السلطة
بقلم زهير كمال

عندما استلم عمر السلطة كانت الجزيرة العربية قد خرجت للتو من أتون حرب أهلية لتثبيت ركن الزكاة. حرب الردة خلفت خسائر كثيرة في الارواح. كما خلقت الكثير من المرارة والاحقاد الداخلية ، وكان اول ما فعله هو ارجاع الاسرى والسبي الى أهاليهم وقبائلهم. ولاول مرة تم توحيد الجزيرة العربية تحت سلطة مركزية واحدة وحسب رؤيتها هي سلطة المدينة .
أطلق عمر على نفسه اسم امير المؤمنين، ويجمع هذا الاسم امور الدنيا (الامير) وامور الدين (المؤمنين) معاً ، وكان الشق الدنيوي في منتهى التواضع قياساً بتسميات ذلك الوقت. وربط الشق الديني بالايمان وليس بالاسلام وكأن شرط تولي المنصب الاول هي التأكد من تديّن المرشح، فالمؤمن الحقيقي لا يبغي الا مصلحة الامة وتقدمها.
في عام 634 ميلادية كانت يسود الكرة الارضية ثلاثة اقطاب او امبراطوريات
امبراطورية التانج حديثة النشوء في شرق آسيا (الصين وما حولها)
امبراطورية الساسان في بلاد فارس والعراق وجزء كبير من الهند
امبراطورية بيزنطة في تركيا واجزاء كبيرة من اوروبا وسوريا والشمال الافريقي كاملاً.
وكانت مدة حكمه البالغة عشر سنوات كفيلة بهز العالم وتغيير معالمه !
عند وفاة عمر كان يسود الكرة الارضية قطبان
امبراطورية التانج في الصين
الدولة الاسلامية في الجزيرة العربية ، مصر، وشمال افريقيا (لم يعد تابعاً لبيزنطة)، سوريا والعراق وبلاد فارس ( واجزاء الهند لا تتبع احداً).
اختفت الى الأبد امبراطورية الساسان وتقلصت امبراطورية بيزنطة الى حد كبير(فقدت ثلثي اراضيها).
كثير من المواطنين الذي يعيش في احدى الامبراطوريات السابقة مقدر لهم ان لا يروا حاكمهم طيلة حياتهم، فالامبراطور يعيش في قصر او قلعة او مدينة محروسة جيداً.
اما عمر فكان يبدأ يومه في جولة صباحية في الاسواق يتفقد احوال الناس ويسألهم عن اوضاعهم وهذه طريقة جديدة في ادارة الدول الكبرى.
هذه الجولات هي التي مكنت عمر من ابداع قوانين في منتهى التقدمية وبعض هذه القوانين يصلح للتطبيق في ايامنا هذه.
كانت هذه القوانين من صنع رجل عبقري لا يعيش في برج عاجي وانما يعيش مع الناس ولهذا كان يهذّبها ويعدلها حتى تصبح اكثر ملائمة للمجتمع.
ومثال على ذلك:
يسمع طفلاً يبكي ويطلب من أمه إسكاته وعندما لا يسكت، يسأل أمه عن سبب بكاءه فتقول له أنها تفطمه. إلى هنا الحادثة عادية أم تفطم إبنها فلابد له من البكاء.
ويستمر الحديث، ويكتشف أنها تفطمه لحاجتها إلى الدراهم المائة المخصصة لكل طفل بعد فطامه..
يمكن أن يبقى عند كثير منا حادثاً عادياً.
ولكن عند عمر، مخ الدولة هو الذي يعمل.. كم طفلاً يمكن أن يبكي عندما تفطمه أمه قبل وقته!
لماذا خصصنا المائة درهم بعد الفطام، وليس قبله.. وهكذا، أسئلة كثيرة حتى يصل إلى القانون الجديد، المائة درهم تستحق للطفل عند الولادة. (كم دولة في عصرنا اليوم عندها قانون كهذا؟)
فكم من طفل وكم من أم أسعد بهذا التغيير...
يعطينا المثل القانون التالي:
الأطفال أفقر وأضعف مجموعة في المجتمع والمساعدة المادية حق لهم
ومما يؤثر في النفس حقا بعد تعديل القانون قول عمر وكانت عيناه تدمعان : بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين.
عوامل عدة اجتمعت لتجعل من عمر مصنعاً للقوانين:
مباديء الاسلام الثورية التي هزت (ولا تزال) مجتمع الجزيرة والعالم
رجل عبقري له صفات مميزة اهمها التواضع الذي لا يغيّره منصب فكان يتجول في المدينة ويشعر بنبض الناس.
لا وجود لقوانين سابقة تحكم المجتمع حسب المفاهيم الجديدة.
ومما يؤسف له ان التركيز في سيرة عمر يتم دائماً على الانتصارات العسكرية التي حققها وهي بكل المقاييس باهرة ولكن انجازاته في مجال قوانين تسيير المجتمع كانت مناراً للانسانية اجمع ونقل عنها فلاسفة عصر التنوير في اوروبا .
بعض هذه القوانين وعلى سبيل المثال لا الحصر:
سمع عمر شعراً لامرأة تشكو من فراق زوجها وبُعدَه، ويستفسر، فإذا هو جندي في الجبهة.. مخ الدولة يعمل ويستفسر، كم تستطيع المرأة أن تصمد على فراق زوجها، ويستنبط العام من الخاص، ويصدر قانوناً
إعطاء الجنود المتزوجين إجازة كل أربعة أشهر.
يسمع عجوزين يتلهفون على لقاء إبنهم، مخ الدولة يعمل فيجد أن هذا هو ابنهم الوحيد، وأنه جندي، فيصدر قانوناً :
يمنع تجنيد وحيد الأبوين
يرى عمر رجلاً عجوزاً يعمل في السوق، ويشعر عمر أن هذا الرجل في سن لا ينبغي أن يعمل فيها، يمر به كثيرون فلا يعيرونه الانتباه إلا عمر.
يسأله: "لماذا تعمل؟" مشفقاً عليه
فيقول أن عليه دفع الجزية..
مخ الدولة يستنبط العام من الخاص، فيلغي الجزية على المسنين من أهل الذمة ويقول: ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم.
لم يتوقف عمر عند الغاء الجزية بل أمر لكل المسنين من أهل الذمة بالصدقة، مثلهم مثل المحتاجين من المسلمين، فالحاجة والفقر في رأي عمر، لا تميز بين دين ودين.
الفقر ليس له دين
لا جزية على كبار السن ويأخذون الصدقة إن كانوا يستحقونها
رهبان الكنائس والأديرة من أين يأتون بالمال لدفع الجزية وهم يقضون حياتهم في خدمة الناس والتعبد، إذن
لا جزية على رجال الدين
ذمي يحارب مع المسلمين ضد أعدائهم فهل يعقل أن تؤخذ منه الجزيه؟
لا جزية على من يحارب مع المسلمين
سمع عمر امرأة وهي تنشد بعض أبيات الشعر، التي يفهم منها أن لزوجها رائحة فم كريهة فيحضره عمر، ويخيّره إن طلقها فله خمسمائة درهم، فيوافق الرجل.. دولة تدفع من جيبها خمسمائة درهم، لإسعاد فردها لهي دولة مثالية حقاً،
الدولة عقد اجتماعي بين الناس لإسعاد أضعفهم

قوانين مثل هذه تهتم بالناس العاديين والذين يمثلون الاغلبية في الشعوب لن تجدها في الامبراطوريات الاخرى.
تميز عمر بحمله لعصاة صغيرة سميت بالدرّة وهناك خطأ شائع ان عمر كان يستعملها ليضرب او يسوس الناس بها ولكن هذا جزء من الخلط في سيرته وإن استعملها فانما ضد الظالمين .
كان الرجل جالساً في الطريق العام ماداً رجليه ومعطلاً لمرور الناس، عندما وصل عمر لكزه بالدرّة وطلب منه ازاحة رجليه من باب اماطة الاذى عن الطريق.
بعد مرور أشهر جاء موسم الحج، ذهب عمر الى الرجل وسأله ان كان يحب الذهاب الى الحج فسيعطيه خمسمائة درهم تساعده على ذلك. (كانت تكاليف حج عمر وابنه في احدى المواسم 192 درهماً وقد قال عمر عن ذلك: اسرفنا)
رحب الرجل بذلك ولكنه استفسر عن السبب. فذكّره عمر باللكزة فقال له الرجل: ولكني لا أذكرها
فقال له عمر: انا والله ما نسيتها.
كانت هذه العصاة الخشبية الصغيرة اقوى من صولجان كسرى الفرس وسيف قيصرالروم.
لا شيء يخضع للمزاج عند امير المؤمنين وربما تكون هذه من اهم صفات الحكم الرشيد.
كان يحب اخاه زيداً حباً شديداً وعندما يتذكره يبكيه ، قابل مرة قاتل زيد الذي استشهد في حروب الردة فقال له: والله اني لا احبك حتى تحب الارض الدم المسفوح.
فقال له الاعرابي: وهل سينقص ذلك من عطاياي ؟
قال له: لا
فرد الاعرابي : ومالي بحب كحب النساء.
سكت عمر وابتلع احزانه داخله. فعظيم مثله لن يخلط بين مشاعره الخاصة والشؤون العامة.
بعد انهاء جولته الصباحية وصلاة الظهر يتوجه عمر الى مكتبه.
مكتب عمر الذي تدار منه دولة بحجم امبراطورية يمكن ان نطلق عليه اسم (مكتب بلا جدران)
ولم يكن سوى احد اركان المسجد النبوي.
كان عمر يعرف كيف يعيش القياصرة والملوك فقد تجول قبل اسلامه في بلاد فارس والعراق والشام ومصر. ولكنه كان يؤمن ويطبق نظرية:
لا حاجز بين الحاكم والمحكوم
وكان يفرض ذلك على ولاته.
في مكتبه يستقبل عمرالناس ويرسل الوفود ويكتب الرسائل حتى صلاة العصر، يرجع بعدها الى مكتبه ليكمل اعماله وعندما ينتهي يتمدد في مكتبه على الارض واضعاً برنسه تحت راسه واضعاً رجلاً فوق الاخرى ذاهباً في قيلولة عميقة.
كان الناس في المسجد وحوله يحاولون قدر الامكان الحفاظ على الهدوء والصمت ليس عن خوف او رهبة مع ان امير المؤمنين كان مهيباً ولكن لانهم يحبونه ويحاولون ان يوفروا له لحظات راحة يستحقها.
لم يكن يعكر هذا الصمت سوى صرخة مظلوم، فهو الوحيد الذي يستطيع رفع صوته والصراخ مطالباً بحقه.
كان احد هؤلاء المظلومين شاب قبطي جاء من سفر بعيد يشكو والي مصر وابنه.