التطميناتُ الرّبّانيّة الاجتماعيّة !


مما لايسع أحداً جهلُه أنّ الشارع جل شأنه قد عنى بالمجتمع المسلم عناية فائقة ، وأرسى من الأسس ما يرتقي به صعداً إلى القمة السامقة ، ويفيئه ظلال حياة هنيئة لائقة، وكان أن فتح على هذه الأسس الأبصار ، وجلّى وبال أمر الخارجين عليها وما يمسّهم من اللغوب والأوصاب والأخطار .
وتلكم التطمينات كثيرة جمّة ، أسوق أشهرها وهي :
* ترويض الأنفس على القيام بأمر الله وفرائضه وحدوده والطاعات، وإشاعة أجوائها بين أظهر الأنام ، والاستباق إلى الخيرات ، سبيل لاصلاح المجتمعات :
يستشف ذلك ويُستقى من قوله تعالى في آياته البينات: { ل
يسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } سورة آل عمران الآيتان (113، 114).
قوله {
أمة قائمة} قال قتادة: (قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده) الطبري: جامع البيان 4/53 وذكر من صفاتهم أنهم يقومون الليل ، ويكثرون التهجد ، ويتلون القرآن في صلواتهم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويبادرون بالخيرات غير متثاقلين عن تأديتها لمعرفتهم بقدر ثوابها (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/105، و الشوكاني: فتح القدير 1/475) فهؤلاء الذين هذه صفاتهم وهذه أحوالهم من عداد الصالحين وجملتهم ! (انظر: الطبري: جامع البيان 4/56)

* قيام المجتمعات بفريضة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسوق إلى تحصيل فلاحها وتحقيق خيريتها :
بشر بذلك قوله سبحانه: {و
لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} سورة آل عمران آية (104).
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: (فخص هؤلاء بالفلاح دون من عداهم ، والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله لا الداعون إلى رأي فلان وفلان)
(ابن القيم : بدائع التفسير 1/508، وأعلام الموقعين 2/224)
فجملة {
وأولئك هم المفلحون} معطوف على صفات أمة ، والتقدير : وهم مفلحون ؛ لأن الفلاح لما كان سبباً على تلك الصفات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم ، ويجوز جعل جملة {أولئك هم المفلحون} حالاً من أمة ، والواو للحال ، والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك ، ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم ، فهو إما قصر إضافي بالنسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه ، وإما قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم (انظر: ابن عاشور : التحرير والتنوير 4/42) .
ولتبوّء موطن الخيرية رسم المولى الطريق بقوله : {
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } سورة آل عمران آية (110).
فعن الخيرية الواردة في هذه الآية الكريمة قال مجاهد ـ رحمه الله تعالى ـ: (
على هذا الشرط ؛ أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله) (الطبري: جامع البيان 4/44) فهذا تفضيل من الله تعالى لهذه الأمة بهذه الأسباب التي تميزوا بها ففاقوا سائر الأمم، وأنهم خير الناس للناس نصحاً ومحبة للخير ودعوة وتعليماً وإرشاداً ، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وفي هذا جمع بين تكميل الخلق والسعي في منافعهم بحسب الإمكان وبين تكميل النفس بالإيمان والقيام بحقوق هذا الإيمان (انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/409)
قال الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ: (وفي الآية دليل على أن هذه الأمة خير الأمم على الإطلاق ، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم وإن كانت متفاضلة في ذات بينها كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم)
(الشوكاني: فتح القدير 1/472)
ويلحظ المتأمل في الآية أن الله تعالى (أخّر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليه وجوداً ورتبة كما هو الظاهر ، لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخيرية)
(الألوسي: روح المعاني 2/28)
* الولاية في الله والانقياد له ولرسوله بالطاعة ، يعود بالخير والرحمة على الجماعة :
أذاع ذلك قول الحق جل وعلا : {
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} سورة التوبة آية (71).
قوله تعالى {
بعضهم أولياء بعض} أي: (قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله) (الشوكاني: فتح القدير 2/477)
قال ابن فارس : (الواو واللام والياء : أصل يدل على قرب ، من ذلك الولي: القرب ، يقال : تباعد بعد وَلْيٍ أي: قرب)
(ابن فارس: معجم مقايسس اللغة 6/141) فمدار هذه الكلمة على القرب ، والقرب نوعان: قرب نفسي قوامه المحبة والمودة والإكرام ، وقرب حسي ، قوامه النصرة والمقام بين أظهر المسلمين دون سائر الأنام ، وهذه الخصال هي ركائز الولاية في الشرع (انظر: ابن تيمية : الفرقان بين الحق والباطل ص7، والحنفي، أبوالعز: شرح العقيدة الطحاوية ص358)
قوله {
ويطيعون الله ورسوله} أي: (يأتمرون لأمر الله ورسوله، وينتهون عما نهياهم عنه) (الطبري: جامع البيان 10/178)
أما قوله {
أولئك سيرحمهم الله} فالسين لتأكيد حصول الرحمة في المستقبل ، فحرف الاستقبال مع المضارع يفيد ما تفيد (قد) مع الماضي ـ أي التحقيق والتأكيد ـ كقوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} سورة الضحى آية (5) والإشارة للدلالة على أن ما سيرد بعد اسم الإشارة صاروا أحرياء به من أجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة ( أنظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير 10/263)
* يدفع الله النقم عن المجتمعات ، ويرفع عنها البليات ، ببركة أهل الإيمان فيها والطاعات :
بشر بذلك قوله عز من قائل: {
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} سورة البقرة آية (251)قرأه الجماعة {ولولا دفع الله} وقرأ نافع {دفاع}، (وهما مصدران لدفع) (الشوكاني: فتح القدير 1/337) قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ: (والدفاع مصدر دافع الذي هو مبالغة في دفع لا المفاعلة ، كقول موسى جابر الحنفي:
لا أشتهي ياقوم إلا كارهاً ... باب الأمير ولا دفاع الحاجب
(وعلى القراءتين فالمصدر مضاف إلى الفاعل)
(ابن عاشور: التحرير والتنوير 2/500) وعليه يكون معنى الآية (ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ، ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر ، وبالصالح عن الفاجر) ( البغوي: معالم التنزيل 1/307، 308) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (يدفع بمن يصلي عمن لايصلي ، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي) ( ابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم 2/480. والسيوطي: الدر المنثور 1/567 و الشوكاني: فتح القدير 1/340) وقال مجاهد ـ رحمه الله تعالى ـ: (ولولا دفاع الله بالبر عن الفاجر، ودفعه ببقية أخلاق الناس بعضهم عن بعض لفسدت الأرض بهلاك أهلها) ( الطبري: جامع البيان 2/633 وابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم 2/480 والسيوطي: الدر المنثور 1/567)
وإلى نحو ذلك ذهب الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ بقوله: (ولولا أن الله يدفع ببعض الناس، وهم أهل الطاعة له والإيمان له بعضاً وهم أهل المعصية لله والشرك به ... {لفسدت الأرض} يعني: لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم ، ففسدت بذلك الأرض ، ولكن الله ذو منّ على خلقه ، وتطوّل عليهم بدفعه بالبر من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع عن العاصي منهم، وبالمؤمن عن الكافر) (
الطبري: جامع البيان 2/633 )وأخرج الهيثمي في مجمعه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم - قوله: ((لولا فيكم رجال خشع ، وبهائم رتع ، وصبيان رُضّع ، لصبّ العذاب على المؤمنين صباً)) ( أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10/277) أخذ بعضهم هذا المعنى فقال :
لولا عبـــادٌ للإله رُكــّعُ .... وصبيــة من اليتــامى رُضـّـعُ
ومُهملاتٌ في الفلاة رتعُ ... صُبّ عليكم العذابُ الأوْجـــَعُ
(أنظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 3/258)