إن كانت الكنيسة خسرت دينها ونفسها عندما اقتضت مصلحتها التحالف مع الإمبراطور قسطنطين وحَرَّفَت دينها ووثنت النصرانية من أجل الاعتراف بها ديناً رسمياً للإمبراطورية الرومانية، فإنها أيضاً أذلت أتباعها واستعبدتهم باسم الدين والدين منه براء عندما تطورت العلاقة بين الكنيسة والأباطرة إلى الشراكة في حكم أتباعهما في المجتمعات الإقطاعية الغربية، وفي تلك الفترة لعب رجال الدين الذين دخلوا على خط الإقطاع وتملكوا الإقطاعيات الكبيرة دوراً كبيراً وخطيراً في تخدير مشاعر الفلاحين المستعبدين والمظلومين والمقهورين عند الإقطاعيين، وامتصاص نقمتهم وإجهاض رغبتهم في الثورة والتمرد على ذلك الظلم، بكذبة: أن لهم -الفقراء- الجنة وملكوت السماء. وليت جشع رجال الدين النصارى وقف عند ذلك الحد ولكنه بعد أن استطاعت الكنيسة الهيمنة على الحياة كلها في أوروبا والتحكم في مصائر سكانها حكاماً ومحكومين وأصبح لها الكلمة الفصل والمطلقة على الجميع، امتدت أيدي الكنيسة ورجال الدين إلى ما في جيوب الفقراء من الزهيد من المال إن توفر ليسرقوه باسم صكوك الغفران التي أعطوا لأنفسهم الحق في منحها لهذا أو ذاك بدعوى التفويض الإلهي للبابا ظل الله في الأرض!.
فقد توجت الكنيسة تصرفاتها الشاذة وبدعها الضالة بمهزلة لم يعرف تاريخ الأديان لها مثيل عندما احتاجت إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة أعدائها، وقد كان ألد وأخطر أعدائها (المسلمين) أثناء الحروب الصليبية التي بدأت تلوح علامات هزيمتها فيها بعد أن بلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوربيين مبلغاً كبيراً وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم به وعداً قاطعاً، ففكرت في وسيلة تجعل المقاتل يندفع للاشتراك في الحملة الصليبية فكانت تلك الوسيلة (صكوك الغفران)! حيث أصدر المجمع الثاني عشر المعروف باسم مجمع لاتيران سنة 1215م قرار يمنح البابا حق امتلاك الغفران للمذنبين! يقول ول ديورانت: أن صكوك الغفران كانت توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين. وأنه لم يكن يحظى بالحصول على صك الغفران إلا أحد أثنين:
1. رجل ذو مال يشترى الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها هي.
2. رجل يحمل سيفه ويبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها.
وقد مثل ذلك ذروة الطغيان الكنسي ضد الفقراء والأمراء على حد سواء، وكانت أول أمرها من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها، حيث قويت الكنيسة وتدعمت سلطتها بالجحافل البربرية التي تطوعت للقتال في سبيلها من أجل الحصول على الغفران. وبالمقابل كانت لها نتائج سلبية على الكنيسة ووضع حد لطغيانها نهائياً بعد عدة قرون، فقد انخفضت سلطة الملوك والأمراء والنبلاء الذين كانوا جنوداً للكنيسة يقاتلون بأنفسهم في الحروب الصليبية. ورأوا أنهم أصبحوا هم وشعوبهم ليسوا إلا أدوات أو صنائع رجال الدين يمنون عليهم بالعفو إن رضوا ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا، كما أن الثراء الذي حصلت عليه الكنيسة جعلها تبدو منافساً قوياً لأصحاب الإقطاعيات وكبار الملاك ما أثار في نفوسهم شعور العداوة لها والحقد عليها.
أضف إلى ذلك الأسباب الأخرى التي تجدها في كل الكتب عند الحديث عن ظروف نشأة العلمانية في الغرب، والثورة ضد الكنيسة، مثل:
1ـ الطغيان الديني (محاكم التفتيش): بدء من فرض عقيدة التثليث، مروراً باضطهاد الكنيسة لكل المخالفين لها، انتهاء بثورة مارتن لوثر المزعوم أنها (إصلاحية). يقول برنتن: "لم يكن بوسع الكثيرين من أفراد المجتمع الغربي أن يعترفوا صراحة وجماعة بالإلحاد أو اللارادية أو بمذهب الاتصال بالله أو بأية عقيدة أخرى غير (المسيحية) إلا خلال القرون القلائل الأخيرة، وقد كان الكفار الذين يجاهرون بكفرهم قلة نادرة في الألف سنة التي استغرقتها القرون الوسطى.
2ـ الطغيان السياسي: فقد تحول رجال الدين إلى طواغيت وسياسيين محترفين، وتملكتهم شهوة عارمة للتسلط ورغبة شرهة في الاستبداد، بزعم تطبيق الشريعة وأن البابا ظل الله على الأرض. فقد كانت الكنيسة ترى أن خضوع الملوك لها ليس تطوعاً منهم بل واجباً يقتضيه مركزها الديني وسلطانها الروحي جاء في البيان الذي أعلنه البابا (نقولا الأول) قوله: "إن ابن الله أنشأ الكنيسة؛ بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وأن أساقفة روما ورثوا بطرس في تسلسل مستمر متصل..(لذلك) فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع (المسيحيين)، حكاماً كانوا أو محكومين".
3ـ الطغيان المالي: يستطيع المرء أن يقول دون أدنى مبالغة أن الأناجيل (المسيحية) لم تنه عن شيء نهيها عن اقتناء الثروة والمال، ولم تنفر من شيء تنفيرها من الحياة الدنيا وزخرفها، وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقع الكنيسة العملي، ونستطيع أن نلخص مظاهر الطغيان الكنسي في هذا المجال بما يلي:
* الأملاك الإقطاعية: يقول ول ديورانت: "أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فقد كان دير "فلدا" مثلا، يمتلك (15000) قصر صغير، وكان دير "سانت جول" يملك ألفين من رقيق الأرض، وكان "الكوين فيتور" (أحد رجال الدين) سيداً لعشرين ألف من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأديرة، وكانوا يلقبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية، وهكذا أصبحت الكنيسة جزءً من النظام الإقطاعي. وكانت أملاكها الزمنية، أي المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل (مسيحي) متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين ومصدراً للجدل والعنف بين الأباطرة والباباوات".
* الأوقاف: كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها "أوقافاً" للكنيسة بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة وبناء الكنائس وتجهيز الحروب الصليبية، إلا أنها أسرفت في تملك الأوقاف حتى وصلت نسبة أراضي الكنيسة في بعض الدول درجة لا تكاد تصدق، وقد قال المصلح الكنسي (ويكلف) وهو من أوائل المصلحين: "إن الكنيسة تملك 3/1 أراضي إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقي، وطالب بإلغاء هذه الأوقاف واتهم رجال الدين بأنهم "أتباع قياصرة لا أتباع الله".
* العشور: فرضت الكنيسة على كل أبتاعها ضريبة "العشور" وبفضلها كانت الكنيسة تضمن الحصول على عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين. يقول ويلز: "وكانت الكنيسة تجبي الضرائب ولم يكن لها ممتلكات فسيحة ولا دخل عظيم من الرسوم فحسب، بل فرضت ضريبة العشور على رعاياها، وهي لم تدع إلى هذا الأمر بل طالبت به كحق".
* ضريبة السنة الأولى: لم تشبع الأوقاف والعشور نهم الكنيسة الجائع وجشعها البالغ بل ظلت ترهق كاهل رعاياها بالرسوم والضرائب الأخرى، ولما تولى البابا حنا الثاني والعشرين جاء ببدعة جديدة هي "ضريبة السنة الأولي" وهى مجموعة الدخل السنوي الأول لوظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية، تُدفع للكنيسة بصفة إجبارية، وبذلك ضمنت الكنيسة مورداً مالياً جديداً.
* الهبات والعطايا: كانت الكنيسة تحظى بالكثير من الهبات يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء أو يهديها البعض بدافع الإحسان والصدقة، كما أنهم كانوا يخشون غائلة غضب الكنيسة بحرمانهم من المغفرة عند الاحتضار على الأقل. وقد قويت هذه الدوافع بعد مهزلة صكوك الغفران إذ انهالت التبرعات على الكنيسة وتضخمت ثروات رجال الدين كما أسلفنا.
* العمل المجاني "السخرة": لم تقتنع الكنيسة ورجال الدين بامتلاك الإقطاعيات برقيقها بل أرغمت أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها، لا سيما بناء الكنائس والأضرحة، وكان على الناس أن يرضخوا لأوامرها ويعملون بالمجان لمصلحتها مدة محددة هي في الغالب يوماً واحداً في الأسبوع ولا ينالون مقابل ذلك جزاءً ولا شكوراً.
* المواسم المقدسة والمهرجانات الكنسية: التي كانت تدر الأموال الطائلة على رجال الكنيسة، فمثلاً "في سنة 1300م عقد مهرجان لليوبيل واجتمع له جمهور حاشد من الحجاج في روما بلغ من انهيال المال إلى خزائن البابوية أن ظل موظفان يجمعان بالمجاريف الهبات التي وضعت عند قبر القديس بطرس".
وهكذا كانت الجماهير ترزح تحت أثقال الكنيسة وأعبائها المالية المرهقة، وكان الملوك والأباطرة ورجال الدين الصغار يحسون بذلك أيضاً ولم يكن في وسع أحد أن يرفض شيئاً من ذلك، فالشعب خاضع تلقائياً لسطوتها، والملوك كانوا يخشون بأسها من جهة كما كانت بينهما مصالح مشتركة من جهة أخرى، إذ كانت الكنيسة تمدهم بأسباب البقاء، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة لإعلان احتجاجهم. يقول تولستوي :"لقد استولى حب السلطة على قلوب رجال الكنيسة كما هو مستول في نفوس رجال الحكومات، وصار رجال الدين يسعون لتوطيد سلطة الكنائس من جهة ويساعدون الحكومات على توطيد سلطتها من جهة أخرى". إذن فمصلحة السلطتين تقتضي بقاء الأوضاع على صورتها الواقعة.
4ـ الصراع بين الكنيسة والعلم: بما أن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة في أوروبا العصور الوسطى، فإن الأصح أن نسمي ما حدث في الغرب صراعاً بين الكنيسة والعلم وليس بين الدين والعلم. وقد كان الصراع نتيجة خطأين فادحين ارتكبتهما الكنسية:
* أحدهما: تحريف حقائق الوحي الإلهي وخلطها بكلام البشر، والخرافات الوثنية والمعلومات البشرية التي جعلتها الكنيسة عقائد إلهية تدخل في صلب الدين وصميمه، وعدت الكفر بها كفراً بالوحي والدين.
* والآخر: فرض الوصاية الطاغية على ما ليس داخلاً في دائرة اختصاصها، وحاسبت الناس لا على معتقدات قلوبهم فحسب، بل على نتائج قرائحهم وبنات أفكارهم.