من معبر "إيرز" إلى الزنزانة (1)
ا.د. محمد اسحق الريفي
قليل من الناس من يدرك حجم المعاناة التي يتعرض لها أسرانا البواسل في السجون الصهيونية، وقليل من هؤلاء الناس من يجد وسيلة يدافع بها عن الأسرى ويفضح الممارسات الوحشية الصهيونية ضدهم. وحيث أنني عشت تجربة قاسية في الزنازين الصهيونية، فقد أحببت الكشف عن جوانب هذه التجربة المريرة، أملاً في كشف جزء مهم من معاناة الأسرى، لعل أمتنا تتحرك لنصرتهم وتبغض العدو الصهيوني.
تحدثت لخاصتي من الأقارب والأصدقاء عن المعاناة التي عشتها في الزنازين الصهيونية، وكنت أرتجف وأشعر بقشعريرة أثناء الحديث عن التعذيب النفسي والجسدي الذي يتعرض له أسرانا في زنازين العدو الصهيوني، وكنت أجد صعوبة بالغة وغصة في الحلق وانقباض في عضلات وجهي أثناء الحديث عن وجع الزنازين، وكأنني أنتزع الكلمات من فمي انتزاعاً. وكنت أصاب باكتئاب بعد الانتهاء من الحديث يصاحبني لعدة ساعات وأحياناً لأيام. وكنت أستنكف عن الكتابة حول هذا الموضوع، وأمتنع عن البوح بما وجدت في الزنازين من ألم وعذاب للناس، باستثناء قصيدة كتبتها حديثاً، ولكنني كنت أدرك أنني سأتحدث عن هذه التجربة يوماً ما، وأعتقد أن الوقت قد حان، مساهمة في رفع مستوى الاهتمام بقضية الأسرى إلى مستوى نأمل أن يحرك أمتنا لنصرة الأسرى، وأن يكشف للعالم حقيقة هذا العدو الصهيوني الوحشي والدموي.
ولوقوعي في الأسر قصة عجيبة، فقد تمكنت المخابرات الصهيونية من استدراجي إلى معبر "إيرز" بمساعدة عميل من الداخل الفلسطيني وعملاء آخرين كانوا يعملون في الأجهزة الأمنية لسلطة أوسلو، ومعروف أن المخابرات الصهيونية تستخدم "إيرز" لصيد الفلسطينيين وأسرهم. وقد تم الاستدراج أثناء دورة حاسوب بعنوان "استخدام الإنترنت عن طريق البريد الإلكتروني،" كنت مدربها، وذلك في الجامعة الإسلامية بغزة، ولم تكن الإنترنت متوفرة في ذلك الوقت في غزة، وكان من بين المتدربين خمسة أفراد تابعين لجهاز مخابرات السلطة، وجاءت مشاركتهم بهذا الحجم في سياق التنسيق الأمني بين الطرفين الصهيوني والفلسطيني.
لم أستطع إكمال الدورة إلى نهايتها، فقد وقعت في الأسر أثناء الدورة، وكان ذلك صباح يوم الخميس 25 تموز 1996، وقضيت في زنازين سجن عسقلان الصهيوني 85 يوماً، تجرعت فيها مر العذاب، بتهم تتعلق بدعم المقاومة. وكانت هناك إرهاصات للأسر، وهي زيارة أفراد الأمن الوقائي للجامعة وسؤالهم عن تفاصيل الدورة، وقد حذرني أحد زملائي الإداريين بعد تلك الزيارة من التعرض للاعتقال على أيدي أفراد الوقائي، ولكنني لم أتوقع أن يترك الوقائي هذه المهمة القذرة للمخابرات الصهيونية.
كانت بداية الاستدراج اتصال هاتفي من شخص يدعى "يوسف"، قال إنه من فلسطينيي الداخل، عرض علي خلال الاتصال تطوير الإنترنت في الجامعة بهدف مساعدة الأساتذة والأكاديميين. درست العرض مع زملائي في الجامعة، فشجعوني على ذلك كثيراً، لما فيه من فائدة أساتذة الجامعة وطلابها. وبعد يومين لبيت رغبة "يوسف" بمقابلته في معبر "إيرز"، إذ زعم أنه لا يستطيع الحصول على تصريح لزيارة غزة، وكان معبر "إيرز" بمثابة محطة تواصل بين التجار وغيرهم من جهتي ما يسمى "الخط الأخضر"، الذي يفصل بين الأراضي الفلسطينية المغتصبة منذ 1948، وقطاع غزة. وما خفف من مخاوفي من الأسر أنني سافرت قبل الأسر بنحو سنة إلى القدس دون أي مشاكل، مع شعوري بمراقبة المخابرات الصهيونية لي أثناء الزيارة وفي طريق عودتي لغزة. وسافرت قبل الأسر أيضاً إلى الأردن لحضور مؤتمر علمي بجامعة مؤتة، ولم أتعرض للاعتقال أثناء السفر، ولكنني تعرضت أثناء العودة لاستجواب المخابرات الصهيونية، التي تمنحها اتفاقيات أوسلو الحق في التحكم بسفر الفلسطينيين، واستجوابهم، واعتقالهم، على مرأى من أجهزة أمن سلطة أوسلو ومسمع.
لم أكن أملك تصريحاً لدخول معبر "إيرز" في ذلك الوقت، وكانت بطاقتي الممغنطة منتهية، وكان المفروض على أفراد الأمن الوطني للسلطة ألا يسمحوا لي بالمرور إلى الجانب الصهيوني، بسبب عدم وجود التصريح وانتهاء صلاحية البطاقة، ولكنهم سمحوا لي بالمرور؛ بل شجعوني وحثوني على ذلك، زاعمين أن لا حاجة لي بالتصريح والبطاقة الممغنطة، وأنني لن أخسر شيئاً إذا ما حاولت، وسهلوا التواصل مع "يوسف" عبر هاتفهم الخليوي، فوقعت في أسر الصهاينة بمجرد وصولي إليهم.
سأكمل التفاصيل في الجزء الثاني إن شاء الله.
18/4/2010