قصة قصيرة
أضحية الرفاق
كأنها الملداء على الرصيف ، واقفة تستعيد في وجم ذكريات ماضي الرفاق المردام .. ما أثقل الزمن
الوارب في حركته !، متثاقلة مرت الأيام في هيضة وهيعة ، لم يدرك الحادي فيها مطادة ، ضيق وحش العنوشة عليها الدنيا ، فقدت كل عضادة ، تتمنى لو أن أصابع هذا اليأس تدفع بكل قوة عقارب الزمن الذي يمارس الأرق في مطاردتها ، استبعدت البيت فاستندت إلى عمود الهاتف الذي استهوى جسدها المرهق ، ترنو إلى هذه الجموع الغفيرة الهامجة متزاحمة أمام رتاج المستشفى الذي تعمل فيه كممرضة ، رجال الشرطة بالهراوات تحت أوامر البواب ، يحاولون عبثا تنظيم الزوار ، أحست بالندم والخجل ، إنه حكم البروليتاريا الذي أفنت شبابها في خدمته وهيمنته ، وانزل الرعاء منازل الحكماء على حساب جيل بأكمله ( اخدم ياالشاقي للباقي وكل
يا المستراح ..) صخب ، ضجيج كبير ، وحركة كثيفة تشهدها ساحة هذا الشهيد ، التي أصبحت عبارة عن سوق اشتعلت فيها نيران الأسعار التي أججت بلهيبها دموع المصائب الهاتنة ، حطمت المنفقة الواهية مكابح طلبات النفوس الضعيفة والمنافقة ، وأجهدت الأيادي السخية ، تناسق مصطنع لشكليات جمعت فئات متناقضة جملة وتفصيلاُ في التعامل مع المقتضيات وفي مجالات الحياة كلها.. أمة لا تجمعها القلوب لن تجمعها آلات الدروب ، قلوب ، إنها الكلمة، الكلمة الشرارة التي حركت آلية العقل والعاطفة تراجع الأحداث التي تعيش يا سمينة آلآم مخلفاتها في بداية خريف عمر أزهر ولم يثمر ، تهاوت كل الشعارات الجوفاء وانطمس زخرف القول الوارب وبقيت الضحايا كأنها أشداب هديم في سنة عجفاء ، سقطت ألوية الجاهلية الحمراء التي غزت أبناء الأمراء وصنعت منهم عبيداَ.. ذهب الزبد جفاء .. وفجأة انتشلها من غفوتها صوت جهوري
- صباح الورد والياسمين !
- آه سالم ، بل قل صباح الاستسلام و الإنهزام
- أنت اليوم أجمل ، إنك تضاهين الربيع
- ربيع المقابر ! ، إنه الخريف يا سالم ، لا تمعج ، الربيع التهمته الآلة التي لم تترك ملسماَ و لا أثر غلواء
- هيا اركبي ، اعتذر عن هذا التأخر ، الطابور و الاكتظاظ و الازدحام في كل مكان ، هرج و همج ، لا يستطيع الإنسان في هذا البلد أن يوفي بعهد أو يصدق و عداَ أو يبلغ أمداَ إلا بشق النفس
- إنها هيستيريا الملموس التي تفشت في النفوس ، إنها الحاصدة...
انطلقت السيارة في اتجاه الحي الشعبي كأنها في موكب جنائزي ، تشق الشوارع المحاصرة بالشعارات و صور الزعيم ، وسط الوجوه المكفهرة ، العابسة تنبئ بانفجار الكبرياء المزيف في حركة النشاط الكاذب..
- بعد هذا اليوم الشاق ، ما رأيك في نزهة ؟، لعلك تجدين في الطبيعة ما يجدد فيك الأمل و يقضي على تشاؤمك هذا ..
- قتل كفري بما خلقت له في نفسي مبررات كثيرة ، و مات في القلب كل جميل ، إنني مجرد آلة صنعت من معادن اليأس.
- حاولي أن تستعيدي وظيفتك ، كوني كالطبيعة ، كلما قضى عليها الإنسان في مكان ، أخرجتها سنة الكون بقوة على شكل آخر في مكان آخر ، تتجدد في نفسها و في ما حولها.
- كرهت العد التنازلي يا سالم ، ولا أستطيع أن أخوض تجربة أخرى لأنني لم أعد أتحمل الهزيمة.
- إنها نواميس الحياة ، البقاء للأصدق ، للأصلح ، للأقوى ، و النجاح حليف التفاني في خدمة الحق ، والحق يتجدد و لا يفنى إنه الصراع الأبدي.
- كثيرة هي الأشياء المؤلمة التي بدونها تستحيل البدايات.
- إذا امتزجت حلاوة التفاؤل و الرجاء بمرارة الألم ، تهون التضحيات و يبتسم القدر ... على كل حال لن تكلفك النزهة شيئاَ.
- ما دمت مصراَ على ذلك ، سأذهب معك غداَ ، وكفى فلسفة.
- الحمد لله أنك لم تقولي سفسطة.
لا يزال يشك في قدراته لمصارحتها و لكن هذه المرة لن يفوت الفرصة .. صراخ الأطفال ، نداءات النساء ، شجار الجارات ، هرج كأنه هرج ، يترمق على إيقاعه بعض العجزة القهوة تحت أشعة الشمس الحانية ، حي متمرد على كل قواعد الألعاب ، لوحات و إشارات المرور استعملت أعمدتها أرجوحات للأطفال ، لا يقدس هنا إلا الجامع و الشيخ الهرم ، الباعة يتجولون ببضاعة مكدسة على العربات من الدرجة الثالثة أو أقل ، نداءاتهم تشيع نوعاَ من الرحمة يزينها إحسان كاظم للوبد .. في وسط هذا الجو البشري المجرد من الرماق ، توقفت السيارة و نزلت يا سمينة تحت أشعة العيون الفضولية المحرقة ، تتلقف بصدر رحب نبال الغمزات
و اللمزات .. تخفي وراء تواضعها ما يثير جنون المتأمل الطفيلي و المتذوق لمياسم الجمال الخالص الذي يتركه هذا النوع من التعامل ، تتناسب فيها الملامح و تتكامل فيها الصفات و لا يميزها شئ ، فليس لواصفها خيار أمام ما يفرضه عليه الحسن فيها و طيبة النفس ، لولا تمردها كما يقولون ؛ شعر حريري ، عيون نجلاء ، صدر ناهد ، طويلة لا تعاب عريضة الأرداف و المناكب ، تتجاوز المتوسط في كل شئ ، تتمايل في مشيتها دون تكلف ، ألفة مألوفة ، تندمج بسرعة ، ولها مقالات في مقامات كثيرة ، لها و عليها .. يالها من امرأة رائعة لو لم تكن شاة فداء ، هكذا يقول أهل الحي ، كانت نظراتها في هذه المرة كلها شكاو ، وكأنها تعتذر من هذا الموقف الذي يمكنه أن يمس سالماَ ، أما هي فإنها تعودت ، مثلها في مثل هذا المجتمع ، العطاء مقابل البقاء ،
و البقاء فقط .. حينها كان سالم يقول في نفسه " هوني عليك ، غداَ هو آخر يوم من معاناتك " ابتسم ليظهر لها أنه لم يهتم في هذه اللحظات إلا بها ، فأنشرح صدرها و اشرق و جهها ، و قالت في ارتباك و احتشام .
- إلى الغد
- إلى الغد إن شاء الله ، على الساعة السابعة و النصف صباحاَ أنصفت باب السيارة و عادت ياسمسنة إلى محطة الانتظار من جديد ، إنها في العشرية الرابعة من العمر ، تتذكر هذا كلما و قفت أمام المرآة.
لماذا كل هذا الاهتمام ؟ إنه يرحم عنوستي ، و يشفق علي ، مسكينة أنا ! ، لا ، إنه .. لا ، لا أظن ذلك ، إنها مجرد رحمة صداقة فقط ، شاب في الخامسة و العشرين ، في سن ابني .. ! لا ، لا يمكن !! شغلتها هذه الأفكار إلى ساعة متأخرة من الليل ، مر الوقت بسرعة ، لم تصدق و هي على و ثار النوم يطوي بحلمه ما بقي في ثوان لا تعد .. خرجت من الحمام و جلست أمام المرآة ، تسرح شعرها الحريري الذي بدأ الشيب في غزوه خلسة ، حملت المقص بيد مترددة تذكرت صوراَ من فيلم معركة الجزائر ، فتراجعت ، أعادت تسريحه و فتحت علبة تحتوي على أجمل المساحيق و العطور ، ترددت قليلاَ ، ثم بدأت تستظهر حروف الجمال في ذلك الوجه الذي عبس و اكفهر طويلاَ ، تزيح غبار سنوات الغبش عن ابتسامة الرشد ، كأنه البدر بين ألبوا سق ، انسجم التناسق بأعجوبة في جلال و بهاء بين لون اللباس الكلاسيكي الإفرنجي الزاهي و الوجه الصبوح و مقاطع الجسد التي كانت تختلس الرشقات المحتشمة كلما حركها شعور ، تغلبت تلك اللمسات الأنثوية العائدة من بعيد على معاول الدهر و الترجل ، وكشف الذوق الذي انبجس من حواسه في جسد يرجع من بعيد ، ورشاقة الأصابع الهمشة كنوزاَ طمرها الوهم و اليأس ، وردمتها المعاناة تحت أثقال الانسلاخ الذي أرغمها على الانتظار الممزوج بالوهن و أدخلها في الهرج أزيد من خمس وعشرين سنة ، منذ أيام الثانوية
و رحلات التطوع ..
- سالم ، أنت هنا ؟ ! .
- منذ خمس وعشرين دقيقة ، أو أكثر .. إنك رائعة ، ثقي أنه لن يهزمك الدهر أبداَ ، هكذا التحدي ، فاحذ ري تعسف القدر أيتها الملداء .. و مد يده إليها.
- ناوليني يد الجمال أخذه معي ، إني راحل إلى دنيا الخلود في الكمال .
فمدت يدها كعروس الأساطير إلى فارس الحلم يقودها بكل رفق إلى الشارع.
لم تكن ياسمينة عبر كل المسافة تتابع باهتمام حديث سالم ، الذي كان يركز نظره على الطريق يتكلم من عمقه و امتداده كأنه يتكلم من عمق السفر الذي لا ينتهي ، من عمق النفس ، من عمق المستقبل الغابر ، الهم الوحيد الذي كان يشغلها ، هو كيف يمكنها أن تتخلص من كابوس الماضي و تطفو على سطح الحياة لتعيش هواجسها في شفافية مطلقة ، تبحث عن حق الحياة بنفس أعمق ..
هل تصارح سالم و تكشف له أسباب انحرافها ، و عنوستها ؟ هل يغفر لها المجتمع بواسطته ما اقترفته لما استسلمت للانسلاخ و التغريب ، و تدنيسها الصفحات البيضاء بحبر دماء الاغتصاب .. ؟
- آه ، عدت إلى عادتك ؟ !! ما هذا الشرود ؟ ! أنا متوقف هنا منذ .. أين كنت ؟ ! أصبحت متعطشاَ أكثر فأكثر لمعرفة ما بطويتك ، إنك تثيرين في نفسي حب التجسس و الفضول إلى درجة الجنون ، لماذا هذا الانطواء ؟ ! لماذا هذا الاكتئاب ؟
-لا تهتم إنه مجرد استقراء للماضي.
- أرجوك ، أريد أن أرى على و جهك الابتسامة ، فلا تعكري صفو هذا اليوم ، و اطو صفحات الماضي اللعين الذي يطاردك .. ستجلس بجانب ذلك المرفض ..
لا ! ، أرجوك ، إن خرير الماء يزعجني ، و تدفقه يذكرني بالحماس و الاندفاع ، إنه يعبر عن قوة الحياة و قوة الموت ، إنه عنوان المغامرة .. أظن أن الدم في شرايين بعض البشر يندفع بنفس القوة أو أكثر ، ألا تظن ذلك؟
نظر إليها سالم وقبل أن يتكلم واصلت تقول:
- أفضل ذلك المكان ، وأشارت بإصبعها ؛ نستطيع من هناك أن نراقب كل المنطقة ، ونتمتع بجميع هده المناظر في مهب النسيم ، تحت ذلك الظل الوارف للهذال الجميل..
- أحسنت الاختيار ، الجمال لا يخطئ
- و عندما يخطئ يحدث الكوارث .
- حمل السلة واتجه إلى حيث أشارت ياسمينة يدفعه الأطيبان.
- غريب أمرها ، كل شيء فيها متناسق متكامل ، إنها أجمل حلقة في الوجود .. الأشكال ، الألوان ، الحركة, السكون ، الظل ، الحر ، هده المخلوقات حولنا يديرها ناموس واحد ، رغم هذا إنها لا ترحم
- جاءت لتِؤدي وظيفة معينة وتختفي لتعود
- آه لو ينسجم الإنسان مع هده الظواهر والمخلوقات ويساير الطبيعة.. !
- إلا أن الإنسان غافل .. لا يهتم إلا بما يحقق رفاهيته الأنانية ، كأنه حية لا تمشي إلا على بطنها.. الخبزة ، القفة ال... واستبدلت المثالية بألعوبة العفن..
- سينتهون مثلي في المصارف التي تصب في المستنقعات
- انظري إلى هذه الحشرات والنباتات والطيور والحيوانات .. حياتها مرهونة بتضحياتها ، وتوازن الطبيعة مرهون عندها بالاستسلام لهده السنن.
- ألهذا سعادة البعض مرهونة بشقاء البعض الآخر !
- بل بتضحية البعض ، إنها قواعد اللعبة التي لا تنتهي ، ولن يجد الإنسان دوراُ أحسن من الدور الذي خلق لأجله.
عبرت بعض الغيوم واكتأب الجو ، وانقطعت فجأة الحركة ، وتهيأت الهادرة لاستقبال ما ستلقي به السماء.. اختفت الحشرات والطيور الجميلة ، وصعد الغربان لأداء الإستعراض المقدس الذي يسبق القوة المدمرة ..
لمع البرق وقصف الرعد وأنهمر المطر الو اكف، فغمرت الجداول والشعاب والأودية المياه الجارفة ، وحطم البرد اللِؤلؤي الوادس، وحرقت الصاعقة اليخضور.. تسارعت الأحداث وتصارعت ، وابتسم الجو من جديد ساخراُ في وجوه ملأها الأسى والأسف ، دمرت الطبيعة صنيعها ، من يمنعها ؟ !
- انظر يا سالم ماذا تصنع المقادير في لحظة واحدة ، يباب على يباب ؟ !
- كل شيء في تحول مستمر وتجدد دائم
- ألهذا يصعب الوفاء ، وتنكث العهود ، وتضيع الحقوق ويعود الدمار؟ !
- كل مرهون بالسنة التي اعتمد عليها للوصول إلى غايته ، ولا يوصل إلا حسن المطية والطوية
- انظر ، أشجار عارية وسط الهشيم ، أعمدة سوداء وسط الرماد ، احمر الماء وانتصب قوس قزح
- من هذه المناظر تصنع اللوحات البديعة الخالدة
- يخلدون المأساة ، يخلدون الدمار ، إنه الجمال الجاني على كل شيء
- إنها المشاهد التي تعبر بصدق عن الصراع البديهي الصراع الذي تؤمن به كل المخلوقات .. ولهذا يجب أن تتوقف عربة استسلامك هنا ، ويتحرر سيد الذات فيك لصق اللباس على جسدها ، وبدت كأنها تمثال الحرية وهي تشير بيدها إلى أثر حريق آخر
- صاعقة أخرى سقطت هناك في الضفة الأخرى من النهر
- إنها صاعقة البشر في الصيف الماضي
- يد القدر، يد البشر ! ..
تهز رأسها ، كالمنهزمة ، كان سالم عاري الصدر ، يعصر قميصه، وينظر إليها ، لما انتبهت أشاح بوجهه ليخفي الابتسامة وقال :
- أظهرت فيك العاصفة محاسن كثيرة !!
حمل السلة وانطلق يجري عبر منعرجات المنحدر إلى السيارة، أرادت ياسمينة أن تسابقه ولكن حال لباسها المبتل ووحل المسلك دون ذلك ، جلس سالم فوق مقدمة السيارة ينظر إليها وهي تتقدم كأنها بهلوانية على الحبل ، تحمل نعلها بيد و سفطها باليد الأخرى ، تحاول أن تحافظ بهما على توازنها ، لم تمنعها هذه الوضعية الارتجالية من التفكير ، وعقدت العزم على مصارحته ، مستعجلة أرادت أن تقفز ، لم يسعفها الحظ فارتطمت في الوحل ، ورن جرس المنبه ، فهبت مفزوعة .. إنها الساعة السادسة صباحاُ..
تهيأت ، وحضرت مستلزمات النزهة ، وبدأت دقائق الانتظار تمتد كأنها الأيام ، وحبل التفكير يبحث عن مخرج من هذا السجن العتيد ، فاهتدى إلى حلم البارحة ، وهي بين القلق والحيرة تحاول عبتاُ تأويل رأيها فإذا بجرس الهاتف يرن.. فأسرعت
- من ؟ .. ألو، سالم ؟
- ألو ، السيدة ياسمينة
- نعم أنا الآنسة ياسمينة
- ابنك بن شتراك سالم في المستشفى
- المستشفى ؟ ! سالم ! إ بني ، بن اشتراك ؟ !
- نعم سيدتي ، إنه يطلبك ، جاؤوا به إثر حادث مرور
- حادث مرور ؟ ! المستشفى ؟ !
انقطعت المكالمة ولا تزال ياسمينة تمسك السماعة بكل قوة ، وتشد بنواجدها على غضب تدفعه الغصة والحسرة
- لماذا ياجمال بن اشتراك ، لماذا أيها.. اغتصبتني ، أفسدت علي شبابي ، عنستني وصنعت من ابني خنجراُ طعنتني به.
خرجت مسرعة ولكن أبى الطريق ذلك فتوقفت في شارع الثورة ، تتجول بين المقاهي ترثي مرة ومرة تهجو وتسب ، أما سالم فدخل في غيبوبة لا يدري أحد متى يستفيق منها...
مختار سعيدي