ليكن (فرماناً) ضد التمييز
مرام عبدالرحمن مكاوي
16/ديسمبر/2009

برغم أننا ندرك في أعماقنا أن بلادنا والخليج العربي كله قد بنته سواعد العمال الآسيويين ولا تزال، أولئك الذين يعملون تحت لهيب الشمس الحارقة لساعات طويلة، ويسكنون غالباً غرفاً مكتظة سيئة التهوية، وقد ينتظرون شهوراً قبل أن يُمنحوا رواتبهم، فإنه قد كان يظهر دائماً من بيننا من يقول بأنهم جاؤوا هنا بدافع الطمع.. وأنهم لم يقدموا لنا شيئاً بالمجان.. وهم مصدر كل الشرور التي حصلت وتحصل في مجتمعاتنا الملائكية.. بل لم يخجل البعض علناً بأن يطالب بإخراجهم من بلاد الحرمين وكأنهم غزاة أو إرهابيون!

وأستطيع القول بأن الإعلام لاسيما المقروء قد ساهم في تعميم هذه الصورة السلبية، عن طريق التركيز على جرائمهم وأخطائهم بشكل مكثف. في حين أن الحديث عن إيجابياتهم، أو عن الخدمات العظيمة التي يقدمونها لبلادنا يكاد يكون معدوماً. ولذلك فحتى حين كان أحد هؤلاء العمال البسطاء هو الضحية لجشع أو استغلال أو إهانة مواطن ومؤسسة ما فإنه لم يكن صعباً على ضمائرنا أن تبرر هذه الجرائم، وتظهرها كاستثناء لا يستحق الضجة.

ثم يأتي سيل الأربعاء وتظهر معادن الناس، ويسجل البعض بطولاتهم بأحرف من ذهب، ويكتب آخرون أفعالهم في سجلات الخزي والعار. وسأتحدث اليوم في الفئة الأولى عن بطل جدة الكبير، وشهيدها – بإذن الله – الشهير.. أتحدث اليوم عن شاب بوجه يشرق بالأنوار كما تظهره صورته.. عمره اثنتان وثلاثون سنة فقط.. استطاع بفضل الله أن ينقذ أربعة عشر إنساناً في ذلك اليوم العصيب قبل أن يجرفه السيل الغاضب حين نزل إلى الماء لينقذ الشخص رقم خمسة عشر! فارسنا كان اسمه فرمان علي خان.. بطلٌ من باكستان.. سيطرت عليه فكرة واحدة حين رأى الناس يستغيثون من حوله.. وهي ماذا يستطيع أن يفعل ليساعدهم؟ لم يقل إني غريب ولا شأن لي بهم، ولم يقف كما وقف بعض شبابنا يصور بالجوالات الفاخرة الناس وهم ينازعون مع قدرتهم على المساعدة، بل إنه لم يبرر لنفسه بأنه يحق له أن يتردد – كما يفعل الكثير منا ليبرروا حيادهم – لأن وراءه "كوم" لحم من النساء وأنه معيلهم الوحيد!

ففرمان جامعيٌ دفعته الحاجة ليسافر ويعمل في بقالة ليعيل أسرته الصغيرة، فله زوجة وثلاث زهرات هن زبيدة (7 سنوات)، ومديحة (6 سنوات) وجريرة (4 سنوات)، وهو لم يتمكن من رؤيتهن لسنوات لدرجة أن صغيرته لا تتذكره. ولهذا السبب أصر أخوه على نقله إلى بلاده لتتمكن عائلته من إلقاء نظرة الوداع عليه بعد أن قضى غريقاً شهيداً في بلد بعيد وهو ينقذ إخوة الدين والإنسانية.
بالمقابل على الضفة الأخرى وبعد أيام من الكارثة، نقل لنا مقطع الفيديو على اليوتيوب لقطة تجعل جبين أي سعودي تقطر خجلاً، حين يقوم رجل بإصدار أوامره لجموع المتطوعين من شباب جدة وهم يقومون بتوزيع المساعدات على المناطق المنكوبة قائلاً: "سعودي أعطيه..أجنبي لا تعطيه!".

وعودة لبطلنا العزيز فرمان، فإن أهالي جدة متفقون بأن هذا الرجل لا بد أن يخلد في ذاكرة المدينة، وها هم يطالبون بشارع أو ميدان عام باسمه، وهم يطالبون أيضاً بالتكفل برعاية أسرته مادياً مدى الحياة، بل ويتجاوز البعض ذلك مطالبين بمنحه الجنسية السعودية، وبالتالي تستفيد منها زوجته وبناته، عرفاناً بجميله فهل هناك وطنية أكثر من أن تفدي وطنك وأهله بروحك؟
فالأبطال لا يجب أن يمروا مرور الكرام، وهم غالباً ما يولدون من رحم المصائب، وفي أمة تتخبط منذ قرن حتى أصبح أبطالها في ذاكرة الناشئة والشباب غالباً من أولئك الذين يسفكون الدماء، فإنه من المفيد أن تعرف الأجيال الصاعدة أن البطولة تكون أيضاً من قبل أولئك الذين يمنحون الآخرين – بأمر الله - حياة جديدة.

فليكن أبطالنا من عينة رجل له قلب الأسد كفرمان خان، ولتكن هذه المناسبة الحزينة فرصة لنا لنعيد نظرتنا في الكيفية التي نتعامل بها مع العمالة الوافدة سواء على مستوى الأفراد في تعاملنا اليومي، أو على مستوى الدولة فيما يتعلق بحقوقهم وقوانين الكفالة وغيرها، ليكن تقديرنا لتضحية فرمان عن طريق إصدارنا "فرماناً" ضد التمييز وضد النظرة الدونية.. جعل الله مستودعك الفردوس يا فرمان.