قصة قصيرة
شفاعة امراة
دخل يجر مهجة الفاجعة في موكب حزن أ ثقله ، و قف هنيهة ، ثم جلس على المقعد الحجري، يتأمل الرخام بعيون تكاد تخترق الحجب,لم يستسلم بعد لسنن الطبيعة كما يسميها ، مرهقاً أطلق الحبل لعنان التفكير يتسلل بكل حذر خوفاً من ذلك الجسد المستبد الذي لا يؤمن إلا بالملموس, و أبى أن يرضخ لمعادلات العقل و الروح . جسد لا يؤمن بالغيب .. ! متستراً بالعاطفة ركب الخيال الذي وضعه في شريط على العين الأخرى ، يستعيد الذكرى القابعة على رعل أمام الواقع المر الذي استعصى بلعه ، يجول في ملكوت يزوره لأول مرة بعد أن هزمه الدهر و اخترق بواقعية أقوى جدار تعنثه الكبير ، في هيبة ذلك الصمت الرهيب عندما تخون الإنسان الحيل و يحير في بدنه الطبيب ,في آخر بعد من أبعاد الإنهزام ، عندما يجثو على ركبتيه
و يرفع يديه ..، لما و صل الاستسلام إلى هذا الحد. فإذا بيد دافئة توضع عل كتفه و تهزه بكل رفق ، توقضه من سباته الكبير.
_ كنت واثقة أنني أجدك اليوم هنا.
_ إنه مكاني المفضل منذ رحيلك ، كل يوم أزور هذه الحديقة التي أبت بذورها أن تنمو رغم ما تذرفه العيون من دموع الأسى و الحزن ! ، رفضت طيورها أن تغني أغنية الرفاق في ساحة هذا العالم ، إنها تزداد موتاً تحت تصفيقات اللقالق الموحشة ، إنه الموت الذي يتحدى آلياتي و أجهزتي و عقاقيري ، إنه الزمن ، إنها المسافات، إنه تناقض الحركة والسكون في هذا الكون الذي لا تنتهي عجائبه ، إنها الأشياء التي ترهقنا نحاول, فتهزمنا ، أشياء تتجدد ، و أخرى تتبدد ، إنها الأفاق و دوائرنا المفرغة.
_ هون عليك.
_ لا ، لا ، يجب أن نخلص الإنسانية من كابوس الموت ، و نصنع الخلود و نتحرر من عبودية هذا المعبود .
_ لا تحاول ، طموحك جنون يفقد الحياة معانيها ، و جمالها ، مصداقيتها.
_ لماذا ؟ ، لماذا هذه النهايات ؟ !
_ إنها حقيقة التجديد ، إنه التداول ، إنه التناوب ، سنة الحياة التي لا تقهر .
_ لا يجب أن تنقضي ، لا يجب أن تنهي ، يجب الاستمرار.
_ الاستمرار قائم ، قائم في الوجه الآخر من الحياة الذي لا تراه و أنت و راء مادية الفكر و الطبع, هذه المادية التي تهيمن عليها الغرائز و تقيدها العوامل البيولوجيه و الفيزيولوجيه ، و لو حاولت أن تخرج من هذه الدائرة لكشفت ما وراء الحقائق..
-دعنا ، لقد انهيت كتاية هذه القصة ، إنها شيقة ، جمعت فيها مواسم العبر و وشم الحبر و ماذا يجري بين الدهر و الدهر. ؟
تناول الكتاب من يدها ، فتحه على الإهداء :
" إلى العالم السابق ، ربما الأول ، إلى من هم في الضفة الأخرى من النهر ، إلى من يستحيل علينا الإتصال بهم إلا عبر الذاكرة و الحلم ، عبر شبكة الخيال ، نعم الخيال ، عندما تكون النفس حرة طليقة ، لا يقيدها فكر
و لا عرف دكتاتوري .. أهدي قصتي هذه.
نجـــاة
سنلتقي .. سنلتقي ، إني متأكدة ، فإلى اللقاء .. و خرجت من الدار تحمل كتاباً مرقوماً ، لم يكلفها العبور إلى الدار الأخرى إلا ابتسامة ، ابتسامة حلوة جميلة ، و بمجرد ما أسدل الستار الأول ، رفع عليها الثاني ، في الواجهة الأخرى جمع كبير من الناس ، مخلوقات أخرى ، ألوان أخرى ، أشكال أخرى ، لا تحتاج إلى السؤال ، حقائق مطلقة تجيب بوجودها تحول كل شئ إلى مسلم به ، مساكن القوم تخاريب كتخاريب النحل ، هرعوا إليها يسألون عن البشر ، عن الكون ، عن الدواب ، عن الجبال ، عن روما ، عن المسيح ، عن اللعب و التعب عن المجسدات الفانية عن السنين التي كانت تبدو لهم قاهرة .. يسألون عن الأهل
و الأحباب الذين لم يلحقوا بهم ..نوافذ تخاريبهم تطل على مقامات يطيب فيها المقام, و إقامات يسكنها الشقاء و الإنتقام,الأشغال قائمة على قدم و ساق في بناء القصور و تمهيد سبل المرور ، و شق الأنهار و وضع الجسور و غرس الأزهار و أشجار الثمار, منهمكون في صنع المنابر و الأرائك و صياغة اللؤلؤ و الذهب
و الفضة . منشغلون في نسج ألبسة الحرير و نصب الخيم و تجهيزمعاصر الخمور وتربية الطيور في جنات غناء طوابق و درجات بمسقاة العسل و الألبان و مشروبات أخرى و طوازج الطيبات ..روائح زكية و أنوار بهية ، حوريات تتزين و حشم و خدم تتهندم هذا في جهة اليمين ، أما في الجهة الشمالية ، فالحركة نفسها و النشاط نفسه ولكن في بناء صهاريج كل سائل منصهرنتن ، و سبك السلاسل و القيود و الأغلال ، و حدادة المقارض و السكاكين و صنع المقاذف و حفر الهاويات و اضرام النيران ، تربية الحيات و العقارب و وحوش أخرى ، غرس الزقوم و الأشواك و العلقم .. عالمان متنافسان من الأزل لا يكل من يعمل فيهما و لا يتوقف منهم أحد ، يجهزون لكل مكلف منزلتين ,دخلت نجاة إلى مقامها مستبشرة ، آمنة ، و جلست على منبر أمام نافذة الرحمة ، مستأنسة بسعادة مطلقة تنتظرها، وكادت الفرحة أن تكتنفها و تحجب عنها ذلك الأمر المهم ، و فجأة تذكرت ، فخرجت مذعورة تبحث عن منزل عامر فوجدته في آخر الشارع ، دخلت ، يا ويله !! إنها الكارثة !إنها المصيبة !إنها الهلاك ! ،رائحة كريهة تنبعث ، و دخان أسود يتسرب من كل جهة ، تطل نوافذها اليمنى على أرض جرداء جدباء نسج العنكبوت على أعراشها الخاوية اليابسة شباكه التي علقت بها بقايا طيور و حيوانات أخرى لا تعرفها ، على أشكال الخفافيش ، أما نوافذها الشمالية فإنها تطل علىمقام حفرة من النار مجهزة بآليات العذاب غريبة الشكل عظيمة ، أنكال ، مناجل ، مطارق ، مقارض ، لهب من كل لون ، أفرشه من جمر ، و أنهار من الصديد المنصهر ، و تنين ، و مخلوقات صنعت ببشاعة مرعبة و غربة الزمان و المكان ، لا أمان فيها إلا الذل و الهوان ، إنه الخلود و الموعود .. فوضعت يدها على فمها
و أسرعت إلى البواب.
_ أرجوك ، دعني أمر ، دعني أخرج
_ تخرجين ؟ !كيف ذلك و لا جسد لك ، مستحيل ! غير ممكن ! الرجوع غير مسموح به إلا عن طريق النفس أو الروح الجوالة ، اذهبي إلى قيادة الأرواح تعطيك رخصة لذلك .
_ أين هي هذه القيادة ؟
_ هناك في الطابق الثاني الذي يفصل بين هناك و هناك فهبت إليه
_ أريد رخصة لزيارة عامر ، أرجوك.
_ انتظري قليلا ، عامر الآن مشغول ، قلبه حديد و دمه صديد ، عقله مشلول مغلول ، بصيرته عمياء وسريرته سوداء !
جلست تنتظر و الناس كأنهم النحل في فصل الشتاء ، منهم المستبشر ، و منهم المتشائم ، يقطع أفئدتهم الندم على ما فرطوا ، سجلاتهم فوق كواهلهم تحمل في طياتها غيبة ، نميمة عذراَ و احتيالا و انتهاك حدود
و سفك دماء و غيرها كثير .. مجتمعين أمماَ أمماَ يتلاومون.
_ تفضلي ، اكتبي رسالتك على هذا القرطاس الروحي ، الآن ، لقد قذف في قلبه بصيص من النور ، إنه المنفذ الوحيد إذا كان خطابك هذا مسجل سيمر و إن لم يكن كذلك فلا حيلة لك.
_ انظر ، إنه مسجل ، نعم إنه مسجل في هذه الصفحة الطويلة من حياتي ، أنا ناقدته ، أنا شفيعته و قبل أن يلتحق بي ، أسرع أرجوك إنها لحظاته الأخيرة ، هذا عداد أيامه يكاد يتوقف ، أسرع ، ناولني القرطاس
و القلم..
_ تفضلي لقد حان الأجل لذلك.
_ حبيبي عامر ، إن الدنيا بكل ما فيها دار فناء ، مهيأة و مسخرة لجسد من حمىء مسنون ينتهي إلى العفن ، هكذا بداية أعظم مادة في الخلق و أكرمها ، هذه المادة التي لا تستحدث ، و هكذا تنتهي ؛ و الآخرة دار جزاء و إني و الله قد اطلعت على مكان إقامتك فوجدته حفرة من النار و دار بوار لا يرحمك فيها رحيم و لا ينجيك منها حميم .عذاب ينتظرك و أهوال ، فويل لك ثم الويل !! ، قم من سباتك و استيقظ لحالك و نب و تب فمقامك خراب و غار عذاب و الدنيا بكل ما فيها زخرفة و سراب في سراب في سراب ... أنتبه على صدى هذه الكلمة و قد اتسع صدره و تفتحت مداركه و استيقظت حواسه ، يتعجب أين كان كل هذه المدة من عمره ، متناقضاَ مع طبعه و ذاته ، كان الشفق حينها قد أحمر و خيم الغروب على الدنيا بسكونه
و شجونه ، فخرج من المقبرة و لما و صل أمام باب بيته سمع آذان العشاء و قف يردد من ورائه كأنه يتلقن الشهادة.
_ اللهم إني تبت إليك ، اللهم فأشهد ،( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ؛ و غمرت جسده قشعريرة فوقع على الباب و لما فتحت إبنته الصغيرة و جدته رافعاَ أصبعه شاخصاَ إلى السماء مبتسماَ يعاني سكرات الموت.
_ أبي ، أبي ، ما بك يا أبي ؟!
_ سنلتقي ، نعم ، سنلتقي ، لقد حان و قت اللقاء ، و داعاَ بنيتي ...
أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن ... محمداَ ... رسول الله. "
حريتنا في الحلم بركان... لا يعرف احد متى يثور... هكذا نمارس الكتابة
مختار سعيدي