توفيق الصائغ

وأسفي لهؤلاء العمّال الذين يكتظ بهم الخليج ، يريقون هنا زهرة شبابهم ، وخلاصة أعمارهم ، يتركون زوجاتهم أحوج ما يكونون إليهنّ ، وأحوج ما يكنّ إليهم ، يختلسون الأيام تلو الأيام فتتمر بهم الأعوام أو يمرون بها ، وبعد عام أوعامين أو أكثر يعودون لا ليقطعوا دابر الغربة وإنما ليجددوا عهد القرابة والصلة بزيارة لا تلبث أن تنتهي حين تبدأ ، ولا يصفوا للزوجة المنتظرة والأبناء إلا فتات الفتات في زحمة الحياة ومطاردة عقارب ساعاتها التي لا ترأف بزوجة مشتاقةٍ أو والدة أو ولد ، ثم بعد عقد أو عقدين بعد أن يشعر الواحد منهم أنه استطاع أن يؤمن لنفسه ولأولاده حياة كريمة ، يحزم أمتعته ليعود راجعاً ، يرجع وقد دلف للعقد الخامس من عمره أو السادس ، تغير عليه كلّ شئ ، بيته وحيه وبلده ، يعود ليتجرع الغربة مرة أخرى من جديد في بلده هذه المرة لا في بلد الغير ، يعود غريب الوجه واليد حاشا اللسان ، فقد الإحساس بلذة الأشياء ، لم تعد زوجه التي تركها عروساً كما ترك ، وصحته لم تعد تطيق ما كان يطيق ، وحتى أبناؤه فقد منهم أجمل لحظات العمر ، فقد رؤية براءة طفولتهم وضحكاتهم وقيلهم بابا ، فقد بواكير محاولتهم النطق ، وعثرتهم حين يحاولون المشي ، وموسيقى الحروف حين تخرج بلثغتهم الجميلة وترنيمتهم الأجمل ، يعود بعد هذه الرحلة من التعب ، والكدّ وجمع المال ليرتاح بزعمه ، وأي راحة في أنصاف الأربعين وأول الخمسين في خريف العمر ، في العدّ التنازلي ، وحين يبدأ في التردد على أطباء القلب والعظام ؟!!
هكذا هى الدنيا صعبة في معادلاتها ، لو بقي صاحبنا في بنجلاديش أو الهند أو سريلانكا بين أولاده ، يتفطر لجوعهم ، ويتألم لبؤسهم لأدرك طفولتهم وضحكاتهم ، إدراكٌ منغص بالحاجة .. فلا بالبقاء سعُد ، ولا بالبُعد سعُد !!
عجيبة هذه الدنيا ، الغني فيها لا يستمتع من الدنيا إلا بصور الحلوى ، ومنظر العافية على أجساد الغير ، والفقير حظه الكد والتعب والنصب .. يتمنى الغني فيها عيشة الفقير ، ويحلم الفقير فيها بحالة الغني ، ولو افتقر هذا أو اغتنى ذاك لتمنى كلّ منهم مكان الآخر
صغيرٌ يشتهي الكبرا
وشيخٌ ودَّ لو صَغُرا
وخالٍ يبتغي عملاً
وذو عملٍ به ضَجِرا
وَرَبُّ المالِ في تعبٍ
وفي تعبٍ من افتقرا
ويشقى المرءُ مهزوماً
ولا يرتاحُ منتصرا
و ذو الأولادِ مهمومٌ
وطالبهم قد انفطرا

دنيا عجيبة ، غريبة غريبة ، صفوها مشوب بالكدر ، وكدرها يعقبه صفو ، إذا حلت أوحلت ، وإن كست أوكست ، عاريتها مردودة ، ودَينها مقضي ، وكل شئ فيها إلى زوال .
جبلت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الأقذاء والأكدار

ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ، طلابها كلاب يسعون خلف جيفة ، والمندلقون عليها يهدرون الدين والذمة والحرمة ثم لا تلبث أن تكون عليهم وبالاً .. متى ندرك حقيقتها لنرتاح ونريح .
( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدراً ) .
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا منتهى غايتنا