غزل بدمشق
د. عائض القرني- الشرق الأوسط
13/04/2010
قبل مدّة زرتُ دمشق فسطرتُ فيها هذه الرسالة:
* «
سَلامٌ من صِبَا بَردى أرقُّ ودَمعٌ لا يُكَفكَفُ يــا دِمِشقُ
* ومعذرة اليَرَاعة والقَوافِي جَـلال الرزء عن وَصفٍ يَدقُ
* دخَلتُكِ والأصِيلُ له ائتِلاقٌ و وجهك ضاحك القسمات طلقُ
السلامُ عليك يا أرض شيخ الإسلام، ورحمة الملك العلام، أيها الحضور الكرام، في دمشق الشام.
يا دمشق ماذا تكتب الأقلام، وكيف يرتّب الكلام، وماذا نقول في البداية والختام؟
في دمشق الذكريات العلمية، والوقفات الإسلامية، والمآثر الأموّية. وفيها يرقد ابن تيمية، وابن قيم الجوزية. وفي دمشق حلقات الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية.
يحق لحسّان أن ينوح على تلك الأوطان، ويسكب عليها الأشجان
:
* «لله در عصابة نـادمتهم يوما يحلق في الزمـان الأولِ
* أبناء جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضلِ»..
تذكّرك دمشق بمعاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان، وبني غسان، والشعر والبيان، والمجالس الحسان. دمشق سماء زرقاء، وروضة خضراء، وقصيدة عصماء، وظلٌّ وماء، وعلوّ وسناء، وهمّة شمّاء. ما أبقى لنا الشوق بقية، لما سمعنا تلك القصيدة الشوقية، في الروابي الدمشقية:
* «
قمر دمشقي يسافر في دمي وسنابلٌ وخمــــائلٌ وقبابُ
* الحبُّ يبدأ من دمشق فأهلـه عشقوا الجمال وذوّبوه وذابوا
* والماء يبدأ من دمشق فأينما أسْنَدتَ رأسك جدولٌ ينسـابُ
* ودمشق تهدي للعروبة لونها وببــابها تتشكلّ الأحـزابُ»..
في دمشق أكبادٌ تخفق، وأوراق تصفق، ونهرٌ يتدفق، ودمع ٌيترقرق، وزهرٌ يتشقق.
دخلنا دمشق فاتحين، وصعدنا رباها مسبّحين. فدمشق في ضمائرنا كل حين. وهي غنيّة عن مدح المادحين. ولا يضرّها قدح القادحين.
آه يا دمشق كم في ثراك من عابد، كم في جوفك من زاهد، كم في بطنك من مجاهد، كم في حشاك من ساجد. أنت يا دمشق سفر خلود، وبيت جود، منك تهبّ الجنود، وتحمل البنود. يصنع على ثراك الأحرار، ويسحق على ترابك الاستعمار، ويحبّك يا دمشق الأخيار. فأنت نعم الدار. تقطّع إليك من القلوب التذاكر، من زارك عاد وهو شاكر، ولأيّامك ذاكر، يكفيك تاريخ ابن عساكر، صانك الله من كل كافر
..
* «ألقيت فوق ثراك الطاهر الهدبا فيـا دمشق لماذا نكثر العتبــا؟
* دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لك العربا؟
* أدمت سياط حزيران ظهورهـم فأدمنوها وباسوا كف من ضربـا
* وطالعوا كتب التاريخ واقتنعـوا متى البنـادق كانت تسكن الكتبا؟»..
في دمشق روضة العلماء، وزهد الأولياء، وسحر الشعراء، وحكمة أبي الدرداء، وجفان الكرماء.
في دمشق عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، والملك الزاهد، والوليّ العابد، يطارد الظلم والظالمين، ويحارب الإثم والآثمين، فيذكّر الناس بالخلفاء الراشدين، ويعيد للإسلام جماله في عيون الناظرين.
في دمشق براعة ابن كثير، وعبقرية ابن الأثير، وتحقيق النووي، وفطنة ابن عبد القوي
..
* «لولا دمشق لما كانت بلنسيةُ ولا زهت ببني العباس بغدانُ
* أتى يصفق يلقانا بهـا بردى كما تلقاك دون الخلد رضوانُ»..
يكفيك أيها الشام السعيد، أن فيك القائد الفريد، والبطل السديد، خالد بن الوليد. سيف الله الهمام، كاسر كلّ حسام، أغمد في الشام، السلام عليك يا أبا سليمان، يا قائد كتيبة الإيمان، ويا رمز كتيبة الرحمن..
* «
يا ابن الوليد ألا سيف تناولنا فإن أسيافنا قد أصبحت خشبا
* لا تخبروه رجاءً عن هزائمنـا فيمتلئ قبرُه من قومه غضبا»..
صحّح الألباني، المحدّث الرباني، أحاديث في فضل تلك المغاني.
وأول أبيات في الأغاني، لأبي الفرج الأصبهاني. في وصف دمشق وتلك المباني.
حيث يقول الشاعر:
* «
القصر والبئر والجماء بينهما أشهى إلى النفس من أبواب جيرونِ»..
وقد نسي ابن كثير نفسه، وملأ بالمدح طرسه، لما تحدّث عن دمشق، فقلمه بالثناء سبق، وبالإطراء دفق، وحار الحكماء في وصف دمشق وطيب هوائها، وعذوبة مائها، واعتدال أجوائها، وذكاء علمائها، وبلاغة خطبائها، وتقدّم شعرائها، وعدل أمرائها، وجمال نسائها، حتى إن بعض العلماء ذكر أن دمشق أم البلدان، وأنها في الدنيا جنة الجنان..
* «دمشق الشام كل حديث ركبٍ يقصّر عنك يـا نون العيونِ
* كأنك جنة عرضت بدنيـــا أثار على هوى قلبي شجوني»..
دخل دمشق الصحابة، كأنهم وبل سحابة، أو أسد غابة. فلقيتهم بالأحضان، وفرشت لهم الأجفان، فعاشوا على روابيها كالتيجان. في دمشق فنون وشجون، وعيون ومتون، وسهول وحزون، وتين وزيتون. دمشق جديدة كل يوم، وهي حسناء في أعين القوم، وقد بكى من فراقها ملك الروم. إذا دخلت دمشق تتمايل أمامك السنابل، وتتراقص في ناظريك الخمائل. وتصفّق لقدومك الجداول، وترحّب بطلعتك القبائل. دمشق أعيادها يومية، وأعلامها أموّية، وأطيافها سماوية، وبسيوف أهلها محمية.
دمشق في الحسن مفرطة، وبجواهر الجمال مقرطة، وفي الطقس متوسطة..
* «
فارقتها وطيور القاع تتبعني بكل لحن من الفصحى تغنيني
*كأنما الطير يهوى حسن طلعته بانت دمشق فيا أيـامنا بيني»..
الجمال دمشقي: لأنه لا بدّ له من روضة فيحاء، وخميلة غنّاء، وحبة خضراء، وظلّ وماء.
والحبّ دمشقي: لأنه لا بدّ له من أشواق مسعفة، وأحاسيس مرهفة، وألمعية ومعرفة.
كتب ابن عساكر في دمشق تاريخ الرجال، وسطر المزي في دمشق تهذيب الكمال، وألّف الذهبي في دمشق ميزان الاعتدال، واحتسب ابن تيمية في دمشق الردّ على أهل الضلال، وأرسل لنا المتنبئ من الشام تلك القصائد الطوال، وذاك السحر الحلال
..
* «قالوا تريد الشام قلت الشام في قلبي بنت في داخلي أعلاما
* هي جنة الدنيـــا فإن أحببتها فالحسن محبوب وقلبي هاما»..
في دمشق رسائل الياسمين، ودفاتر اليقطين، ومؤلفات النسرين، للحمام بها رنين، وللعندليب بها حنين، كأنها تقول: «ادخلوها بسلام آمنين».
ليس لدمشق الشام، دين غير الإسلام. فُطرت دمشق على الإيمان، ولذلك طردت الرومان، ورحّبت بحملة القرآن. ليس بقيصر الروم في دمشق قرار، ولذلك ولّى الأدبار، ولاذ بالفرار، لأنّ الدار دار المختار، والمهاجرين والأنصار..
* «من مخبر القوم شطّت دارهم ونأت أني رجعت إلى أهلي وأوطاني
* بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنـــا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني»..
في الشام يرقد سيف الدولة الملك الهمام، وابن نباتة خطيب الأنام، وابن قدامة تاج الأعلام، وأبو فراس الحمداني الشاعر المقدام. وفي دمشق سكن الزهري المحدّث الشهير، والأوزاعي العالم النحرير، والبرزالي المؤرخ الكبير، والسبكي القاضي الخطير.
أتانا من دمشق كتاب «رياض الصالحين»، وكتاب «روضة المحبين»، و«نزهة المشتاقين»، وكتاب «عمدة الطالبين»، وكتاب «مدارج السالكين»، وكتاب «أعلام الموقعين».
فسلام على دمشق في الآخرين