من معبر "إيرز" إلى الزنزانة (6)
ا.د. محمد اسحق الريفي
يتعرض الأسير الفلسطيني إلى شتى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي أثناء التحقيق معه في سجون العدو الصهيوني، الذي ينتهك حقوقه وكرامته ويحرمه من النوم والراحة والعلاج والطعام، ويبقيه لمدة تتراوح بين شهر وستة أشهر تحت الشبح والتعذيب والتحقيق، ليعاني من الألم والأمراض والجوع والحرمان.
ولا تقتصر أهداف التحقيق والتعذيب على نزع الاعتراف من الأسير، ولكنها تتجاوز ذلك إلى تدميره معنوياً، ومحاولة إسقاطه أخلاقياً وأمنياً، لينخرط في صفوف العملاء لخدمة العدو الصهيوني. وسواء اعترف الأسير بالتهم الموجهة إليه أم أنكرها، فإن التعذيب لا يتوقف، بل يؤدي الاعتراف إلى إطالة فترة التحقيق وتوسيع دائرة الاتهامات، ويظل الأسير يعاني في الزنازين على يد العدو الصهيوني، الذي يتلذذ بتعذيب العرب، ويتعالى عليهم، لاعتقاد اليهود بأنهم شعب الله المختار!
وفي الزنزانة رقم "1"، تعرضنا للتعذيب النفسي والجسدي الشديدين. ولا تختلف هذه الزنزانة عن غيرها إلا من حيث المساحة، التي تبلغ عشرين متراً مربعاً. وبإحدى زواياها دورة مياه، بلا مياه أو باب، ويفصلها عن باقي الزنزانة حائط قصير لا يستر. ويدخل الهواء إلى الزنزانة عبر فتحات في لوح حديدي سميك مثبت في أحد الجدران، ولكنه لا يسمح بدخول ذرة ضوء. وللزنزانة باب حديدي به طاقة يستخدمها السجان لإدخال السجائر، وعد الأسرى، والتواصل معهم. ولها باب حديدي خارجي يفتح على ممر في مبنى الزنازين، ولا يسمح للأسير رؤية أي شيء خارج الزنزانة، ولهذا من الصعب وضع تصور لهيكل المبنى وتوزيع الزنازين فيه. وبين بابي الزنزانة ممر قصير، وكان السجان يضع الطعام على الأرض فيه، ويترك الباب الخارجي مفتوحاً، لتدخل الجرذان الكبيرة، فتقضم الخبز على مرأى من السجان.
لم نكن نحن الوحيدين في الزنزانة، فقد كانت تعيش معنا الصراصير والبق وحشرات صغيرة، كانت تنتشر على الجدران والسقف، وتقيم في الفراش والأغطية المتعفنة، أو تأتي من دورة المياه. كانت الصراصير تتساقط علينا من السقف على مدار الساعة. وعند الطلب من السجان تنظيف الزنزانة من البق والصراصير والحشرات، كان يستهزئ بنا قائلاً: سأحضر لكم كيساً من النايلون، لتضعوا فيه الصراصير، ولكن لا تمسوها بسوء، ولا تقتلوها، فنحن نريدها حية! وكانت تصيب بعض الأسرى في الزنزانة حكة، لا يبرؤون منها إلا بعد خروجهم من الزنازين، ما كان يسبب لنا معاناة كبيرة، ويفرق بين الأسير وأخيه!
قضيت في هذه الزنزانة 56 يوماً متتالية، كان السجان يخرجنا منها لمقابلة مندوب الصليب الأحمر، أو للتحقيق، أو للذهاب إلى المحكمة العسكرية في "إيرز"، أو للاستحمام مرتين أسبوعياً ولمدة خمس دقائق. التقيت في الزنزانة أسرى من حماس والجهاد وفتح والجبهة الشعبية ومستقلين. وكان من بين الأسرى عملاء، بعضهم سقط أثناء التحقيق. والتقيت أفراداً من مجموعتي الأسير حسن سلامة، وقد تحدثت معه عندما كان يقبع في زنزانة مجاورة لزنزانتي، والشهيد محي الدين الشريف، من بينهم الأسير السويطي، مدرس رياضيات من الخليل، والأسير العواودة من الخليل، وكان له شقيقان في زنازين أخرى في الوقت ذاته، والأسير ناصر من الخليل، وأسرى آخرون من رام الله والخليل وبيت لحم وغزة ورفح. والتقيت طلاب جامعيين ينتمون إلى الجهاد الإسلامي، أسرهم العدو الصهيوني أثناء عودتهم من تركيا إلى غزة. وعند ذهابنا إلى المحكمة في "إيرز"، التقيت الأسير محمد عثمان، ووسام فرحات وشقيقه، وحكى لي قصة استشهاد الشهيد عماد عقل.
عندما أدخلني السجان لأول مرة إلى الزنزانة رقم "1"، صار عدد الأسرى فيها 17 أسيراً، وكان الحرارة مرتفعة جداً، لحد أن العرق كان يتصبب من أجسادنا، وكانت رائحة العرق تنبعث من أجسادنا. كنا نقسم أنفسنا إلى مجموعتين تتناوبان النوم في الليل بسبب الضيق الشديد، فينام بعض الأسرى، بينما يظل البعض الآخر مستيقظاً، ثم يتناوبون. كان الواحد منا ينام على جانبه، فإذا توجع، قام في فراشه، فاستدار، ثم نام على جنبه الآخر.
وفي مساء الخميس 26 أيلول 1996، يوم أن هبت غزة احتجاجاً على فتح نفق أسفل المسجد الأقصى المبارك، ارتفع عدد الأسرى في الزنزانة إلى 21 أسيراً، فقررنا الاحتجاج. طرقنا باب الزنزانة طرقاً عنيفاً، فأتى السجان مسرعاً، فطلبنا منه تقليل عدد الأسرى في الزنزانة، فأخبرنا أن الأمر ليس بيده، وأن علينا الانتظار حتى عودة المحققين يوم الأحد، فلم نستطع الانتظار، فواصلنا الاحتجاج. وفجأة، أتت فرقة من السجانين لقمعنا، فاختاروني أنا وأحد الأسرى من عائلة الباز من خانيونس، وعصبوا أعيننا، وأخرجونا من الزنزانة، وانهالوا علينا بالضرب المبرح، بالأيدي والأرجل والهراوات البلاستيكية، ولم يبق في جسد الواحد منا شبراً إلا وفيه آثار القرص والضرب والتورم والدم المحتبس، ثم أعادونا للزنزانة، وقضينا باقي الأيام فيها على ما هي عليه من الاكتظاظ.
فقدت من وزني أثناء الأسر نحو عشرة كيلوغرام، ولم نذق طعم اللحوم في تلك المدة، ولا الأكلات التي اعتدنا عليها، ولا القهوة، ولا الفواكه، ولم نشبع قط في تلك المدة. ونخر السوس أسناني، بسبب عدم تنظيفها، إذ لم يسمح لنا السجان باستخدام معجون الأسنان أو الصابون داخل الزنزانة، فآلمتني جداً. وأصبت بالأنفلونزا، والروماتزم، والتهاب الجلد، والصداع الشديد، والكآبة... ولم يقدم لنا طبيب السجن الصهيوني سوى مسكنات للألم. ورغم هذه المعاناة ثبتنا الله عز وجل، وبقينا شامخين، وخيبنا أمل المحققين الصهاينة، وواصلنا مسيرتنا بإصرار وتحد وعنفوان. بقي أن أحدثكم عن يوم خروجي من السجن وبعض الأمور المهمة.
30/4/2010