" صنمية التنظيم وقصور الإبداع النضالي"
أحمد أبورتيمة
عبر التاريخ كان قيام الأحزاب مبرراً بتحقيق أهداف وطنية أو دينية، فالحزب وسيلة، وليس هدفاً قائماً لذاته، لكن ما يحدث مع مرور الوقت أن الوسيلة تتحول إلى غاية، فيكون تضخم الحزب والعكوف عليه، واكتسابه مركزية القضية التي منحته مبرر وجوده، وحينها يكون انحراف البوصلة عن الأهداف الكبرى، والانشغال بالمحافظة على جسم التنظيم وتسمينه وحمايته من الأخطار.
حين يحدث هذا الانحراف تتبدل الأولويات، فيصبح العمل الوطني خاضعاً لمقاييس التنظيم، لا العكس، وربما تأثرت الأنشطة الوطنية في ضوء الحسابات التنظيمية التي تفقد أصحابها كثيراً من المرونة، وتقيد انطلاقتهم الحرة، فما كان مسموحاً به خارج دائرة التنظيم ومحققاً للأهداف الوطنية بفاعلية يتحفظ التنظيم عن القيام به حين ترد شبهة تأثر مصالحه التنظيمية بهذا النشاط الوطني، وفي هذه الحالة إن العمل الوطني سيفقد تركيزه وزخمه؛ لأنه لم تعد هناك غاية واحدة تركز فيها الجهود، وتتجه إليها الأنظار، بل غايات متفرقة وشركاء متشاكسون؛ فتتشتت الجهود وتضعف قوة الانطلاقة في ظل توزيع الاهتمام بين التنظيم والوطن.
إذا كان متفهماً ضرورة وجود التنظيم ليكتسب العمل الوطني قوةً، وليكون هناك إطار ناظم للجهود الفردية وللتنسيق بين القوى المبعثرة؛ فإن محافظة التنظيم على مبرر وجوده مرهونة ببقاء فاعليته الوطنية، وعدم تضخمه إلى الحد الذي يكسبه مركزيةً تشغل أبناءه عن القضية الأساسية، وحين يعطى التنظيم المركزية على حساب الوطن فإنه يتحول إلى صنم.
فكرة الصنم تعني باختصار الجمود الفكري والتوقف عن التجديد والإبداع، وتحول الوسائل إلى غايات، فالمشركون قالوا: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"، أي أن الأصنام المعبودة من دون الله كانت في بادئ أمرها لغاية خيرة، وهي التقرب من عبادة الله ثم صارت معبودةً ومقصودةً لذاتها، والفكرة نفسها في جدلية الوطن والتنظيم، فالتنظيمات تنشأ ابتداءً لخدمة الوطن، لكن المبالغة في الحفاظ على التنظيم والانشغال عن الوطن يعني أن أبناء التنظيم يقولون بلسان الحال: ما نعبد التنظيم إلا ليقربنا إلى الوطن زلفى.
إذا أردنا أن يظل التنظيم فاعلاً في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية فلابد من امتلاك مؤشر حساس يحذرنا من أي بادرة انحراف؛ حتى لا يحدث الخلط القاتل بين موقع الوطن وموقع التنظيم، هذا المؤشر يقول: إن التنظيم مهما كانت وطنيته وتضحيات أبنائه فهو في النهاية ليس الوطن، بل وسيلة إليه، ما يعني أن يخضع للمراجعة في ضوء مدى نجاحه في الاقتراب من الأهداف الوطنية، وحين تتراجع المفردات الوطنية وتتقدم الأجندة التنظيمية في خطاب أي تنظيم فهذا مؤشر على أننا نسير في طريق الانحراف، وأن التنظيم لم يعد فاعلاً في اتجاه الغاية التي أنشئ من أجلها، وأنه قد فقد المرونة التي تمكنه من الالتفاف على المعوقات، واستمرار المسير في الوجهة الصحيحة، وأصيب بحالة جمود معطلة.
في الحالة الفلسطينية لا تخطئ العين حالة الجمود القاتل، الذي أصاب العمل التنظيمي عموماً، ما يطرح تساؤلاً: هل التنظيمات الفلسطينية لا تزال فاعلةً وطنيّاً، أم أنها استنفدت دورها التاريخي، وصارت عبئاً على القضية التي أنشئت من أجلها؛ فوجب التفكير خارج الإطار؟
أعتقد أن الفصائل الفلسطينية لم تعد مؤهلةً في شكلها الحالي لتحقيق اختراق وطني، ولإبداع وسائل نضالية جديدة تعيد التقدير للقضية الفلسطينية، وتشكل ضغطاً حقيقيّاً على الاحتلال، فالعمل التنظيمي منذ سنوات يكرر نفسه دون تطوير يكافئ تطوير الاحتلال لوسائله العدوانية، والمحافظة على سلامة التنظيم صارت تستنزف حيزاً كبيراً من طاقة أبنائه وقياداته، والخطاب الإعلامي للتنظيمات أقرب إلى الشعارات منه إلى البرامج العملية، وفي ضوء هذا الواقع أستشرف أن يأتي الاختراق النضالي من خارج عباءة العمل التنظيمي التقليدي؛ لأن الاختراق وتجاوز مربع الجمود يحتاجان إلى روح جديدة لم تعد داخل أسوار التنظيم.
شهدنا في السنوات الأخيرة محاولات لتجاوز واقع الركود التنظيمي، من هذه المحاولات مسيرات العودة، وتظاهرات بلعين ونعلين، وقرية مجدل شمس، وحملات المقاطعة الدولية للاحتلال، وأخيراً ائتلاف شباب الانتفاضة، وهذه المحاولات التي يقوم بها شبان فلسطينيون من خارج الأطر التقليدية تسعى لاستلهام روح الثورات العربية، وإعادة الحيوية لنضالنا الوطني، والتنبيه إلى بوصلة الوطن التي زاغت عنها الأبصار.