في البداية .. وبشكل شديد الوضوح،هذه الأسطر لا تتحدث عن الشيخ حماه الله – رحم الله والديّ ورحمه – من جهة "التصوف" .. ولكنها تتحدث عن مقاومته للاستعمار .. وقد لفت نظري بعض ما جاء في فيلم وثائقي عن الشيخ.قبل الحديث عن مقاومة الشيخ للاستعمار الفرنسي .. أشير إلى أن الشيخ ولد – حسب الفيلم سنة 1883م – وفي مكان آخر أنه ولد سنة 1881م.. ويتصل نسب الشيخ بإدريس بن إدريس بن عبد الله .. وصولا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.نبدأ بأول تقرير كتبهمفتش الشؤون الإدارية الفرنسي عن الشريف حماه الله وقد جاء فيه :( لقد رأيت الشريف حماه الله إنه شخص متزن لا يكترث بنا ولا يهمه التعرف علينا يتكلم قليلا رغم أنه يجيد الإصغاء وهو على النقيض من زملائه المشاييخ لا يتفوه بعبارات المولاة وليس في كلامه ما يشير إلى موالاتنا. لقد حدثته عن فرنسا بوصفها القوة الاستعمارية الحامية للإسلام والمسلمين،فلم أفلح في إقناعه بالخروج عن صمته رغم أنني أوأمت – هكذا ولعها أومأت : محمود - في حديثي معه إلى الشريف حسين شريف مكة حليفنا في الحرب العالمية،لكن هذا الإيماء لم يثر لديه سوى الاشمئزاز والتقزز وفي الختام أقول بأن انطباعي نحوه ليس حسنا،إنه رجل منطوي على نفسه يستحوذ عليه ويستغرقه التأمل والتفكير وينبغي علينا مراقبته عن كثب ولو بطريقة سرية) : ترجمة عن تقرير بالفرنسيةو في رسالة سرية كتبت في 20 إبريل 1920م يقول فيها حاكم "نيور" :(... إن الشريف حماه الله يستجيب إذا طلبنا منه الحضور إلى مركزنا الإداري ولولا هذه الدعوة لما تمكنت من التعرف عليه إنه شخص منطوي على نفسه فقد دعوته للمثول أمامي غداة باشرت العمل في حين أن العادة أن يزور أهل الحل والعقد المركز الإداري لتقديم التهاني و بشكل تلقائي ومباشر و بمناسبة فاتح السنة الميلادية لم يزرني في محل إقامتي وعندما أخبرته باندهاشي من عدم حضوره لتهنئتي بمناسبة رأس السنة قال لي إنه يجهل الأعياد والمواسم الفرنسية )من الواضح أن مقاومة الشريف حماه الله كانت مقاومة سلمية .. بل كان "يدفع الضرائب" – كما سيتضح - كغيره .. ولكنه – عكس بقية الشيوخ - لا يزور الفرنسيين إلا إذا دعوه .. ولا يجلس مهما طال الوقوف .. فإذا سئل رد بتحفظ ..كثرت التقارير التي تحذر من الشيخ .. فصدر الأمر بنفيه لعشرة أعوام في"المذرذرة" .. ليكون بين كثير من الشيوخ .. فيخفت صوته .. فتبعه تلامذته .. إلخ.هنا تناقض بين "رواي الفيلم" الذي ذكر أن الشيخ وجد في"المذرذرة" ما يستحق من إجلال و إكبار .."من جميع سكان من المدينة دون استثناء" بينما قال أحد الضيوف،وهو الأستاذ السالك ولد عيسى،أن من يريد الحديث عن الشيخ لا يمكن أن يتجاهل .. (هذا التكالب اللي أعدل اعليه من موريتاني .. من مثلا ..من العلماء المورتانيين وكذلك من الشيوخ وكذلك من بعض المشاييخ مع أنه كانت عندو علاقات وطيدة مع بعض المشاييخ ..).وإبان نفيه في"المذرذرة"(.... بعث إليه الفرنسيون وفدا من الوجهاء لإبلاغه أن الفرنسيين المحتلين تغيظهم مقاطعته لهم وهم لا يطلبون منه سوى أخذ الراتب الذي اقتطعوه له منذ سنوات . وقد رد الشيخ حماه الله على هذا العرض بأنه ما سلم منهم من دون أخذ أموالهم فكيف يسلم منهم بعد أخذها)هذا الأمر لاقت للنظر جدا !! فقط خذ "راتبك" !! ولكن رد الشيخ لا يقل لفتا للنظر من إلحاح المستعمر!!إضافة إلى"الراتب" ذكر السالك ولد عيسى أن وفد"المذرذرة" طلب من الشيخ ( خصلتين ويرجع معزز مكرم لدارو .. وسولهم عن ذو المسايل اللي لاهي يعدل شنهوما.) الضيف الأستاذ "السالك"يتحدث بالعامية .. : خصلتان ويرجع مكرما معززا لداره . سألهم عن الأمور التي عليه القيام بها ؟فكان رد الوفد،يقول الأستاذ"السالك" :(قالوا لو : تعترف بذو الناس .. الحاكمين كأمر واقع وتقبظ الراتب الل امعدلين لك .قال لهم فيه آيتين من القرآن جيبوا لي لهم ناسخ انعدل ذا اللي قلتو ..نقبظ فظتهم ومولانا قال :"إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" جيبوا لي ناسخ لذي الآية . نعترف بهيم كأمراء. و مولانا قال "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وألي الأمر منكم"..)أخبره "الوفد"أن شرط رجوعه معززا مكرما .. أن يعترف بحكم الفرنسسين .. كأمر واقع .. ويأخذ "نقودهم" .. فرد أن"الوفد"إن قدم له ما ينسخ آيتين من كتاب الله .. فسيأتي الخصلتين!ما ينسخ قوله تعالى ::"إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" الأنفال 36هذا بطيعة الحال فيما يتعلق بأخذ أموال المستعمر ..أما الآية الثانية،التي طلب ما ينسخها فقول الحق سبحانه وتعالى :"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وألي الأمر منكم" النساء 59بما أن "الوفد"لم يستطع تقديم ناسيخ للآيتين .. فقد تم نفي الشيخ إلى ساحل العاج .. وإلى بلدة وثنية .. أسلم بعض أهلها على يد الشيخ.وفي سنة 1935م،أطلق سراح الشيخ .. ليعاد اعتقاله سنة 1941م... هذا ما قاله أحد ضيوف الفيلم .. أما" راوي الفليم" فقد قال ( في الثاني يناير عام 1936 انتهت مدة نفيه وعاد إلى موطنه في "نيور"وفي اليوم التاسع عشر من يونيو من العام 1941 أعيد اعتقاله للنفي في القسنطينة في الجزائر ثم بعد ذلك إلى فرنسا وتم اقتياده إلى دكار ثم أطار وأخيرا الجزائر ).قال الأستاذ السالك ولد عيسى:(جابوه للجزاير فوت سنة في وهران وجابوه لسجن ملان من اللصوص وملان من منحرفي الأخلاق .. ) وهدى الله بعضهم على يده .. بل قال "السالك" أن الله هدى جميع المساجين وأصبحوا أهل دين وصلاح!!على كل حال .. هدم المستعمر بيت الشيخ حماه الله .. واعتقلوا أبنائه وبناته .. وشردوا تلاميذه .. ونهبوا مكتبته،التي قال أحد الضيوف،وهو الأستاذ محمد ولد الدي، أن الفرنسيين ذكروا أنها تزن "طنين ونصف الطن"بينما قال "راوي الفيلم" . (وصادروا ممتلكاته بما في ذلك مكتبة من أكبر المكتبات الإفريقية).لا أدري!! لعل من مميزات هذا الفيلم .. أن معده لم يحذف آراء الضيوف التي تختلف،وقد تناقض،ما جاء في سرد"راوي الفيلم" .. والذي قال :(وخلال توقفه في دكار في طريقه إلى الجزائر استدعاه الحاكم العام (..) وقرر إهانته علنا أمام جموع من المشاييخ مثل أمامه مقيدا وخاطبه قائلا : الشريف حماه الله هل ترى كل هؤلاء الشيوخ هل تعقتد أنك أعلم منهم؟ لماذا لا تبقى مسالما ؟اعلم أنك ستعاني ولن ترى هذه الأرض الإفريقية مرة أخرى . لماذا لا تكون مثل هؤلاء العلماء الحاضرين ؟ فرد عليه الشيخ حماه الله : السيد الحاكم أنا لا أعرف أي سبب لإدانتي أو إهانتي فأنا أدفع الضرائب ولست معارضا لاكتتاب الرماة وأنا أنتظر منكم تقديم أدلة لإدانتي . وأقول أيضا إنني أقدر هؤلاء المشاييخ والعلماء وأعتقد أن أيا منهم لا يرغب في وضع القيود في يدي علنا وأنا لا أريد أن أكون مثلهم .. ).بينما قال الدكتور حماه الله ولد ماياب :( عندما جاء مقيدا إلى الحاكم في داكار فقال له .. جمع له جميع مشاييخ إفريقيا وإذا بهم يحملون النياشين ويجلسون مكرمين ومعزيين فقال له : أنت في يدك الأغلال وهم على صدورهم النياشين. فقال له : إن النياشين التي تراها على صدورهم هي موجودة على قلبي،وإن القيد الذي تجده في يديّ هو موجود على قلوبهم ).ختاما : ذكرني رفض الشيخ حماه الله – رحم الله والديّ ورحمه – المسالم : تلبيته للنداء حين يستدعيه المستعمر .. عدم الجلوس .. الرد على أسئلة باقتضاب .. هذا الرفض المسالم للاستعمار ذكرني بـ"غاندي" .. بحثت – في البداية – عن تاريخ ميلاد .. ووفاة الرجلين .. فوجدتُ1869 – 1948م : غانديأما الشيخ فمولده بين 1881 و 1883م. لكنني لم أعثر له على تاريخ وفاة!!ثم وجدت مقالة للأستاذ محمد عبد الرحمن الدنبجة .. والذي زار فرنسا .. سنة 2006 .. وقد أشار إلى أن الروية الفرنسية تفيد أن الشيخ توفي في 16 يناير 1943م :(ولم تكشف السلطات الرسمية عن الخبر إلا بتاريخ 7 يونيو 1945 ..فما لسبب)ثم تساءل :(هل توفي الشيخ سنة 1943؟الحقيقة أنه إلا وقت قريب جدا،كان طرح مثل هذا السؤال – في رأيي ضربا من الانسياق وراء العواطف أو التصديق ببعض الروايات الشفهية التي لا تستند إلى دليل . فمن المعروف أن هناك من أتباع الرجل من كان إلى وقت قريب موقنا أنه لم يمت .. ) محمد عبد الرحمن الدنبجة /باحثإبان زيار ة الباحث لفرنسا وبحثه في الأرشيف .. تبين له وجود شخصين يحملان اسم"حماه الله" .. الشبه بينهما كبير ..ويبقى موت الرجل "لغزا" كما قال الباحث!!السؤال : لماذا شاعت مقاومة "غاندي" السلمية .. ولم تشع مقاومة"الشيخ حماه الله"السلمية؟لأهمية الهند ؟ أم أن البسب يكمن في الفرق بين المستعمر الفرنسي الأكثر توحشا .. من الاستعمار الإنجليزي؟ أم غياب "آلة إعلامية" .. إضافة إلى المكان القصي لموريتانيا؟ليس لديّ إجابات،بطبيعة الحال .. ويبقى إلحاح المستعمر على الشيخ .. أن يأخذ الراتب الذي خصص له .. قضية تستحق التوقف عندها .. مذكرة بقصة أوردها صاحب"نثر الدر" – الآبي المتوفى سنة 421هـ - ومفادها أن أحد الخلفاء عرض القضاء،عبر وزيره، على أحد العلماء .. فاعتذر .. فتمت دعوة الشيخ لغداء منفرد ،مع الخليفة والوزير .. ووضع له طعام لم يذق مثله قط .. فسال : ماهذا؟أخبره الخليفة .. أن الطعام مكون من : ذكر "كلمة فارسية" أنسيتها .. بمخ "النون" .. وأنها تكلف مئة دينار .. أما الصحفة فهي صحفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورثتها .. إلخوبعد أيام أرسل الشيخ يستفسر إن كان منصب القاضي – بلغة عصرنا – لا زال"شاغرا؟فقال الخليفة لوزيره : أفسدنا على الرجل دينه!!تلويحة الوداع : "الذيب ما يهرول عبث" : مثل شعبيأبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني


...