منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    المجاز وفن الشعر

    عن موقع رواق الادب ولمثقفين نقلت موضوعا هاما :

    محاضرة فى المجاز الشعرى

    المشكلة فى الشعر أى شعر عربى غربى أومن أى بلدان العالم ..

    المجاز ..

    وهنا وهناك صراعات عما يبتغيه الشاعر ويصبو نحوه.

    فالشاعر الجيد خارج على المألوف والسائد.


    إنه ..يعيدترتيب العالم .

    إنه.. الشاعر !


    وقد قرأتُ هذه المحاضرة التى ترجمها الأستاذ /محمد المزداوى "المجاز وفن الشعر " لأحد أعلام الأدب فى العالم .. خورخى لويس بور خيس.

    سأقدمها ..فلعلها تضيف إلى قراء الشعر شيئاً جديداً أو تحضه على قراءة الشعر ،كما ينبغى له أن يُقرأ.


    عبد الرؤوف النويهي



    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  2. #2

    رد: المجاز وفن الشعر

    (1)

    المجاز



    شكَّل "المَجَاز" جُزءًا من حلقة محاضرات ألقاها "خورخي لويس بورخيس" باللغة الإنجليزية في جامعة "هارفارد"، خلال السنة الجامعية 1967-1968. وقد نشرتْ دار غاليمار الفرنسية هذا النصّ مع نصوص أخرى، وهنا ترجمة لمحاضرة تحمل عنوان "المجاز".



    ما دام موضوع محاضرتنا هو المجاز، فلنبدأ بأحد المجازات. وهذا المجاز الأول من بين مجازات متعددة، يأتينا من الشرق الأقصى، من الصين. فالصينيون، إنْ لم أكن مخطئاً، يمتلكون تعبيراً للدلالة على العالَم: فَهُمْ يتحدَّثون عن "عشرة آلاف شيء" أو أيضاً، وحسب بعض الترجمات، عن "عشرة آلاف كائن".

    ولا شيء يمنعنا من قبول هذا التقدير المتواضع. فمن الأكيد أنه توجد أكثر من عشرة آلاف نملة، ويوجد أكثر من عشر آلاف رجل، وأكثر من عشرة آلاف أَمَل، وأكثر من عشر آلاف خوف أو كابوس. ولكننا إذا قبلنا رقم "عشرة آلاف"، وإذا تذكَّرْنَا أن كلَّ مجاز يستند على الربط بين شيئَيْن مختلفين، فإننا نستطيع، إذا أتاحَ لنَا الوقت، أن نتوصل عبر عملية حِسَابية إلى مجموع لا يمكن تخيُّلُهُ من المجازات الممكنة. لقد نَسِيتُ الحساب، ولكنّي أعتقد بأنّ هذا المجموع سيتمّ الحصولُ عليه من خلال ضرب رقم 10000 في 9999 ثم ضربه في 9998 وهكذا دواليك. ومجموع هذه التركيبات والتوافيق الممكنة، بطبيعة الحال، ليست لانِهَائية ولكنّه مَجموعٌ مُذْهِلٌ. في ظل هذه الشروط سيكون من المنطقي أن نَتَسَاءَلَ لماذا شعراء كلّ العالَم وكل الأزمنة يلتجئون إلى نفس المجموعة من المُقارَنَات- في الوقت الذي يمكن أن توجد فيه بعضُ التركيبات والتوافيق الممكنة.

    حينما استنتج الشاعر الأرجنتيني "لوكونيس"Lugones، منذ سنوات عديدة، في سنة 1909، أنّ الشعراء يستخدمون دائما نفسَ المجازات، اقترحَ القيام باختراع مجازات جديدة عن القمر. وفي الحقيقة قام باختراع مِئات منها. وكتب أيضاً في مقدمة كتاب معنون بِـ"....Lunario sentimental، أنَّ كلَّ كلِمَةٍ هي مجازٌ ميّت، وهذه الجملة(كلّ كلمة هي مجاز ميّت) هي في حدّ ذاتها، بطبيعة الحال، مجازٌ. ولكننا نعرف جميعا الفرق الموجود بين المجازات الميّتة والمجازات الحيّة. فإذا قمتُ بفتح معجم اشتقاقيّ جيّد(أُفكّر في معجم صديقي المجهول، الدكتور "سكيت"Skeat)، وإذا ما استندنا إلى كلمة معيّنة، فمن الأكيد أننا سنعثر على مجاز قابِعٍ في مكان ما.

    ) فكلمة preat (threat)تهديد/وعيد/نذير بِخَطر) مثلاً، التي تُصادِفونَهَا في الأبيات الأولى من Beowulf، تدلّ على "جماعة هائجة". ولكن الكلمة، اليومَ، تعبّر عن أثر ومفعول هذه الجماعة/الجمهور (التهديد) وليس عن السبب. ولْنَفْحَص أيضا كلمة كينغ"King. فكلمة "كينغ" King كانت في البداية "كيننغ" Cunning، التي تعني "الرجل الذي يمثّل العائلة(le clan)، الشَّعْبَ". ومن الناحية الإشتقاقيّة كلمة king و"kinsman" و "gentleman" هي أيضا نفسَ الكلمة. غير أني إذا قلتُ: "الملك قاعِدٌ في بيت خَزَائِنِه، ويُحصِي أموالَهُ"، فإننا لا نفكّر في المجاز المُضْمَر. وفي الواقع إذا مال اختيارُنَا إلى التفكير المُجَرَّد، فعَلينا أن ننسى أن الكلمات كانت مَجَازاتٍ. علينا أن ننسى، مثلاً، أن في كلمة "considérer" يوجد إيحاءٌ وإيعاز وشُبْهَة بعلم التنجيم، "considérer" كانت تدلّ في المعنى الأصلي على "التواجد مع النجوم" وعلى "كَشْفِ الطالِع".





    (2)

    فلْنَقُلْ إنّ ما هو مهمٌّ في مجازٍ مَا، هو أن القارئ أو المستمع، وَاعٍ بأنَّهُ أمَامَ مجازٍ مَا. إذاً فأنا أريد أن أقتصر في هذه المحاضرة على المجازات التي يَنْظُر إليها القارئ على أنها مجازات- تَارِكِينَ على جَنب كلمات من نوع "ملِك" أو "تهديد" وعدد كثير من الكلمات التي نستطيع ذكرها إلى ما لا نهاية.

    بدايةً أريدُ أن أفحصَ موديلات أو ثيمات مطروقة من المجازات. أستخدم كلمة "موديل" لأن المجازات التي سأقوم بذكرها، يمكن أن تبدو، من وجهة نظر تخييلية، مختلفةً جِدّاً، ولكن التفكير المنطقي يستطيع التعرّف على هوِيَّتِهَا تقريباً. حتّى إننا نستطيع أن نتحدّث عنها كَمُعَادَلات. فلنأخذ المجاز الأول الذي يحضُرُني، وهو المُقارَنَة المعروفة والتي كرّسَتْهَا كلّ العصور، بين العيون والنجوم، أو على العكس بين النجوم والعيون. والمثال الأول الذي أتذكره يأتي من "الأنطولوجيا الإغريقية" وأعتقد أن "أفلاطون" يمكن أن يكون هو المؤلف. وهي مجموعة أبيات شعرية (أنا لا أعرف اللغة الإغريقيّة) تقول بشكل تقريبيّ ما يلي: "أنا أتمنّى أن أكون اللَّيْلَ كَيْ أَرَى نَوْمَكِ بملايين العيون." إنّ ما نراه، هُنَا، هو حَنانُ عاشقٍ، ورغبَتُهُ في أن يكون قادراً على رؤية حبيبَتِهِ من نِقَاط عديدة، من نِقاط متعددة. خلفَ هذه الأبيات الشعرية، يمكننا تخيّل الحنان.

    لِنَرَ مثالاً آخَر، أقَلَّ شهرةً: هذا التعبير "النُّجومُ تنظُرُ مِنْ عَلِ". إذا أخذنا مأخَذَ الجدّ التفكير المنطقي، فإنه يمكننا التعرّف، هنا، على مجازٍ مشابه للمثال السابق. غير أنَّ الأَثَرَ أو الوَقْعَ على خَيَالِنَا مختلف. "النجوم تنظر مِنْ عَلِ" لا تُعبِّرُ عن شيء من الحُنوّ أو الحنان، بل وتوحي، على العكس، بفكرة العَمَل الشاقّ لأجيال وأجيال بشريّة تحت النظر اللاّمُبَالِي للنجوم.

    ننتقل، الآنَ، إلى مثال آخَر. يتعلّق الأمر بمَقَاطِع شعريّة كان لهَا تأثير قويّ على نفسي. والأبيات مقتبسة من قصيدة لِـ G. K. Chesterton معنونة "طفولة ثانية".

    ولكنّي لن أشيخ كثيراً حتى أرى انسدال الليل الهائل،

    سحابٌ أكثر سعة من العالَم،

    وَحْشٌ(خرافيّ) مُكوَّنٌ مِنْ عيون.






    (3)

    لا يتحدّثُ "شيستيرتون" Chesterton عن وحش(خرافيّ) مليء بالعيون"(نحن نعرف كثيراً من الوُحُوش من خلال رؤيا القدّيس يوحنّا) ولكن-وهذا شيء رهيبٌ جدّا-ولكنه يقول "وحش مُكَوَّنٌ من عيونٍ"، كَمَا لَوْ أنّ هذه العيون كانت التركيبَ الحيَّ للوحش.

    لقد فَحَصْنَا ثلاثَ صُوَر مبنية على نفس الثيمة، ولكن ما أريد أَن أُشِيرَ إليه- وهي النقطة الأولى من بين النقطتين المُهِمَّتَيْنِ اللتين أريدُ أن ألْفِتَ انتباهكم إليهما في هذه المحاضرة-، هُوَ الاختلافاتُ، بالرغم من أنّ الثيمةَ مُشابِهَةٌ في ما هو أساسيّ: في الحالة الأولى، المثال الإغريقي، "أتمنى أن أكونَ الليلَ" يُريدُ الشَّاعِرُ أن يُشْعِرَنَا بِحَنَانِهِ، وبوحدته؛ وما نحسّ به، في الحالة الثانية، هو نوعٌ من اللاّمبالاة الإلهية بالمقارنة مع البشريّ؛ وفي الحالة الثالثة يُصبِحُ اللَّيْلُ الأليفُ كابوساً.

    والآن نحن مع مجاز مبنيّ على موديل مختلف- إنها فكرة الزمن الذي ينسابُ مثل نَهْر. المثال الأول مقتطع من قصيدة كَتَبَهَا "تينيسون"Tennyson، فيما أعتقد، في سنّ الثالثة عشر أو الرابعة عشر. ثمّ قام بإتلافها فيما بعد، ولكن من حسن حظّنا نحن، أنَّ بيتاً شعريا نَجَا، وستجدونه، حسب ما يبدو لي، في بيوغرافيا "تينيسون" Tennyson التي كتَبَها "أندريو لانغ" Andrew Lang. وهذا البيت الشعريّ هو: "الزمنُ مُنْسَاباً في الليل." أعتقد أنّ "تينيسون" اتبع اختياراً حذراً ومتيقِّظاً، لأنّ كلَّ شيء يكون صامتا في الليل، ويكون الرجال نائِمينَ، ومع ذلك فالزمنُ يستمرّ في انسيابيته دون ضجيج. هذا هو مثالي الأول.

    ثمّ توجد رواية(أنا متأكِّدٌ أنكم تفكرون فيها في هذه اللحظات) تحمل، ببساطة، عنوان: "الزمن والنهر". (لِـ"طوماس وولف"Thomas Wolfe، سنة 1935). إنّ مجرّد تقريب الكلمَتَيْن يوحي ويُشعِر بالمجاز: الزمن ينساب مثل نهر. وها هي أيضا الجملة الشهيرة للفيلسوف الإغريقي: "إنَّكَ لا تستحمّ في النهر مَرَّتَيْن"(هراقليطس، المقطع 41). هنا تتمّ معرفةُ الشُّعورِ بالقلق، لأنه إذا كان تَفْكِيرُنَا، في البداية، يتّجهُ إلى استمراريّة النهر الذي ينسابُ والذي تتميّز قطراتُ الماءِ فيهِ بأنها مختلفةٌ، فإننا مُرْغَمُونَ، بالتّالي، على أن ندرك أنّ النهر هُوَ نَحْنُ، وأننا بطبيعة الحال هَارِبُوَن مثل النَّهر.

    أفكّر أيضا في أبيات "مانريك"Manrique:

    حَيَوَاتُنَا هي الأنهارُ

    التي ترتمي في البحرِ،

    البحرُ الذي هو الموتُ.



    حين ننتهي من ترجمة هذه الأبيات لا تعطينا كبيرَ تأثير. وكنت أتمنى أن أستطيع تذكُّرَ الترجمة التي أعطاها "لونكفيلو"Longfellow في .."Coplas de Manrique". (سنَعود إليها في محاضرة قادمة) وبطبيعة الحال فإنّ خلف المجاز العادي توجد موسيقى الكلماتِ البطيئةُ:



    حَيَوَاتُنَا هي الأنهارُ

    التي ترتمي في البحرِ،

    البحرُ الذي هو الموتُ.



    هُنَا، بشكل مستقيم،

    تضمحلّ وتُلْغَى

    السيادات العالية.



    ومع هذا فالمجازُ واحدٌ في كلّ الحالات التي أشرنا إليها.

    فلننتقل، الآن، إلى موديل مطروق والذي من المحتَمَل أن يثير ضحككم: وهو المقارنة بين النساء والأزهار وأيضا المقارنة بين الأزهار والنساء. والأمثلة في هذا المجال كثيرةٌ، وأودّ أن أذكر واحدا منها، ربّما، غير مألوف بالنسبة لكم، وهو مقتبس من رائعة غير مكتملة "Weir of Hermiston" لِـ"روبير لويس ستيفينسون" Robert Louis Stevenson. يدخل بطل الكِتَاب إلى كنيسة في "اسكوتلندا"، حيث يلمح فتاة شابّة- يتعلّق الأمر بشابّة جميلة، هذا ما نفهمه-وينتابنا الإحساس بأنه مستعدٌّ لأن يصبح عاشقاً. لماذا؟ لأنه إذا كَانَ ينظُرُ إليها ويتساءَلُ لو أنّ روحاً خَالِدة تسكُنُ هذا الجسدَ الجميلَ أم أنَّ الأمرَ يتعلّق بحيوان متزيِّنٍ بِلَوْنِ الأزهار، فإنّ قسوة وعنف كلمة "حيوان" تجد نفسَهَا مُلغاة عبر "لون الأزهار". لا أعتقد أنه من الضروريّ البحثُ عن أمثلة أخرى لهذه الثيمة التي توجد في كلّ الأزمنة، وتحضُرُ في كلّ اللغات وكلّ الآداب.

    توجد ثيمة أخرى أساسيّة للمجازات وهي ثيمة مُقَارَنَة الحياة بالحُلم، هذا الشّعورُ الذي يستولي علينا وهو أنّ الحَياةَ هي حُلم. والمثال الذي يحضُرُ، حالاً، إلى ذهننا، هو البيت الشعريّ للعاصفة : "إننا كالأحلام، خُلِقْنَا من نفس النسيج" من الممكن أن ما سوف أقوله لكم سيَبْدُو تَجْدِيفِيّاً- إنّي أُحِبّ "شكسبير" كثيراً، بحيث أنّ هذا لا يُضَايِقُنِي-ولكنّي أجد أننا حين ننْظُر، عن كَثَب، إلى هذا البيتَ(ولكن يجب علينا ألاّ ننظر إليه عن كثب؛ بل يجب أن نكتَفِي بأن نكون معترفين لـ"شكسبير" بالجميل للكثير مِن المِنَحَ التي وهبنا إياها)، فإننا سَنُلاَحِظُ تناقُضاً، خفيفاً دُونَ شكّ، بين كون حَيَوَاتِنَا هي جوهَرُ أحلامنا وبين هذا التأكيد القاطِع: "إنَّنَا كالأحلام خُلِقْنَا من نفس النسيج". لإنه إذا ما كُنَّا لا نُوجَدُ إلاّ في حُلم، أَتَسَاءَلُ كيف نستطيع أن نعلن عن هذه التأكيدات القاطعة. إنّ جملة "شكسبير" تتعلّق بالفلسفة أو الميتافيزيقا أكثر مما تنتمي إلى الشِّعْر- حتى ولو أنّ السيّاق يُخوِّلُ لَهَا قيمة شعريّة.







    (4)

    مِثال آخَر من نفس المجاز يوجدُ لدى شاعِر ألماني كبير-ومع ذلك، فهو شاعِرٌ صغيرٌ في نَظر "شكسبير"(وهي ربما حالةُ كلّ الشعراء، باستثناء اثنين أو ثلاثة). أُشِيرُ إلى قصيدة شهيرة لِـ"فالتر فون دير فوجيلوايد"Walther von der Vogelweide، والتي سأقرأها باللغة الألمانية(ستغفرون لي نُطقي وتلفّظي): "هل حلمتُ بحياتي أم هي حقّا حقيقة؟" إنّ الشاعر، هنا، في نظري، أكثرُ تلاؤُماً مع ما يسعى جَاهِداً للتعبير عنه، لأنه بَدَل تأكيد قاطع نجد أنفسَنَا إزاء إحدى الأسئلة. إنّ ما يحدُثُ له قد حدث لنا جميعاً، ولكننا لم نعثر على الكلمات لِقَوْلِ هذا، مثل كلمات "فالتر فون دير فوجيلوايد". إنه يتساءَلُ: "هل حلمتُ بحياتي أم هي حقّا حقيقة؟" وهذا التردّد يُشكِّلُ، فيما أعتقد، جوهرَ ونسيجَ حُلم وُجودِنَا.

    غالبا ما أستشهد، كما هو شأني دائما، بنصٍّ للفيلسوف الصينيّ "شوان تْزُو"Chuan Tzu، ولا أعرف إن كان قد سبق لي أن ذكرتُهُ في محاضرتي السابقة. وفي كلّ الحالات، لقد حلم هذا الفيلسوف أنه أصبح فراشةً وحين استيقظَ لم يكن يعرف إن كان هو إنساناً حَلمَ بأنه أصبح فراشة أم أنه فراشة حلمتْ بأنها أصبحت إنساناً. ومن بين كلّ المجازات، أعتبرها الأجملَ. أوّلاً لأنّه يبدأ بِحُلم، على الرغم من أنّ حياة هذا الرجل، حين يستيقِظُ، تحتفظ ببُعْدٍ حُلْمِيّ. ثمّ لأنّ المُؤلِّفَ، وبشيء من النُّدْرَة ومن السعادة المُدهِشَة، اختار من بين كلّ الحيوانات، الحيوان الذي يجب وينبغي. فلو قال: ""شيان تْزُو" حَلم أنه أصبح نَمِراً"، فإن هذا كان سينهار كَقَصْرٍ مِن وَرَق. إن الفراشة تمتلك شيئاً من الرهافة والرقّة ومن التَلاَشِي. وإذا لم نكن إلاّ أحلاماً، فإن الفراشة بدل النمر هي أحسن طريقة توحي بها. ولو أنّ "شيان تسو" حلم أنه أصبح آلة كاتِبَة، فإنه ما كان ليستخرج منه شيئا. وماذا لو حلم أنه أصبح حُوتاً؟ ما كان هذا سَيُجْدِينَا فتيلاً. لا، إنّ الفراشة هي الكلمة الصحيحة، الكلمة التي تُنَاسِبُ ما نودّ التعبير عنه.

    فلننتقل الآن إلى ثيمة أخرى للمجاز، وهي ثيمة معروفة ومتداولة جدا، تربِط بين أفكار النوم والموت. نجدها، بصفة شائعة، في اللغة اليومية، ولكنّنا لو بَحثنا عن أمثلة شعرية، فإننا سنجد أنها تقدّم اختلافات كبيرة. أعتقد أن "هوميروس" هو الذي تحدث عن "نوم الموت الحديديّ"[إننا لا نجد إشارة إلى "نوم من حديد" في الإحالات الإحدى والثمانين لكلمة "نوم" الموجودة في فهرست هوميوس. ربما يفكّر بورخيس في "إنياذة" "فيرجيل"]. توجد هنا فكرتان متناقضتان: الموت هو نوع من النوم، ولكن هذا النوم مُكوّنٌ من المعدن الصلب، من معدن قاسٍ وصعب المِراس. إنه نوعٌ من نوم لا يأتيه ولا يستطيع أن يٌكسّرهُ أو يُحَطِّمَهُ شيءٌ. أمّا "هين" Heine فقد كتب عن الموت كما لو كان "ليلة مُعجِّلَة". ولكن ما دُمْنَا، هنا، في شمال "بوسطن"Boston، فإني أعتقد، أنه من المناسب ذِكْرُ أبيات "روبرت فروست" Robert Frost، المعروفة جدا ربما:

    الغابة فاتنةٌ، مُعتِمَةٌ وعميقة

    ولكن لديّ وعودٌ واجبٌ احترامها

    وأميال عليَّ أن أقطعها قبل أن أنام

    وأميال عليَّ أن أقطعَهَا قبل أن أنام.



    إنها أبيات شعرية رائعة، بحيث إننا لا نرى الحيلة والخدعة. ومع ذلك، وهذا شيءٌ مزعجٌ، دون شكّ، فإنّ الأَدَبَ يرتكز على الخُدَع. ومع الزمن، تنتهي هذه الخُدَع بأن تُكْتَشَفَ وينتهي المطافُ بالقارئ إلى التعب. ولكن في حَالَةِ قصيدتنا الشعريّة، فالحيلة خفِيّة بحيث إنني أخجل من استعمال هذه الكلمة(أستخدمُ هذه الكلمة بسبب عدم عثوري على كلمة أخرى). إنّ "فروست" Frost يكشف عن جرأة متفرّدة. إنه يُعيدُ نفسَ البيتِ الشِعريّ مرّتين، كلمة كلمة، ولكن المعنى مختلفٌ في كلّ مرة. "وأميالٌ عليَّ أن أقطعَهَا قبل أن أنام". المعنى في البيت الأول ماديّ، بصفة خالصة، الأميال هي الأميال في فضاء انكلترا الجديدة، والنوم هو النوم. في المرة الثانية، يتركُنَا الشّاعِرُ نتخيّل أن الأميال ليست لها دلالةٌ فضائيةٌ فقط، ولكن أيضاً دلالة زمنيّةٌ، وبأنّ النوم يدلّ على الموت-أو الاستراحة النهائية. ولو أنّ الشاعرَ قَالَهَا، حرفِيّاً، فإنّ أثَرَ أبياتِهِ كان سيكون خفيفاً. لأنّ ما يوحي، وهذا هو شعوري وانطباعي أنا على الأقلّ، يملك سلطةً أقوى من ما يُعَبَّرُ عنه بتفخيم. ويُمكِنُ للعقل البشريّ أن يملك نُزوعاً نحو رفض كلّ تأكيد قطعيّ. أتتذكّرون ما قاله "إيميرسون": "الحُجَجُ لا تُقنِعُ أحداً. إنها لا تُقنِعُ أحداً لأنها تقدّم نفسَهَا كَحُجَج. نقوم بفَحصِهَا ونَقِيسُهَا، ونقوم بتقليبها في رؤوسنا، ثمَّ نَرْفُضُها.

    ولكن حينما نتحدث، ببساطة، عن شيءٍ مَا، أو حين نشيرُ إليها عبوراً أو تلميحاً، فإنّ خيالَنَا يبدو حفيّاً ومُرَحِّباً. نحن مستعدون لِقَبُول مَا قِيلَ. أتذكر أنني قرأتُ، منذ ثلاثين سنة، أعمال "مارتين بوبر" Martin Buber، كنتُ أعتبرها كنَوْعِ من القصائد الرائعة. ثمّ حين ذهبتُ إلى "بيونيس إيريس"، قرأتُ هناكَ كتاباً لأحد أصدقائي، "دوخوفني"Dujovne، وهنا اكتشفتُ، ويا لِلْمُفَاجَأة، بأنّ "مارتين بوبر" هو فيلسوفٌ وأنه صاغَ فلسفَتَهُ في كُتُبٍ قرأْتٌهَا على أساس أنها قصائدُ خالِصَةٌ وإذا كانت هذه الكتبُ قد استَمَالَتْنِي، فلأنّ "رسالةَ" هذه الكتب أتَتْنِي عبر طريق الشِّعْرِ، عن طريق الإيحاء والموسيقى الشفهيّة، وليس عن طريق حُجَجٍ. أعتقد أننا نَجِدُ، لدى "والت وايتمان" نفس الفكرة-فكرة أن العقل لا يعرف الإقناع. ألا يُقال في بعض الأماكن بأنّ الليلَ ونجومَهُ أكثرُ إقناعاً من الحجج المسكينة؟







    (
    5)

    تُوجَد موديلات أخرى من المجازات. ولنأخذ مِثَالاً، أقلّ شُيُوعاً من الأمثلة السابقة- وأقلّ شيوعاً من هذه المجازات التي تُشَبِّهُ معركة بحريق. وهكذا نجد في الإلياذة صورة معركة تشتعل مثل حريق. ونفس الفكرة توجد في مقطع "فاينسبورغ"Finnesburg. يحدثنا الشاعر في هذا المقطع عن معركة بين الدانماركيين وبين شعوب جرمانية توجد بين هولندا وغرب ألمانيا محاذية لبحر الشمال، وعن الومضات التي تعكسها الأسلحة والدروع، إلخ.. ويقول الشاعر بأنه كان لدينا الإنطباع بأنّ "فاينسبورغ" بكاملها وكذلك قصر "فاين" Finn توهَّجت في حريق هائل.

    إنني تركتُ، بالتأكيد، جانِباً، موديلات شائعة. ولحدّ الآن تطرقنا إلى العيون والنجوم وإلى النساء والأزهار، والزمن والأنهار، والحياة والحلم، والموت والنوم، والنار والمعارك. وإذا كان لدينا مُتَّسَعٌ من الوقت، ومن تَبَحُّرٍ في العِلم ضروريٍّ، فإننا نستطيع تحديد حوالي ستّة موديلات أخرى من المجازات الشائعة في مختلف الآداب.

    ولكنّ ما هو مُهِمٌّ، ليس هو كَونُ أنه لا يوجد سوى عدد قليل من الموديلات ومن الثيمات المجازية، وإنَّما كون هذهِ الثيمات تتلاءَمُ مع تنويعات شبه لانِهَائية. إنّ القارئ الذي لديه حساسية للشِّعْر، ولكن الذي لا يبالي إِزَاءَ نظرية الشِّعر، يستَطيعُ أنْ يقْرَأ، مثلا: "أتمنّى أن أكون الليلَ"، ثمّ "وَحْشٌ مُكَوَّنٌ من عُيونٍ" أو "النجوم تنظر من عَلِ"، دون أن يتوقّف ثانيةً واحدة كي يلاحِظَ أنّ هذه المجازات تنتمي لِمُوديل واحد متفرِّد. لو كنتُ مُنَظِّراً جرّيئاً (ولكنّي لستُ سوى منظِّر خجول جدّا، وأتقدّم متلمِّساً)، فأني أستطيع التأكيد بأنه لا يوجد سوى حوالي عشرة موديلات-نماذج وبأنّ كل المجازات الأخرى ليست إلاّ تركيبات وتوافيق اعتباطية. معنى هذا الإعلان أنه من بين "عشرة آلاف شيء" في التحديد الصينيّ الشهير، لا نستطيع أن نكتشف سوى ما يَقْرُبُ إثنا عشر تجانسا أو مُؤالَفة أساسيّة. من البدهيّ أنكم تستطيعون اكتشاف أو اختراع تشابهات أخرى يمكن أن تكون، ببساطة، مُفاجِئَة- ولكنّ المفاجَأَة لا تدوم سوى لحظة.

    أُلاَحِظُ أنني نسيتُ مثالا جيدا عن المعادلة بين الحلم والحياة. وما زال ثمة وقتٌ لذكر هذا المثال، الذي أستعيره من الشاعر الأمريكي كومينغس"Cummings. أُقَدِّم لكم الإعتذارات فيما يخصّ البيت الشعريّ الأول، الذي كتبَهُ، بكل تأكيد، رجل شابّ وهو يتحدث مع شباب-لا أستطيع أن أستفيدَ من هذا الامتياز(امتياز أن تكون شابا) وكونيغس" يلعب، هنا، أصول لعب لم يَعُدْ يتَلاَءَمُ مع سِنِّي. ولكن يجب الاستشهاد بالمقطع الشعري في كلّيته. البيت الشعريّ الأول، إذاً، هو: ".وجهُ الإله الرهيبُ، أكثرُ لَمَعاناً مِنْ مِلْعَقَةٍ". وأنا آسف، حقيقةً، من هذه الملعقة، لأننا نحسّ بأن المُؤلِّف كان يفكر، بدايةً، في سيف، وشمعة، وفي الشمس، وفي دِرْع، أو كلّ شيء آخَر يتمّ اعتباره، تاريخياً، لامِعاً، ثمّ قال لنفسه: "لا، على كلّ حالٍ، فأنا إنسانٌ عصريٌّ، إذاً سَأتصدّى لملعقة." فالتَقَطَ ملعقتَهُ. ولكنَّنَا سنُسَامِحُهُ بسبب ما سوف يأتي: "وجهُ الإلهِ الرّهيبُ، أكثرُ لَمَعَاناً مِنْ مِلعقة، تُلخِّصُ صورةَ كلمةٍ قدريّةٍ واحِدةٍ." أعتقدُ أنّ هذا البيت الشعريّ الثاني أَفْضَلُ. وكما قال لي صديقي "مورشيسون" Murchison، فإنّ ملعقةً يمكن أن تجمع كثيراً من الصُّوَرِ. (لم أفكّر فيها، قد كنتُ حائراً بسبب هذه الملعقة- ولم تكن لديّ رغبة كبيرة في أن أُكرِّسَ لها تأملات طويلة.)



    وجهُ الإلهِ الرّهيبُ، أكثرُ لَمَعَاناً من ملعقةٍ،

    تُلخِّصُ صورةَ كلمةٍ قدريّةٍ واحِدةٍ،

    إلى حدّ أنّ وُجُودِي(الذي يتمَتَّعُ بالشمس وبالقمر)

    يُشبِهُ شيئاً لم يُوجَدْ قطّ.



    "يشبه شيئاً لم يُوجَدْ قطّ": هذا البيت الشعريّ يتمتع ببساطة غريبة. إنّ "كومينغس"، وأفضل من الشعراء الأكثر شهرة، "شكسبير" أو "والتر فون دير فوجيلوايد"، يُعيدُ لنا هنا الجوهرَ الحالِم للوجود.

    وفي المجموع لم أقترح إلاّ نزرا قليلا من الأمثلة. وأنا على يقين بأنكم تملكون في ذاكرتكم قدراً من المجازات التي قمتم بتجميعها، بعناية كبيرة- وبأنكم تمنيتم أن تسمعوني وأنا أستحضرها. وفما يخصّني، فأنا أعرف بأنه بعد محاضرتي سيجتاحُنِي الندم حين سأعرف أنّ كثيراً من المجازات الجميلة غابت عنّي. وبطبيعة الحال فإنّ هذا الشخص أو ذاك من الحضور سينتحي بي جانباً كي يسألني لماذا أغفلتُ هذا المجاز الرائع- فلا أستطيع سوى التمتمة ببعض الاعتذارات.

    وفي اللحظة الراهنة نستطيع المُخاطَرَة بعيداً وذِكْرَ المجازات التي لا تنتمي للموديلات المُكَرَّسَة. ولأنّي تحدثتُ عن القمر، فسوف أذكُرُ مجازا فارسياً قرأتُهُ في كتاب "تاريخ الأدب الفارسي" لِـ"براون" Brown. سنفترضُ أنه يوجد لدى "فريد الدين العطار" أو "عمر الخيام" أو "حافظ" أو أيضا لدى شاعر فارسي كبير آخَر. ومهما يكن هذا الشاعر، فقد سمّى القمر بِـ"مرآة الزمن". ومن وجهة نظر علم الفلك، فإنّ الفكرة التي ترى بأنّ القَمَر هو مرآة تستحقّ ما تستحقّ- ولكن وجهة النظر هذه عديمةُ المنفعة. فأن يكون القمرُ أم لا مرآة ليست له أية أهمية، لأنّ الشِّعر يتوجب عليه أن يتحدّث عن الخيال. فلنتأمّل هذا المجاز إذاً، القمر مرآةُ الزمن. أقول بأنه مجازٌ جميلٌ جِدّا-أولاً لأنّ فكرة المرآة تعبّر جيدا عن وميضِ وهشاشةِ القمر، وثانياً لأنّ فكرة الزمن تجعلنا نكتشفُ بأن هذا القَمَر اللامع جدا الذي ننظر إليه، قديمٌ جدا ومُحمَّلٌ بالشعر وبالأسطورة، وبأنه، أيضاً، قديمٌ قِدَمَ الزمن.








    (6)


    قلتُ للتوّ "قديمٌ قدم الزمن". هذا يدفعني لذكر بيت شعريّ آخَر- وهو بيت يصعدُ، ربما، إلى ذاكرتكم. لا أتذكّر الشاعر، ولكني وجدتُهُ في إحدى كتب "كيبلينغ"Kipling، الأقلّ شهرة، "من البحر إلى البحر" "From Se to Sea". هذا البيت هو: "مدينةٌ ورديّةٌ وحمراءُ، نصف قديمةٍ قِدَمَ الزَّمَن". كان بمستطاع الشاعر أن يكتب: "مدينةٌ ورديّةٌ وحمراءُ قديمةٌ قِدَمَ الزَّمَن"، ولكن هذا ما كان ليُعطي شيئاً. ولكنّ "نصف قديمة قِدَم الزَّمَن" تُدخِلُ نوعاً من التحديد السحريّ، يمكن مقارنَتُهُ بالتحديد الموجود في الصيغة الغريبة ولكن الرائجة في اللغة الإنجليزية: "أحبك إلى الأبد ويوم". "إلى الأبد" تعيّن وقتا طويلا، ولكنها من المبالغة في التجريد بحيث لا تتحدث إلى الخيال.

    الحيلة الثانية(ولتسامحوني على استخدام هذه الكلمة) تُوجَد في عنوان كتاب شهير "ألف ليلة وليلة". لأنّ "ألف ليلة" تعني ليالٍ عديدة، تحديداً كما تعني كلمة "أربعون" عددا كبيراً في لغة القرن السابع عشر. كتب شكسبير: "حين سيضربُ أربعون خريفا جبهَتَكَ". وأفكر أيضا في تعبير إنجليزي رائج، "أربعون غمزة" التي تدلّ على القيلولة. إذا فلدينا "ألف ليلة وليلة" كما أنه لدينا "المدينةُ الوردية والحمراء" والتحديد الغريب "نصف قديمة قدم الزمن"- وهو، بطبيعة الحال، التحديد الذي يبدو أنه يُمدِّدُ، إذا جاز القول، مُدَّةَ الزَّمَن.

    أعزّائي الأنجلوساكسونيين الذي أعود إليهم(وهو شيء يبدو لكم ضروريا)، يساعدونَنَا على فحص مجازات بعيدة عن الطرق المطروقة. أتذكَّرُ عبارةً وهي كناية تعبّر عن البحر بهذه الطريقة: "طريق الحيتان". أتساءل إذا ما كان هذا الساكسوني المجهول الذي صاغ هذه الكناية كان يعرف في أي نقطة يتواجَدُ فيها. أنا أتساءلُ حول ما إذا كان لديه الإحساس(ولو أنّ هذه النقطة لا تَهُمُّنَا) بأنّ كِبَرَ وسَعَة الحوت يُحِيلُ إلى شساعة البحر وكبره.

    وها هو مجازٌ آخَر، أسكندنافي هذه المرة، بخصوص الدم. الكناية الأقرب للتعبير عن الدم هي "ماء الأفعى". في هذا المجاز تجدون فكرةً (حاضرة أيضا لدى الساكسونيين) وهي أنّ السيفَ كائِنٌ مُؤْذٍ، كائِنٌ يشربُ دَمَ الرجال كَمَا لَوْ كان ماءً.

    من بين مجازات المعارك، تُوجَد بعض المجازات العادية- مثلاً "لقاء الرجال". بالرغم من أنه توجد هنا فكرة ذات أهميّة: فكرة التقاء الرجال كي يَتَقَاتَلُوا(كما لو أنّ لقاء من نوع آخَر لا يمكن تصوره). توجد مجازات أخرى: "تلاقي السيوف"، "رقصة السيوف"، "صدمة الدروع"، "صدمة الخوذات". وكلها موجودةٌ في (نشيد "برونانبوهر"Brunanbuhr البحريّ). وها هو مجازٌ جميلٌ: "لِقَاءُ غَضَبٍ". إنّ ما يعطي القوَّةَ لهذا المجاز، هو أنّ تعبيرَ "اللقاء" يوحي لنا بالرِفَاقيّة والصداقة، وأنّ اتحاد الكلمات يُشَكِّلُ مُفَارَقَةً: لقاءُ غَضَبٍ.

    ولكنّ هذه المجازات، كما يمكن القول، لا تُشَكِّلُ شيئاً إذا لم نُقارِنْهَا بمجاز أسكندنافي جميل جدا(يوجد أيضا في اللغة الإيرلندية). إنه الإشارة إلى المعركة كَـ"نسيج الرّجال". إنّ كلمة نسيج توجد هنا في مكانها، بصفة تثير الإعجاب، لأنها تتطرّق إلى شكل معركة قروسطية(من القرون الوسطى): السيوفُ والدُّرُوعُ وتصادُمُهَا. تَنْضَافُ إلى هذا إشارةٌ كابوسية، إيحاءُ نسيجٍ مُكَوَّن من كائنات بشريّة. "نسيجُ رِجَالٍ" يموتون ويَتَقاتَلُون.

    وبصفة مفاجئة يأتي إلى ذهني مجاز لِـ"كونكورا"Gongora يُذكِّرُ بِـ"نسيج الرِّجَال". إنه يتحدث عن مسافر وَصَل إلى "قرية بربريّة(متوحِّشَة)". وهكذا تَنْسِجُ هذه القرية أو تَجْدِلُ حولَهُ "حَبْلاً من كِلابٍ".



    مِثْلَ حَبْلِ كلابٍ،

    الذي تَنْسِجُهُ عَادَةً

    قريةٌ بربريّةٌ

    حَوْلَ الغريبِ.






    (
    7)


    وهكذا، وبغرابة، نجِدُ أمامَنَا نفسَ الصورة: فكرة حَبْلٍ أو نسيج مصنوع من كائنات حيّة. غير أنه، في هذه الحالة حيث يبدو أنه يوجد فيها تَرَادُفٌ، يبدو الاختلافُ بعيداً عن أن يكون غَيْرَ ذِي بَالٍ. حبل كِلاَبٍ، هو تصوُّرٌ مُسْتَهْجَنٌ وبذيءٌ، بينما نَسيجُ الرِّجَال هو واقعٌ رَهيبٌ ومُرِيعٌ.

    وكي أُنْهِي مُحاضَرَتي، فسوف أستعير مجازاً- هو ربّما مُقَارَنَة، ولكنّي لستُ أستاذاً وهذا التمييز(الأستاذية) لا يشغلني- من شاعرٍ منسيٍّ اليومَ، في "بيرون"Byron. يتعلّق الأمر بقصيدةٍ قرأتُهَا أيَّامَ مُراهَقَتِي(يمكن أن تكونوا قرأتُمُوهَا، جميعاً، في وقت مبكّر). ولكن فقط منذ يومين أو ثلاثة أيام اكتشفتُ، بِصفة مُفاجِئَة، بأنّ المجاز موضوع الدراسة هنا بَالِغَ التعقيد. ولم أَكُنْ أبداً، وَلِحَدِّ الساعة، قد اعتبرتُ "بيرون"Byron كمؤلِّفٍ مُعَقَّد بصفة خاصّة. إنها كلماتٌ تعرفونَهَا جميعاً: "هِيَ تتقدّمُ بِشكلٍ رائِعٍ، مِثْلَ الليل."بيت شعريّ من الروعة بحيث يبدو لنا الأمرُ بَدَهِيّاً. فيأتينا الاعتقاد "أنّنا كنا نستطيع كتابَتَهُ ، لو أننا تحمَّلْنَا مَشَاقَّ ذلك." ولكنّ "بيرون" Byron وحدَهُ تحمَّلَ عناء كتابَتِهِ.

    أَصِلُ إلى التعقيد الخفيّ والسريّ لهذا البيت الشعريّ. وعلى أيٍّ، فأنا لا أُشكِّكُ في أنكم اكتشفتُمْ ما سوف أكشفه لكم(أَلَيْسَ هَذَا دائماً ما يحدُثُ حين يتمّ إعلامنا بوجود مفاجأة أو حين نقرأُ رواية بوليسية؟). "هي تتقدَّمُ بِشَكْلٍ رائِعٍ، مِثْلَ الليلِ.": فأوّلاً، نحنُ أمام امرأة فاتنة، ثم نَعْلَمُ أنها تتمشَّى. "بشكلٍ رَائِعٍ"، ، وهو مَا يُذكِّرُنَا بالتعبير الفرنسيّ، حين نقول لامرأة: "أنتِ تَبْدِينَ جميلةً أكثَرَ من العادة"، هذه المرأة، هذه السيّدة الفاتنة يتمّ مقارَنَتُهَا بالليل. ولكن، ودون شك، وكي نفْهَمَ هذا البيت الشعريّ، فعلَيْنَا أن نُفَكِّرَ في الليل كامرأة. وإلاّ فإنّ البيتَ الشِعريَّ يفْقِدُ معنَاهُ. وهكذا فإننا نتوفّر في هذه الكلمات البسيطة جدا على مجاز مُزدَوِج: مقارنة المرأة بالليل، ولكن أيضا الليل مُقَارَناً بالمرأة. أنا لا أعرف، وهذا لا يهمّ، إن كان "بيرون" Byron قد تفطَّن لِهَذَا. أعتقدُ أنّ هذا البيتَ الشعريّ لن يكون بهذه الجَودة، لو أنّ الشاعر تفطَّن لِهَذا. وربما، وقبل أن يموت، يكون، في الحقيقة، قد فهِمَهُ أو أنَّ شخْصاً مَا قد لَفتَ انتباهه حول هذه النقطة.

    ما هي، إذاً، الخلاصات التي نستطيع أن نقدِّمَها في نهاية هذه المحاضرة؟ أرى خُلاَصَتَيْن رئيسيَتَيْن. الأولى، وهي أنه، بالتأكيد، حتى لو استطعنا العثور على مئات أو على آلاف المجازات، فإنه يمكن اختزالُهَا، في مجموعها، إلى عدد قليل من الموديلات أو من الموتيفات البسيطة. وهذا ما كان ليُحزِنَنَا أو يُؤثِّرَ فينا، لأنّ كلَّ مجاز مختلفٌ؛ فكلّ مرة استوحينا فيها موديلاً، فإننا نقوم بتنويع مختلف. والخلاصة الثانية، هي أنه توجد بعض المجازات-مثلاً، "نسيج الرّجال"، "طريق الحيتان"- التي لا تنتمي لِموديلاتٍ مُحدَّدَة بشكل واضح.

    لهذا السبب فأنا أعتقد، حتى بعد الانتهاء من محاضرتي، بأنّ الآفاق والمنظورات التي تنفتح أمام المجاز، هي بالأحرى جيدةٌ. وفي الواقع، إذا ما رغبنا في هذا، فإنّه من الجائز والمُبَاح لنا أن نَبْذُلَ قُصَارَى جُهُودِنَا لاقتراح تنويعات جديدة على الثيمات الكبيرة. إن هذه التنويعات يمكن أن تكون جميلة جدا، ووحدها الانتقادات النادرة، من نوع انتقاداتي، من يأخذ عِبْءَ مُعَارَضَتِها: "في هذه النقطة، نجد من جديد العيون والنجوم، وهنا نجد مرّة أخرى الزمن والنَّهْر..." إنّ المجازات تُلْفِتُ انتباه الخيال بشكل دائم. ولكننا نستطيع أيضاً امتلاك حظّ اختراع- ولماذا نَحْرِمُ أنفسَنَا من هذا الأمل؟- أقول اختراع مجازات جديدة لا تنضوي تحت لواء الأصناف المعروفة. غير المعروفة في هذه اللحظة على الأقلّ.



    -----

    * كاتب مغربي مقيم في فرنسا


    مجلة المهاجر






    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

المواضيع المتشابهه

  1. 1/الشعر الملمع **من أنواع الشعر الشعبي العراقي ,حسين الحمداني
    بواسطة الحمداني في المنتدى فرسان الشعر الشعبي
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 06-28-2015, 03:36 AM
  2. الأجاص ومرضى السكري/د.جميل القدسي
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الغذاء والدواء
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-15-2015, 10:39 AM
  3. منذ الصغر..
    بواسطة راما في المنتدى فرسان العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-10-2012, 03:57 AM
  4. المجاز عجز واعتباط في التعبير
    بواسطة سامر إسلامبولي في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-17-2010, 05:15 AM
  5. أثر الشعر العربي في الشعر الفارسي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-22-2009, 07:51 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •