كتاب الرحيل للشاعر الموريتاني محمد ولد عبدي

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
أديب حسن محمد



تثير المقولة الشائعة ، عن موريتانيا ، أنها "بلد المليون شاعر" ، الكثير من التساؤلات حول مدى صدقية هذه التسمية ، في ظل معرفتنا الكثيرَ من التجارب الشعرية الكلاسيكية ، في الشكلين: العمودي ، والتفعيلي ، حيث التقاطعات ، والمواقعات ، والتناسخ ، الذي يجعل من الصعوبة بمكان فرز تجربة شعرية لها سماتها المميزة ، ومناخاتها الأسلوبية ، التي تمكنها من فرز مقولاتها الخاصة على صعيدي: الخيال ، والأسلوب ، وهما الجناحان الضروريان لتحليق أي قصيدة تروم التحليق ، بعيداً عن الرتابة.

وبالمقابل ، جهًلْنا ، ربما ، الكثيرَ من الأصوات الشعرية الموريتانية ، التي امتلكت رؤيا المشروع الشعري ، ووعت أدوات القصيدة ، ما مكنها من التجاوز ، والتطلع إلى آفاق جديدة في كتابة القصيدة.

وتبدو ، في هذا الإطار ، تجربة الشاعر الموريتاني د. محمد ولد عبدي ، الشاعر والناقد الأكاديمي الذي قدم لنا فكرة عن الشعر الموريتاني في كتابه الموسوم "أنساق الثقافة الموريتانية: الشعر أنموذجاً". فتجربته الشعرية تبدو ممتلكةً سياقاتًها الخاصةَ على صعيدي: الشكل ، والمضمون. وتجيء مجموعته الشعرية الأخيرة ، "كتاب الرحيل.. وتليه الفصوص" ، الصادر عن دار نينوى بدمشق ، طبعة 2008 ، لترسخ ما ذهبنا إليه: فقصيدة التفعيلة ، هنا ، تغوص في الكون الصوفي ، بمشيئة مسبقة من العنوان ، وبفكر يسبق زمن الكتابة بقليل أو كثير. فالرؤيا حاضرة ، وهي السمة التي تمكن الشاعر من إكمال الوحدة العضوية للقصيدة ، من دون تشتت تستلزمه ، أحياناً ، قصيدة التفعيلة ـ إن استسلمت لخدر الوزن.

تخطيط المجموعة وتقسيماتها قائمة على البناء الصوفي ، الذي قرأناه في كتابات النفري ، وابن عربي ، وغيرهما من كبار المتصوفة. وذلك يحمد للشاعر إدارة دفة المجموعة ، ككل ، على وفق رؤية متواشجة على طول المجموعة ، وهي سمة الشعراء أصحاب المشاريع الشعرية الممتلكة النَفَس الشعري.

إن النظرة للشعر ، هنا ، أو اللغة الشعرية المنسابة على مساحة النصوص ، تشي بمقدرة وموهبة لافتتين في تناول الموضوع الشعري بحساسية عالية ، من دون إسراف وهدر لغوي ، ومن دون طلسمة وتهويمات في الآن نفسه:

"لا ، لستُ حزينا

لا ،

والوحشة من قلبي ليستْ تقتاتْ

ما يبدو ليس بوجهي

ما يبدو وجه المرآةْ".

هذا التداخل بين الشعريّ الخيالي ، وبين الواقعيّ المعيش ، شكّل لوحة فنية جميلة ، نابضة وقادرة على توليد نسق من المعاني الممكنة ، وهو ثمرة من ثمار اللغة الشعرية النابضة بالإيحاءات ، إضافة إلى طبيعة الفكرة الصوفية ، التي تنطوي على مقدار من التمنّع لا تسلّم قيادها ـ بسهولة ـ لقراءة أفقية أحادية المعنى ، بل غالباً ما تحوّل المعنى إلى غمامة من المعاني ، يلتقط منها كلّ قارئ على حدة ما يتلاءم مع منظومته الاستقباليّة للشعر ـ إن صح التعبير ـ إذ إن ضيق العبارة ، كما هو معروف في الحالة الشعرية ، عامة ، والصوفية ، خاصة ، يتبعها اتساع في الرؤيا ، وهذا يبرر اتجاه الشاعر إلى كتابة الومضة الشعرية مع ما يستلزمه هذا اللون الشعري من تكثيف شديد ، يضغط العبارة ضغطاً شديداً قابلاً للانفجار الجمالي على شكل أنساق تعبيرية ممكنة في وجدان المتلقي.

"اليأس قبعة صلعاءُ

خاطتها العتمةُ

في عرس الشمسْ".

هنا ، ولتوليد الدهشة الشعرية ، أو الأثر الجمالي ، أو لذّة النص ، الخ. يوظّف الشاعر تقنية التضاد والمقابلة بين متناقضات حادة متباينة متعاكسة المعنى: قبعة ـ صلعاء ، الشمس ـ العتمة. كلّ هذا في سياق مفارقة نصيّة عامة تروم الاختلاف ، وتولّد لبساً في المعنى لا يصل حد الانغلاق بقدر ما يلامس إيحاءات تحرّك المستقبلات الشعرية لدى القارئ ، وتجذبه للعبة الشعرية ليكون عنصراً فاعلاً فيها.

ويتوافر في بعض ومضات الشاعر محمد ولد عبدي حسّ دراميّ عالْ ، وهي تقنية أخرى من تقنيات القصيدة الومضة ، تتعلق آخر كل جملة ببداية الجملة التي تليها ، وهكذا إلى نهاية الومضة:

"الرماد كان شجرة

تحلم بعناق الغيم:

الشجرة كانت بذرة

تحفظ سر الصحراء:

الصحراء فضاء القلب ،

حين تخيط الأرض ،

لعشاقها ، الأكفان".

إن ما يفرّق الشعر الحقيقي النابض بالحياة ، عن النظم ، هو تلك العلاقة الصميمية بين الشاعر ومفردات لغته: علاقة تقوم على العشق والمعرفة في آن ، حيث يغدو التماهي بين الاثنين سمة القصائد القادرة على الحياة ، في وجه عامل الزمن ، وبحيث تغدو القصيدة مادة قابلة للحياة باستمرار ، مع كل قراءة جديدة:

"ها إني بحراً صرتُ ،

وأسماكي الكلماتْ.

لكنّي ـ إنْ جبارّ

رام الصيدَ بعمقي ـ ماتْ".

وفي النهج الصوفيّ لغالبية القصائد ، نلمح استلهاماً خلاّقاً للتراث الصوفي العربي ـ كما في قصيدة "تضرع في مقام النون" ـ وفي مواضع أخرى نلمح حنيناً لعمود الشعر الذي كتب عليه المتصوفة أجمل قصائدهم. واللافت ، هنا ، عدم استسلام المجموعة لإيقاعات البحور الخليلية: لأن اللغة تنبثق من خيال شعري قادر على تطويع عمود الشعر ، على وفق الدفقة الشعرية ، وهذه ميزة القصائد المنبثقة من وجدان شعري متماسك يذوب فيه الثقافي لحساب الشعريّ ، وتتآزر التفعيلة وعمود الشعر الكلاسيكي ، في بعض القصائد ، لتعزز الانتصار للشعر من دون اكتراث للشكل الذي يتبع المضمون ، عادة ، عندما يحسن الشاعر إدارة دفة القصيدة بمهارة يتواشج فيها الخيال مع اللغة:

"كيف أبكيكً بعد عشر ودمعي

في لساني وناظري بسمعي

كيف والأرض لا تسدّ فضاء

في انخطافي ولا تُسنّد ذرعي".

ولا يخفى هنا رفعة اللغة ونوسانها ، بين الرصانة والسلاسة ، ما يعني ملامستها الشعريَّ ، وخلخلتها المعنى ، عبر إزاحته عن المألوف ، من دون تعمّد للتغريب المجاني.

إن الشعرة التي تفصل الشعر الحقيقي عن النظم الشعري هي وعي الشاعر ما يكتب ، هذا الوعي لا يعني ـ بالضرورة ـ إخراج المعاني مألوفة ، ومدروسة ، ومتوقَّعة ، بقدر ما تعني الإحساس العالي بالمفردات ، وعدم الانجراف إلى مجانية الشعر للشعر فحسب ، وهذا عمل تراكمي لا يأتي صدفة ، بل نتاج خبرة طويلة ، ووعي ودراية باللغة ، وهي تشبه عمل الفنان التشكيلي المبدع ، الذي ينتج لوحات أصيلة من وحي خياله المبدع ، مفترقاً عن الذين يسايرون ويقلدون عمل غيرهم بمهارة وإتقان ، من دون إضفاء لمستهم الخاصة المنطلقة من موقف روحي داخلي متفرد ، يقدّم الفكرة بتجدد ، من خلال أنساق لغوية قادرة على الانبعاث والتمدد مع كل قراءة.

تقدم مجموعة "كتاب الرحيل" شاعرها كما ينبغي ، متأمّلاً ، وصائداً للمعاني في أقاصي الألق ، عبر نصوص ماتعة قادرة على التخلّق ، والتجدد ، بعيداً عن الرتابة التي ينفر الشعر منها.

كتاب الرحيل

شعر

محمد ولد عبدي

دار نينوى ـ دمشق

الطبعة الأولى 2008



شاعر وناقد سوري






التاريخ : 16-07-2010

منقول]