بقلم - محمد فتحي المقداد

نادرًا ما تُجمِع قلوب عامّة النّاس على محبّة شخص ما، كما حصل للداعية الإسلاميّ الدكتور (محمد راتب النابلسي)، فهو سوريّ التابعيّة، معاصرٌ له دروس ومحاضرات في الإعجاز العلميّ والتفسير القرآنيّ، مُتّبِعًا أسلوب المنهج العلميّ والمعرفيّ، اشتهر بسلسلته أسماء الله الحُسنى، والشمائل النبويّة.
تميّز بأسلوب سهل خاطب فيه العقول قبل القلوب، ومن الغريب أن تجد من يتابعه بشوق، وحرص شديد على عدم إضاعة أيّة حلقة تُذاع له على الوسائط المسموعة والمرئيّة، فحاز كُبرى مراتب الحبّ والاحترام.
فالمنزلة الاجتماعيّة مكانة، أو منصب شعبيّ أو رسميّ، هو مرتبة يتمنّى الكثير بلوغ أعلاها، وأنّى يتأتّى ذلك إلّا للقلّة القليلة المتمايزة بكلّ شيء عن الأكثريّة الحاسدة الناقدة.
والرّتبَة جمعها رُتَب، وتكون في كافّة المسابقات والمنافسات على اختلاف أنواعها وأشكالها؛ فالأوّل فيها يكون هو الفائز بالمرتبة الأولى، واستحقّ هذه المنزلة بجدارة. ورتبة الشّرف لمن يكون قد احتلّ رُتبة علميّة عالية بجهوده البحثيّة الدؤوبة أثناء دراسته، أو في أيّ مجال تدريبيّ آخر، والطموحات لاحدود لها عند البعض لبلوغ أعلى المراتب مهما كلّفتهم من جهد وتعب وعناء.
وقديمًا كانت مدرسة الرّتَباء في كليّة الشرطة في سوريّة، تقبل المتطوّعين في سلكها من كافّة فئات الشّعب خاصة لمن لا يحملون الشهادات العلميّة لتجنيدهم كأفراد؛ ومن بعدُ، ومع تقدّم سنوات خدمتهم يحصلوا على ترفيعات كحدّ أقصى إلى رُتبة مُساعد (وكيل) دون رُتبة الملازم، وبتتبّع معنى الرّتباء المأخوذ منه اسم هذه المدرسة، تبيّن أنه مأخوذ مجازًا من سير النّاقة المنتصبة في سيرها، وهو ما يماثل انتصاب العناصر وسيرهم المنتظم خلال التدريب، وأثناء الخدمة في ممارسة عملهم على أتمّ وجه مطلوب منهم؛ ليستحقّوا رواتبهم في آخر كلّ شهر، وعليه إطاعة وتنفيذ أوامر رؤسائهم من الرّتب العسكريّة الأعلى فالأعلى، شأنهم كلّ موظّفي الدولة القائمين على رأس عملهم.
وعلى سبيل الذّكر فإن هناك أهزوجة شعبيّة: (نورِ نِسْرَك يا سلو يضوّي علينا)، وبعد السؤال التحرّي، تبين أنّها بخصوص رئيس الجمهورية في سورية (اللواء فوزي سلو) كرديّ الأصل حكم البلاد من (1951-1953)، وكان واجهة للعقيد (أديب الشيشكلي) الذي نصبّه ورفّعه إلى رتبة لواء، ومبرّر ذلك أن انقلاب الشيشكلي سُمّي (حركة الشيشكلي)، فيما بعد ندم وأزاحه ونصّب نفسه رئيسًا، وبالعودة للأهزوجة فمعناه، أنّ نور النَسر وهو الصورة الموضوعة على الرّتبة العسكرية ينير علينا.
والتراتبات في الحياة الدّرجات، والرّتبة المنزلة الرفيعة والمكانة، وكلّ درجة في السُّلّم أو الدّرج الحجريّ هي رُتبة، وكذلك المرتفع من الأرض رُتبة، والفُرجة بين الأصابع أيضًا رُتبة، والرّتبة عند الملوك والسّلاطين هي الثّقة بشخص ما أوّلًا؛ ليكون جديرًا برتبة وظيفيّة في إطار خدمة سيّده.
وكلمة المرتّبات تستخدم للمعاشات، وكذلك لمجموعات وقطعات في الجيش، والفردوس من أعلى مراتب الجنّة، وأعلاها على الإطلاق المقام المحمود. وفي الحديث: (من مات على مَرتبةٍ من هذه المراتب، بُعِثَ عليها يوم القيامة) رواه الإمام أحمد.
هذا فيما لواعتبرنا أن الإسلام في كلّ تعاليمه وتصنيفاته فضائل ومراتب؛ فالمرتبة والمنزلة الرفيعة، أراد بها الغزو والحجّ، ونحوهما من العبادات الشّاقة، وهي مُفعّلة من رُتَب إذا انتصب لها صاحبها قائمًا.
ولا يفوتنا في هذه الإطلالة التعريج على عَلَم من أعلام اللّغة ودهاقينها وأساطينها، علّامة الشّام (أحمد راتب النّفّاخ)، وهو عالمٌ في الفقه والتّفسير والقراءات والحديث والنحو والصّرف والشّعر، وغير ذلك من علوم اللغة والدّين، وهو من أبناء حيّ الصالحيّة الدمشقيّ من مواليد 1927م، درّس اللغة العربيّة في جامعة دمشق، ثمّ حاز على درجة الماجستير في جامعة القاهرة بمرتبة الشّرف، توفي 1992م رحمه الله.
وكثيرًا ما اتّخذ النّاس من كلمة راتب اسمًا لأحد أبنائهم، كما لاحظنا من اسم (محمد راتب النابلسي)، (أحمد راتب النّفّاخ)، والممثل الشّهير (أحمد راتب)، وللبنت اسم (رتيبة) على خلاف معنى الرّتابة والبطء و الرّوتين.
ويبدو أنّه من الرّاتب الأجر الشّهري، وهوالعيش الراتب أي الدّائم والثابت، وقد اختُزِن في اللّاوعي أنّ الموظّف صاحب الرّاتب قديمًا كان بمرتبة اجتماعيّة مرموقة؛ فيُطلق عليه لقب الأفندي أو البيك أو غيرذلك، انطلاقًا من هذا المعنى؛ فهم يَرْجُون ويبتهلون إلى الله أن يُصبح ولدهم موظّفًا مُهمًّا براتب جيّد يكفيهم مؤونة الحياة، بالطبع موظّفي هذا الزّمان غير مقصودين بهذا أبدًا، خاصّة الشّرفاء منهم.
ورُتبة جمعهما رُتُبات ورُتْبات ورُتَبْ، لتكون إحدى وحدات التّصنيف، وتتنوع دلالتها على الأشياء، ففي (علم الأحياء) هي مجموعة من النبات أوالحيوان، ذوات القُربى، والرُّتبة قسم من الطائفة؛ تنقسم إلى رُتيْبات وفصائل.
وفي (الجبروالإحصاء) هي الرتبة المئويّة الدّالة على موقع قيمة في مجموعة من القِيَم الحسابيّة الدّقيقة مُرتّبة حسب مقدارها، وذلك بواسطة النسب المئوية للقِيَم.
والرُّتبة الدّرجة من السُّلّم، وكذلك إحدى الصّخور المتقاربة، وبعضها أرفع من بعض، والمرتفع من الأرض أيضًا رتبة، والمراتب في الجبل والصّحاري هي الأعلام التي تُرتَب فيها العيون والرّقباء، والمراتب مضائق الأودية، وما أشرَف من الأرض كالبرزخ.
من الملاحظ أن معظم ما جاء في تراتبات هذه الكلمة، كانت صفة لأشياء ومسمّيات تعطي أبعادًا ورؤى للمتأمل في خطط وسير الحياة للأفراد والجماعات.
ولا يُنسى موقف ذلك العجوز القويّ البرجوازيّ الدمشقيّ (راتب الشّلّاح)، رئيس غرفة تجارة دمشق في ثمانيّات القرن الماضي، حينما اجتمَع بتُجّار دمشق، وأصرّ عليهم بالعودة إلى فتح محّالّهم التجاريّة ومصالحهم، وذلك بعد دعوة المعارضة المسّلحة آنذاك للنظام للإضراب المفتوح بالقوّة؛ لشلّ الحركة الاقتصاديّة وإرباك النّظام الذي كاد أن يتهاوى، وكان هذا العجوز هو المُنقذ الحقيقيّ له، وبقي ابنه الدكتور (محمد راتب الشّلّاح) في نفس المنصب الذي استلمه بعد وفاة والده لسنوات طويلة بلا منافس أبدًا.
هي ثنائيّة رأس المال والسّلطة، هذه العلاقة الجدليّة التي تقوم على طلب رأس المال للأمان في ظلّ سلطة تفرضه بالقوّة، وهو زواج غير شرعيّ، ومع مرور الأيّام أصبح مشروعًا، إذا كانت الغاية تُبرّر الوسيلة عندهم، والمنافع مُتبادلة لكلا الطّرفين، أعطي وخُذ.
والإمام الراتب في المساجد القائم والثابت على أمر الصلوات جميعها، سواء كان براتب شهريّ من إدارة الوقف، أو كان مُتطوّعًا لوجه الله، وهو الذي يُقتدى به من يُؤتَمّ به في الصلاة، وقد وُكِل إليه أمر الإمامة، فإذا صلى الإمام الراتب جالساً؛ فينبغي أن يصلى المأمومون جلوساً.
وفلان مُرتّب لازمته صفة الأناقة في مظهره، ومن اتّخذ التدابير في معظم أموره فهو رتّبها حسب الأوليّات، والترتيبات الأمنيّة الإجراءات المُتّخذة احترازيًّا من وقوع حوادث إرهابيّة بدوافع إجراميّة أو انتقاميّة، والمبادرة خلاف الرّتابة والرّوتين في الأعمال الإدارية كافّة، ويُطلق بعض النّاس المرتبة على الفَرشَة المُعدّة للجلوس أو النّوم.
وجاءت تراتبات المعاني لتبسط رحاب كلمة رتب، ومحاولة ربطها بمراتب معرفيّة متباعدة ومتقاربة، لتشكيل مرتبة جديدة، من رُتَب ملفّقاتي.

عمّان – الأردن
23 5 2019