المأسوية في الأدب العربي
" الفكر يعشق الصراع فالمفكر بدون صراع كالمغرم بدون حب "
كيركجارد
1 - الخيار الصعب : مأسوية أو أدب عربي :
عانى الشائع النقدي العربي من تخبطات لم يكن على وعي بأكثرها . يرجع معظمها إلى اضطراب الموقف النقدي والحضاري في وعيه بالمنجز التراثي وعلاقته بالمنجز الحضاري الغربي. هي صيحات وموجات اندفاعية مرة نحو الغرب ومرة نحو الشرق وأحيانا أخرى مراوحة في ذات المكان دون حراك. ونقف اليوم على تناقض في السائد النقدي يظهر مدى ارتباك الناقد العربي حين يقرأ ذاته . فلقد ذاع في بعض الأوساط النقدية أن الأدب " مأساة أو لا يكون " (1) رغم أن هذا القول يهدد أدبنا العربي القديم في أخصب فترات تاريخه إذا صدقنا ذائعا نقديا آخر تردده الأوساط نفسها وتشاركها فيه أقلام أخرى تعتبر الأدب العربي القديم أدب اطمئنان لا وجود فيه للمواقف المأسوية .وقد ذهبوا يفسرون "إطمئنانيته " مذاهب شتى فمنهم من ربطها بالطابع التوحيدي للحضارة العربية .ومنهم من فسرها بنمط العيش التقليدي القائم على " السرعة والنهب والاختطاف "(2). ومنهم من ربطها بالتوازن بين الروح الفردية والتنظيم الاجتماعي . ولم يخل الأمر من مخالف للسائد سعى جاهدا كي يثبت توفر الروح المأسوية وملامحها في نصوص أدبنا العربي منذ طرفة بن العبد إلى التوحيدي فالمعري . وقد يؤول تتبع المنابع التي انبثق منها التناقض في الموقف من الأدب العربي القديم ومأسويته إلى الوقوف على ثلاثة روافد : أولها الاستشراق المشكك في عمق العقل العربي و"سلبيات" تأثير الدين الإسلامي فيه . ثانيها التأثر بالمسرح الغربي في أصوله الإغريقية والتساؤل المحير: لماذا لم يعرف العرب تراجيديا ولا مسرحا رغم أنهم ترجموا كتب الإغريق خاصة ؟. أما الرافد الثالث فهو الفلسفة الوجودية التي وجدت لها عند العرب معتنقين سحبوا أفكارهم على الأدب القديم بنية البحث أو بنية المساءلة عن رصيد المعاناة الوجودية فيه . يستدعي هذا البحث توفيق الحكيم ممثلا للرافد الثاني ومحمود المسعدي ممثلا للرافد الثالث .
2 - ما هي المأسوية ؟:
الروح المأسوية لصيقة بأي إبداع أدبي لان الإنسان ككائن تاريخي يرفع منجزه الحياتي الدنيوي بين عدمين : عدم ما قبل الوجود وعدم الموت . وهو يسعى خلال وجوده إلى أن يترك أثرا ينازع به العدم ويحقق له الخلود . وتتأسس بذلك علاقة الصراع بين الأدب والزمن. وقديما قال الشاعر العربي : " ويبقى على الدهر القصيد ". ومن الصراع المليء بالتناقضات والمفارقات داخلية وخارجية تكون المأساة التي لا يخلو منها اثر أدبي سواء أكان الأثر تعبيرا مباشرا عنها أو غير مباشر وعلى أي صعيد من أصعدة التعبيرة الأدبية أو أصعدة الحياة والوجود . بل إن حدث الكتابة وحده ممارسة مأسوية بما انه تعبيرة عن نزعة مقاومة للفناء بتخليد الذات من خلال رسوم كتابتها.إن فاعلية الإنسان في وجوده لا تتحقق إلا بكونه كائنا مصارعا.والصراع هو المقوم الجوهري في المأساة لان من أول مظاهر الوعي بالوجود إدراك تناقضاته كمكون من مكوناته. أليس الوجود نقيضا للعدم ؟ والحياة نقيضا للموت ؟ ومن الثنائيات فالتناقض فالصراع تنشا المأساة . وكل أدب يعي ويعمق الوعي ويعبّر عن هذا التحدي الجوهري في الوجود الإنساني هو أدب مأسوي. صحيح انه ليس ثمة أدب يخلو من تأمل ووعي : وعي الإنسان بذاته وحياته ووجوده. لكن المأسوية رصد معمق للمعاناة والصراع والفشل.فالإنسان وحده من ينفعل بالثنائيات وتوتر تناقضاتها ليعيش متمزقا بينها . وليس مهما أن ينتصر في صراعه ضدها بل المهم أن يصارع وان يتحدى. وقد يكون الأهم أن يفشل لتنتهي المأساة بطابع احتفالي مكثف. هو طابع مأساة الإنسان يصارع قوى خارجية جبارة بكيان متصارع داخليا. يفضي تحليل المأسوية إلى حركات أربع تحدد ماهية البطل المأسوي وأدبه:
الوجود الوعي الصراع الفشل : الماهية = البطل المأسوي .
انطلقت المأسوية من المسرح لكنها تجاوزته .التصقت بالسرديات قديمها وحديثها لكنها منفتحة كذلك على الشعر .واستطاعت أن تجمع بين مذاهب وفلسفات كثيرة بعضها قديم وبعضها كان من اخرما ظهر.
3 - توفيق الحكيم والمسرح التراجيدي :
يعد توفيق الحكيم ( 1898- 1987 ) من رواد أدب المأساة في الأدب العربي الحديث تنظيرا وإبداعا . يرجع ارتباطه بالمأسوية إلى الرافد المسرحي بدرجة أقوى من الرافد الاستشراقي دون أن ينفيه .وقد أرّقه أن يخلو الأدب العربي من التراجيديا وفسر غيابها بنمط العيش العربي.وأسس في مسرحه لتراجيديا معرّبة فكانت نصوصه المعروفة عربيا وعالميا : "أهل الكهف " شهرزاد " بجماليون "أوديب "...وهو على مستوى التنظير يؤسس للصراع الداخلي بتقسيم الذات الإنسانية إلى ثلاث مناطق متباينة فيقول : " إن العقل والقلب والغريزة ملكات ثلاث منفصلة إحداها عن الأخرى ولعل أول ما يفهم من تباين ألوان الحقيقة لدى كل منها بل إن كل ملكة تسيطر على عالم مختلف عن عالم الأخرى " (3) وهو ما يهـيّئ لتصارع الإنسان داخليا لان كل ملكة لا تستسلم للأخرى فيظل الصراع بذلك دائما ديمومة الحياة . يضيف الحكيم : " إن العقل يستطيع أن يهدم كما يشاء دون أن يسمع القلب طرقة واحدة من طرقات معوله " (4). وهذا ما ينعكس على كل فعاليات الإنسان حتى إمكانية إدراكه للحقيقة . يؤكد الحكيم تباين الحقائق بقوله : " العقل لا يدري إلا ما يلائم وظيفته وما يخضع لمقاييسه والحقيقة العقلية ليست الحقيقة المطلقة "(5). فهناك حقائق أخرى في عالم القلب وعالم الغريزة يمكن أن تكون مناقضة للأولى.وقد انبنى أدب الحكيم على لعبة أثيرة لديه تستدعي هذا التقسيم الداخلي للذات الإنسانية محاولا الإقناع من خلالها بفكرة " التعادلية " التي ينظر لها في كثير من كتبه وافرد لها كتابا بهذا الاسم .يختار مثلا في مسرحية أهل الكهف ثلاث شخصيات تتكلم كل واحدة منها بفاعلية مميزة من فعاليات الداخل الإنساني. فواحدة تنطق باسم العقل والحقيقة المنطقية . والأخرى تتكلم باسم القلب والعاطفة المشبوبة .أما الأخرى فلا تفك نفسها من إسار المستوى الغريزي الساذج البسيط.تتفاعل هذه الشخوص الثلاثة في محيط مأسوي قائم على المفارقة الزمنية.وهو ما يؤكد أنها ذات واحدة بنوازع متباينة متصارعة في وجود متناقض ومتوتر . أما عن الصراع الخارجي فيعترف الحكيم بان ما سيطر على جميع كتاباته هو : " قدرة الإنسان المحدودة أمام قدره وان مصير الإنسان مرتبط دائما بكفاحه أمام القوى غير المنظورة " (6) . فكان من مظاهر الصراع الخارجي عنده :
• الصراع بين الحلم والواقع , بين الموجود والمنشود , وقد ركز الحكيم على هذا المظهر في اغلب مسرحياته بأشكال عديدة أوضحها موجود في أهل الكهف وبجماليون .
• صراع الإنسان والقدر : هذه القوة الغيبية المتحكمة في المصير تلغي الحرية والاختيار والإرادة كصفات جوهرية في الإنسان فتملي عليه أن يخضع لمنه يعاند قدره . وأوضح تجسيد لهذا المستوى من الصراع مسرحيته "الملك أوديب ".
• الصراع ضد الزمن : طالب توفيق الحكيم سدا للنقص الذي لاحظه في الأدب العربي أن يكتب العرب والمصريون في المسرح والتراجيديا . لكنه لم يقصر المسالة على مجرد الترجمة وان كانت ضرورية بالطبع . ولم يقصرها أيضا على مجرد النقل والاقتباس. بل طالب بالتمصير دون التعريب أي أن تكون المأساة المكتوبة مصرية خالصة . ويرى أن تحقيق "مصرية" المأساة لا يكون إلا بجعل محورها صراع الإنسان ضدّ الزمن يقول في هذا الشأن بوضوح : " إن مصر لا يمكن أن تفكر في غير الخلوص إلى حياة أخرى ...دائما ذلك الفزع من الموت وذلك الأمل في انتصار الروح على الزمان والمكان" (7). وواضح أن المكان والزمان يتحدان في مفهوم التاريخ . وقد انبنت مسرحيته أهل الكهف على ذلك الصراع المر بين الإنسان والتاريخ . فتقول إحدى الشخصيات في هذه المسرحية : " إننا ملك التاريخ ولقد هربنا من التاريخ لننزل عائدين إلى الزمن فالتاريخ ينتقم " (8)
وتقول شخصية أخرى تنطق باسم القلب وفاعلية الحب عند الإنسان المصارع زمنه وقدره : " يحول بيننا كائن جبار هو التاريخ " (9) . تصور المأساة المصرية التاريخ قوة خارقة تسحق الإنسان الفرد والجمع .وتشايع المأساة العربية هذا الطرح فيقول رائد الوجودية في الأدب التونسي الحديث عن الزمن: "إن الزمان كالرحى الدائمة الرحي لا بد من كسرها حتى تطمئن الحبة ويطمئن الكيان"(10) .
4- الوجودية : يعترض الوجوديون على نعت الوجودية بالفلسفة أو المذهب معللين ذلك بغياب النسق المحكم والبناء الفكري المتكامل . تلتصق الأفكار الوجودية بصاحبها باعتبارها تشريحا لوعيه بذاته ووجوده الذي لا يشاركه فيه احد . فليست الوجودية تفكيرا انطولوجيا مجردا بل هي اقرب إلى أن تكون معاناة للوجود ومعاناة فردية مأسويتها في فرديتها .لذلك كانت الوجودية فلسفات ومذاهب وتجارب .ولا يمكن أن يتأسس أدب وجودي لا يؤسس هذه المعاناة الفردية . وكل مؤلفات محمود المسعدي الأديب التونسي الذي سبق عصره ومصره متابعة معمقة لصيرورات حياة واستحالات وجود من خلال الالتصاق بمسيرة ذات مصارعة.عاش المسعدي بين 1911 و2006 .ويعود الزمن الإبداعي الذي كتب خلاله ما كتب إلى أواخر الثلاثينات وأول الأربعينات رغم أن ما كتبه لم ينشر إلا في سبعينات القرن العشرين.كتب المسرح في "السد" وكتب الرواية في "حدث " أبو هريرة قال " والأقصوصة في "مولد النسيان ".وميزة كل هذه الإبداعات لغة تراثية جزلة ورمزية عميقة وشكل تراثي موظف في مضامين حداثية .ولا يمنع ذلك من استمرار للمأسوية من خلال مقوم الصراع داخليا وخارجيا ومن خلال مفهوم البطل المأسوي كذلك.و لا يجب أن ننسى أن المسعدي هو صاحب مقولة أن الأدب مأساة أو لا يكون " وان الحياة كون واستحالة ومأساة فإذا هي ارتدت رضى وقرارا فهي الخسران ولعنة على الزائفين ".(11)
والحق أن الحكيم والمسعدي أديبان يختلفان ويتفقان. نقطة الاتفاق الأكبر من مأسوية الكتابة الأدبية هي ازدواجية الثقافة .هما يجمعان بين الثقافة العربية والثقافة الغربية في معينها الفرنسي .وكلاهما قضى فترة من حياته دارسا محتكا بهذه الثقافة الغربية بعد أن احتضن ثقافة الأجداد في موطنه الأصلي.أما نقطة الاختلاف الكبرى فهي طبيعة الثقافة المتأثر بها . فالحكيم يبدو متشبعا بالأصول في حين يبدو المسعدي متشبعا بالحديث المستجد من الفروع . يتبنى المسعدي مبادئ "الوجودية" وليدة مابين الحربين العالميتين . أما اهتمامات الحكيم فترجع إلى اليونان والرومان وآدابهم المسرحية .وإذا كان الحكيم قد سعى إلى " تمصير" المأساة فان محمود المسعدي قد " اسلم "الوجودية إلا أن هذه "الأسلمة" المزعومة مضطرة بفعل المضمون الوجودي والمأسوي إلى أن تبقى حبيسة الشكل والإطار لا تتعدى المكان والزمان وأسماء الشخصيات .
وهكذا تعود من جديد قضية العلاقة بين المأسوية والتراث الأدبي العربي من خلال هذا الربط القسري بين الثقافتين بغية التمصير أو بغية الأسلمة .وتنتهي اغلب مسوغات الربط بين المأسوية والتراث إلى تثمين التجربة الدينية أو الصوفية .الأولى تقف بعمق أمام رحلات البحث عن الله من الشك إلى اليقين والثانية تنفتح على عالم ثري من المعاناة التي تستغرق أعمارا وأعمارا. إن الطرح الأول ينبني على انسحاب الله والقطيعة معه بحثا عنه لان الله بما يعنيه الإيمان به من تصديق واطمئنان يلغي الفكرة المأسوية في رؤية العالم وفي مواقف الذات من نفسها ومما حولها. وكل الحقائق في التصور الديني تقبل مسلمة من مصدر علوي فينعدم الإبهام وتنعدم المأساة إذ أن " الله يعطي للوجود معناه " كما يقول لوسيان غولدمان .ويضيف: " الصوفية يقظة على الله وقد انسحب العالم أما المأسوية فيقظة على العالم وقد انسحب الله "(12). وإذا ما رمنا تمثيل التصورات الدينية والصوفية والمأسوية فلن نجد من يعبر عنها أفضل من النماذج البنيوية التي تختزنها الكتابات في بنيتها العميقة:
• النموذج الصوفي:


-- - - - - - - - - - - - - - - - -
السهم يعني العلاقة الفاعلة بينما الخط المتقطع فيعني القطيعة.
والتوحد بالذات الإلهية هو الطريق إلى الآخر والعالم والكون .
• النموذج الديني:
أما النموذج الديني التقليدي فينبني على تكامل ومسالمة بين المقومات المختلفة تحت الرعاية الربانية الشاملة:




• النموذج المأسوي:
---------- ----------------
الصراع الداخلي الصراع الخارجي

تبدو لنا هذه العودة إلى التراث ونماذجه ضرورية لفهم المعين التراثي الذي لا يتحرك محمود المسعدي إلا داخله خاصة في كتابه ذي العنوان الدال بقوة على ما نقول: " حدث أبو هريرة قال".
• الصراع الداخلي : * أولا : الألوهية والحيوانية :
يستند المسعدي إلى شكل تراثي موغل في القدم ليؤسس عبره رواية حداثية . يعتمد على الحديث بسنده ومتنه .ومن خلال التنسيق بين الأحاديث بتعدد رواتها وتتابع أزمنتها وتعاقب مراحلها يمسح مسيرة حياة لبطل اختار له اسما تراثيا مضمخا بالمعاني الدينية : اباهريرة .وقد كان فعل الأمر نفسه حين اختار في مسرحية السد "غيلان" اسما لبطله. وينثر بين تضاعيف الحدث والحوار والوصف مضامين رؤية وجودية ترى : "مأساة الإنسان يتردد بين الحيوانية والإلوهية " . فيجعل بطله يعيش تجربة الحس ليؤله لذّات الجسد مع جارية لا تبعد عن صنوتها " ظلمة "التي "ترتاح لنبيب التيوس "(13). سماها النص ريحانة . يكتشف في آخر التجربة أن من شان الحس أن يورث الكلال والملال وانه لا يرقى إلى مقاومة الفناء مثلما تورق الزهرة فوق القبر. ينتقل إلى تجربة الجماعة . ثم إلى تجربة الدين والروح توقا للألوهية الحق بتغييب الجسد وشهوات الحسّ فكان أن هوت الآلهة وانكشف الاطمئنان الديني الزائف وخرج أبو هريرة مع الراهبة "ظلمة "من الدير مؤمنين بالفسوق واللذة التي لا تغلب .
* ثانيا : الفردية والجماعية : انبثقت حيرة أبي هريرة بين فردية تطلب فلا تدرك ويحاصرها الفناء وجماعية تغيب جوهر الإنسان الحق منذ أن طلب الفردية فاستحالت عليه وعجز عنها ليظهر له في كل صحراء يظنها بكرا "رسم عجوز فاجر "(14), ومنذ أن احتاج للآخر في كل تجربة تخاض جنسا أو جمعا أو تدينا.ولقد عجز عن قتل البعد الفردي وتذويبه في الجماعة أو في الآخر المتحد بالكيان فتبدت له ريحانة واحة فردية تريد أن تستبقيه في ظلها لتمحوه تحتها وعرف من تجارب الجماعة التي خاضها أن ذات الفرد القائد هي ما تغلفه كل روح جماعية زائفة . لقد سبح مع الجماعات باسم من بنى الأهرامات وشيد صروح هامان لكنه فوجئ بالجمع مفردا تضخم وتستر تحت أغشية الطاعة والاستبداد والاستغلال وكأن ألوهية الخلق الجماعي لا تدرك إلا بتحقير الذات باستسلام لجوع مزمن لا يرتوي هو جوع العنف أو بركوع للحجارة و الأصنام التي يعليها الجمع باسم البناء .وليس بناء بل هو هدم للكيان والإنسان الذي هو أولى وأكرم من كل حجر يرفع.ولم يرفع حجر في التاريخ إلا على أنين إنسان متوجع مسحوق.

• الصراع الخارجي:
• * الله: لا يخوض أبو هريرة صراعا مباشرا مع الله. وهو مثل بطل السد يعاند قدره ليصنع ذاته وينحت كيانه. لكنه لا يصارع قوى غيبية علوية جبارة . تكتفي الوجودية المؤمنة بطرح الأسئلة بحثا عن يقين .يخرج أبو هريرة مثلا من تجربة الدين بتساؤل هو: كيف السبيل إلى إيمان بدون اطمئنان مزيف ؟ ويخرج من تجربة الجماعة بسؤال آخر: أيهما اصدق وجودا الله أم الشيطان(15)؟ وتطرح تجربة الحس أسئلة موغلة في جرأتها على المقدس الديني في بدايات القرن العشرين مثل : اريد ان اعرف آنا خالق الله ام الله خالقي ؟(15) .هذه أسئلة لا تحيل على كفر . بل هي أسئلة طريق .الم يقل سيدنا إبراهيم عن الشمس "هذا ربي هذا اكبر "؟ وواضح أن أسئلة الحيرة هي بداية كل وعي.
• *الزمن :الزمن هو التحول والصيرورة .ولذلك لم يكره أبو هريرة شيئا مثل كرهه للقرار والجمود والسكون بل " كان كالماء يجري"(16) لا يستقر على حال .لكن الزمن أيضا سَوْقٌ إلى الضعف والعجز والموت والفناء .ولم ينشد أبو هريرة شيئا غير الخلود واثبات الذات في الوجود . لم يطالعنا أبو هريرة باكيا إلا أمام الموت (17).ولم يطالعنا ضاحكا إلا أمام الموت(18). فهل من تفسير غير لغز الموت المضحك المبكي ؟ أم هي احتفالية الفشل المأسوي في صراع الكائن ضد الزمن ؟إذ لا سبيل لتطمئن الحبة بين حجري رحى الزمن .
• * الطبيعة : هي في " حدث أبو هريرة قال " ذات مستويين: الأول فلسفي ملغز يصارع الإنسان من اجل إيجاد الجواب المقنع عنه وفك طلاسمه .أي أن الطبيعة هي الجوهر غير المكتسب من الذات وهي الصفاء والطهارة اللذين لم يعكرهما كدر الزيف .أما المستوى الثاني الأبسط فالصراع ضدها فيه لا يكون إلا من خلال الفعل الهادف إلى التغيير والبناء.هو صراع لترك الأثر .نقش على الحجر من اجل الخلود .فكل مشهد طبيعي متغير يحمل بصمة دالة على الوجود الإنساني .ومهما بلغت دلالتها على الفعل فإنها لتحيل بنفس الدرجة على العجز والفناء.إذ لا يبقي العفاء ولا يذر .الطبيعة في كلمة واحدة هي إطار المأساة ومقوم من مقوماتها .
• * الصراع الاجتماعي: تتشعب مستويات الصراع مع الآخر. ولكن المحصّلة لخصها فيلسوف الوجودية الأشهر جون بول سارتر حين قال : "الجحيم هو الآخرون " .وتتحقق هذه الدلالة المأسوية في كتاب المسعدي عن أبي هريرته من خلال مرتكزات أهمها :
- البعث : ولادة الوجودي ليست مع الميلاد الطبيعي بل مع تفتح العين على السؤال والقطع مع الرتابة الاجتماعية . لا بد من القطيعة مع العادي والسائد والمألوف الجاهز الذي اتفق عليه الجميع .كل هذه المسميات قبور للوجود الفردي المنوطة مسؤوليته على الفرد وحده كمغامرة لا تقبل الإنابة أو الإعارة أو الاستبدال. وهذا أول مظاهر الصراع مع الآخر الذي يرفض هذا الخروج من الأسر الآمن .سمّى المسعدي هذا المستوى من الصراع " البعث الأول ", لأنه يؤمن أن الموت الذي يسميه "البعث الآخر" هو بعث ثان وبحث متجدد عن وجود مختلف.
- تجربة الجماعة: تجربة إصلاح الأوضاع الإنسانية بما فيها من مواجهات بين الفرد والفرد وبين المجموعة والفرد وبين الجماعة والجماعة...تتحول كل هذه التجارب من عزائم الفعل والبناء إلى واقع العنف والخراب والهدم .ومن هنا كان السلب والنهب والإغارة عند جماعات أبي هريرة .
- الذوبان كشكل من أشكال الموت والفناء: ينشد الفرد غيره ليتقوى به على العدم فيعدمه الآخر بتذويب فرديته فيه تحت غطاء الجماعية الزائفة. ولذلك كفر أبو هريرة بالجماعات فقال : ارحمهم ولا تؤمن بهم " (19).
- القهر الاجتماعي: سلطة الجماعة وما توارثته أقوى من الفرد وقدرته على الإضافة والتغيير.ولذا ينقلب أي شكل من أشكال الصراع إلى قهر اجتماعي مسلط على الفرد متعدد الأشكال لكنه في كل الأحوال يجعل الآخرين مصدرا من مصادر المعاناة الفردية. ولعل ما ذكر هو الذي دفع أبا هريرة إلى الانتحار في النهاية .
الخاتمة : أطلق بعضهم على المسرح الذي يكتبه توفيق الحكيم تسمية المسرح الذهني .واعتبر آخرون أن ما يكتبه المسعدي أدب رمزي . وتحدث نقاد عن رواية ذهنية عند نجيب محفوظ مثلا .والحق أن ما يجمع كل هذه الخطوط المضيئة في الكتابة الأدبية العربية هي أنها كلها من أدب المأساة.هذا الأدب الذي نبش المسعدي التراث ليقف على تجليات منه عند أبي العتاهية وأبي نواس وحتى في كتاب الأغاني .وهذه الأسماء طبعا هي نزر من بحر. إذ لا شك أن تجليات أدب المأساة في الأدب القديم والحديث أكثر من ذلك بكثير .

سامي بالحاج علي
دوز – تونس

الهوامش والإحالات
(1) محمود المسعدي : تأصيلا لكيان .طبعة مؤسسات عبد الكريم بن عبدالله .تونس .د.ت ص 21.
(2) توفيق الحكيم تحت شمس الفكر. طبعة . دار الكتاب اللبناني د ت ص 60)
(3) م.ن .ص 13
(4) م. ن .ص 15
(5) م .ن .ص13
(6) توفبق الحكيم .التعادلية . الطبعة الاولى . مؤسسات بن عبدالله .تونس 1986.ص 18
(7) تحت شمس الفكر .مرجع سابق .ص 105
(8) توفبق الحكيم . اهل الكهف .الطبعة الثالثة .الدار التونسية للنشر .تونس 1985.ص145
(9) م.ن. ص : 197
(10) محمود المسعدي .مولد النسيان .الطبعة الاولى .الدارالتونسية للنشر .تونس 1974 ص48
(11) محمود المسعدي .حدث ابو هريرة قال . ط3 دار الجنوب للنشر تةنس 1989 ص12
(12) L.Goldman. Le Dieu Caché. édition :Gallimard.1979.p :13
(13) حدث ابو هريرة قال . مرجع سابق .ص : 176
(14) حدث ابو هريرة قال . مرجع سابق .ص :131
(15) حدث ابو هريرة قال . مرجع سابق .ص :177
(16) حدث ابو هريرة قال . مرجع سابق .ص :197
(17) حدث ابو هريرة قال . مرجع سابق .ص :119 و 143
(18) حدث ابو هريرة قال . مرجع سابق .ص :193
(19) حدث ابو هريرة قال . مرجع سابق .ص : 157