حراك إيجابي في غزة
أحمد أبورتيمة
حدثان غير مألوفين شهدتهما الساحة الداخلية لحركة حماس في قطاع غزة في الأيام الماضية يعطيان لمن تدبرهما مؤشراً على تغير ما في الاتجاه الإيجابي..
فأما الحدث الأول فقد تمثل في نشر الكاتب مصطفى الصواف المقرب من قيادة حركة حماس مقالةً في صحيفة الرسالة المقربة من حركة حماس بدورها انتقد فيها غياب الشفافية في معايير اختيار أحد الوفود وتضمُّن هذا الوفد اسم نجل أحد الوزراء، وقد نتج عن هذه المقالة تداعيات انتهت باستجواب المجلس التشريعي للوزير ومساءلته..
أما الحدث الآخر فقد تمثل في امتناع عدد من أعضاء المجلس التشريعي عن منح الثقة للتعديل الوزاري الذي قام به رئيس الوزراء إسماعيل هنية، وفي بادرة غير مسبوقة انتقد النائب عبد الفتاح دخان أحد القادة التاريخيين لحركة حماس التشكيلة الحكومية وقال بالحرف الواحد: "أربأ بنفسي بأن أشهد شهادة زور على بعض من ذكروا ضمن الأسماء"..
أهمية هذين الحدثين تكمن في أن النقد العلني في حركة حماس غير مألوف، وقد ظلت الحركة تنظر بحساسية مفرطة إلى أي نقد علني خاصةً إذا كان صادراً عن أحد أبنائها أو قادتها وكانت تعتبر أن هذا النقد يضعف الحركة أمام خصومها ويعطيهم فرصةً للاصطياد في الماء العكر..
ظلت حماس على هذا الموقف المتحفظ من أي نقد علني حتى مع تطور وسائل الإعلام وظهور الإعلام الجديد الذي لا يتقيد بأي سقف أو محددات ولا يعترف بمحرمات يمنع الاقتراب منها..
لكن القاعدة الشبابية العريضة التي تتألف منها حركة حماس كانت أسبق من التنظيم إلى مواكبة الإعلام الجديد، فوجد الشباب فيه منبراً للتعبير عن آرائهم بكل حرية ولتحقيق ذواتهم، ولم يعد مجدياً أن تظل قيادات الحركة على تحفظها لأن من شأن هذا التحفظ أن يدفع الشباب إلى تجاوز الأطر التنظيمية حين يرون أنها لا تتماشى مع طموحاتهم في تحقيق ذواتهم..
زادت الفجوة بين شباب حركة حماس النابض بالحياة والتواق إلى التغيير وبين الأساليب التقليدية الجامدة التي يتسم بها التنظيم، وقد بدا من السهولة رصد هذه الفجوة من خلال تتبع محتوى مشاركات أبناء حركة حماس في المواقع التفاعلية وحجم الانتقادات الموجهة لأخطاء الحكومة ووزرائها، وظهرت هذه الانتقادات حتى في مواقع الحركة التي تعطي هامشاً من الحرية مثل شبكة فلسطين للحوار التي تمثل أكبر تجمع غير رسمي لأبناء الحركة ومؤيديها، فما إن ينشر خبر عن أخطاء الحكومة إلا وتجد أن ردود نسبة كبيرة من أعضاء الشبكة تصب في اتجاه نقد الحكومة مما يعطي مؤشراً صادقاً على شعور متزايد بالتململ والضيق في نفوس القاعدة التنظيمية..
الدرس الذي نريد لقيادة حركة حماس أن تدركه من خلال هذا الحراك أنه حراك لا يهدد تماسك الحركة، بل على العكس تماماً فهو فرصة إيجابية يمكن الاستفادة منها في تقدم الحركة، لأن النقد العلني يمثل عامل استفزاز يدفع للمراجعة الدائبة والحرص على سد مواطن الخلل والقصور التي تستجلب النقد..
الوضع الطبيعي في أي تجمع بشري في العالم أن تكون هناك رؤى وزوايا نظر متعددة، فكما أن الناس مختلفون في معارفهم وثقافتهم وظروف نشأتهم وميولهم وخبراتهم فمن الطبيعي أن ينتج هذا الاختلاف تنوعاً في الرأي وزاوية النظر، لذا فإنه لا يدين الحركة أن تظهر أمام الناس وقد تعددت الآراء داخلها، بل إن ما يدينها هو أن يكون أعضاؤها كالقطيع لا يفكرون ولا يرون إلا ما يرى لهم كبراؤهم..
أما عن شبهة قبول النقد في السر ورفضه في العلن فهي شبهة مردود عليها من عدة أوجه، أولاً فإن أجواء العمل تحت الشمس هي أقرب للشفافية والمصداقية، بينما العمل السري يشوبه كثير من الغموض والشبهات ويكون أبعد عن المحاسبة والتدقيق، كما أن طريق النقد السري مليئ بالعقبات الفنية التي تحول دون تحقيق أهدافه في التغيير إذ إن هناك تعقيدات تنظيمية كثيرة تعرقل وصول الأفراد إلى صناع القرار لتوصيل رأيهم، وكثيراً ما تموت القضية قبل حلها، وحتى في حال وصول أفراد القاعدة التنظيمية إلى قياداتهم فهذا وحده لا يكفي، إذ ربما يعرّف الفرد القائد بخطئه ومع ذلك يصر القائد عليه لهوى في نفسه أو لعدم اقتناعه بخطئه، فهنا لا بد من أدوات ضغط لدفع المسئول للتغيير لا أن نراهن على تقواه الفردية وحسب، ومن شأن النقد العلني أن يمثل ضغطاً يدفع المسئولين للتغيير إن لم يكن إيماناً فإلجاءً.
هناك عامل آخر مهم يبرر الحديث العلني عن الأخطاء وهو أن المستهدف من عملية النقد ليس المسئولين وحدهم، بل هو في المقام الأول الرأي العام داخل الحركة أو خارجها، فلا بد أن يمتلك هذا الرأي العام وعياً بالصواب والخطأ ولا بد من تحشيده ليشكل كتلةً ضاغطةً في اتجاه تعزيز الإيجابيات ومحاربة السلبيات، وهذا لا يتحقق إلا حين يكون النقد علنياً.
وبعد كل ذلك فإن طبيعة العصر الذي نعيشه قلص كثيراً من مساحة العمل السري، فحتى لو لم نكن راغبين في نشر غسيلنا فإن واقع الفضاءات المفتوحة الذي نعيشه يفرض علينا أسئلةً حرجةً لا بد من الإجابة عنها على الملأ، وكما يرى الناس الأخطاء جهاراً فلا بد أن يسمعوا نقد هذه الأخطاء جهاراًَ كذلك حتى لا يظنوا أن أبناء الحركة إمعات أو قطيع يسيرون وراء قياداتهم على غير بصيرة أو هدى..
لقد سقطت مبررات حظر النقد العلني خاصةً أن من ينتقد لا يكشف أسراراً عسكريةً أو أمنيةً تفيد العدو بل ينتقد ظواهر معاشةً يراها الجميع، وتصل أخبارها إلى العدو قبل الصديق، فإن منعنا الحديث عنها بقيت الأخطاء، أما إن رحبنا بالنقد وفتحنا الأبواب للاستماع إليها فإننا نستفيد في المراجعة والتصحيح، وحين نسمع من ينتقد فإن علينا أن نفكر في مضمون نقده ونستفيد منه، لا أن نغضب من شخصه لأنه تجرأ على النقد ونهمل مضمون كلامه.
إن إغلاق أبواب النقد لن يفعل شيئاً سوى أن يدفع الشباب التواقين إلى التغيير إلى الانفضاض من حولنا والتوجه نحو الإعلام الجديد حيث يعبرون عن كل ما يجيش في صدورهم دون حسيب أو رقيب..
والله أعلم
--