خطبة الجمعة ..من صفات القلوب.. للإمام الشيخ : عبدالله المؤدب البدروشي .. الخطيب بالجامع الكبير .. شنني قابس
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي وفق قلوب أوليائه لشرعه المتين.. وملأها ذكرا فنهلت من أصفى معين..و اهتدت بهديه للإيمان و الحق المبين..أشهد أن لا إله إلا الله.. وحده لا شريك له.. شهادة المخلصين له الدين..العاملين بأمره..المتبعين لهدي الصادق الأمين.. وأشهد أن سيدنا و حبيب قلوبنا..و أسوتنا وقدوتنا محمدا عبده و رسوله.. سيد الأولين والآخرين..و خاتم الأنبياء و المرسلين..و الرحمة المهداة للخلق أجمعين.. اللهم صل عليه وعلى آله الأكرمين الأطهرين..و على صحابته السادة الغر الميامين..و على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد.. أيها الإخوة في العقيدة..
أعز ما في الإنسان.. قلبه الذي بين جنبيه.. جعل الله لهذا القلب إرادة فاعلة ... وخصه بالقدرة على توجه الإنسان في هذه الحياة..فإن كان قلبا ذاكرا.. شاكرا .. خاشعا .. منفتحا على طاعة الله..و عمل الصالحات..سعد صاحبه في الحياة الدنيا و في الآخرة..وإن كان قلبا غافلا.. لاهيا..جشعا..منصرفا إلى المعاصي و المحرمات.. لا يزن أعماله إلا بميزان الربح و الفائدة..ولو كان ذلك على حساب إيمانه و أمانته..جر صاحبه إلى شقاء الدنيا و عذاب الآخرة..أورد الإمام البخاري في صحيحه..قول رسول الله صلى الله عليه وسلم..إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً .. إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ.. وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ.. أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ.. هذا القلب القائد.. و المتحكم..حدثنا عنه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال.. إِنَّمَا سُمِّىَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ.. إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ.. كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِى أَصْلِ شَجَرَةٍ.. يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ.. رواه الإمام أحمد..ولا يثبت القلب إلا بالإيمان .. و لا يصلح القلب إلا بالدين..فالقلب الثابت..هو القلب الذي عمر أرجاءه الإيمان بالله.. والقلب الثابت هو القلب الذي طهرته شرائع هذا الدين.. لكنّ الإنسان.. شديد النسيان.. كثير الغفلة .. منسوب إلى الخطأ.. فيخطئ..وتتسرب إلى القلب المعاصي.. فيضعف الإيمان ..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذنَبَ كَانَتْ نُكْتَة ٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَلكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ : كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ..رواه الإمام أحمد..و يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم..و الحديث من صحيح كنوز السنة.. إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ،الإيمان يبلى, فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم..ونسألك اللهم أن تجدد الإيمان في قلوبنا.. و من هنا فإن الإيمان يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية..فإذا توالت المعاصي على القلوب.. قست القلوب.. و الله جل جلاله توعد أصحاب القلوب القاسية بالويل و الثبور ..فقال جل جلاله.. فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ..أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.. فما هي صفات القلوب القاسية.. تعالوا نستعرضها..لكي نحذر منها.. وإن وجدنا بعضها في قلوبنا ..طهرنا قلوبنا منها..
من صفات القلوب القاسية عدم التأثر بالقرآن.. فلا ينشرح القلب عند سماع آيات النعيم..وذكر الجنة..و لا يعرف الخوف و لا الخشية من ذكر عذاب النار و أهوال الجحيم.. فكأن الأمر لا يعنيه.. فانظر أيها المؤمن لعلاقتك بالقرآن.. هل تخشع عند قراءته..هل تبكي عند تلاوته..هل تتأثر عند سماعه..فالله عز وجل.. حدد عباده المؤمنين بقوله.. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.. فإن وجدت في قلبك خشية فالزمها..و قوّها و كثـّرها..وإن لم تجد..فافتح لك صفحة جديدة مع كتاب الله..و اعلم أنك أمام كلام الله..و أنه الحق هو الحق..وأنه الصدق عين الصدق..و تذكر أنك ملاقيه..و راجع إليه..
كنْ رَابطَ الجَأشِ وارْفَع رايةَ الأملِ
وَسِر إلى الله في جِدٍ بلا هَزَلِ
وإن شَعرتَ بنقصٍ فيك تَعْرفهُ
فَغَذ ّ رُوحَك بالقرآنِ واكْتَمِلِ
وحَارِب النفسَ وامْنَعْها غِوَايَتَها
فالنَّفسُ تَهوَى الذي يَدعُو إلى الذَّللِ
و من صفات القلوب القاسية..عدم شغفها بالعبادة..إذا سمع نداء الصلاة..حي على الصلاة حي على الفلاح..إن لم يكن لديه ما يشغله..تراخى في الذهاب إلى أن تقام الصلاة..وإن شغله أمر فيؤخرها لوقت فراغه.. و الله جل جلاله فرض الصلاة على المؤمنين في أوقات محددة..فقال تبارك و تعالى إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا.. وجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساجد ..وحبب إليها برفع الدرجات ..و حط الخطيئات..و زيادة الحسنات.. و لما علم صلى الله عليه وسلم أن أناسا لا يحضرون الجماعة.. غضب ..و أقسم أمام أصحابه و الحديث من صحيح الإمام البخاري..قال.. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ..لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ.. ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا.. ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ.. ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ.. كلمات سمعها الصحابة و أطاعوا.. و بلغت إلى سلفنا الصالح.. فحدثنا التاريخ عن حرصهم على الصلاة في بيوت الله..سيد التابعين..سعيد بن المسيب رحمه الله رحمة واسعة..يوم حضرته الوفاة..إلتفت إلى بناته فرآهن يبكين.. قال لهن علام البكاء.. والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين عاما، وما رأيت ظهر مُصلٍّ في الصلاة أبدًا.. ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير.. كان كثيراً ما يدعو الله فيقول اللهم أمتني الميتة الحسنة قالوا له وما الميتة الحسنة قال أن يتوفاني ربي وأنا ساجد ..واشتد به المرض. وحان وقت صلاة المغرب .. وسمع النداء.. الله أكبر..الله أكبر.. حي على الصلاة حي على الفلاح .. قال لأبنائه ..أقعدوني.. واحملوني إلى المسجد قالوا يا أبانا عذرك الله ،أنت في أشد المرض.. قال أو أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح و لا أجيب.. فحملوه على أكتافهم وأوصلوه إلى المسجد فصلى معهم صلاة المغرب حتى الركعة الأخيرة فسجد مع الساجدين.. ورفع المصلون من السجود.. وبقي ثابت ساجدا.. فحركوه بعد الصلاة.. فعلموا أن الله استجاب دعاءه..و توفاه ساجدا.. فكيف حالنا مع الجماعة.. و كيف حالنا مع النداء.. هل إذا سمعنا الآذان.. قلنا لبيك..يا نداء الرحمان.. هل عمرنا بيوت الله ..كما أمر الله.. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ..أن ترفع في القلوب..أن تحتويها الأفئدة.. أن تحن إليها الأنفس..أن يأتيها المؤمن يحمل شوقه إليها..فانظر لحالك أيها المؤمن.. فإن وجدت خيرا..و إقبالا و محبة لبيوت الله و حضورا مستمرا للجماعات..فاحمد الله..و ادع من الله الثبات.. وإن وجدت دون ذلك.. فاعلم أن الله سيسألك...أيهما أحب إليك..بيتي أم بيتك..شغلك بلقائي..أم شغلك بالدنيا.. سيسألك.. ناديتك من سابع سماء..فعصيتني..ولم تجبني..و لو أجبتني..لأتيت بك إلى بيتي تحفك ملائكتي..ولرفعت لك بكل خطوة درجة في الجنة..و لغفرت لك بكل خطوة سيئة.. ولشهدت لك الديار و الأشجار و الأحجار و الشمس و القمر و النجوم ..و كل من رآك في مسعاك..و في مصلاك.. أنك أجبتني..و أنك أطعتني..و أنك صليت لي.. فاعمل أيها المؤمن على طاعة الله..و محبة بيوته..و رفعها في القلوب..
ومن صفات القلوب القاسية..الغفلة عن ذكر الله.. فلا يذكر الله عند قيام..ولا عند طعام..و لا يذكر الله في قول و لا يذكر الله في عمل.. تحمله الغفلة ليله و نهاره.. و من الناس من لا يذكر الله إلا في الصلاة.. و من الناس من لا يذكر الله إلا في المسجد.. والله بماذا أمر..و الأمر في قرآنه.. و طاعته واجبة على كل مؤمن و مؤمنة.. هل قال لنا أذكروا الله في بعض الأحيان ؟.. هل قال لنا أذكروا الله عند الحاجة ؟..قال لنا وقوله الحق.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا .. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.. فيا أيها المؤمن..لك في كل لحظة ذكر..وفي كل وقفة ذكر..وفي كل جلسة ذكر.. و في كل عمل ذكر..وفي كل راحة ذكر..وعند كل منام ذكر..و عند كل يقظة ذكر.. ولذلك مدح الله المؤمنين من عباده بقوله.. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ..و بشرهم بما أعد لهم عنده فقال جل جلاله.. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا..هذا الذكر.. سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم..بخير الأعمال.. سماه بأطهر القربات إلى الله..سماه برافع الدرجات.. خيـّره عن الصدقة بالذهب و الورق..و فضـّله عن الجهاد في سبيل الله.. فقال فيما أورده الإمام أحمد في المسند.ألا أنبئكم بخير أعمالكم ..وأزكاها عند مليككم.. وأرفعِها في درجاتكم.. وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا : و ذلك ما هو يا رسول الله ، قال :. ذكر الله عز وجل..فهل أنت من الذاكرين..هل تذكر الله في كل حين..فانظر لحالك أيها المؤمن..فإن وجدت خيرا.. وتذكـّرا و ذكرا..فاحمد الله..و زد في ذكره..واعلم أن ذكر الله حصنه الحصين في الدنيا و الآخرة..و إن وجدت دون ذلك..فتذكر أن لا سعادة للقلب.. و لا هناء و لا اطمئنان إلا بذكر الله.. فالله الذي خلقك.. وبالذكر أمرك.. وعن ذكره أخبرك بقوله عز وجل.. أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ..فرطب لسانك بذكره..و زين أوقاتك بتسبيحه و حمده وشكره .. ليسلم قلبك..لتلقى الله غانما سالما.. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ .. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ..
اللهم سلم قلوبنا من كل غفلة..وبعد قلوبنا عن كل جفوة..و اجعلنا من عبادك الذاكرين..واجعل قلوبنا لينة بطاعتك..هانئة مطمئنة بحسن بعبادتك..واكتبنا من الصالحين ..أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم الكريم لي و لكم \