منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: مذكرات طالب"1"

  1. #1

    مذكرات طالب"1"

    مذكرات طالب"1"
    (الكتاب مثل الناس فيهم السيد الوقور وفيهم الكيس الظريف وفيهم الجميل وفيهم الرائع وفيهم الساذج الصادق وفيهم الأديب والمخطئ والخائن والجاهل والوضيع والخليع)عباس محمود العقاد سياحة جديدة،في كتاب جديد،هو كتاب (مذكرات طالب) للدكتور حسن نصيف،في طبعته الرابعة – 1404هـ = 1983م – والكتاب بدون (ناشر).يبدأ الكاتب بسرد مذكراته – والتي أشار إلى أنها لن تراعي تسلسل الأحداث،فهو ينقل من "الذاكرة"وما تجوده به يسرده – على القارئ : "أول اتصالي بالصحافة" .. (كان ذلك في عام 1352هـ على ما أذكر وكنت طالبا بمدرسة الفلاح بجدة وعمري اثنا عشرة سنة حين زارنا خالي ومعه ورقة كتب فيها مقالا بعنوان "الغرفة الفلاحية لتعليم اللغة الإنجليزية بجدة"وموقعة بتوقيع (فلاحي) والكلمة فيها دعاية لأستاذنا الأستاذ "علي عيد"إثر عودته من الهند وافتتاحه مدرسة ليلية لتعليم اللغة الإنجليزية،وطلب خالي أن أبعثها إلى جريدة محلية لنشرها كأنها صادرة عني فاستصوبت هذه الفكرة.وما أن نشرت هذه الكلمة حتى بدأت أتيه أمام زملائي وأشير من طرف خفي أنني صاحب الكلمة.وحثني ما قابلني به زملائي على مواصلة السير في الطريق .. ولكن خالي لم يعد يأتيني بكلمات جاهزة للنشر،فما العمل؟ عمدت إلى كتاب (أسلوب الحكيم) الذي كان والدي قد أهداه إليّ واقتبست منه اقتباسا حرفيا مقالا عنوانه (العلم) ووقعته باسم (المتعلم الفلاحي) ونشرته الجريدة التي كان يشرف عليها أحد أقربائي { في الهامش : عمي الشيخ محمد صالح نصيف رحمه الله صاحب جريدة صوت الحجاز} وأخذ الزملاء يتهامسون ويتساءلون عن هذه النجابة الإنشائية الطارئة،وانطلت الحيلة على والدي فزودني بمجموعة جديدة من الكتب الأدبية.ثم رأيت أن أستمر وأن لا أحرم القراء من هذا الإنتاج الأدبي الرفيع،فعمدت إلى (أسلوب الحكيم) مرة أخرى واقتبست منه مقالا عن (الأخلاق) اقتباسا حرفيا وبعثت به إلى الجريدة،ويظهر أن قريبي المشرف على الجريدة أحس بالأمر فلم ير هذا المقال النور حتى يومنا هذا .. وكانت خيبة أمل،صرفتني على كره – عن الكتابة في الصحف لمدة طويلة،وحرم الناس من هذا المنهل الثقافي العذب الذي لو استمر لكانت ثقافة القراء في بلادنا قد انقلبت رأسا على عقب .. ولكن الله سلم.){ص 12 - 14}.وأخيرا يستفيد المؤلف من الدعاية التي كتبها لمدرسة تعليم اللغة الإنجليزية،فيلتحق هو بالمدرسة، ولكن (مجبر أخاك لا بطل)!! .. "أول درس إنجليزي" (كنت من محبي لعبة كرة القدم وفي وقت من الأوقات أسست فريقا بجدة،وكان والدي يمنعني من اللعب خشية الحوادث والكسور وخوفا من المشاكل الخلقية. ومع ذلك كنت ألعب على غير علم منه وأراعي الحضور إلى البيت قبل المغرب وهو موعد حضوره والتأكد من حضورنا جميعا .. إلى أن حدث ذات يوم أن كانت عندنا مباراة فتأخرت في الحضور إلى البيت وأخذت أفكر في الاعتذارات التي سأقدمها للوالد خاصة وأن الساعة كانت حوالي الثانية عشرة والنصف {أي بعد نصف ساعة من أذان المغرب!!} وهذا تأخير خطير يعتبر جريمة في عرف الوالد. وقاربت البيت ولم يسعفني التفكير بعذر مشروع،فوجدت خادما بعثه والدي للبحث عني،وهنا فقط جاءتني فكرة لطيفة.كان والدي يردد لي بين الحين والآخر وصول الأستاذ "علي عيد"من الهند وأنه سيأخذني يوما ما إلى مدرسته الليلية لتعليم اللغة {هكذا ولعل الصواب : لتعلم اللغة} الإنجليزية،ومنذ بدأ الوالد يذكر لي ذلك وأنا أتهرب منه وأرجو من الله ألا يأتي ذلك اليوم الذي ينفذ فيه هذا الوعد أو على الأصح الوعيد،فكفاني طامة النهار في مدرسة الفلاح ولا داعي لإضافة طامة ليلية أخرى،ولكني أردت الخلاص من العلقة في تلك الليلة بأية وسيلة ولو كان فيها خراب بيت بالنسبة لي،إذن فأمري لله واتفقت مع الخادم على أن يخبر والدي أنه وجدني متجها إلى بيت الأستاذ علي عيد فأعادني للبيت،واستمع الوالد إلى كلام الخادم وبعد أن كان الشرر يتطاير من عينه توجه إلي حانيا مسرورا من هذا الولد النجيب الباحث عن العلم والمعرفة،وأنب الخادم على غباوته ثم تمنى لي التوفيق،وأعادني في التو إلى المدرسة الليلية،وهكذا كنت كالباحث عن حتفه بظلفه،وبدأت على الرغم مني أول دروسي الليلية ستارا يعفيني من الحضور قبل المغرب فكنت أتمتع بلعبتي المفضلة ثم أتجه وأنا مطمئن إلى المدرسة الليلية .. وتحضرني ذكرى واحد عن هذه المدرسة .. حصلتُ في تلك الأيام – وكنت في حوالي الثالثة عشرة من عمري – على كتاب يعيد العجوز إلى عهد الصبا،فكنت أقرأ صفحاته في هذه المدرسة في الفترات التي كان الأستاذ علي يدرس لغيري من التلامذة،ولمحني الأستاذ،وصادر الكتاب بعد أن وبخني،وطبعا كان هذا الكتاب فرحة بالنسبة له لأنه من الصعب العثور عليه،وكنت أتخيله وهو يقرأ هذا الكتاب ويتمتع بطرائفه،وقد تظاهر بالغيرة على الأدب والأخلاق،وبقي الكتاب معه حتى يومنا هذا،ترى هل يقرأ هذه المذكرات ويعيده إليّ بعد أن أخذت ما فيه الكفاية من درس وموعظة حسنة؟){ص 15 - 17}. وينجو المؤلف من (الضرب) بإعراب جملة !! .. ( استولت الدهشة علينا جميعا نحن طلاب السنة السادسة الفلاحية ونحن نرى أستاذنا الوديع الحبيب طاهر الكردي يدخل علينا وفي يده عصا،أحسنا الظن في البدء فقلنا لعلها عصا يتوكأ عليها أو على الأصح تتوكأ عليه فقد كانت طويلة جدا ولكننا فوجئنا بالأستاذ وهو يطالبنا بواجبات الخط ومن لم يقدمها يخاطبه قائلا (بركا على الركب) ثم ينهال على رجليه بالضرب الشديد إلا إذا استطاع التلميذ أن يعرب هذه الجملة إعرابا صحيحا وكان ذلك لي هو الفرج فقد كنت جيدا في النحو. ولكني أعتقد أن الذي شفع لي أكثر هو صلة الصداقة التي تربط الأستاذ بكثير من أفراد عائلتنا. وكان الأستاذ طاهر من أحب أساتذتنا إلينا لولا تلك الحادثة التي طرأت عليه وحرنا في تعليلها فما أساب ثورة الأعصاب المفاجئة والأستاذ ليس متزوجا وليس لديه عوامل أخرى لإثارة الأعصاب،كان يدعونا دائما لداره وفي سنوات الفلاح الأخيرة كنا نساعده في نسخ كتابه الأول عن الخط العربي ثم أصبحت بينه وبين طلابه صداقة عميقة الجذور. كنا في البعثة بمصر فدعاني مع الصديق أسعد جمجوم إلى غرفته بالأزهر وأكلنا عنده يومها (مختوم بامية) من صنع يديه وهو طاه ماهر.واكتشفت عند ذاك أنه أستاذ من طلاب الأزهر السابقين وأن غرفته محجوزة في الأزهر ينزل بها كلما سافر إلى مصر وقضينا معه ليلة ممتعة بالأزهر مع رئيس الرباط اليمني.وعلى ذكر غرف الأزهر المحجوزة في الأروقة أذكر أن أصدقاءنا المشايخ با بصيل والكعكي والمرزوقي والفدا والمنيعي لا تزال لهم غرف محجوزة في أروقة الأزهر الشريف ينزلون بها كلما سافروا إلى مصر ويتمتعون بالجراية اليومية.. ترى لماذا لم نلتحق بالأزهر لنتمتع بهذه الإقامة الأبدية والجراية السرمدية؟وعلى ذكر الجراية أذكر أن بعض زملائنا في البعثة بمصر من طلاب الأزهر كانوا يتنازلون عن هذه الجراية للموظف المشرف على تسجيل الحضور والغياب نظير تسجيلهم بين الحاضرين. ولا أريد تسميتهم فإن بعضهم يشرف على تربية هذا الجيل المسكين!){ص 26 - 28}. من الواضح جدا،أن (ضرب ) الطلاب كان قضية تشغل حيزا كبيرا من حياة ذلك الجيل،كما هو الحال ألآن!! مع تغير طفيف،حيث أصبح المعلم – مع منع الضرب – هو الذي يخاف على نفسه!! مما يعني أن المشكلة لم تحل بعد ولم تصبح .. كما في العنوان : "العصا في ذمة التاريخ" .. (كنت في السنة الثانية بمدرسة الفلاح عندما دخل علينا وكيل المدير وبيده عصاه التقليدية واستدعاني مع زميلين آخرين وخرجنا نتعثر في خطانا،فوجدنا بعض عمالقة الطلاب واقفين في الانتظار،وسرعان ما وضعوا في (الفلكة) واحدا واحدا وطلب منا الوكيل أن نضربهم لأنهم شردوا من المدرسة،فوجمنا وخفنا أن نضربهم فينتقموا منا عند الانصراف،ولكن الوكيل هددنا بالضرب إن لم نضربهم ضربا شديدا نكاية فيهم وزجرا لهم،ونفذنا الأمر تحت التهديد،وكان الوكيل شديدا لدرجة أنه في ساعات بعد الظهر عندما تنتهي عمليات الضرب الصباحية ولا يجد ما يسد به الفراغ يطلب دفتر الغياب ويستدعي الطلاب الغائبين في الأيام السابقة ويتسلى بضربهم،وهكذا كان أول من اخترع نظرية سد الفراغ،وكان يصيبنا الكثير من تطبيق هذه النظرية في المدرسة،كان يلذ لي حضور المصارعات بين الطلاب أقطاب المصارعة الفلاحيين،التي كانت تتم كثيرا عقب الانصراف،ولم يكن دوري في المصارعات بسيطا كما قد يتوهم البعض. فقد كنت أحمل ثياب المصارعين أثناء المصارعة،وكنت أدفع ضريبة هذه البطولة من عصا الوكيل التي لم تكن ترحم،وكان أقطاب المصارعة والهرب يستعدون للضرب بوضع روث البقر على أرجلهم حتى تخف شدة الضرب عليهم. وكنت أتلقى الضرب ببطولة دون استعمال روث البقر،وكثيرا ما قضيت ساعات باركا أو محروما من الغذاء والفسحة،ولكن للبطولة ثمنا يجب أن يدفع،والآن انقرض عهد العصا أو كاد وتسللت أساليب التربية الحديثة إلى المدارس .. وعندما عملت مدرسا فيما بعد استغنيت عن العصا ولكني وجدت فيما بعد أنها أجدى وسائل الإقناع التي لا يستغنى عنها في المدارس فعدت إليها! ويجد طلاب اليوم وسائل النشاط الرياضي في المدارس فينصرفون عن الشقاوة ويشغلون أوقات فراغهم بما ينفعهم وتصبح العصا في ذمة التاريخ.){ص 29 - 31 }. واشتاق الأستاذ (حسن) إلى الحج .. ولكنه "حج على الحمير" .. (رحم الله زمنا مضى لم تكن السيارة قد وطدت مكانتها بعد ولم يكن الراديو والمسجل والكهرباء وغيرها من المخترعات الحديثة أشياء معروفة لنا،إن شباب الجيل الحاضر أسعد منا وأحسن مستقبلا،إنهم يفتحون عيونهم على الراديو وغيره من وسائل الثقافة الحديثة التي تساعد على تنمية مداركهم مع المدرسة. أما نحن فقد عشنا أيامنا الأول في زمن الحمير،حججت وأنا صغير مرتين على الجمال وقطعت الطريق من جدة إلى مكة في يومين وعرفت (الوسك) و(العصم) وغير ذلك من المصطلحات التي انقلبت مؤخرا إلى موديلات حديثة من السيارات الأمريكية.وعندما أدركت سن البلوغ اشتقت شوقا كبيرا إلى أن أحج حجة الفرض. فكيف أنقل هذا الخبر إلى والدي وأنا لم أكن أجلس في مجلسه أو أرفع نظري إليه ،وكان يحج في كل عام وأنا معه ولكنه لم يكن راغبا في الحج في ذلك العام بسبب الأحوال المادية،ووسطت الوالدة في نقل هذه الرغبة إليه فبعثني مع عمي للحج وحملتنا السيارة من جدة إلى مكة،وفي مكة كان ينتظرني حمار لنا يجر برميل الماء طول العام،وتصور مثل هذا الحمار القوي يحمل حدثا صغيرا .. لم أستطع أن أكبح جماحه وغضب عمي – رحمه الله – لأني أسبقه وهو المعقود له الرئاسة وكانت مشكلة لم أهتد إلى حل لها ولم يهتد الحمار الملعون،أما الآن إن أولادنا يتدربون على قيادة السيارة وليس لواحد منهم أن يفخر بأنه عاش في زمن الحمير .. لقد كان الحج في تلك الأيام متعة وفسحة وكانت له ذكريات شيقة،وكانت الحمير تنقلنا من مكان إلى مكان دون توقف وانتظر (السرا) ساعات طويلة متمتعة بحرية المرور البريء .. إنني أعمل الآن عملا يتطلب سرعة الانتقال في الحج ولكنني أقف ساعات في انتظار (السرا) في سيارتي.. وأنا متحرق شوقا لزمن الحمير وإنني أفكر فعلا في اتخاذ هذه الوسيلة السريعة المريحة وأتردد في ذلك كل عام .. فمتى أستطيع تحقيق هذه الرغبة؟ لعلني لو وجدت الحمار لتشجعت على تنفيذ الفكرة. فهل أجده؟){ص 40 - 42}. كأن شيئا لم يتغير!!! فلا زلنا نشتكي من (طوابير) السيارات – أو (السرا) كما يسميها المؤلف – التي لا تنتهي،وإن لم يأخذنا الحنين لامتطاء الدواب .. حتى الآن على الأقل!! من الحج على الحمير،يأخذنا صاحب المذكرات،إلى زمن (البساطة) وتلك الأم التي تسافر،وتسعى للاطمئنان على ابنها "ليفة البادكوك" ... (عشنا سنوات لذيذة في القسم الداخلي بمكة كانت أحوالنا المادية جميعا متواضعة،العشرة الريالات تكفي الواحد منا أكثر من شهر أو شهرين،ولم يكن طريق جدة معبدا فكنا لا نزور أهلينا إلا كل بضعة شهور في الإجازات في سيارة البريد فقد كانت وسيلة المواصلات الوحيدة تقريبا. وكان الصديق الأستاذ محمد بادكوك من أظرف الشخصيات التي زاملناها في تلك الفترة.أتت والدته – رحمها الله – إلى مكة في مبدأ دخولنا المدرسة وكلمت الشيخ عريف المشرف عليه،طالبة التوسط لدى السيد طاهر الدباغ مدير المعارف وقتئذ ليسمح لها بالذهاب إلى القسم الداخلي بمدرسة تحضير البعثات حتى تتأكد من راحة ابنها وتعلق له الليفة {أداة تصنع م "الليف"وتستعمل لغسل الجسم عند الاستحمام} وتدق له مسامير الناموسية وتعلق له المنشفة وترتب شنطة ملابسه. ولم يفلح الشيخ عريف في إقناعها إلا بعد جهد كبير وكانت – رحمها الله – من السيدات المتحدثات نذهب خصيصا لزيارتها في جدة مع الأخ محمد فتأخذ في إلقاء محاضراتها وأحاديثها من وراء ستار.ونأخذ نحن في التحريش بينها وبين ابنها ونروي لها عنه بعض أشياء ولا نخرج إلا وقد وقع بينهما ما صنع الحداد وما لم يصنع.){ ص 43}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  2. #2

    رد: مذكرات طالب"1"

    مذكرات طالب"2"
    عجيب!!!! كيف يتغير الإنسان!! فأنا أشعر أن (محمود) الذي يقرأ هذا الكتاب الآن ليس نفس الشخص الذي قرأ نفس الكتاب قبل أكثر من عقد من الزمان!! لم يكن الكتاب حينها أكثر من مذكرات لا تنقصها خفة الظل .. أما الآن ... ما هذا؟!! لا فرق بين الطلاب في (الفلاح) – يتضاربون – في (مدرسة تحضير البعثات) – يتضاربون – في (الجامعة بمصر) – يتضاربون- !!!!! أضف إلى ذلك ما يسميه الكاتب (مقالب) وبعضها،ربما جاز أن يسمى (جرائم) – تزوير فواتير بأسماء محلات تجارية،وصرف مبالغ مالية،من ميزانية البعثة على أساسها!! استسهال قول (عكس الصدق) من باب (المزاح) ... إلخ!!!!!! عجيب!!!! نبدأ هذه الحلقة بـ"النجاة ... النجاة" .. (المتداول بين الناس أن التلاميذ يجننون أساتذتهم،والناس يقولون ذلك على سبيل المداعبة أو المبالغة .. ولكننا – كتلاميذ – وقفنا في يوم من الأيام لنجنن أحد أساتذتنا جنونا حقيقيا انقطع بعده عن التدريس.كنا في مدرسة تحضير البعثات والغرفة التي خلف فصلنا بها معمل الكيماوي وفيه مواد ملتهبة سبق أن التهبت مرة وكادت تحدث حريقا. وكان المدرس يلقي علينا درسا في النحو العربي عن الاختصاص. وهو مدرس ممتاز متمكن من عمله تماما ولكن كان يقابله تلاميذ متمكنون من شيطنتهم أيضا.كانت هناك فرقة لا تكف عن الضحك بسبب وبدون سبب. وضرب الأستاذ مثلا للاختصاص (نحن معاشر العرب إلخ) فسألناه عن مفرد معاشر. ثم أخبرناه أننا في الزواج نستعمل المعاشر،وأن مفردها معشرة .. ثم تطرق البحث إلى سبب تسميتها معشرة فقال الأستاذ :ربما لأنها تكفي لعشرة أشخاص يجلسون حولها.وهكذا تطور البحث،الأستاذ جاد ونحن هازلون وفرقة الضحك – وكنت من أعضائها البارزين – تؤدي واجبها على الوجه الأكمل،وقطع الأستاذ المناقشة صارخا (النجاة النجاة. اخرجوا سريعا).وكان هو أول الخارجين فتبعناه نجري ظانين أنه رأى شيئا في المعمل قد التهب. ولكننا لم نجد شيئا،ونزل الأستاذ إلى غرفة الإدارة وحمل شنطة الكتب وخرج ولم يعد بعدها. وأوقعنا السيد إسحاق عزوز في ورطة فقد عرف عن الحادث واحتار في الشخص الذي سيخلف الأستاذ ويكون عنده الاستعداد لتلقي نفس المصير.){ص 47 - 48}.مما يدعو إلى التفكر،تغير (الأحوال) وما يلزمنا من واجب شكر النعم .. فقد كان حصول الإنسان على تفاحة كاملة يعتبر .. لندع الأستاذ (نصيف) يحدثنا عن "نزهة فمحاكمة فتوبة" .. ( كان الأستاذ عبد الرؤوف الأفغاني مدرس اللغة الإنجليزية من ألطف الشخصيات : وفوق إلمامه الواسع باللغة الإنجليزية كان عالما جليلا ذا اطلاع واسع،وفي فترة من الفترات غاب مدرس الرسم فقام بتدريس هذا العلم لنا خير قيام مع أنه فن قائم بذاته له أصوله وقواعده. كان بعض زملائنا قليلي الحفظ ضعيفي الذاكرة فوصف لهم وصفة هندية تتلخص في أن يحلقوا رؤوسهم ويضعوا عليها (زيت لبوب سبعة) ما أحوج الإنسان الآن لاستعمال هذه الوصفة لولا ما يلزم لها من الحلاقة (الزلبطة).وذات يوم اقترح علينا الأستاذ أن نقضي يوم جمعة في بستان الزاهر بمكة وأخذنا نعد للأمر عدته وأوصانا أن نشتري تفاحة بأكملها لكل عضو في الرحلة وكان حصول الواحد على تفاحة بأكملها يعتبر غنيمة في ذلك الوقت .. وبين لنا أهمية ذلك فالمثل الإنجليزي يقول (تفاحة في اليوم تغنيك عن الطبيب) "An Apple a day Keeps a doctor away" وفي يوم الجمعة المحدد ذهبنا إلى البستان فرحين مرحين والأستاذ يشرح لنا كثيرا من خصائص النباتات .. ووجدنا رجلا يستحم في بركة البستان فضايقناه حتى خرج لأننا كنا نريد البركة لنا.ولم نكن نعرف أن خروجه سيوقعنا في أزمة. طلبتنا رئاسة القضاء مع أستاذنا في اليوم التالي لأننا لم نصل الجمعة. ولم نهتم للأمر كثيرا في البداية ولكن أستاذنا كان يخرج في اليوم الواحد عدة مرات حاملا شمسيته لمقابلة المسؤولين ويعود ليفضي إلينا بنتيجة جهوده.فمرة مثلا قال للمسؤولين أن السبب في عدم نزولنا للصلاة أن (سيارة حامد هرساني خربانين) وهي السيارة التي استعملناها في الرحلة وأخذ يلقننا هذه الحجة لتتفق كلمتنا،وأخيرا أحيلت القضية إلى الشرع ووكلنا الصديق الهرساني وكالة شرعية لحضور القضية،ولا أذكر الآن سر اختيارنا له،ربما لأننا كنا صغارا وكان هو أكبرنا سنا،وأخيرا حكم القاضي بتتويبنا وأخذنا يوما مع أستاذنا إلى مركز هيئة الأمر بالمعروف المجاور للحرم بمكة وتبنا واحدا واحدا،وخرجنا ونحن لا نصدق أننا خلصنا من الورطة بهذه السهولة. ولكن الفضل يرجع إلى براعة المحامي وإلى سيارته (الخربانين) وإلا لأصبحنا الآن من أرباب السوابق.){ص 49 - 50}.يبدو أن استيراد (البدع) - مثل"الفلنتاين" و .. غيره - من الغرب ليس جديدا!! "صلاة الميت الغائب" .. (على أثر نشر مذكراتي عن ليفة (بادكوك) اتصل بي تلفونيا وذكرني بموضوع (صلاة الميت الغائب) ووعدني بأن يبعث إليّ مجموعة من المذكرات لأنشرها وها أنا في الانتظار. (..) كنا في لقسم الداخلي بمدرسة البعثات،وبعد أن أفطرنا أخذنا نستعد للنزول إلى الفصول الدراسية وأخذ بادكوك يلمع نظارته ويمضغ فوفلته،ودخل علينا ساعي البرقيات يحمل برقية لبادكوك وفضها،فإذا فيها خبر وفاة والدته والبرقية موقعة من محمد علي أبو داود بجدة،فذهلنا جميعا لهذا النبأ ولكننا واسيناه بأن البرقية لم ترد من أحد أقاربه حتى يتأكد،ولكن محمد علي أبو داود زميل أخيه في العمل وفي حكم القريب ولذلك لم تنفع هذه المواساة ولم يكن الاتصال التلفوني بجدة ميسورا كما هو الآن،أخذ البادكوك يبكي ونحن معه وأساتذته وزملاؤه يعزونه (..) واستأجر الشيخ العريف له سيارة إلى جدة بعشرة ريالات بالوفاء والتمام وكان هذا مبلغا باهظا في ذلك الوقت،سافر البادكوك إلى جدة قبيل الظهر ولم يكن الطريق معبدا،وقبل أن يذهب إلى البيت مر على (أمنا حواء) وسأل هناك : (هل دفن أحد) فلما أجيب بالنفي ظن أنهم في انتظاره وأسرع إلى البيت،دخل أولا على غرفة أخيه عبد الرحمن وهو أصم أبكم فسأله عن الجنازة وموعدها فأخبره أنه لم يعلم عن ذلك وأخذ في البكاء والعويل وصعد الأخوان وهما يبكيان وعبد الرحمن أكثر بكاء وعويلا،ووجدا والدتهما تتوضأ فانكب عليها محمد مسلما باكيا بينما جلس عبد الرحمن على الأرض منتحبا،وعرفت الوالدة الخبر فأقبلت على عبد الرحمن تعنفه قائلة : (طيب محمد له حق وجاءته برقية وأنت ما هذا الجنان) وبعد أن سكن الروع أخذوا في التحقيق وسئلت إدارة البرق ،فإذا مرسل البرقية هو محمد حسين أصفهاني بمناسبة أول إبريل وانتحل اسم محمد علي أبو داود. وفي ليلة سفر البادكوك إلى جدة صليت العشاء ثم صليت صلاة الميت الغائب على روح المرحومة واشتكى البادكوك وحكم على الأصفهاني بإعادة المبلغ الجسيم إلى بادكوك مع إنذاره بعدم العودة إلى مثل ذلك،وتخاصم الاثنان طويلا وكان بادكوك إذا صادفه في الأسواق يعرض عنه حتى تصالحا فيما بعد ..){ص 53 - 55}.يشير المؤلف في (المدير الذي غضبنا من أجله) إلى محاولة مبكرة للقيام باعتصام!! .. (كان فضيلة الأستاذ السيد أحمد العربي من أحب أساتذتنا إلينا،كان مدرسا قديرا ومديرا محبوبا أيضا.وهو متمكن من اللغة العربية وقواعدها وآدابها معرفة وتدريسا وحريص على التحدث باللغة العربية حتى عندما يشتم تلاميذه فكثيرا ما كنا نسمع منه (أنا لُكع) و (أنت ضُحَكة) وهو مرب فاضل قدوة في الأخلاق والاعتداد بالنفس والسيرة الحميدة.كنا في السنة الأولى في مدرسة تحضير البعثات عندما قررت مديرية المعارف العامة نقله من مديرية مدرستنا إلى مديرية المعهد العلمي السعودي،فغضبنا لذلك وقررنا أن نمتنع عن تلقي الدروس حتى تعدل المعارف عن رأيها .. وأزعج هذا الخبر المعارف ورجالها،فهده أول مدرسة ثانوية يرونها ويحرصون عليها ومن الصعب أن تقبر في مهدها بمثل هذه الأعمال الصبيانية،جمع المدير الطلاب في إحدى غرف القسم الداخلي بالمدرسة وأقبل علينا السيد محمد شطا مفتش المعارف الأول في ذلك الوقت وكان ذا شخصية قوية ومرهوب الجانب،وصادف عند دخوله علينا أن السيد عمر عقيل كان يلقي علينا واحدة من خطب الزعامة .. وبعد أن حقق معنا انصرف ونحن نضرب أخماسا في أسداس بعد أن تبخرت خطب الزعامة وراحت السكرة وجاءت الفكرة .. وفي اليوم التالي جمعونا مرة أخرى وألقى فضيلة السيد طاهر الدباغ مدير المعارف العام خطابا فينا جمع بين النصيحة والوعيد،ثم أعلن علينا ما قررته وزارة المعارف من فصل بعض المحرضين وخصم نمر الأخلاق على الباقين،وعادت المياه إلى مجاريها .. وبعد عدة أشهر صدر عفو عن المفصولين .. وقد عاد السيد أحمد العربي مرة أخرى إلى مديرية البعثات بعد مدة وصادف أن كنا في السنة الرابعة وتأخرنا عن صلاة الظهر جماعة وكان هو يؤم طلاب المدرسة وجئنا إلى مكان الصلاة وقدمنا السيد حسن شطا (إمام الطوارئ) وصلينا خلفه .. وبعد انتهاء الصلاة دعانا المدير وعد عملنا هذا مخالفة وتحديا فقرر معاقبتنا جميعا بالطرد من المدرسة مددا مختلفة وأقفلت السنة الرابعة .. والمصيبة أنه أرسل قرار الفصل لأولياء أمورنا وبدأت شخصيا أتتبع حركات الوالد من جدة إلى مكة كما نتتبع الآن تحركات الأسطول السادس .. وتوسط المرحوم صالح شطا،والشيخ أحمد الغزاوي – أمد الله في حياته – وقال الشيخ الغزاوي للسيد أحمد العربي : (إن لهؤلاء التلاميذ بالذات معك موقفا عندما غضبوا لك فلعل هذا يكون شفيعا لهم ) . وفعلا عدنا إلى قواعدنا سالمين.){ص 56 - 58}.وعن"الشباب الناهض" يحدثنا المؤلف : (كنا قد بلغنا مبلغ الرجال – أو هكذا خيل إلينا – ونحن في السنة الأخيرة بمدرسة تحضير البعثات،ومع ذلك فقد كنا لا نكاد ننصرف من المدرسة حتى نبدأ فصلا جديدا من فصول الشقاوة .. كان السيد أحمد شطا يودعنا يوميا بوابل من الحجارة،فالمدرسة في القلعة وهو ساكن بجوارها ونحن نضطر للنزول فيتحصن هو بالجبل وتبدأ عملية قذف الحجارة ونحن نجري بمشالحنا وعقلنا ونصطدم بالمارة في الطرقات (..) وحدث مرة أن كانت عائلة خطيبتي – وكنت قد خطبت – في زيارة لبيت في القلعة وتفرجت مع عائلتها على الخطيب المحترم وهو يجري مع العمالقة حاسر الرأس وملابسه في يده وهو الذي يتظاهر بالأدب والتعقل .. وكانت ورطة.وكنا في السنة النهائية نأخذ درسا ليليا إضافيا في علم الأحياء في المدرسة الرحمانية بالمسعى،لأن الأستاذ سليمان رشوان كان عنده جدول كامل أثناء النهار فكان يعطينا هذا الدرس ليلا،وذات ليلة بكرنا في الذهاب إلى المدرسة وكانت العراق قد دخلت يومها في حرب مع الإنجليز أيام رشيد عالي الكيلاني،وسرت موجة حماسة للشعب الشقيق بين الناس .. وبحثنا هذا الموضوع في تلك الليلة .. وتأخر الأستاذ قليلا .. ففكرنا في تحويل الحماسة إلى حركة إيجابية فأطفأنا الأتاريك وأخذنا نجري إلى خارج المدرسة،فقابلنا الأستاذ رشوان صاعدا درج المدرسة فانزعج من هذا الطابور المبرطع،فأخبرناه أننا أعلنا الحرب خلاص،فازداد انزعاجه وارتج عليه ولم يتكلم،وواصلنا جرينا وهو يصب علينا وابلا من الشتائم بعد أن عاد إلى وعيه .. ومشيت مع حسن شطا وعلوي جفري.. فقابلنا الهرساني عند باب النبي مع زميل آخر فسألنا عن سبب خروجنا فأخبرناه أننا نتمشى لإضاعة الوقت،وأننا عائدون إلى المدرسة،وفعلا سبقناه في اتجاهها .. وبدلا من أن ندخل إلى المدرسة أخذنا نجري من زقاق البيض إلى القشاشية والناس يتعجبون من هؤلاء الشحوط الراكضين،وعدنا إلى المسعى لنقابل الهرساني من جديد،وكان قد ذهب إلى المدرسة ووجد الأنوار مطفأة – والأرض قفرة والمزار بعيد – فواجهنا غاضبا وقال : (خلاص أنا فقدت الثقة فيكم) وظللنا مدة كبيرة نتندر بهذه الثقة المفقودة حتى أذن الله لها أن تعود وأن نحظى بها مرة أخرى.){ص 61 - 63}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.
    س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
    ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  3. #3

    رد: مذكرات طالب"1"

    مذكرات طالب"3"
    انتهت الدراسة في مدرسة البعثات،والتحق المؤلف بسلك التدريس ثم .. (أعلن عن عزم الحكومة ابتعاثنا وقنابل الألمان تقترب من الإسكندرية قبل معركة العلمين،وطائراتهم تتردد على القاهرة والإسكندرية،فحزمنا أمتعتنا،وكنت وقتها مدرسا بمدرسة الفلاح بجدة وفي حاجة للبقاء في الوظيفة ولذلك تركتها مكرها لئلا يعتقد الناس : أني أحمق .. وأقامت مديرية المعارف العامة حفلا لتوديعنا في جدة شهده قائمقام جدة وكبار الموظفين والوجهاء .. وودعنا مديرنا السيد أحمد العربي بقصيدة جميلة يقول في مطلعها مخاطبا الباخرة التي ستقلنا :خففي السير يا فتاة البحار ***** وأرفقي يا فتاة بالسفار (..) وقد ألقيت يومها قصيدة قلت في مطلعها :جلال اليوم بل يوم الجلال ***** أثار معاني الشعر الغوالي (..) جمعنا السيد طاهر الدباغ قبل بدء الرحلة وكنا في جدة ننتظر الباخرة عدة أيام وبسبب ظروف الحرب لم نعرف تاريخ وصولها إلا قبل الوصول بليلة،وقال لنا السيد طاهر : إن السنة أنه إذا كان هناك جماعة في سفر فعليهم أن يؤمروا أحدهم،وأنه اختار علوي جفري ليكون أميرنا في الرحلة.وقد تأثرت في نفسي فقد كنت أول البعثة ولكن صغر سني حال بيني وبين الأمارة ومع ذلك فقد كانت هذه الإمارة عبئا مع الشلة الكريمة،فقد لقي أمير الرحلة الكثير من العنت والتريقة وكنا نترقب يوم وصولنا إلى السويس لتنتهي هذه الإمارة .. وكانت الباخرة تسير في ظلام دامس بسبب الحرب،وكان يحدث ونحن نقضي الوقت في لعب ومرح أثناء النهار وأحيانا أثناء الليل أن تدوي صفارة الإنذار ويتجارى البحارة ونجري نحن نلبس أحزمة النجاة،ثم يظهر لنا أن المسألة مناورة لتدريب البحارة والركاب على التصرف السريع أثناء الخطر. وكان الهرساني أكثرنا خوفا فكنا نوهمه بحدوث الغارات ونجري في الطرقات فيندفع ويلبس حزام النجاة حتى قرر أخيرا أن يلبس هذا الحزام ليلا ونهارا وكان منظره عجيبا وهو بالحزام وشفتاه تتلوان جميع ما حفظه من الأدعية والأوراد .. وكانت الباخرة تحوي دورات مياه أفرنجية لم نرها من قبل وكان تصرفنا فيها مثيرا للضحك ونحن نستعملها لأول مرة (..) وأخيرا ألقت الباخرة مراسيها في ميناء السويس لنجد في استقبالنا أستاذنا ولي الدين أسعد مراقب البعثة وقد استقبلنا استقبالا يليق بالمقام ويشبه إلى حد كبير استقبال الحجاج بن يوسف لأهالي العراق ..){ص 70 - 73}. "الليلة الأولى في مصر" .. (وصلنا في المساء إلى السويس،وأخذنا السيد ولي الدين أسعد إلى فندق الحميدية المطل على السكة الحديد،وقضينا الليلة مع مضيف جديد تعرفنا عليه لأول مرة وهو"البق".لم ننم طوال الليل وكنا نتسلى بالضحك والمرح ما عدا السيد حسن شطا الذي كانت تبدو عليه دلائل الفزع ولم يشأ أن يخبرنا عن سبب فزعه إلا في الصباح عندما سألنا : (ألم تسمعوا صوت المجنون الذي يصيح طوال الليل) ولما أخبرناه بالنفي تعجب،وأخيرا فهمنا من مجرى الحديث أنه يقصد صفير القطارات .. وكان كلما صفر قطار ظنه مجنونا يصيح فزاد فزعه واضطرابه.وفي الصباح أقلنا القطار إلى القاهرة .. ودوت الزغاريد في محطة مصر مرحبة (بمشايخ العرب) الذين أتوا بالجملة ونحن في دهشة عن كل ما تقع عليه عيوننا من مناظر .. وأخيرا وصلنا إلى الدار المؤجرة لنا في حي عابدين .. وبعد العصر ذهبنا مع السيد ولي الدين أسعد إلى محلات أفيرينو حيث اشترينا بدلا جاهزة ولم نخرج إلا ونحن نرتدي الملابس الجديدة،وأصر السيد ولي الدين على أن نلبس الطرابيش استكمالا للحشمة والوقار،وظللنا سنة كاملة نلبس الطرابيش ولا نستطيع الخروج من دار البعثة بغيرها،وإلا تعرضنا للخصم من رواتبنا المتواضعة .. وأراد السيد ولي الدين أن يرينا العين الحمراء من البداية،فألقى فينا خطابا ضمنه كثيرا من النصائح،وختمه بجملته التقليدية الحجاجية (والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل) وكنا فعلا نخافه ونحترمه حتى زال الخوف تدريجيا،وبدأنا في عمل المقالب التي احتار في القضاء عليها،ولهذه المقالب قصة أو قصص سوف نقدمها تباعا في هذه المذكرات.بعد المغرب فكرنا في التنزه والترويح عن النفس فذهبنا إلى أحد أماكن النزهة جميعا وكنا خمسة عشر لا نفترق أبدأ (..) منذ بدأت رحلتنا من جدة حتى وصولنا إلى القاهرة،كنا نسرد أسماءنا في كل مناسبة. عند موظفي الجوازات والحجر الصحي وموظفي الباخرة والفندق إلخ .. ولذلك عندما خرجنا في أول ليلة لوصولنا إلى القاهرة نطلب نزهة وذهبنا إلى إحدى دور السينما العامة في حي السيدة زينب وجدنا عند مدخل الدار شباك التذاكر والعامل جالس خلفه لأخذ النقود،فأردت أن أظهر النباهة وسرعة الخاطر،فتقدمت الزملاء وطلبت من الرجل خمس عشرة تذكرة،وبدأت أملي عليه الأسماء ليعطينا التذاكر بموجبها،وحملق الرجل في وجهي تارة،ثم في طربوشي وبدلتي تارة أخرى،وكان الزي الأفرنجي لم يزل غريبا على جسمي،ولابد أن ربطة العنق كانت توحي بأني غريب على البلد وعلى الملابس الأفرنجية وعلى دور السينما. ثم انفجر الرجل ضاحكا وانفجر الزملاء خلفي يضحكون إظهارا لشعورهم الكريم نحو هذا العباطة التاريخية.وفي ليلة تالية ذهبت مع شرف كاظم مبكرين لحجز الأماكن لنا وللزملاء وكنا قبل أن نختار الدار التي سنتنزه فيها نبحث عن أقرب مسجد إليها لأداء الفريضة .. وحجزنا الأماكن ثم ذهبنا لصلاة المغرب في مسجد قريب في شارع عماد الدين – وعلى فكرة – كان السيد ولي الدين يسميه شارع – هدم الدين – وعند عودتنا أخطأنا الطريق وأخذنا نتخبط في الشوارع وكلها متشابهة على الغريب وأخيرا وصلنا راكضين لنجد العرض قد بدأ ولنجد إخواننا على باب الدار يمطروننا بوابل من الشتائم المنتقاة من حارة أسفل.){ص 74 - 78}.ويقف أعضاء البعثة على "أبواب الجامعة" : ( كان مجموعي يؤهلني لدخول كلية الطب وفعلا قدم اسمي لهذه الكلية وإن كان راودني شعور بالرغبة في الدخول في كلية الآداب ولكني تغلبت أخيرا على هذا الشعور،وكان السيد ولي الدين يأخذنا ويدور بنا على الكليات وأخذت بعض الكليات تعتذر لوصولنا بعد شهر من ابتداء الدراسة وللخوف من ضعف مستوانا : فعميد كلية التجارة لم يقبل زملاءنا في الكلية إلا بعد جهود جبارة من السيد ولي الدين ومع ذلك كان زملاءنا دائما في مقدمة الناجحين رغم أنهم كانوا لا يعرفون اللغة الفرنسية،ودرسوا مقرر الثانوي والسنة الأولى في بضعة شهور .. ووصلنا قبل أن يصل التحويل للسيد ولي الدين ولم يكن في الإمكان دخول كلية الطيب إلا بعد دفع المصاريف الدراسية مقدما ولم تكن عندي نقود تكفي لذلك،وعرض عليّ بعض الزملاء المساعدة فأبيت شاكرا حتى وصل التحويل للسيد ولي الدين ودفع لي المصاريف،وبقيت مشكلة البادكوك،رغب في دخول كلية الطب،وكان العدد المسموح لغاية ثلاثة فقط،فقدم له السيد ولي الدين في كلية الزراعة،فشق ذلك على البادكوك،لقد كانت أمنيته وهو في الثانوي أن يتعلم الصيدلة ويفتح صيدلية في شارع فيصل بجدة،ويتضارب كل يوم مع سعيد تمر {هل هو والد "فاروق"و"مأمون"تمر صاحبي شركة الأدوية ؟ أيضا : لماذا كلية الزراعة وليست الصيدلة؟!!} بزجاجات حامض الكبريتيك،إنه يرى أمنيته تتبخر،وأتى المرحوم خاله يتوسط دون جدوى،وقد وعدنا خاله بأكلة ديك رومي ظل – رحمه الله – يتملص منها حتى توفي،وكان كلما جاء إلى البعثة نلتف حوله ونرحب به ونتحدث عن فوائد الديك الرومي،ولكن آمالنا تبخرت كما تبخرت آمال البادكوك في كلية الطب .. وأخيرا دخل الزراعة مكرها،ترى لو عادت به الأيام إلى الوراء فهل يختار بديلا عن الزراعة وفوائدها الجمة وثمراتها اللطيفة في كازينو كيلو عشرة؟){ص 79 - 80}. مرة أخرى يذكر المؤلف مسالة المحافظة على الصلاة في "السلف والخلف" : ( أما السلف فهو بكل تواضع الداعي وزملاءه أعضاء أول بعثة أرسلت إلى مصر من مدرسة تحضير البعثات،كنا محافظين جدا على كل شيء،الصلاة في أوقاتها جماعة بدار البعثة ولم يكن أحد منا يتخلف عن الصلاة خوفا من خصم الراتب كما اتبع السيد ولي الدين مع البعثات اللاحقة،والطربوش كان من المستحيل أن نغادر الدار بدونه في الكلية وفي الأسواق وفي المتنزهات .. وكانت النزهة المفضلة عند السيد ولي الدين التي ينصحنا بها دائما هي أن نذهب إلى كوبري قصر النيل القريب من دارنا ونقضي فيه المساء لنستنشق هواء البحر الأبيض المتوسط حتى لم نبق بقية من هذا الهواء لغيرنا .. وكنا لا نخرج إلا جماعات وكثيرا ما كنا نشاهد مجموعة واحدة : وكنا إذا سمعنا عن منتزه جيد أو دار جديدة،للفسحة لا يسمح لنا السيد ولي الدين إلا بعد أن يصحبنا إليها في أول مرة فإن وجدها تتماشى مع الفضائل والأخلاق سمح لنا بها فيما بعد. وكنا لا نتأخر خارج الدار في المساء إلا ليلة الجمعة فقط حيث نتأخر حتى الساعة التاسعة والنصف أفرنجي ونعود لنجد السيد ولي الدين في الدار يسجل حضورنا ولا أذكر أننا تأخرنا عن هذا الموعد قط طيلة عام كامل إلا مرتين تعرضنا فيها للتحقيق والتهديد بالخصم ثم تبنا .. وكان من الأيام المحرم علينا فيها الخروج من البعثة يوم شم النسيم لأنه يوم تنتحر فيه الفضيلة على رأي السيد ولي الدين وهو يوم لا يبقى فيه إنسان في داره في مصر.إن السيد ولي الدين مجموعة من فضائل وأخلاق ويحرص على التربية الدينية العربية،ومن حسن الصدف أني أصل إلى هذه الحلقة من المذكرات في الوقت الذي تلقيت فيه نشرة منه عن مدارس منيل الروضة التي يشرف عليها والتي تعد من أرقى المدارس الخاصة في مصر من حيث مناهج الدراسة فضلا عن التربية الدينية العربية التي يخص بها طلابها.هذا ما كان من أمر السلف،ثم جاءت البعثة الثانية أو على الأصح جاء الخلف – بسكون اللام – وبدأت حياتنا في البعث تدخل في طور جديد .. ويكفي أن تعرف أن من طلاب البعثة الثانية أسعد جمجوم وعبد الله مراد وحسين العطاس لتعرف مقدار التطور الجديد (..) وصل أعضاء البعثة لثانية واستقبلناها مرحبين وأخذنا نسمع منهم أخبار الوطن فقد كنا في شوق إليه طيلة عام كامل .. كانت الحرب في العلمين والمواصلات بيننا وبين المملكة بطيئة جدا وهي محصورة في المواصلات البحرية في ذلك الوقت. وذهبنا مع الزملاء والسيد ولي الدين إلى محلات أفيرينو وأخذنا نلبسهم البدل الجاهزة،ونعلمهم ربطة العنق،ثم وضعنا الطرابيش على رؤوسهم حسب النظام المتبع في البعثة،وفي مساء يوم وصولهم أحبوا أن يزوروا معالم القاهرة ويتفسحوا وكان رائدهم في ذلك المساء أسعد جمجوم فماذا فعل؟ قال لهم أن المشي متعب والمسافة بعيدة وكان قد سبقهم بأيام وعرف أشياء كثيرة عن البلد واستدعى عربية "كارو"من التي يركب عليها النساء البلديات في القاهرة واركب الزملاء المحترمين ببدلهم الأنيقة وطرابيشهم المحترمة, فكنت ترى المشائخ : با بصيل وصالح جمال وحسن فقيها وعبد الله مراد وعبد القادر كعكي يتربعون على العربية الكارو ومعهم بالطبع أسعد جمجوم لئلا ينفضح المقلب .. وأخذ يتجول بهم في شوارع القاهرة والناس في عجب من هذا المنظر الطرابيشي وهم لا يعلمون سر تعجب الناس. شيء واحد ألوم أسعد عليه أنه لم يأخذ صورة فوتوغرافية لهذه المجموعة العجيبة على العربية"الكارو"لأن هذه الصورة لو نشرت مع هذه الذكرى لكانت رائعة ..)أسعد علأسع أمم{ص 83 - 86 }. نختم هذه الحلقة بـ"الكمسارية اشتكوا" ولكنهم لم يشتكوا "من كثرت المشاوير"بل من شيء آخر!! (لقد مرت بنا مع الكمسارية في مصر طرائف كثيرة تستحق أن نفرد لها هذه المذكرة،وهذه الطرائف تشكل بطبيعة الحال فن التزويغ من دفع التذاكر وقد برعا في هذا الفن إلى حد كبير وكان من بين أصدقائنا كمساري ترام أزهري يحمل شهادة الأزهر ويحفظ كثيرا من الشعر والأقوال المأثورة كنا نعقد معه ندوة أدبية متنقلة .. وكانت محطة الأتوبيس المجاورة لدار البعثة اسمها – المنيل – وكان أحد زملائنا يصر على تسميتها – بالمنيّل – بالياء المشددة وقتا طويلا {كتبت في الأصل : "بالمنبل – بالباء المشددة" : وهو خطأ واضح} (..) وللبادكوك قصة طريفة مع كمساري ترام ومع عمدة كان راكبا في الترام،أما قصته مع الكمساري فهي التي سأذكرها فيما يلي،وأما قصته مع العمدة فأنا على استعداد لروايتها شفهيا لمن يطلبها .. وعلى فكرة البادكوك المذكور في هذه المذكرات هو الأستاذ محمد بادكوك مدير فرع الزراعة بجدة،وليس بادكوك الخارجية وأنا أذكر هذا التصحيح بناء على طلب الصديق .. (..) وصل سليمان سلامة إلى مصر وكان الوصي عليه ابن عمته أسعد جمجوم ( آخر زمن) فأخذه في القطار إلى الإسكندرية لإلحاقه بكلية فيكتوريا وأخذ أسعد تذكرة ونصف لهما وكان سليمان طويلا وكان لا يزال خجولا .. ومشى بهما القطار وأقبل الكمساري يسأل عن التذاكر وسال عن صاحب نصف التذكرة فأشار أسعد إلى سليمان فطلب الكمساري من سليمان الوقوف فوقف وأنظار الناس تتطلع إليه والكمساري يقول : (شوفو يا أفندية كل ده نصف راكب) والعرق يتصبب من سليمان وأسعد يضحك ثم دفعوا فرق التذكرة والغرامة وسليمان يلعن الوصية والوصي المحترم.){ ص87 - 89}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  4. #4

    رد: مذكرات طالب"1"



    مذكرات طالب"4"
    ويزف المؤلف إلينا خبر إنشاء الطلاب المبتعثين (عصابة)!! .. ( اعتاد بعض زملائنا في البعثة أن تصل إليهم مواد غذائية من أهاليهم يبرونهم بها بينما كان البعض الآخر محرومين والمساواة كانت واجبة ونحن نعيش في بيئة واحدة. وكانت الصراصير لا تنقطع عن دار البعثة وبعد البحث عن السبب وجد أن المواد الغذائية المخزنة في دواليب بعض الزملاء من أهم العوامل في تكاثر الصراصير،كل هذه العوامل أوحت إلى حسين العطاس وأسعد جمجوم بتشكيل العصابة في البعثة .. وهكذا كانت أهدافها النبيلة تنحصر فيما يلي :
    1 - المساواة بين الزملاء.
    2 - مكافحة الصراصير.
    3 - عمل المقالب الطريفة للترفيه عن طلاب البعثة. ( ..) وقد التحقت أنا بالعصابة بعد أن عرفت أهدافها النبيلة (..) وكان السيد أحمد شطا من أكبر مقاومي العصابة حتى سميناه في بياناتنا التي كنا نصدرها ونعلقها خفية في المناسبات (مدير الأمر العام) ولم يتمكن أحد من كشف أسرار العصابة وخططها أبدا (..) وكنا في أيام البعثة الأولى لا نخرج إلا جماعات وذلك بطبيعتنا دون أمر من المراقب. ثم لما جاءت البعثة الثانية عمل السيد ولي الدين روادا كنت واحدا منهم يرأسون الجماعات التي تخرج للفسحة في أعداد لا تقل عن ثلاثة،ثم انتهى نظام الرواد بمرور الوقت وكان السيد ولي الدين يحتم علينا الكتابة في دفتر خاص اسم المكان الذي سنقضي فيه فسحة ليلة الجمعة،ولم يكن يصرح لنا بالخروج إلا ليلة الجمعة. وكان يرابط في دار البعثة في هذه الليلة ليسجل أوقات عودتنا ولم يكن يسمح لنا بالتأخر بعد العاشرة مساء بالتوقيت الأفرنجي .. وفي إحدى ليالي الجمع كان السيد ولي الدين في دار البعثة يراقب خروجنا وإذا برشيد رضوان ومحمد منصوري خارجان وقد لبس كل منهما ملابسه الأنيقة فسألهما السيد ولي الدين : (إلى أين؟) فقالا بسلامة نية : (الكيت كات) وكانا قد رأيا إعلانا عنه في الجريدة ولم يكونا يعرفان شيئا بعد عن القاهرة. فانبرى لهما السيد ولي الدين : ( كيت كات في عينكم،إن شاء الله أكتكت دماغكم). وألقى عليهما محاضرة جديدة في فوائد استنشاق هواء البحر الأبيض المتوسط .. وقد استمر دفتر الضبط حتى جاء أسعد جمجوم وكان سببا في إلغائه. كتب ذات ليلة : سأذهب إلى محل كذا رواية كذا،تمثيل كذا،إخراج كذا،تصوير كذا،إنتاج كذا .. وهكذا حتى ملأ صفحة كاملة من دفتر الضبط،وعندما اطلع السيد ولي الدين على الدفتر أعلن خصم خمسين قرشا من راتب أسعد .. فسكت أسعد حتى كانت ليلة البريد التي يسهر فيها السيد ولي الدين في البعثة ليعد الرسائل للمعارف،وكان أسعد هو المكلف بصيانة كهرباء البعثة مقابل مكافأة خاصة،أطفأ أسعد الكهرباء في تلك الليلة وثار السيد ولي الدين واستدعى أسعد،فساومه أسعد على إصلاح الكهرباء مقابل إعادة الخمسين قرشا المخصومة،وفعلا سلم السيد ولي الدين المبلغ لأسعد الذي أصلح الكهرباء في الحال،وهكذا كان أسعد جزاه الله خيرا أول من دق مسمارا في نعش دفتر الضبط ثم توالت الحوادث وانتهى هذا ألدفتر إلى غير رجعة {"من حوادث العصابة"} للعصابة حوادث هامة تستحق أن يفرد لكل حادثة منها فصل خاص من هذه المذكرات وهذا ما سنراه،ولكن هناك حوادث صغيرة أذكر بعضها في هذه المذكرة كنماذج صغيرة .. وصلت إلى محمد منصوري علبة تمر محشو باللوز بها نحو أقتين ووصلت إلينا الأخبار فصادرناها ووجدناها لذيذة جدا وعليها سمسم .. ثم وضعناها في مكان أمين للتزود منها عند الحاجة وكان الوقت بعد الظهر،وفي المساء كنا نتعشى في دار البعثة وكان الأكل في ذلك اليوم دجاجا وهو من الأيام الهامة في البعثة.
    وعند خروجنا من المطعم علمنا أن السيد ولي الدين قد بلغه الحادث وأنه سيقوم بحملة تفتيشية وفي الحال صعدنا إلى مخبأ التمر وكنا خمسة ولم نترك العلبة حتى أكلنا جميع ما فيها رغم عشائنا الدسم وألقينا العلبة في الشارع،وفتش السيد ولي الدين فلم يجد شيئا .. وحدث بعدها أن جاءت تنكة تمر لعبد الله البغدادي ولم تكن محشوة باللوز فصادرناها وأخذنا نأكل منها ونوزع على الطلاب. وكنا نعمل ذلك في الخفاء حتى لا يرانا البغدادي .. وفي اليوم التالي علمنا أن البغدادي شكا للسيد ولي الدين مراقب البعثة وكأنه أراد أن يثير اهتمامه فأخبره أنها تمر باللوز .. وما أن علمنا حتى أخرجنا التنكة من مخبأها وأخذنا نأكل علنا والبغدادي لا يستطيع أن يتكلم فإنه قد شكا عن فقد تمر باللوز .. وجاءت بعثة جديدة فيها هاشم طاهر وأحضر معه زنبيل بلح زهو،وهذا شيء نادر في مصر،ووقفنا على الباب نرحب بالزملاء الجدد ونراقب ما معهم في نفس الوقت فقد كانت العصابة تنشط عند وصول قادمين جدد محملين بما لذ وطاب،ووضع هاشم الزنبيل على باب غرفة السيد ولي الدين ودخل ليسلم عليه،وأسرع الطريقي – وكان من الأعضاء البارزين – وأخذ الزنبيل ووضعه عند الطلاب المصريين الذين كانوا يسكنون على سطح البعثة ولم يكونوا عرضة للتفتيش،وخرج هاشم ليجد الزنبيل قد طار،فعاد إلى السيد ولي الدين وشكا له فضحك السيد ولي الدين لأنه أدرك السر،وأراد هاشم أن يثير اهتمام السيد ولي الدين أكثر فأخبره أنه أحضر الزنبيل هدية له .. فقال السيد ولي الدين أنه ما دام الأمر كذلك فإنه يشكره ويعتبر الزنبيل قد وصل،فقد كان السيد ولي الدين يعرف من سوابق العصابة أن لا فائدة من البحث وحرقان الدم .. ){ص 90 - 99}.
    كما قلنا من قبل،حمل الطلاب معهم عادة حب (المضاربات) – ليست المضاربات التجارية بطبيعة الحال – حتى أسسوا "فرق التحريش" . ( كان يلذ لنا في البعثة التحريش بين الزملاء،ونسر جميعا لمنظر المضاربات،ومن الذين اشتهروا بالتحريش أحمد شطا وشرف كاظم وأمين جاوه وعلي غسال والداعي .. ولو أنني أردت استقصاء جميع المضاربات لوفيت مجلدا عنها هذا إذا أسعفتني الذاكرة. (..) كان لا يمر يوم إلا نحرش فيه بين أحمد شطا وسعيد آدم وكانا يقضيان الساعات في المضاربة بالأيدي وبجرادل الماء ونحن نتفرج ونوقد النار كلما أوشكت أن تنطفئ.
    وعندما جاء محمد صالح رضوان إلى مصر لأول مرة كان الشيخ حامد رويحي ولي أمره وأوصى ابنه المرحوم عبد الحميد بملاحظته وكان الأخير يسكن معنا في البعثة،ويأتي محمد صالح لزيارته ويظهر له الاحترام والأدب فأردنا أن نزيل هذا الحجاب بينهما وأخذنا نحرش بينهما وكان التوفيق حليفنا ولكن محمد صالح كان يأتي ببدلته ويخشى تمزقها فأعددنا له ثوبا خاصا للمضاربة نقدمه له حال دخوله إلى دار البعثة لتبدأ المضاربة ونمتع أنظارنا بمشاهدة الفوارق وهي تتحطم بين التلميذ وبين ولي أمره.
    ومن ألطف التحريشات ما قمنا به بين علوي جفري وسلطان زمزمي. وكانا ينامان في غرفة واحدة .. ويتكلمان أثناء النوم،بل ويمشيان،وكان من عادتهما أن يغلبهما النوم مبكرين،وذات ليلة كنا نذاكر في غرفتهما .. بدأ أحدهما يتكلم وهو نائم وأخذ الآخر يرد عليه فتدخلنا وحرشنا بينهما في الكلام فأخذا يكيلان الشتائم لبعضهما وهما نائمان .. وأخيرا بلغ بهما الحماس أن قاما ليتضاربا دون أن يشعر أحدهما بشيء،ولم يستيقظا من النوم إلى على رنين الكفوف يكيلها أحدهما للآخر،ونحن نكاد نموت من الضحك على هذا المنظر الفريد.){ص 111 - 112}.
    كدت أن أتجاوز ما جاء تحت عنوان (زواج أبو شفوع" .. أو زواجه الثاني على الأصح،بسبب الاختلاف في وجهة النظر بين (أبو شفوع) وأهل زوجته .. وتلك (العجيبة) التي أوردها المؤلف .. رغم أنها تشير إلى بعض من العادات الغريبة .. ولا يقل عنها غرابة ما نقلتُه – دون تحرج،فهو في سياقه – في كراس (قصور على أعمدة الرياح : السعادة الزوجية أقرب إليك من .. والتعاسة كذلك) عن كتاب (الساق على الساق فيما هو الفارياق) لأحمد فارس الشدياق،وذلك حين صور ليلة بنائه بزوجه في مصر،وكيف تجمهر البعض عند باب الغرفة (يشجعون) بأصوات مرتفعة .. وبتلميحات معينة!!! على كل حال .. يقول مؤلفنا هنا :
    ( وأبو شفوع هو الشافعي مساعد الطباخ في البعثة ومن أهل مكة .. وكان شخصية طريفة تمكنت منه الحاروية. وكنت تراه دائما في فناء البعثة (يتقاشع) مع المنيعي أو الغسال أو محمود مرداد. ولقد تزوج مرتين ونحن في مصر وذهب الزملاء يحضرون الزواج الأول وبدأ الفرح. وكان أقارب العروس وأصدقاؤهم من فتوات الحسينية على ما يظهر : وأمثال هذه الأفراح في مصر تنتهي غالبا بمعركة وإلا فقد الفرح أهم خصائصه ولم يجد الفتوات ما يفتخرون به .. وتصدى واحد من الفتوات لطلاب البعثة وفيهم (النشامى) المعدودون فبرز له المنيعي و(خش) له وسط على الطريقة الحجازية في المضاربة .. ولكن يظهر أن الفتوة لم يعترف بهذه الطريقة فاستعمل (البوكس) وفي لحظة كان أخونا المنيعي ممددا على الأرض دون حراك،ودوت الزغاريد تحيي فتوة الحسينية. أما فتوة الحجون فقد حمله زملاؤه الذين آثروا السلامة وعادوا إلى دار البعثة قانعين من الفرح بالفرار.
    وجاء زواج أبو شفوع للمرة الثانية .. وذهبنا لنكبر يومه ولنساهم في النقطة وألف مرة والجدعان وغير ذلك من مظاهر الفرح البلدي في مصر .. وانكمش النشامى في هذه المرة .. وبعد منتصف الليل بدأ الزفاف والنصة،ثم عدنا إلى حلبة الفرح مرة أخرى .. وبعد قليل انسحب أبو شفوع،وظللنا وقتا ثم سمعنا صياحا وتخبيطا على الأبواب فأسرعنا نتلمس السبب .. وكان أبو شفوع يريد أن يثبت (؟؟) فورا وبنفسه .. أما والدة العروس فكانت ترى أن ذلك وحشية وأن من الضروري اتخاذ الوسيلة المتبعة في بعض الأوساط البلدية هناك { في الهامش : "يقوم باللازم الوالدة وإحدى القريبات بالاستعمال ؟؟"} ودارت معركة كان فيها أبو شفوع منفردا وسط مجموعة كبيرة من الرجال والنساء .. وانجلت المعركة أخيرا عن فوز أبو شفوع وخروجه منتصرا مرفوع الرأس وسط الهتاف،هتاف صاخب من طلاب البعثة الذين رأوا في انتصاره ردا كريما على الهزيمة التي منوا بها في زواجه الأول.){ص 113 - 115}.
    من (المعارك) إلى مقلب "بابا شارو" . ( كان السيد ولي الدين أسعد مراقب البعثة يعدد لنا فوائد الإذاعة وأثرها في تثقيف الشعب . وأخذ يذكر أبواب الإذاعة المختلفة حتى قال : ( وحديث الأطفال لبابا شارو .. إنه حديث قيم فيه ثقافة للأطفال،وإني قد عودت أطفالي على انتظار هذا الحديث،وأجلس معهم دائما لسماعه وشرح ما قد يحتاج إلى شرح لهم ..) والتقطها اللبيب .. إذن فالسيد ولي الدين من مستمعي بابا شارو . إن هذه فرصة طيبة لمداعبة السيد ولي الدين .. ,أرسل أسعد جمجوم خطابا بالبريد لبابا شارو قال فيه بعد أن انتحل لنفسه اسما مناسبا ( إن ابني ولي الدين أسعد كثير الشقاوة في البيت .. ويضرب إخوته .. ويعمل كذا وكذا).
    وجلسنا يوم إذاعة حديث الأطفال إلى الراديو وكنا نتخيل السيد ولي الدين جالسا إلى الراديو أيضا مع أبنائه يستمتعون بهذه الثقافة الطيبة.
    وجاء دور الرسائل الموجهة إلى بابا شارو من أهالي الأطفال .. وانطلق بابا شارو يقول :
    (خلاص أنا مخاصمك يا ولي الدين أسعد .. مش عيب بابا يشتكي منك وتعمل شقاوة في البيت وتضرب إخوانك .. إلخ).
    وفي تلك الليلة جاء السيد ولي الدين إلى البعثة لإنجاز البريد .. ودخلنا عليه نعرض مشاكلنا فكان كلما سلم عليه أحد نظر إليه من تحت لتحت وكأنه يقول ( هل أنت الذي عملت العملة).
    ومن المؤكد أن السيد ولي الدين انقطع بعد ذلك عن سماع بابا شارو و فوتنا على أطفاله الاستمتاع بثقافة أحاديث الأطفال.){ص 116 - 117}.
    نختم هذه الحلقة بـ "مقامات الساسي" .. ( أخونا طاهر الساسي كان ذا مزاج عجيب .. يكتب يوميا خطابا لوالده يشرح فيه دقائق ما يحدث في البعثة . (اليوم كان الأكل دجاجا ولكن الطباخ لم ينظفه جيدا .. واليوم تضارب فلان مع فلان بسبب كذا .. واليوم تخاصمت مع فلان ولم أتصالح معه إلى غير ذلك) .. وقد تضارب مرة مع رشيد رضوان مضاربة حامية الوطيس وطبعا فتك به رشيد حتى سال دم الساسي .. وبعد أن تدخل الموفقون بينهما وقبل أن يصلح الساسي من هندامه وشكله أخذ ورقة وقلما وكتب لوالده :
    (والدي العزيز : أكتب إليك والدماء تسيل على وجهي .. ثم أخذ يصف المعركة وصفا دقيقا ويسمي رشيد في كتابه تسميات تدخل في باب المملكة الحيوانية ...) {ص 118}.

    إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.

    س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
    ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))
    Mahmood-1380@hotmail.com</I>

    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  5. #5

    رد: مذكرات طالب"1"

    مذكرات طالب"5"نبدأ هذه الحلقة بـحادث "بط الشيخ عمر رفيع" .. (هذا الحادث يعتبر من أهم الحوادث في البعثة .. وكانت العصابة تحتفل كل عام بذكراه وتسميه (يوم البط) وفي إحدى المناسبات ألقى أسعد جمجوم قصيدة مطلعها :يا يوم البط نمجّده **** ميدان الجيزة موعدهكان الشيخ عمر رفيع يربي في دار البعثة خمس بطات ويعدها لحفلة غداء للمرحوم السيد صالح شطا الذي كان يستشفي في مصر.هذه معلوماتنا ولكن للحقيقة والتاريخ نذكر أن الشيخ عمر رفيع ينفي أن البط له،ويؤكد أن البط للمرحوم محمد سالم. وكان شكل البط وهو يتهادى في فناء البعثة مغريا ومسيلا للعاب أعضاء العصابة .. وفي إحدى ليالي الجمع تقرر اختطاف البط .. ولا أذكر أني كنت من مدبري الخطة.ولكن للحقيقة والتاريخ مرة أخرى أذكر أني كنت منهمكا في مذاكرة التشريح استعدادا للاختبار ولكني كنت مطلعا على تفاصيل العملية أولا فأول وللأسف لم أذق لحم البط .. حمل أعضاء العصابة البط وأخرجوه من الباب الخلفي للبعثة وشاهدهم مكوجي البعثة ولكنهم هددوه بالتسبب في فصله من البعثة إذا أذاع الخبر.وكان منظر أفندية يحملون البط على كوبري عباس والبط يصيح منظرا غريبا أصلحه رشيد رضوان والمرحوم الرويحي بأن قالا لرفاقهما بصوت عال مسموع : (الله يلعن كلية الطب،حتى البط يكلفوننا بتشريحه).ووصل الزملاء إلى مطعم في الجيزة واتفقوا مع الطباخ على طهيه وعمل عشاء لهم .. وكان في المطعم مصادفة البغدادي ومحمود حجازي وأحمد المبارك من طلاب البعثة،فطلب منهم أسعد جمجوم أن يشاركهم في الغنيمة لئلا يفضحوهم على شرط ألا يعترفوا في التحقيق.أما المبارك فوعد بعدم إفشاء السر ولكنه اعتذر عن الاشتراك لأنه يخشى أن يحلفه السيد ولي الدين اليمين فلا يستطيع النكران أن أكل معهم .. أما الباقون فقد وقعوا جميعا على محضر أعده أسعد قالوا فيه : (نعترف أننا سرقنا البط و اشتركنا جميعا في أكله) .. وأعتقد أن أسعد لا زال يحتفظ بهذا المحضر .. واكتشف الشيخ عمر الحادثة في نفس الليلة ولكن أسعد كان ملازما له ولم يغب إلا في فترات الاختطاف والأكل ولم يلاحظ الشيخ عمر هذا التغيب،وأنا كنت أذاكر في غرفتي،ولذلك وجدنا من السهل إلصاق التهمة بعلوي جفري وسعيد آدم وحسن فقيها وكانوا يشتركون في عشاء في البعثة مكون من الكبد والكلاوي وكان حسن فقيها يشرف في المطبخ على إعداد العشاء،فاعتقد الشيخ عمر بإيعاز منا أن هذه كبد و كلاوي البط المخطوف. ولكن الجماعة حلفوا له الأيمان المغلظة .. فزال الشك منه قليلا حتى تأكد في اليوم التالي من الحقيقة .. ولكن المسألة مرت بسلام.. {"يوم البلاد السعودية"} أقامت كلية الآداب بالقاهرة سلسلة من الأيام عن البلدان العربية،فيوم للعراق ويوم لسوريا .. إلخ.وكان طلاب كل بلد عربي يظهرون في يومهم ألوانا من النشاط الاجتماعي والمسامرات في بلادهم. وكان اليوم عبارة عن مهجران عظيم للدعاية.وجاءنا وزملاؤنا في كلية الآداب يطلبون منا إعداد برنامج لإقامة يوم للبلاد العربية السعودية وبدأنا نعد البرنامج ونعمل بروفات في دار البعثة .. وكان سعادة الشيخ عبد الرؤوف الصبان رئيسا لمجلس المعارف ومقيما وقتئذ في مصر .. فأطلعناه على البرنامج،فحذف منه لعبة المزمار التي كنا نتدرب عليها يوميا ويحرص النشامى على وجودها في البرنامج وأقره في ذلك الشيخ أحمد باغفار الذي كان في مصر. وبالطبع كان السيد ولي الدين من المؤيدين لهم.وجاء يوم المهرجان وغصت قاعة المحاضرات الكبرى في كلية الآداب بالمدعوين والأساتذة والطلاب،ووزع برنامج الحفل وكان من بين مواده (لعبة العمال) .. وبدأ تقديم البرنامج .. قدم محمد منصوري مع مجموعة الحجاج بملابس الإحرام وهم يلبون،وكان منظرا مؤثرا .. وقدم رشيد رضوان مع مجموعة أخرى أغاني البدو وهم في العباءات البدوية وكانوا بالطبع يؤلفون كلاما من رؤوسهم لا يمت للغة البدو بشيء،ولكن أحد أساتذة اللغة العربية في الكلية أسرع نحوهم وفي يده ورقة وقلم ليلتقط هذه اللهجات البدوية من منابعها الأصلية .. وقدمنا ألوانا أخرى من البرنامج كانت جميعها محل الإعجاب وكان يومنا أحسن الأيام.ثم جاء دور لعبة العمال . ودخلنا الصالة في الزي الحاروي يتقدمنا باد كوك وعليه عمامة العمد التقليدية وعلى كتفه ما تيسر من المصانف والبقش،ونحن ننشد خلفه : (يا شيخنا حنا قليلة لكننا سم العدا) .. وانتصب الشيخ أحمد باغفار واقفا – وهم ابن خال البادكوك – وقال : (عملوها الفروخ) .. ووضعت النار في وسط الصالة وبدأت لعبة المزمار التي أخفيناها تحت اسم (لعبة العمال) وسر لها الحاضرون جميعا وفي مقدمتهم الشيخ عبد الرؤوف وكان عمدتنا يتقبل التحية والإعجاب .. ثم ألقى الشيخ عبد الرؤوف كلمة شكر فها الحاضرين،كما ارتجل الأستاذ فؤاد شاكر أبياتا أولها :باسم الحجاز وباسم الشعر والأدب ***** هتفت بالشعر في كلية الأدب .. ){ص 121 - 126}.يحدثنا المؤلف عن شخصية ظريفة .. تتلقى (التعزية) في النجاح!! .. (أخونا أحمد المبارك من الشخصيات الظريفة،وقد سبقنا في الابتعاث ووجدناه في مصر،فوجدنا فيه أخا أديبا،كريم الخلق خطيبا على طريقة (كيفما اتفق) .. فهو لا يعد الكلمة التي سيلقيها،بل عندما تطلب منه الكلمة يقف ويلقي كلاما كيفما اتفق .. وكان يتحلى بالأناة وخاصة في الامتحانات فهو لا يرى من الضروري التعجل في إنهاء السنوات الدراسية،فالسنة الدراسية كما وصفها رواد الثقافة تنتهي في بضعة شهور،ولكن الأستاذ المبارك يرى في ذلك إرهاقا للطالب الذي يجب أن يتروى في التحصيل سنة و سنتين وثلاثا حتى يهضم هذه المعلومات المكدسة ويستوعبها .. فإذا جاء اختبار الدور الأول ذهب الأستاذ المبارك بنفس راضية مطمئنة. وخرج منه وهو واثق من عدم النجاح،وأخذ يتلقى التهاني من زملائه،كما أخذ يستقبل زملاء الملحق ويتصدى لزعامتهم وينظم معهم برامج المقالب والفسح في الصيف،غير أن الأستاذ المبارك فوجئ مرة مفاجأة لم تكن في الحسبان خرج من امتحان الدور الأول وهو سعيد للنتيجة المرتقبة وهي بالطبع عدم النجاح .. وأخذ يعد نفسه للدور العظيم الذي ينتظره في الصيف ودخل زميله في كلية اللغة العربية السيد محسن باروم يخبره أن النتيجة قد ظهرت وأن المبارك بين الناجحين،فضحك المبارك وضحكنا وقلنا للباروم : (العب غيرها .. قديمة) ولكن الباروم كان جادا وأخذ يحلف أن المبارك قد نجح .. حينذاك وجم المبارك ولكن لم يكن مصدقا،وقام ليذهب إلى الكلية ويتأكد بنفسه،وذهبنا معه خوفا عليه من أن يصدم بالحقيقة ودخلنا على سكرتير الكلية نسأله فاطلع على الأوراق،وقال : نعم هو ناجح. ولكن المبارك قاطعه صائحا : ( يا أستاذ تأكد ربما أن رقم جلوسي مغلوط) وتأكد السكرتير .. وخرج المبارك وهو مطأطئ الرأس قائلا : ( إنا لله وإنا إليه راجعون) .. ونحن نواسيه ونعزيه والسكرتير في عجب لهذا المنظر الغريب،وكانت ليلة في دار البعثة لم يبتسم فيها المبارك ووفود الطلاب تدخل عليه للتسرية والترويح عنه ورفع معنوياته بعد أن فقد الزعامة التي حافظ عليها بجدارة سنوات طويلة .. وبعد أيام اضطر المبارك مرغما أن يعود لقضاء عطلة الصيف في الأحساء بين أهله،وكان الطريق إليها لا يزال بالسيارة من جدة فالرياض.){ص 130 - 131}.نختم هذه الحلقة بـ "توحيد المشارب" .. ( كنا في أيام البعثة الأولى ذوى مشارب موحدة نتفسح في مجاميع كبيرة ونشاهد في الأسواق معا،وكانت ميولنا واحدة،اكتشف أحدنا – ولا أذكر من هو – مقهى تباع فيها القهوة (أم اللوز) فكنت تجدنا دائما هناك رائحين غادين في مجموعات،وأطلقنا على هذه القهوة من باب الاختصار (أم لوزة) وكان يطيب لنا الجلوس هناك،وكان صاحب المقهى (عباس أفندي) رجلا لطيفا حلو النكتة،فكان يطيب لنا الجلوس معه وقضاء أطيب الأوقات،وتوطدت أواصر الصداقة بينه ومبين البادكوك.وكان لأسعد جمجوم شلته المكونة في الغالب مني ومن البادكوك وعبد الله شرف،وكانت لأسعد سيارة سكودا،وكنا نتقاسم قيمة البنزين ونخرج بها إلى الضواحي للنزهة،وكان في (طبلون) السيارة مفكرة يكتب فيها أسعد إحصاءا يوميا عن نزهاتنا،ولعله يحتفظ بهذه المفكرة فيقدمها للصديق السيد سامي كتبي،خدمة لفن الإحصاء .. ثم اكتشف واحد من الزملاء محل ليلاس في روض الفرج فكنت تجد الزملاء يشغلون ترام 30 كل خميس لقضاء السهرة في ليلاس،وكنت تجد عمر عقيل في الصفوف الأولى،وفي ليلاس نظم بادكوك قصيدته المشهورة :متع عيونك في اللحاظ الدّبل *** واحذر ولا تقترب لئلا تبتلىويقول :وإذا رغبت أبا المليح وفنه *** فاركب ثلاثينا ولا تتمهلوانزل بآخر موقف لترامهم *** واسأل على ليلاس أين وأقبلواجلس على الكرسي منجعصا ولا *** تضع الجاكتة خلف ظهرك تنشلواقعد كما قعد (العقيل) مفرفشا *** وأقدم إذا حق اللقا في الأولويقول :وانده على الجرسون واطلب شاهيا *** أو قهوة وقل التسالي يا أبو عليوانس الهموم ولا تفكر ساعة *** في الوقت أو في عمك (السيد ولي)وإذا بليت بخصم شهر واحد *** فاصبر لحكم الله فهو المبتليوكان إبراهيم الوسية موظفا في البعثة ومشرفا على رشيد رضوان بصفته خاصة،لأنه قريبه ونصحه بعدم ارتياد أحد المحلات .. ولكن رشيد ذهب يوما خفية إلى ذلك المحل فوجد الوسية في الصف الأول .. فناداه قائلا نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيمساء الخير يا سي السيد ماذا أتى بك إلى هنا؟)فانزعج الوسية وقال : ( أنا جئت مخصوص لمراقبتك).ثم انتهت رقابته على رشيد إلى الأبد.وكان من الزملاء من له طابع خاص في الفسح فمثلا : كنت تجد عبد العزيز الربيع دائما في الأمريكين،وحوله مجموعة من الطلاب .. وكنت تجد علي غسال مع مجموعة من الزملاء في حنطور مكشوف في شارع فؤاد وهم يغنون بصوت عال (صهبة) ويصفقون وكأنهم أولاد حارة يتمشون في حواري النقا.){ص 183 - 139}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب)) Mahmood-1380@hotmail.com
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  6. #6

    رد: مذكرات طالب"1"

    مذكرات طالب"6" (الأخيرة)
    نبدأ هذه الحلقة بما يشي بأننا – في بعض الأمور – نعود إلى الخلف .. بدلا من أن نتقدم إلى الأمام!!
    أعني وجود (قانون) محدد .. حتى وإن كان يعاقب من (يحلق لحيته)!!! فهو في المحصلة (قانون) يتم التعامل به،ولا يترك الأمور للمزاج .. (للزميل الباكوك نوادر لطيفة سأذكر جانبا منها هنا علاوة على ما سبق في هذه المذكرات،أو أختمها بقضية حمل السلاح .. على أن الذاكرة قد تسعفني بمجموعة أخرى في المستقبل.
    كان من عادة البادكوك – ونحن في مدرسة البعثات بمكة – أن يرتدي أفخر ملابسه عصر كل يوم ويقصد إلى المسعى لقضاء المساء مع بكر باناجه .. وكان البادكوك عند الحميدية عندما أمسك به شرطي واقتاده إلى الحميدية لأن ذقنه محلوقة،ولم يخرج البادكوك إلا بعد أن أسعفه الشيخ العريف بالغرامة وقدرها سبعة ريالات ونصف وكانت مبلغا جسيما في ذلك الوقت .. وفي ذلك يقول البادكوك من قصيدة فكاهية طويلة :
    سبحان ربك رب العزة الصمد **** ماذا أصبت في ليلة الأحد
    حلقت ذقني وقلت اليوم تمشية **** وكنت أحسب أن المنع لم يرد
    لبست بدلة هايلايف ومنظرتي **** ورحت إلى المسعى على تؤد
    وبينما أنا أمشي إذا أتى رجل **** وقال هيا معي إلى شرطة البلد
    كلم عميمي (عليا) في مخالفة **** ما قال ذاك إلا مت في جسدي
    {في الهامش : "هو المرحوم علي جميل مدير الأمن العام حينذاك".}
    ثم يقول :
    وقلت للضابط المشغول في هلع **** يا ضابط الجند لا تنظر إلى أحد
    فقال إما سجن تبيت به **** أو حالا ادفع رسوم الذقن وابتعد
    وعند ذاك دفعت السبع يتبعها **** نصف وحالا مضى لي البيه على السند (..)
    وفي أحد الأيام اضطر البادكوك لحمل السلاح .. تضارب مع البغدادي وكنت وأسعد عزوز نحرش،وبدأ البغدادي المصارعة بحركة بارعة،فنزع نظارة البادكوك وألقاها جانبا وأصبح البادكوك لا يرى،وبالطبع تغلب عليه البغدادي،وكان البادكوك يصيح فينا : (أعطوني النظارة) ويضربنا ويرفسنا. ثم هرب البغدادي وأقفل غرفته خوفا من انتقام البادكوك .. فقد أخرج مطوة من درجه وجاء يريد كسر باب غرفة البغدادي،فوقفنا أنا وأسعد نحميه بعد أن تطور الأمر والبادكوك يضربنا بيديه،والبغدادي يقرأ الشهادتين وما تيسر من القرآن .. وأخيرا هدأ البادكوك وظل البغدادي وقتا طويلا يخاف من البادكوك .. ويخشى من التلميح){ص 150 - 153}.
    يبدو أن صفة (المزاح) ضمن تركيبة المؤلف ورفاقه،لا تفارقهم .. وإن تجاوزا الحد أحيانا .. (كنا جماعة من طلاب البعثة اعتزمنا العودة إلى الوطن لقضاء إجازة الصيف،ولم تكن الطائرات قد بدأ استعمالها في المواصلات بالصورة الحالية،ذهبنا إلى السويس وبحثنا عن أوتيل متواضع فوجدنا واحدا في شارع فرنسا،وبقينا فيه ثلاثة أيام ننتظر الباخرة.. وكان من المجموعة أمين جاوة وأسعد جمجوم وعلي غسال وحبيب كوثر وزين العابدين الدباغ ومحمد بادكوك وغيرهم .. وكانت صاحبة الفندق امرأة عجوزا أجنبية .. وكانت تعاملنا بقسوة وتطفئ الأنوار في وقت مبكر حتى لا نسهر .. فأردنا الانتقام منها وأخذنا نقضي حاجتنا الخفيفة في البلكون،وفي إحدى الليالي علق أسعد قبقابا في السارية الخاصة بالعلم وهذا يعرض الأوتيل لعقوبة شديدة. وكنا كلما تأزم الموقف بيننا وبينها أرسلنا لها البادكوك فقد كانت علاقتها به طيبة،ويجلس البادكوك بجانبها ويقول لها : (أنت تشبهين أمي) فتنفرج أساريرها وتصفح عنا،وكنا نتمشى يوما في شارع السويس وقابلنا بعض أهالي ينبع ونحن نرتدي الملابس الأفرنجية فسألناهم السؤال التقليدي : (ينبع فيها منارة؟) فدهشوا لأن هذا السر قد انتقل إلى السويس وظنوا أننا مصريون ومع ذلك فقد أجابونا بالإجابة التقليدية أيضا .. وأخيرا ركبنا الباخرة بعد أن اشترينا مقاضي الطريق فقد كنا نركب في الدرجة الثالثة على سطح الباخرة .. وفي الباخرة بدأ الانسجام وكنا في شهر رمضان ولكننا كنا مفطرين لأننا على سفر .. وكان معنا حاج هندي يحب أن يقرأ القرآن بصوت يظنه رخيما فما نكاد نقول له – حتى وهو نائم – (قرآن شريف) حتى يهب جالسا ويأخذ في التلاوة،وكنا لا نتركه ينام أبدا،ولم نكن نحن ننام أيضا فقد كنا في شغل شاغل بالمقالب والأذية .. ومن الطريف أنني زرت مع البادكوك الأستاذ أحمد قنديل بمكتبه في جدة ودخل علينا الحاج الهندي وكدنا أن نقول له على الرغم منا : (قرآن شريف) وتبادلت مع البادكوك النظرات ولكننا كتمنا شعورنا على مضض. وفي اليوم الأخير على الرحلة بقيت عندنا بعض مواد التموين والأثاث فقررنا أن نقيم مزادا ونبيعها ونتقاسم القيمة .. وكان من ضمن المواد قلتان كبيرتان مما يستعمل في مصر لتبريد الماء ولها بزبوز فأغرينا زين العابدين الدباغ بشرائهما بعد أن عددنا له فوائدهما وما كاد يدفع القيمة حتى ألقينا القلتين في البحر .. أما البادكوك فقد اشترى قبقابين كبيرين بخمسة قروش مصرية بينما يساوي القبقاب الواحد في جدة ريالا ونصفا وكان فرحا بها ويتوقع أن والدته – رحمها الله – سوف تفرح للحصول على هذين القبقابين. وهكذا انتهت هذه الرحلة الطريفة وهيهات أن تتيسر لنا المتعة التي وجدناها في هذه الرحلة مرة أخرى.){ص 167 - 169}.
    ويحدثنا المؤلف عن قصة زواجه،ورأيه في الزواج (المبكر) دون يملك شجاعة الحديث عن الطريقة التي سوف يشبع بها الشباب (عاطفتهم) و(غرائزهم) .. ( تمت خطبتي وأنا في المدرسة الثانوية،والتحقت بالجامعة وأنا خاطب مع وقف التنفيذ.{يقصد"متزوج" مع وقف التنفيذ} وفي أول إجازة صيفية لم أعد إلى المملكة لأني كنت أستعد لاختبار الدور الثاني. فلما جاءت الإجازة الصيفية الثانية ولم يكن لدينا اختبار وكان لابد من عودتي {أي أنه عاد مرغما مثله مثل "المبارك"!!}إلى المملكة،كتبت لوالدي أني أرغب في قضاء الإجازة الصيفية عندكم،ولكن على شرط عدم إتمام الزواج إلا بعد التخرج،فقد كانت هناك دلائل على أنه في النية عقد مجموعة زيجات في العائلة. فكتب لي الوالد يطمئني بأن ذلك لن يتم وأن لي مطلق الحرية في الزواج أو التأجيل. جئت مطمئنا .. وبعد قضاء جزء من الإجازة بدأ الاستعداد للزواج وكان يضم أربعة عرسان وأربعة عرائس من العائلة وكنت واحدا منهم .. فذكرت الوالد بالوعد،ولكن العائلة أصرت على أن تتم جميع الزيجات أو تؤجل جميعها .. وأخذ الوالد يبذل لي النصح بطريق مباشر مرة وبواسطة الأقارب مرة أخرى .. وأخذت في الاعتذار خاصة وأن الزواج كان يعني بالنسبة لي قضاء بقية الإجازة فقط مع الزوجة ثم العودة وحدي لإتمام الدراسة،فلم تكن حالتي تسمح باصطحاب زوجتي معي إلى مصر،وهذا أهم ما كان يجعلني أعارض في هذا الزواج بالمراسلة. ولجأت إلى ابن عمي – رحمه الله – للتدخل ولكن دون فائدة،وتطور الموضوع وأصبحت طاعة الوالد ورضاه في الميزان .. ولذلك قبلت الزواج .. وأمضيت شهر العسل في جدة وكان خلال شهر رمضان،وبذلك أصبح لي دون خلق الله نصف شهر عسل فقط .. وعدت لإتمام دراستي .. وكنت أعود إلى المملكة في الإجازات الصيفية فقط حتى وصلت إلى السنة الدراسية الرابعة حيث لحقت بي زوجتي ومعها ابننا الأكبر .. وقد استقرت أحوالي الدراسية بعد ذلك .. وانتظمت مذكراتي بعد الحبس الاضطراري في البيت. ورزقت بنتا وأنا أؤدي الامتحان النهائي ورغم ذلك فقد أديت هذا الامتحان بنجاح تام،وحطمت قول القائل : (ذبح العلم بين "؟؟" النساء) لقد كانت قصة فيها عبرة فإنه رغم ظروفي الخاصة آمنت بأن زواج الأولاد يجب ألا يتم قبل انتهائهم من الحياة الدراسية "فليس المخاطر محمودا وإن سلما"){ص 172 - 173}.
    ويقدم المؤلف فصلا آخر من (المقالب) في "حادث جلل؟" .. (وأي حادث يمكن أن يفوق خبر وفاة السيد عمر عقيل؟ ( أمد الله في حياته ) . لقد كانت تلك الشائعة فاجعة كبرى،أظهرت ما للسيد من مكانة عظيمة في قلوب أبنائه ومريديه،وكانت مبعث سرور ورضا في نفس السيد. أما كيف بدأت القصة،وكيف انتهت فهذا ما سنقدمه في هذه الحلقة.
    كان سمو الأمير عبد الله الفيصل يزور مصر للاستشفاء وله في قلوب الطلاب مكانة كبيرة،فأقام طلاب البعثة حفلة كبرى له في دار البعثة،وأصر السيد عمر يومها على إلقاء خطاب ارتجالي،فألقى الخطاب،وكان مليئا بالحكم والمواعظ (لا أراك الله) وكان من أطرف ما قاله : (إنني لا أذيع سرا إذا قلت ..) وسكت فاشرأبت الأعناق لتعرف هذا السر الخطير فإذا به يكمل الجملة كما يلي : (إذا قلت أن الامتحانات على الأبواب) .. وانتهت الحفلة فأقام لنا سمو الأمير حفلة شيقة في القناطر الخيرية وألقينا الخطب والقصائد والأزجال الفكاهية. وكنا نَعد المقالب التي عملناها في مدير البعثة والمراقب،فكان سمو الأمير يلتفت إلى الأستاذ عبد الحميد حمدي،مراقب البعثة كلما جاء ذكر مقلب فيبادر الأخير قائلا : (لا. مش أنا،لقد عملوا هذا المقلب مع غيري من قبل) .. فسكتنا وقد عزمنا على أن نتحف هذا المراقب الناصح بمقلب تاريخي لا ينسى،وجاء يوم شم النسيم،فذهبنا في صحبة إلى الإسكندرية أنا وأسعد جمجوم واثنان من أقاربه،وفي الطريق قال أسعد : أنه يفكر في إرسال برقية إلى البعثة من الإسكندرية يخبرهم فيها بوفاة الشيخ صادق كردي مراقب البعثة في الإسكندرية،فاعترضت،لأن للشيخ صادق كثيرا من لأقارب في القاهرة وحرام أن نزعجهم،واخترت أن نبرق بوفاة عمر عقيل وكان في بعثة الإسكندرية،قضينا اليوم في البحر ولم أزر دار البعثة هناك ولم يرنا أحد،وبعد الظهر قصدنا إلى مكتب تلغراف سيدي جابر،وتهرب أسعد وأقاربه وتقدمت إلى شباك البرقيات وقدمت برقية تقول : (توفي عمر عقيل بحادث. الجنازة باكر والتوقيع صادق كردي) وسألني عامل التلغراف عن الحادث فأخبرته أنه حادث ترام وقدم لي التعزية اللازمة وعلى الفور عدنا إلى القاهرة فوصلنا إليها قبل وصول التلغراف،وقد زار أسعد البعثة في القاهرة وتأكد من ذلك. وكنت أسكن مع أسعد في بيت خارج البعثة ولم يرنا أحد ونحن نسافر إلى الإسكندرية،ووصلت البرقية إلى دار البعثة واضطربت. وكان للمراقب قريب في مجلس الوزراء واهتزت أسلاك التلفون بين القاهرة والإسكندرية لسؤال المستشفيات والمشارح (..) وسافر المراقب ومعه هاشم ومحمد الدباغ وغيرهم ولم يجدوا في ذلك الوقت وسيلة للسفر إلا قطار البضائع الذي يقف في كل محطة،ووصلوا في وقت متأخر من الليل،أما أنا وأسعد فقد كنا نغط في نوم عميق في دارنا (..) وأوقف المراقب مخصصاتي ومخصصات أسعد،ولكن المراقب كان خجلا من هذا المقلب الذي تورط فيه،فلم تمض أيام حتى أعاد لنا مخصصاتنا،واستعدنا ثقة عمر وحبه بعد أن أخبرناه أننا لم نقم بهذا العمل إلا ليتأكد من ولاء الأصدقاء والمريدين.){ص 147 - 177}.
    ومن المقلب الكبير إلى "مقالب خفيفة"!!! .. (كان عبد الله مراد مصابا بداء التشنج – خاصة عندما يكون مفلسا – وكان ينتهز فرصة الصلاة ثم يتشنج بعدها،ويرق السيد ولي الدين لحاله ويعطيه سلفة على حساب الراتب،وكان زميلا لأسعد جمجوم في المدرسة،وكان أسعد يستحمل منه شتائمه وأذيته في المدرسة لئلا يتشنج،حتى إذا ركبا على سلم الترام أخذ أسعد ينتقم ويشتم والمراد مغلوب على أمره،وليس في إمكانه أن يتشنج ويترك يده الممسكة بالترام لئلا يقع.
    وكان أسعد قد طبع مجموعة من الأبواك باسم (مكتبة الشناوي) ومجموعة أخرى باسم (علي إسماعيل – تاجر وترزي)،وكان لنا مخصص كتب في البعثة ومخصص لملابس العمل في الكليات العلمية،فكنا نلجأ لأسعد حتى نستنزف هذا المخصص ونأخذ منه فواتير تارة باسم مكتبة الشناوي وأخرى باسم علي إسماعيل ونقبض الفلوس من البعثة. وكان السيد ولي الدين يعرف ذلك ولكنه يتجاهل. فمرة قدم له أسعد فاتورة من هذه الفواتير،فما كان من السيد ولي الدين إلا أن أخرج من درجه طوابع دمغة وقال لأسعد : ( لقد نسي الرجل وضع الدمغة) وألصق الدمغة وأمر بالصرف. ومرة كان في السوق مع أسعد فقال له : (أرني مكتبة الشناوي) فأخذه أسعد في مشوار طويل حتى أتعبه وأخيرا وقف به عند دكان مقفول في الأزهر وقال : إن هذه هي مكتبة الشناوي ولكنها مقفلة. ولعل أسعد يحتفظ ببقايا هذه الأبواك فيقدمها لطلاب البعثات الحاليين.
    ومرة كلم أسعد (حانوتي أقباط) بأن عنده ميتا وأعطاه عنوان البعثة،وحضر الحانوتي ومعه عربة النعش {يقصد"التابوت"}التي يجرها عدة خيول وهي محلاة ومزينة،واستقبل حمزة أبو شنب البواب هذه الحملة أسوأ استقبال،وذهب الحانوتي حانقا بعد أن عرف أن هذه دار البعثة السعودية،,ليس فيها ميت مسيحي،وأن اسم (الخواجا ولي أسعد) الذي أعطي له لم يكن إلا مقلبا قصد به مدير البعثة... {"هل تعلم"} أن البادكوك عندما كان يشاهد روايات يوسف وهبي ينخرط في بكاء مسموع كلما رأى منظرا محزنا،ثم لا يلبث أن يراجع نفسه ويقول بصوت مسموع : (يا واد يا محمد بلاش قلة عقل،هذا كله تمثيل في تمثيل) ثم لا يلبث أبو حجاج أن يميت ضحية أخرى،فيعاود البادكوك البكاء ويعود المنظر السابق.
    وأن أول لقاء كان بين المنيعي ومحمد عبد الهادي كان في الطور وهما في طريقهما إلى مصر،وتم التعارف في الليل وفي الصباح أكل عبد الهادي علقة من المنيعي وساءت العلاقات بينهما ولا تزال سيئة حتى الآن،رغم مساعي أهل الخير.
    وأن محسن باروم أول ما حضر إلى مصر،كنا نتمشى معه فلمح عربة حنطور وأحب ركوبها فقلنا له : لا مانع،ولما سألنا بماذا ينادون سائق العربة في مصر؟ قلنا له يسمونه (أبو لبن) فأخذ الباروم يناديه بهذا الاسم بلغة عربية فصحى كعادته،ولوح الحوذي بكرباجه وأنقذنا الباروم في اللحظة الأخيرة قبل أن يصيبه الكرباج. (..) وأن السيد ولي الدين مدير البعثة كان يمنعنا من الخروج من البعثة يوم شم النسيم،فنجلس في البلكون نتفرج على العربات الكارو وهي تحمل العوائل البلدية وهم يغنون ويرقصون على أنغام (سلم علىّ) ويتحمس البادكوك وحسني بخش للمنظر فيتحزمان ويعيدان المنظر لنا في البعثة ونحن نغني (سلم علىّ) ونصفق للزوج غير المتناسق.
    وأن حسين العطاس وشلته وهي عادة تتكون من أسعد جمجوم وحسن فقيها ومحمد علي البكري عندما كانوا يفلسون يمرون علينا بأوراق للتبرع لشخص وهمي مريض في المستشفى ويجمعون مبلغا محترما،وذات مرة أخذوا من البعثة دواليب ومفروشات وباعوها في الكانتو وتقاسموا المبلغ الذي أخرجهم من أزمة مالية.){ص 180 - 183}.
    أطلنا .. ولكنها الـ"خاتمة" .. (وأخيرا تنتهي هذه المذكرات التي سردتها من الذاكرة،والتي بدأت في كُتّاب السيد محمد عطية بجدة حيث كنا نستعمل اللوح في القراءة والكتابة ولحس السويك {هكذا}والسمسم،وانتهت في الجامعة،لقد كانت حياة لذيذة مليئة بالذكريات اللطيفة،وإني لتتمثل لذاكرتي تلك الأمسيات الحلوة التي كنا نترقبها للعب كرة الشراب بجوار بيت القنديل بجدة لنعود إلى منازلنا ملطخين بالتراب والعرق .. وتستعرض الذاكرة شريطا آخر في دار البعثة بمصر .. ونحن ندبر المقالب ونردد أغنية (نبوية أيا نونو) فنفسد على زيني العايش جلسته الهادئة .. ثم يمر بي الاستعراض على أسعد عزوز وهو مغطى بالأغطية أيام البرد لا يبرح دار البعثة ليلا أو نهارا .. أو وهو في الباخرة دائخ لا يتناول طعاما ويلازم غرفته حتى إذا هدأ البحر وصعد معنا على السطح تظاهرنا بالدوخة وتمايلنا يمينا ويسارا فيدوخ ويعود مسرعا إلى غرفته... ){ص 187}.
    .. انتهت الرحلة .. مع ملاحظة أن ما ورد هنا من ذكر لكُتّاب السيد محمد عطية .. غير موجود في المذكرات!!

    إلى اللقاء في سياحة جديدة .. إذا أذن الله.

    س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب)) Mahmood-1380@hotmail.com
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

المواضيع المتشابهه

  1. "فرنسا 24" و"الحرة" … أو حين تتنكر "الدبابة" في ثوب "الميديا" كتبه شامة درشول‎
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان المقالة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-18-2015, 09:36 AM
  2. مجلة"المعهد العلمي السعودي" .. ولمحات من مذكرات الشيخ عبد الله خياط
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-19-2013, 07:09 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-13-2012, 07:03 AM
  4. "فيسبوك" أكبر أداة تجسس عالمية.. و"ياهو" و"جوجل" واجهتان لـ"cia"
    بواسطة شذى سعد في المنتدى فرسان التقني العام.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-21-2011, 06:52 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •