استراتيجية مفاتيح السياق .. والمشترك الصرفي، ومعاني الأدوات، والمجاز اللغوي، والتورية
(1)
من يتأمل مسائل علوم اللغة وفنونها يجد استراتيجية "مفاتيح السياق" مُحكَّمة في كثير من أحوال فك لَبْسها وإزالة غموضها، ومفتاحا يدخل به المرء عالم الوضوح والبيان.
كيف؟
في الصرف نجد وسيلة التفرسق بين المشترك الصرفي هو "مفاتيح السياق".
ما المشترك الصرفي؟
إنه الدلالة بالصيغة الواحدة على أكثر من باب صرفي.
مثل ماذا؟
مثل اسم الزمان واسم المكان والمصدر الميمي واسم المفعول من غير الثلاثي؛ فكل هذه الصيغ تتحد في البناء لكنها تختلف في الدلالة الصرفية، يقول الشيخ عبد الغني الدقر في (معجم القواعد العربية): (تكون صيغةُ اسمِ الزَّمان والمَكانِ مِنْ غَير الثُّلاثي على زِنَة اسم المَفْعول كـ "مُدْخَلٍ" و "مخْرَجٍ" و "منْطَلَقٍ" و "مستَودَعٍ". وبهذا يُعلم أنَّ صِيغَةَ الزَّمان والمكانِ والمصدر الميميِّ واحدةٌ في غير الثلاثي وفي بعض أوزان الثُّلاثي، والتمييز حِينَئذٍ بَيْنهما يكون بالقَرائِن؛ فإن لم تتضح فالصِّيغة صَالِحَةٌ لكلٍّ مِنْها).
إذا، السياق هو الذي يزيل الاشتراك ويحدد المراد.
ما السياق؟
إنه ما يحيط بالكلمة المراد توضيحها التي تمثل المركز والقطب من سِباق يسبقها ولِحاق يلحقها ويأتي بعدها؛ فإن قلنا: (المسجد ملتقى الصالحين) فـ"ملتقى" هنا اسم مكان والمفتاح هو "المسجد" الدال على المكان، وإن قلنا: (ملتقى الأصحاب بعد صلاة العشاء) فـ"ملتقى" هنا اسم زمان والمفتاح "بعد صلاة العشاء" الدال على الزمان، وإن قلنا: (التقى المتنافسان ملتقى صعبا) فـ"ملتقى" هنا مصدر ميمي والمفتاح هنا هو الفعل "التقى" والوصف "سهل"، وإن قلنا: (الملتقى سنختاره) فـ"ملتقى" هنا اسم مفعول.
ويقول الشيخ مصطفى الغلاييني في (جامع الدروس العربية): (فائدة: المصدر الميمي واسم المفعول واسما الزمان والمكان مما هو فوق الثلاثيّ المجرد شركاءٌ في الوزن، ويفرّق بالقرينة؛ فاذا قلت: جئتك منسكب المطر- فالمعنى جئتك وقت انسكابه. وإذا قلت: انتظرك في مرتقى الجبل- فالمعنى في المكان الذي يرتقي فيه إليه. وإذا قلت: هذا الأمر منتظر- فالمعنى أن الناس ينتظرونه، فهو اسم مفعول. وإذا قلت: أعتقد معتقد السلف- فمعتقد مصدر ميمي).
ولن أستطرد مع تشابه هذه الصيغ في الثلاثي فالفكرة واحدة، وما سبق يكفي توضيحها وجلاءها.
ولا يقتصر المشترك الصرفي على ما سبق فهناك التداخل في الصيغ بين "الصفة المشبهة، وبعض صيغ المبالغة" في صيغة فعيل وغيرها، والاشتراك بين "التفضيل، والتعجب، والصفة المشبهة" في صيغة أفعل، والاشتراك بين "اسم الفاعل واسم المفعول" من الأجوف غير الثلاثي كـ"مختار" و... إلخ.
(2)
فإن تركنا الصرف ويممنا النحو وجدنا قصة أبي الأسود الدؤلي وابنته مثالا مشهورا.
ما هي؟
(قال المبرد: حدثنا المازني قال: السبب الذي وضعت له أبواب النحو أن بنت أبي الأسود قالت له: ما أجْمَلُ السمَاءِ؟ فقال: نجُومُهَا. قالت: أنا لا أستفهِمُ يا أبتاه، بل أتعجب. فقال: إذا أردتِ أن تتعجبي فافتحي فاكِ وقولي: ما أجمَلَ السَمَاءَ!).
أين حدث الاشتراك هنا؟
حدث في الأسلوب (ما أجمل السماء)، ولقد كان المفتاح هو الحركة الإعرابية لكلمة "السماء"؛ فعلامات الترقيم لم تكن قد عُرفت بعد.
وكذلك وجدنا المشترك النحوي.
ما المشترك النحوي؟
إنها الأدوات التي تؤدي الأداة منها معاني كثيرة، ويمحضها السياق لإحداها من دون الأُخَر؛ فـ"ما" تكون موصولة واستفهامية وشرطية ونكرة تامة ونكرة ناقصة و...، وغيرها كثير كثير.
وقد عالج الشيخ خالد الأزهري بعضا من ذلك في كتابه "موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب"، وكذلك فعل ابن هشام في "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب"، وكذلك أبو محمد بدر الدين حسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي في كتابه "الجنى الداني في حروف المعاني".
وهذا المبحث مشهور معروف.
(3)
فإن يممنا صوب علوم البلاغة سنجد في علم البيان القرينة اللفظية للمجاز اللغوي مفتاحا لسياقه.
كيف؟
إن قلنا: "انتفض الأسد أمام جنوده"- فإن "أمام جنوده" مفتاح كون الأسد يدل على القائد البطل لا على الحيوان المعروف، وكذلك قرائن المجاز المرسل، و... إلخ.
وتظهر مفاتيح الترشيح والتجريد والإطلاق المبينة أقسام الاستعارة مفاتيح سياق دالة مؤثرة في أنواع الاستعارة وبيانها، يقول فهد بن عبد الله الحزمي عن ذلك في "قواعد البلاغة" بتصرف:
1- الاستعارة المرشحة هي ما ذكر معها ملائم المشبه به، كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ}. فهنا استعارة تصريحية في "اشتروا" بمعنى اختاروا، وقد استوفت قرينتَها "الضلالة"، وقد ذكِر معها شيءٌ يلائم المشبه به هو "فما ربحت تجارتهم"، فصار هذا الملائم مفتاح سياق للاستعارة التصريحية المرشحة.
2- الاستعارة المجردة هي ما ذكر معها ملائم المشبه، كقول الشاعر:
فإن يهلك فكل عمود قوم من الدنيا إلى هُلك يصير
(في عمود استعارة تصريحية أَصلية، شُبِّه رئيس القوم بالعمود بجامع أَنَّ كلاًّ يحْمِل، والقرينة "يهلِك"، وفي "إلى هُلْك يصبر" تَجْريد، فصار هذا الملائم مفتاح سياق للاستعارة التصريحية المجردة).
3- الاستعارة المطلقة: ما خلت من ملائمات المشبه به أو المشبه، كقوله تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية}. في "طغى" بمعنى "زاد" استعارة تصريحية، وقد استوفت قرينتَها بكلمة "الماء". وإِذا تأملتها رأيتها خالية مما يلائم المشبه به أو المشبه، فصار هذا المفتاح السياقي العدمي هو الدال على هذا النوع.
ولا يتم الترشيح أو التجريد إلا بعد أن تتم الاستعارة باستيفائها قرينتها لفظية أو حالية، ولهذا لا تسمى قرينة التصريحية تجريدا ولا قرينة المكنية ترشيحا.
(4)
فإن قصدنا علم البديع في محسناته المعنوية وجدنا الأمر ظاهرا في فن التورية.
يقول أسامة بن منقذ في "البديع في نقد الشعر": [اعلم أن التورية هي أن تكون الكلمة بمعنيين، فتريد أحدهما، فتوري عنه بالآخر: مثل قول بعض العرب:
خيلٌ صيامٌ وخيل غيرُ صائمةٍ ... تحتَ العجاجِ وأخرى تعلك اللجما
أراد بالصيام ها هنا القيام؛ فورى عنه بقوله: تعرك اللجما].
فجملة "تعلك اللجما" أوضحت المراد من "صيام"؛ فصارت مفتاح فهمها.
ولا يقتصر الأمر على التمثيل للتورية بل تدل مفاتيح السياق على أقسام التورية وتفرق كل قسم عن قسيمَيْه كما حدث في الاستعارة آنفا.
كيف؟
يقول عبد الرحمن الميداني في "البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها" بتصرف:
[1- التورية المجرّدة هي التي لم يقترن بما يلائم المعنى القريب ولا بما يلائم المعنى البعيد، مثل قول سراج الدين الورّاق شاعر مصري (615- 695هـ):
أَصُونُ أَدِيمَ وَجْهِي عَنْ أُنَاس * لِقَاءُ الْمَوْتِ عِنْدَهُمُ الأَدِيبُ
وَرَبُّ الشِّعْرِ عِنْدهُمُ بَغِيضٌ * وَلَوْ وَافَى بِهِ لَهُمُ حَبِيبُ
كلمة "حبيب" لا يريد بها المعنى القريب وهو المحبوب، بل يريد بها المعنى البعيد، وهو اسم أبي تمّام الشاعر: "حَبِيبُ بن أوس".
ومثل (من: http://www.startimes.com/?t=26528547):
وقالت رح بربك من أمامي فقلت لها بربك أنتِ روحي
فالتورية في كلمة "روحي"، وقرينتها "رح"، ومعناها القريب "اذهبي" ولم يذكر له ملائم. والمعنى البعيد "نفسي" ولم يذكر له ملائم أيضاً فهي تورية مجردة لعدم ذكر ملائم للمعنيين القريب والبعيد.
2- التورية المرشّحة هي التي اقترنت بما يلائم المعنى القريب، سواء أكان هذا المقارن قبل اللفظ المستعمل في التورية أو بعده. ويعلل علي بن نايف الشحود التسمية في "الخلاصة في علوم البلاغة" قائلا: وسميتْ بذلك لتقويتِها به، لأنَّ القريبَ غيرُ مراد، فكأنهُ ضعيفٌ، فإذا ذكر لازمُه تقوَّى به.
مثل قول الشاعر "صلاح الصفدي":
وصَاحِب لمَّا أَتَاهُ الْغِنَى * تَاهَ ونَفْسُ الْمَرْءِ طَمَّاحَهْ
وَقيلَ هَلْ أبْصَرْتَ مِنْهُ يدا * تَشْكُرُها قُلْتُ ولاَ رَاحَهْ
كلمة: راحة لها معنيان: أحدهما المعنى القريب وهو راحة اليد، وهو المعنى الذي تستدعيهِ عبارة "يدا تشكرها". والآخر المعنى المقصود وهو راحة الجسم من التعب. والتورية هنا مرشّحة لاقترانها بما يلائم المعنى القريب.
ومثل (من: http://www.startimes.com/?t=26528547):
كأن للمجاورة اقتسمنا فقلبي جارهم والدمع جاري
فالتورية في كلمة "جاري"، ومعناها القريب من المجاورة، والقرينة جاره. والمعنى البعيد "منسكب"، وهو مراد الشاعر. وقد ذكر ملائم المعنى القريب في صدر البيت وهو المجاورة، فالتورية مرشحة.
3- التورية المبيَّنة هي التي اقترنت بما يلائم المعنى البعيد المقصود باللّفظ.
مثل قوله (من: http://www.startimes.com/?t=26528547):
ذكرت والكأس في كفي لياليكم فالكأس في راحة والقلب في تعب
فقوله: راحة- له معنيان : القريب هو الاسترخاء، والبعيد هو راحة اليد وقد ذكر ما يلائمه وهو قوله: كفي- في الصدر.
4- وقد زاد (http://www.startimes.com/?t=26528547))
أ- التورية المهيئة: وهي التي تكون في اسمين لولا وجود كل منهما لما كان الآخر تورية، ومنه:
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان
فكل من "ثريا، وسهيل" صالحة لتكون تورية؛ إذ إن المعنى القريب للثريا اسم نجم بدلالة "سهيل"، والمعنى البعيد المراد "اسم امرأة". كذلك "سهيل" المعنى القريب "النجم" بدلالة "الثريا"، والمعنى البعيد "اسم رجل"؛ فكلا من اللفظين قد هيأ للآخر التورية.
ب- التورية المتكلفة:
وهي ما كانت مجرد تلاعب بالألفاظ، وليس من وراءها طائل في أداء الأفكار والتعبير عن المشاعر، مثال:
والنهر يشبه مبرد فلأجل ذا يجلو الصدا
فالمعنى القريب للصدى "اصفرار الحديد وتآكله"، والمعنى البعيد "العطش". والتورية متكلفة لاستعمال كلمة "مبردا" للتمهيد للمعنى القريب ولا يوجد تناسب بين النهر والمبرد وهو أداة معدنية يزال بها صدأ الحديد.
(5)
من هذه الرحلة القصيرة نخرج بوظيفة استراتيجية "مفاتيح السياق" في فهم مسائل اللغة العربية في بعض علومها، وهذا يوجب تعميق استراتيجيات القرائية لغويا واستثمارها في الإثراء اللغوي كما قلت في أكثر من مقال سابق كان يتغيا الغاية ذاتها، فهل يحدث ذلك؟
أرجو بل أدعو!