والآن..
أفسحوا الطريق لهذا البطل يا رجال..
وتعالوا من كل صوب , ومن كل مكان..
تعالوا خفافا , وثقالا..
تعالوا مسرعين , وخاشعين ..
وأقبلوا , لتلقنوا في الفداء درساً ليس له نظير..! !
تقولون : أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل لم تكن دروساً في الفداء ليس لها نظير..؟؟
أجل , كانت دروساً ..
وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل وعن النظير..
ولكنكم الآن أمام أستاذ في فن التضحية..
أستاذ لو فاتكم مشهده , فقد فاتكم كثير, بل جد كثير..
إلينا يا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد..
ألينا يا عشاق السمو من كل عصر وأمد ..
وأنتم أيضاً يا من أثقلكم الغرور , وظننتم بالأديان وبالإيمان ظن السوء ..
تعالوا بغروركم..!
تعالوا وانظروا كيف يصنع دين الله الرجال.
تعالوا وانظروا أيَّة عزة .. وأية منعة .. وأي ثبات وأي مضاء .. وأي فداء .. وأي ولاء..
وبكلمة واحدة، أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها الإيمان بالحق على ذويه المخلصين..!!
أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟
إنه موضوع درسنا اليوم- يا كل بني الإنسان ...!
أجل...
هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو الموضوع ، وهو الدرس، وهو الأستاذ..
اسمه (( خُبيب بن عدي)).
احفظوا جيداً هذا الاسم الجليل.
احفظوه ،وانشدوه، فإنه شرف لكل إنسان .. من كل دين، ومن كل مذهب .. ومن كل جنس، وفي كل زمان..!!
*......*......*
إنه من أوس المدينة وأنصارها.
تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر إليهم، وآمن بالله رب العالمين.
كان عذب الروح، شفاف النفس، وثيق الإيمان ، ريَّان الضمير.
كان كما وصفه "حسان بن ثابت" شاعر الإسلام:
صقراً توسًّط في الأنصار منصبه
سمح السجية محضاً غير مؤتَشَب
ولما رفعت " غزوة بدر" أعلامها , كان هناك جندياً باسلاً, ومقاتلاً مقداماً .
وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه إبان المعركة فصرعهم بسيفه " الحارث بن عامر بن نوفل".
وبعد انتهاء المعركة , وعودة البقايا المهزومة من قريش إلى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم, وحفظوا جيداً اسم المسلم الذي صرعه في المعركة : خبيب بن عدي..!!
*.....*......*
وعاد المسلمون من "بدر" إلى المدينة , يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد..
وكان "خبيب" عابداً , وناسكاً , يحمل بين جنبيه طبيعة الناسكين , وشوق العابدين..
هناك أقبل على العبادة بروح عاشق... يقوم الليل , ويصوم النهار, ويقدس لله رب العالمين .
*......*......**
وذات يوم أراد الرسول صلوات الله عليه أن يبلو سرائر قريش, ويتبين ما ترامى إليه من تحركاتها , واستعدادها لغزو جديد.. فاختار من أصحابه عشرة رجال... من بينهم "خبيب" وجعل أميرهم "عاصم بن ثابت" .
وانطلق الركب إلى غايته حتى إذا بلغوا مكاناً بين عسفان ومكة, نمي خبرهم إلى حي من "هذيل" يقال لهم" بنو حيان" فسارعوا إليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم, وراحوا يتعقبوهم, ويقتفون آثارهم.
وكادوا يزيغون عنهم , لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطاً على الرمال .. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة, ثم صاح في الذين معه:
ُ [أنه نوى يثرب, فلنتبعه حتى يدلنا عليهم]..
وساروا مع النوى المبثوث على الأرض , حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون..
وأحس "عاصم" أمير العشرة أنهم يطاردون , فدعا أصحابه إلى صعود قمة عالية على رأس جبل..
واقترب الرماة المائة , وأحاطوا بهم عند سفح الجبل , وأحكموا حولهم الحصار..
ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقاً ألا ينالهم منهم سوء . والتفت العشرة إلى أميرهم "عاصم بن ثابت الأنصاري" رضي الله عنهم أجمعين.
وانتظروا بم يأمر..
فإذا هو يقول : [ أما أنا, فو الله لا أنزل في ذمة مشرك ..
اللهم أخبر عنا نبيك]...
وشرح الرماة المائة يرمونهم بالنبال ... فأصيب أميرهم" عاصم" واستشهد, وأصيب معه سبعة واستشهدوا...
ونادوا الباقين , أن لهم العهد والميثاق إذا هم نزلوا.
فنزل الثلاثة : خبيب بن عدي وصاحباه..
واقترب الرماة من خبيب وصاحبه " زيد بن الدثنة" فأطلقوا قسيهم, وربطوهما بها ..
ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر ,فقرر أن يموت حيث مات عاصم وإخوانه.
واستشهد حيث أراد..
وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين إيماناً , وأبرهم عهداً , وأوفاهم لله وللرسول ذمة..!!
وحاول "خبيب" و" زيد" أن يخلصا من وثاقهما, ولكنه كان شديد الإحكام..
وقادهما الرماة البغاة إلى مكة , حيث باعوهما لمشركيها..
ودوى في الآذان اسم" خبيب"..
وتذكر بنو عامر قتيل بدر, تذاكروا على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة "بدر" آباءهم وزعماءهم.
وأخيراً توصلوا عليه جميعاً وأخذوا يعدونه لمصير يشفي أحقادهم, ليس منه وحده, بل ومن جميع المسلمين..!!
ووضع قوم آخرون أيديهم على صاحب خبيب" زيد بن الدثنة " وراحوا يصلونه هو الآخر عذاباً ..
*.....*......*
أسلم خبيب قلبه , وأمره , ومصيره لله رب العالمين .
وأقبل على نسكه ثابت النفس, رابط الجأش, معه من سكينة الله التي أفاءها عليه ما يذيب الصخر , ويلاشي الهول.
كان الله معه.. وكان هو مع الله ..
كانت يد الله عليه, يكاد يجد برد أناملها في صدره..!
دخلت عليه يوما إحدى بنات" الحارث" الذي كان أسيراً في داره , فغادرت مكانه مسرعة إلى الناس تناديهم لكي يبصروا عجباً .. [والله لقد رأيته يحمل قطفاً كبيراً من عنب يأكل منه... وإنه لموثق في الحديد ... وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة..
"ما أظنه إلا رزقاً رزقه الله خبيباً]....!!
أجل .. إنه رزق آتاه الله عبده الصالح, كما آتى مثله من قبل مريم بنت عمران , يوم كانت:
[كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ..قال : يا مريم أنى لك هذا..؟؟
قالت: هو من عند الله , إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ]..!!
*......*.......*
وحمل المشركون إلى "خبيب" نبأ مصرع زميله وأخيه" زيد بن الدثنة" رضي الله عنه.
ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه, ويذيقونه ضعف الممات, وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه, وأنزل عليه سكينته ورحمته.
وراحوا يساومونه على إيمانه, ويلوحون له بالنجاة إذا هو كفر بمحمد , ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!!
أجل , كان إيمان "خبيب" كالشمس قوة , وبعداً , وناراً, ونوراً...
كان يضيء كل من التمس منه الضوء , ويدفئ كل من التمس منه الدفء , أما الذي يقترب منه ويتحداه فإنه يحرقه ويسحقه..
وإذ يئسوا مما يرجون , قادوا البطل إلى مصيره.. وخرجوا به إلى مكان يسمى "التنعيم " حيث يكون هناك مصرعه..
وما إن بلغوه حتى استأذنهم " خبيب" في أن يصلي ركعتين , وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثاً ينتهي باستسلامه وإعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه..
وصلى خبيب ركعتين في خشوع , وسلام , وإخبات .. وتدفقت في روحه حلاوة الإيمان, فود لو ظل يصلي, ويصلي .ويصلي..
لكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم:
[والله, لولا أن تحسبوا أن بي جزعاً من الموت, لازددت صلاة]..!!
ثم شهر ذراعيه نحو السماء وقال:
[اللهم أحصهم عدداً.. وأقتلهم بدداً]..
ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
*......*......*
ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب..
لقد أعدوا من جذوع النخل صليباً كبيراً أثبتوا فوقه خبيباً..
وشدوا فوق أطرافه وثاقه... واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة .. ووقف الرماة يشحذون رماحهم.
وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود أمام البطل المصلوب..!! لم يغمض عينيه, ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه . وبدأت الرماح تنوشه , والسيوف تنهض لحمه .
وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش , وقال له:
[أتحب أن محمداً مكانك, وأنت سليم معافى في أهلك ].؟؟ وهنا لا غير, انتفض "خبيب" كالإعصار , وصاح بقاتليه:
[والله ما أحب أني في أهلي وولدي , معي عافية الدنيا ونعيمها , ويصاب رسول لله بشوكه]..
نفس الكلمات العظيمة الشاهقة التي قالها صاحبه" زيد بن الدثنة" وهم يهمون بقتله..!! نفس الكلمات الباهرة الرائعة الصادعة التي قالها "زيد" بالأمس .. ويقولها "خبيب" اليوم.. مما جعل أبا سفيان , وكان لم يسلم بعد, يضرب كفا بكف ويقول مشدوهاً:
" والله ما رأيت أحداً يحب كما يحب أصحاب محمدٍ محمداً "..!!
*.....*......*
كانت كلمات " خبيب" هذه إيذاناً للرماح وللسيوف بأن نبلغ من جسد البطل غايتها, فتناوشته في جنون ووحشية..
وقريباً من المشهد كانت تحوم طيور وصقور . كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان الغض وجبة شهية..
ولكنها سرعان ما تنادت وتجمعت , وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى .
وفجأة طارت تشق الفضاء , وتمضي بعيداً.. بعيداً.. بعيداً.. لكأنها شمت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أواب يفوح من الجثمان المصلوب ؛ فخجلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!!
مضت جماعة الطير إلى رحاب الفضاء متعمقة منصفة .
وعادت جماعة المشركين إلى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية .. وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القريشيين حملة الرماح والسيوف..!!
كان "خبيب" عندما رفعوه إلى جذوع النخل التي صنعوا منها صليباً , وعندما شدوا عليه الوثاق..
كان آئنذ, قد وجهه شطر السماء وابتهل إلى ربه العظيم قائلا:
[اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا]..
واستجاب الله دعاءه..
فبينما الرسول في المدينة إذ غمرة إحساس وثيق بأن أصحابه في محنة .. وتراءى له جثمان أحدهم معلقاً..
ومن فوره دعا- عليه السلام- المقداد بن عمرو, والزبير بن العوام.. فركبا فرسيهما, ومضيا يقطعان الأرض وثباً .
وجمعهما الله بالمكان المنشود, وأنزلا جثمان صاحبهما "خبيب" , حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمه تحت ثراها الرطيب .
*......*........*
ولا يعرف أحد- حتى اليوم- أين قبر خبيب.
ولعل ذلك أحرى به وأجدر , حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ, وفي ضمير الحياة, بطلا.. فوق الصليب..!! (*)
***ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
رجال حول الرسول – خالد محمد خالد رحمه الله صـ 463-473 .
تعليق في عبرة
هذا هو خبيب بن عدي رضي الله عنه وأرضاه , عشنا معه بقلوبنا أروع فنون التضحية والفداء في عالم البشر . ومنه نتعلّم الكثير .. الكثير .
1- الإيمان بالله ورسوله إذا ملأ القلب وسطع فيه وهجه أفاض على المؤمن هالة من السكينة والوقار وغشيه نور لا مثيل له .
2- العظماء لا يساومون على إيمانهم , ويستهزؤون بكل ألوان التهديد والتنكيل والعذاب , ويتحمّلون من الشدائد والأهوال ما تعجز عن تحمله أمة كاملة . وهم في أعلى درجات الغزة والشموخ الإيماني .
3- لا قيمة للدنيا في منهج العظماء الكمّل عندما يمسّ الإيمان بل يركلونها بأقدامهم وهم في قمّة الثبات .
4- الغدر الّذي ذهب في غماره رجل عظيم اسمه خبيب بن عدي خلق الأنذال والجبناء في كل أمة .
5- الحب الراقي المبرّأ من الزغل ملك على الرجل قلبه وكيانه بكل ما يفيض به من مشاعر , [أتحب أن محمداً مكانك, وأنت سليم معافى في أهلك ].؟؟ وهنا لا غير, انتفض "خبيب" كالإعصار , وصاح بقاتليه:
[والله ما أحب أني في أهلي وولدي , معي عافية الدنيا ونعيمها , ويصاب رسول لله بشوكه . ]..
6- لقد أحاط الله بالعناية جثمان خبيب فلم تنل منه الطير بل انصرفت عنه وهذا إكرام وأي إكرام .
7- الكافر جبان ومثله كل ظالم إذا أعيته الأساليب العقلية لجأ إلى العنف وهذا حال مشركي قريش وكل من أتى بعدهم ومن سيأتي إلى يوم القيامة .
8- هل تجد نظيراً لهذا اللون من التضحية في عالم الشباب المسلم اليوم على امتداد الدنيا ؟ أما أنا فأقول لا . وأما أنت فقل ما تريد .
تلك ومضات من سيرة هذا البطل العظيم , والّذي هو بحق , أستاذ في فن التضحية والفداء .