنة العالم.

    غربنة العالم، برأي زينوفيف، تقود إلى جعله خالياً من أية "منابت" يمكن أن ينمو فيها شيء قادر على اتخاذ شكل جديد من التطور يختلف عن التطور على قاعدة الغربوية. وفيما يُخضع الغرب العالم لسلطانه يُبيد جميع ما يُمكن احتمالاً أن يكون أجنة حضارات قادرة على منافسته. العالم يتحول إلى صحراء عقيم أمام التطور!

    اللحظة فارقة إذن! غير أن حضارتنا بما آلت إليه من وهن وإفلاس ليس لها أن تطمح، على الأقل في هذا القرن، إلى لحاق الغرب وكسر هيمنته، فالقوى غير متكافئة، على نحو هائل! كل ما يمكن أن نطمح إليه هو السعي لتجنيب نفوسنا التمييع والتجريف! ولن يكون ذلك ميسوراً، سوى بالاعتراف بإفلاسنا الحضاري، واتخاذ تدابير لكسر دائرته الجهنمية، على نحو شجاع، لا يخلو من مُخاطرة وألم!

    الذاكرة لا تُمحى، وإنما يُعاد بنائها! فلتسمح حكومات دولة "ما بعد 11سبتمبر"، في عالمنا العربي الخامل، بتربية نقدية ثورية للنشء، تجعلهم سيئي التكيف بشكل نقدي أنسني، فنرحمهم من أثقال الخوف، ونُجنبهم فخاخ الحروب الباردة الثقافية!

    نريد جيلاً يُحطم الدروع الواقية للأكاذيب في حضارتنا إلى الأبد، جيلاً لا تردعه عن حب الحقيقة ونُشدانها صواعق من قبيل: نظرية المؤامرة، كلام مستشرقين، جلد الذات،..الخ! جيلاً لديه الرغبة والقدرة على القراءة النزيهة والمُنظمة للأمور!

    ولهذا الجيل الناقد "المُنتظر"، بغية تعريفه بإدوارد سعيد، أهدي هذه الترجمة..

    بعض اقتباسات النص الأصلي مأخوذة من ترجمة فواز الطرابلسي لكتاب: الأنسنية والنقد الديمقراطي. أيضاً استفاد المترجم من الكشاف المصطلحي الموجود في ترجمة كمال أبو ديب لرائعتي سعيد: الاستشراق & الثقافة والامبريالية.
    (**) ستاثيس جورجوريس أستاذ الأدب المقارن بجامعة كولومبيا. من أعماله المنشورة دولة الحلم: التنوير، والكولونيالية، وتأسيس اليونان الحديثة(1996)، وهل يفكر الأدب؟ الأدب كنظرية لحقبة لاأسطورية(2003). أما مقالته هذه: "أسلوب إدوارد سعيد في المرحلة الأخيرة"، فهي منشورة باللغة الانجليزية في العدد ال25 ، 2005، من مجلة البلاغة المقارنة(ألف). خُصص للإحاطة بفكر إدوارد سعيد، وعنوانه "إدوارد سعيد والتقويض النقدي للاستعمار". مجلة ألف تصدر عن قسم الأدب الإنجليزي والمقارن، الجامعة الأمريكية بالقاهرة. (المُترجم)
    (***) فوزي المعلوف[1899-1930مٍٍ]: وُلد في زحلة – جارة الوادي – يوم 21 أيار(مايو) 1899. وفي 17 أيلول(سبتمبر) 1921 هاجر من بيروت إلى سان باولو، حبث انصرف إلى تأسيس مصانع الحرير مع شقيقيه إسكندر وشفيق وذوي خؤولته من آل معلوف، بيد أن عمله الحر هذا لم يلهه عما فُطر عليه من شغف بالأدب. اشتُهر بشاعر الطيارة، وتوفي عام 1930. راجع: البدوي الملثم، شاعر الطيارة/فوزي المعلوف، (القاهرة: دار المعارف بمصر، 1953). بيت الشعر في صدر هذه المقالة، أضافه مُترجمها حازم خيري، وليس ضمن الأصل. (المُترجم)
    (1) Edward W. Said, "Thoughts on Late Style", The London Review of Books 26.15 (August 5, 2004): 3-7. Henceforth, cited in the article as TLS. Citations here are from the London Review of Books's website:
    http://www.lrb.co.uk/v26/n15/said01_.html (2) Edward W. Said, Humanism and Democratic Criticism, (NY: Columbia UP, 2004), 16-21. Henceforth, cited in the article as H.
    (3) Edward W. Said, "On Genet's Late Style", Grand Street 36.9 (1990): 38.

    (4) Edward W. Said, From Oslo to Iraq and the Road Map, (NY: Pantheon, 2004), 111.
    (5) Edward W. Said, "The Future of Criticism", Reflections on Exile and Other Essays, (Cambridge: Harvard UP, 2000), 165.















    الفصل الخامس
    غياب الصفوة الفاضلة هو المسئول!
    (رسالة من خارج المكان)
    ــــــــــــــــــــــــــ
    "المعرفة تسبق الرأي.."
    مؤسسة الفكر العربي

    في وطني مصر، كما في بقية بلدان العالم العربي، لا تزال تجري على قدم وساق عملية تهجير جماعي ضخمة لمجتمعاتنا "شديدة ضيق الأفق"! تهجير من دولة "ما بعد الحرب العالمية الثانية(1945ـ2001)" إلى دولة "ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر"، بتدخل غربي واقعي، وغير ضار، على الأقل للآن..

    الدعم الغربي، وكما تُطالعنا الأدبيات الغربية منذ وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001، يأتي في إطار تجفيف منابع ما يحلو للغرب وصفه بالعنف غير المُبرر، من جانب قوى الإسلام السياسي، وفي طليعتها "القاعدة"، بزعامة الراحل أسامة بن لادن، الذي أنكره "إسلاميون"، وضن عليه "الغربيون" بقبر تستريح فيه عظامه!

    الأكثر إثارة للاستفزاز في مشهد التهجير هذا، هو أنه يتم من دولة مدنية بمرجعية "عسكرية" إلى دولة مدنية بمرجعية "دينية"! إضافة إلى أن شعوبنا، والتي هي موضوع التهجير، لا تفقه من أمر تهجيرها سوى أمرين: الأول، أن عبقريتها الثورية محل إعجاب العالم!! والثاني، أنها تُهجر من دولة مدنية لأخرى مدنية!

    شعوبنا تعتقد أن الدولة العسكرية هي تلك التي يتولى شئونها أصحاب الزى العسكري، وأن الدولة الدينية يتولى أمرها أصحاب اللحى والجلاليب! في حين أن وصف الحكام بالعسكر، أو الشيوخ، محض إشارة للقوة التي يستند إليها الحكم.

    إلى هذه الدرجة تغمر الضبابية الكثيفة فضائنا!! بيد أن الكارثي حقاً هو أن مفكرينا، على كثرة صياحهم وصراخهم في الفضائيات السرطانية(!!)، لا يجرؤ أحدهم، رغم سعة اطلاع معظمهم على الأدبيات الغربية والأوضاع الداخلية، على مصارحة مواطنيه بحقائق عملية التهجير هذه، إما لمنفعة يخشى فقدانها، وإما مخافة مخالفة الرأي الرائج في المجتمع، بغض النظر عن مدى صحته، أو ربما لاحتراف مغازلة الجماهير، طلباً لصيت وغنى! تعددت الأسباب والخيانة واحدة!

    "قصر النظر" شائع عندنا، وهو ما يُفسر "افتتان" مجتمعاتنا، حتى بالفشل!

    حاجتنا إذن ماسة لصفوة فاضلة! وأعني بها مفكرين يرتدون الفضيلة، ولا تتشوش الحقيقة عندهم باليقين! يقاتلون، كنظرائهم في العوالم الأخرى، على الخطوط الأمامية للمعرفة!! لا تردعهم صواعق (من قبيل: نظرية المؤامرة، أو جلد الذات، أو كلام مستشرقين، ..الخ) عن حب الحقيقة، وتذوق ينبوع المعرفة!

    فليسمح حكامنا الجُدد في دولة "ما بعد 11/9"، والتي نوشك على الدخول إليها في كافة أرجاء العالم العربي، بتربية نقدية للنشء، تجعله سيئ التكيف مع محيطه بطريقة نقدية، حتى يتسنى لمواطني دولتنا الوليدة، مواجهة المستقبل! فكما أن الأفراد يموتون، تموت الحضارات والثقافات، إن هي لم تُنقد وتُطور! فالأصالة الحضارية لا تعني تكرار الماضي واستنساخه، وإنما اتخاذه تكأة للوثوب نحو الجديد والمُبتكر! لا مفر من المخاطرة والألم إن أردنا لحضارتنا العتيقة الحياة!

    أحترم حكامنا الجُدد كثيراً، وهم إسلاميون على الأرجح! احترم نضالهم عبر أكثر من نصف قرن وصمودهم في مواجهة دولة العسكر بكل خستها ونذالتها! بكل ديماجوجيتها واستهانتها بكرامة البشر وحقهم فيما وراء الخبز والماء! أحترمهم كثيراً لدورهم البارز، إلى جانب الحركات الشبابية الثورية الحديثة نسبياً، في إنجاح عملية خروج مجتمعاتنا من دولة العسكر سيئة السمعة!

    غير أني وإن كنت أثق كثيراً برواد الحركة الإسلامية وشهدائها الأبرار، وأربأ بهم أن يذوق مواطنيهم على أيديهم ما ذاقوه هم أنفسهم على أيدي العسكر، تظل مخاوفي، أنا وغيري، قائمة من أجيال قادمة تخلف الجيل الحالي، ومعظمه من كبار السن، تتفتح أعينها، جبراً لا اختياراً، على تفكير فقهي ومال وسلطة! تجربتنا الحضارية تعزز للأسف الشديد من هذه المخاوف، خاصة في ظل غياب شبه كامل لمحاولات النقد والتطوير، ربما لانشغال الإسلاميين بدفع أذى العسكر!

    من هنا، تأتي قناعتي بأنه وحدها التربية النقدية للنشء هي الكفيلة بتجنيب دولتنا الوليدة وأجيالنا القادمة المزيد من الآلام! وكذا قناعتي بحق نشء أمتي في أن يعرف بخبر "السبتمبريين" وقصتهم ودورهم الحاسم في مصير أوطانهم! كونهم بالأساس ضحايا لدولة العسكر، وليسوا فقط جُناة، كما يحلو للغربيين تصويرهم!

    ولشد ما أتمنى تدبر مفكرينا وحكامنا الجُدد جيداً لما أجمله كارل ساندبرج ببلاغة رائعة، في عبارته: "تُقاس الشجرة قياساً صحيحاً عندما تسقط"، فهو ينطبق بقوة على دولة "ما بعد الحرب العالمية الثانية(1945ـ2001)"، وأعني بها بالطبع عقود استقلالنا "الزائف"، تلك التي شهدت انبثاق بدائل عربية شديدة الانحطاط للأنظمة المُغادرة، على خلفية انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومناهضة القوتين الأعظم: الولايات المتحدة & الاتحاد السوفيتي، للاستعمار الأوروبي "التقليدي"!!

    لأنه إذا كان الحاضر هو معمل المستقبل فالماضي هو معمل الحاضر!

    ــــــــــــــ
    (*) للمزيد من التحليل، يمكن لمن يرغب مراجعة دراسة مطولة، نشرتها منذ بضعة شهور على الانترنت، عنوانها: [أي دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي!]







    الفصل السادس
    مطلوب حماية "الفكر الذي نُبْغِضُ"
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    "إذا كان ثمة أي مبدأ في الدستور يستحق بصورة أكثر إلزاماً
    تعليق أهمية عليه أكثر من غيره فهو مبدأ حرية الفكر ـ ليس
    حرية الفكر لمن يتفقون معنا ولكن حرية الفكر الذي نبغضه"
    القاضي الأمريكي
    أوليفر وندل هولمز

    في عدم اكتراث واضح بطبيعة التحولات الراهنة في عالمنا العربي، وفي تجاهل شبه كامل لما تشي به هذه التحولات من زحف غربي مُنظم ومدروس نحو جوهر الحضارة الإسلامية، تمضي مجتمعاتنا شديدة ضيق الأفق وشديدة الافتتان نحو مصيرها المحتوم بدمٍ بارد، كعملاق سائر، أصم لا يسمع، أعمى لا يرى!

    الغربيون ولا شك استفادوا من جهود العلامة الفرنسي أرنست رينان، ووصفه الإسلام بأنه مفتوح كله على الحاضر، وهو ما تُعول عليه قوى الإسلام السياسي كثيراً، وأن النبي محمد بعيد كل البعد حتى عن مجرد التظاهر بالقداسة، مقارنة بالديانتين اليهودية والمسيحية، فلا أسرار ولا كهنوت ولا بركات تُقدم!

    لن يبقى الإسلام على قيد الحياة في المستقبل، ولسوف يتلاشى برمته تحت تأثير المد الحضاري الغربي. مثل هذه التنبؤات الرينانية، يجتهد الغربيون اليوم لترجمتها على أرض الواقع، عبر ما نشهده من قصف "ناعم" للامتداد الدنيوي للأصل الديني للإسلام! فكون الإسلام مفتوح كله على الحاضر، يسمح لقداسة الأصل الديني بالتسرب إلى كافة جوانب الحضارة الإسلامية، ومن ثم يجعلها مُغلقة ومُشفرة على النقد والتطوير، خروجاً على ناموس الحياة، وهو ما سوف يظل بكل تأكيد يُغري باستبدال حضارة أخرى ـ غالباً حضارة الغرب ـ بها!

    ثمن غالٍ تدفعه مجتمعاتنا، لتنازلها عن الحق في امتلاك "صفوة فاضلة"!

    فمن يصدق أن يمر مرور الكرام تغلغل مُبتكرات غربية (من قبيل: "الاحتراف الثوري"، "حرب اللاعنف أو اللاعنف البرجماتي"، "الديمقراطية النامية أو غير الليبرالية"، "التحكم الما بعد حداثي"، ..الخ) في نفوس ورودنا الثائرة..

    من يصدق أن يمر مرور الكرام نزول قوى الإسلام السياسي على حكم الأمر الواقع! فالدولة التي يبنيها الإسلاميون الآن هي "دولة ـ وطن" على الطريقة الغربية، والتعددية الحزبية التي يعترفون بها، ما هي إلا الديمقراطية (وليست الشورى أو البيعة)، والمجتمع المدني الذي ينتشر في مجتمعاتنا لا ينطبق عليه تحديد المجتمع المدني الإسلامي! لم يبق إذن سوى المرأة والمسائل الأخلاقية!

    من يصدق أن مثل هذا التشبع "اللامُدرك" بالأفكار والممارسات الغربية، والذي يلتحف القيم المحافظة والمناهضة لهيمنة الغرب، يحدث على مرأى ومسمع من مفكرينا وساستنا، دون أن يُحرك لديهم ساكناً، وكأن على رؤوسهم الطير!!

    كنت أتصور أن يمر مفكرونا ـ وهم كُثرُ ـ بما مر به مفكرو العالم، خاصة الغربي، في أعقاب انهيار المعسكر الشرقي وانتهاء الحرب الباردة، حين اخذوا على عاتقهم إيجاد طرق جديدة يعرفون ـ هم وشعوبهم واسعة الأفق ـ بها العالم، في غياب معالم واضحة تقسم العالم إلى شرق وغرب أو شمال وجنوب!

    كنت أتصور أن يقود مفكرونا شعوبهم نحو المستقبل بقبضة مفتوحة وليست مضمومة! خاصة وأن وجهتنا الجديدة تفوح منها رائحة "مألوفة"، تتشابه للأسف الشديد مع تلك الرائحة التي شممناها من قبل، عند تهجيرنا إلى "دولة العسكر"!

    غير أن ما يحصل هو لجوء مفكرينا "الخونة ـ فكرياً بالطبع ـ" للي عنق الحقائق والوقائع، لإجبارها على الاتساق مع مرجعيات "تقليدية" "شديدة الهرم"!

    أنظر مثلاً إلى دراويش الآباء المؤسسين لدولة العسكر(1945-2001)، تجد أن السقوط المُهين لدولة هي غرس يد زعمائهم، لم يدفعهم حتى للتفكير، مجرد التفكير، في إمكانية وجود هشاشة وعشوائية في الأسس التي بنى هؤلاء الزعماء عليها دولتهم، بعد رحيل الأوروبيين. بل إن العكس هو الذي حصل!

    فكلمات الآباء المؤسسين لا تزال نصوصاً مُقدسة، تُتلى في خشوع! وأفكارهم لا تزال نبع الهام ثوري لا ينضب! وعبقريتهم لا تزال أماراتها تكمن في: 1- خلطهم المُربك بين الإصلاح والبناء وبين القمع والإرهاب. 2- رفعهم لواء التحرر من الاستعمار الأوروبي التقليدي، على مرأى ومسمع من شعوبهم، لضمان البقاء في السلطة في الوقت الذي تتجه كافة الأوضاع داخل بلادهم نحو الاستقرار المُشبع بالخراب. 3- تأقلمهم إلى حد ما مع كل "ربح" يجنيه المنافس، من خلال عدم اعتباره على أنه "خسارة" لهم. 4- امتلاكهم القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في المواقف الحرجة، تحقق لهم ولمنافسيهم، بعض المكاسب والمغانم، دون أن يدعوا المجال لقطعان أوطانهم خلفهم أن تراها على حقيقتها!

    لقد سمعت وقرأت كثيراً عن سنوات ما قبل دولة العسكر في وطني مصر، ولشد ما سرني معرفة أن أمثال: عبد الرحمن بدوي وإدوارد سعيد وطه حسين وأحمد لطفي السيد، مشوا يوماً فوق ثرى بلادي، وجالت بصدورهم أحلامنا!

    ورأيتني أسأل: لماذا عقمت حرائرنا في ظل "دولة العسكر"، فلم تلدن أحراراً يطمئن الضمير لفضلهم، ويُرجع الخلود صدى أعمالهم! لم تلدن سوى شخصيات خُفاشية، يجرح نور الحقيقة عيونها ويملك التواء الذكاء عليها أمرها.

    ظن العسكر على ما يبدو بنزعاتهم البونابرتية ـ نسبة إلى عقدة السلطة عند الزعماء ـ، أن تجفيف منابع الفكر الحر يحصنهم ودولتهم! وما علموا أنهم يوردون ثقافتهم، بل وحضارتهم أيضاً، نبع الفناء! فما قيمة المجتمعات إن هي خلت من أصحاب النفوس الحرة واستشرى فيها الخوف وغابت عنها الفضيلة!

    الوضع في بلادي أخطر مما تصورته يوماً وكتبت عنه! وما أراه حولي محض جعجعة ثورية بلا طحن! فلا نقد ولا دور نشر ولا دوريات .. لاشيء!

    الربيع العربي ـ وقد كان قبل مجيئه هو الأمل ـ ينزلق على عقول وقلوب الناس في بلادي دون أن يترك أثراً يُذكر! فالناس تتبع من يحمل جوال الخبز وجرة الماء! فقيرهم وغنيهم في هذا سواء! وهو ما يبعث على الإحباط!

    الثورة مكانها عقول وقلوب الناس، وليس الميادين والساحات فحسب!

    دائرة جهنمية تبتلع أمتي وحضارتي! في البداية حكم استعماري أوروبي تقليدي، ثم دولة عسكر، ثم دولة شيوخ، ثم...! كل دولة تنهب من أمتي أجيالاً وأعماراً! كل دولة تُبشر بالخلاص وتُصدقها الشعوب "المُتعبة"! كل دولة تستهل حكمها برخاء عشوائي، ثم لا تلبث المرارة أن تغمر النفوس وتغتال فيها الأمل!

    الغربيون شديدو القسوة وواسعو المعرفة! ولا أدري كيف نثق بهم وبنواياهم ـ خاصة أمريكا ـ، وفاشية العسكر غرس يدهم! لا يبدو أنهم وعوا درس بن لادن ورفاقه جيداً! كونهم يبذلون قصارى جهدهم لتخليد ذكرى بوعزيزي ومحو بن لادن، رغم أن بوعزيزي وبن لادن وجهان لليأس العربي!

    مأساتنا تكمن في ضيق أفق شعوبنا، فبُعد النظر يكاد يكون معدوم، بل هو نادر بالفعل، على حد تعبير مادلين أولبرايت! ففي حين يفكر إستراتيجيو الغرب بصيغة العقد والقرن، يُفكر أولو أمرنا بصيغة الأيام والشهور، وربما السنين!

    والنتيجة الحتمية لهذا تزايد فرص قيام حكومة مستبدة، تتسكع أمامنا بكل بشاعة وقذارة، على النحو الذي شهدته "دولة العسكر"، وربما على نحو أسوأ!

    من هنا تبرز الحاجة لإعادة بناء الإنسان العربي، وبالتالي القضاء المُبرم على أسطورة "القطيع الصالح" التي تقتل مجتمعاتنا، واستبدال مجتمع صالح بها!

    بيد أن ثمة عقبة كئود تقف بيننا وبين بلوغ هذا الحُلم الرائع، أعني خلو مجتمعاتنا من صفوة فاضلة، يُسترشد بأنوارها حين يسود الظلام، على نحو ما تُعاني مجتمعاتنا اليوم، ويجد نشء بلادنا فيها المثل الأعلى والقدوة الفاضلة. فالرجل العظيم هو الذي يتخذ مثلاً أعلى عظيماً، يحدوه نحو قوة إرادة ومجد!

    خلق صفوة فاضلة ليس بالأمر الهين، وإن لم يكن مستحيل! وربما يكون إحياء المعارف "الشهيدة" في مجتمعاتنا، وفي مقدمتها "التفكير الفلسفي"، هو البداية الصحيحة، إن أُريد لمجتمعاتنا أن تستعيد حقها في امتلاك مثل هذه الصفوة، والتي تُثبت تجربتنا الحضارية المريرة أن عود المجتمعات جميعها لا يستقيم بدونها!

    فلنكتتب من أجل معهد "أهلي" لتعليم التفكير الفلسفي، يكون بدوره المُعادل "اللاغائي" لتفكير قوى الإسلام السياسي الفقهي، وتفكير مشروع زويل العلمي ـ بشقيه الحاثي وما بعد الحاثي ـ، وكلاهما "غائي"، على نحو ما هو معروف!

    فبدون تواجد حقيقي لهذه الطرائق المختلفة من التفكير(الفقهي & العلمي & الفلسفي) يصعب على أي مجتمع، ومن باب أولى مجتمعاتنا، التمتع بامتياز امتلاك صفوة فاضلة، وهو ما يعني استمرار عجزنا عن استرداد مقاليد حضارتنا، أو حتى صون ما تبقى بمنأى عن أيدي أبناء الحضارات الأخرى، خاصة الغربية!

    وللمعهد الأهلي المُقترح أن يحمل اسم أحد رواد التفكير الفلسفي عندنا، وليكن عبد الرحمن بدوي، الذي هاجر من وطنه مصر في فبراير 1967، على خلفية انحطاط الحياة الأكاديمية في ظل حكم العسكر. ففي مذكراته الشهيرة "سيرة حياتي ـ بجزأيها الأول والثاني ـ، يحكي بدوي أنه ودع مصر بهذه الكلمات:
    "وداعاً أيها الوطن المُكبل بالقيود،
    الحافل بالجواسيس والمخبرين،
    فضاع صوت الأحرار من المواطنين
    بين جمهور المواطنين المستسلمين"

    وليس لمعهد عبد الرحمن بدوي للتفكير الفلسفي، إن قُدر لفكرته أن تخرج إلى النور، أن يستعين بأيٍ من أساتذة الفلسفة في جامعاتنا، على الأقل في مرحلة التأسيس وقبل بلوغ مرحلة النضج، حتى لا تنتقل إلى الوليد الجديد أمراض الحياة الأكاديمية في مجتمعاتنا "شديدة ضيق الأفق"! فدولة العسكر لوثت المجتمع كله، وأساتذة الجامعة عندنا، خاصة أساتذة الفلسفة، جزء من المجتمع، نالهم ما ناله!

    وفي تأسيسنا للمعهد المُقترح، يمكننا الرجوع لخبرات ما قبل مجيء دولة العسكر في مصر، أعني خبرات تأسيس الجامعة الأهلية في صدر القرن الماضي، والتي انضمت لاحقاً إلى الجامعة الحكومية، وخضعت بالطبع لوزارة المعارف.

    معهد عبد الرحمن بدوي للتفكير الفلسفي، حُلم بعيد المنال، بل هو مستحيل، خاصة في هذه الآونة ونحن على وشك الدخول إلى دولة مدنية بمرجعية دينية!

    لكني قرأت يوماً عبارة جميلة لهربرت ريد، أعمل بها! تقول كلماتها:
    "من حارب بلا أمل، حارب بكياسة"
    تم الكتاب



المواضيع المتشابهه

  1. نرحب بالأستاذة/ندا صفوت
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 11-22-2016, 09:46 AM
  2. نرحب بالأستاذة/شيماء صفوت
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 09-20-2016, 08:49 AM
  3. نرحب بالأستاذة/غادة صفوت
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-31-2016, 07:38 PM
  4. كيف تكتب بحثاً او رسالة كتاب د. احمد شلبي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-14-2014, 04:24 PM
  5. ارفعوا عزة الاسلام فى قلوب أطفالنا, إن أردتم النصر لامتنا./صفوة
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى ركن اللغة العبريه
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-14-2008, 06:45 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •