مقلوب الكيس الأصفر...
منذ زمن غير بعيد , لم نعد نراه يجمع تلك الأغراض التالفة في هذا الكيس الأصفر المتهالك أيضا...ومنذ زمن أبعد , لم نعد نراه في بذته القذرة المهترئة البشعة, ومنذ مدة غير بعيدة أيضا لم يعد كما كان... لقد تغير تماما...
قيل لنا أن كيسه الأصفر[1] صار يدر عليه ذهبا, بات يحمله في قلبه ..في روحه ...
وبات سؤالي لملح:
-كيف حصل؟, وماذا يعني هذا؟.
كان وجهه الأسمر قد ازداد قتامة, وتغيرت عبارات حديثه فانعكست, باتت:
-أمرك يا عمري.. وشكرا يا حياتي...
-هل دهنها عسلا مغشوشا؟, أم أصليا؟.
قلت لراشد متمما والذي يعمل عندي:
-يا رجل حمدي تغير....
-للأحسن إن شاء الله...
لكنني كنت أمسك عن مصادقة أي إنسان تراكمت فيه تجارب الحياة المحبطة, فأحيانا تصلك شهرة مشوهة وغير ناضجة فبدونها أفضل, فهي وبال عليك لا ميزة لك ومغنم.
وذلك خوفا من أن يلبسني ثوبه المرقع يوما ما, فأنا انتقائي بامتياز.
قد تراكمت في ذهني إشارات استفهام استنكارية, فلا أدري هل هو الذي تغير أم فقر الناس المتزايد , جعل الحاويات لا تحوي جديدا...
قال لي صاحب الدكان المقابل هامسا:
-لقد تغير كيسه...وبات يحوي كثيرا من النساء جادت بها قمامة الزمن.. ومن ترفعت عليه رماها خارجا فهي تأبي أن تكون حتى في قلبه .
-نساء؟.. اتق الله يا رجل.. ماذا تقول؟
-نعم ,إنها تدر ربحا يا رجل أين أنت من الذكاء العصري, يكفي أنها تشبع نهمه العشقي...
-ماذا تقول؟, أنا لا أحب الحديث عن المرأة هكذا...هي أمنا وأختنا وحبيبتنا.. وزوجتنا...
-أليس زمننا بات كالكيس الأصفر نحمله في قلوبنا يحوي ما هب ودب بلا انتقاء؟.
يكفيك اوهام القيم التي عششت في رأسنا ولم نفقه منها شيئا ولم نعكسها سلوكا أبدا, حتى وكانت وبالا على حياتنا ,فالمشهورين في زمننا هم القدوة فقط . هي نظريات العصر الحديث , من أراد الشهرة ركب رأسا جديدا.
تركته ولم أعبأ بكلامه فقد تذكرت أن بينه وبين حمدي ثأرا ما...
خطر أمامي بسرعة البرق يوما فحدقت في كيسه المتطور ...وفي عينيه الناظرتين للأرض....
لكن مالم أصدقه صياح النساء من الكيس...كذبت سمعي...وحاولت نكش آذاني فربما أنا من كنت أتخيل...وأعيش كابوسا خياليا.
هرع إلي صاحب الدكان المقابل بتشفٍ:
-ألم أخبرك؟, ألم ألفت نظرك؟.
صمت لساني ولم أعلق رغم أن الكلام كان يتراكم في عقلي وصدري نابحا بكل ما يعتلج فيه,...وإشاراتي الفضولية تدور في رأسي:
-ماذا يعني هذا؟
أجبت نفسي قائلا:
-مصدر ربحي جديد...
همس راشد من جديد في أذني مستغربا:
-ألم تر أن كيسه الأصفر مقلوب؟
-ماذا تقصد؟
-انظر ماذا سأفعل:
حينها أخذني من يدي لقارعة الطريق...وقد سرق كيسه المقلوب على حين غفلة منه, وسط صياحه وزمجرته وصراخه واجتماع الناس حوله.
أولاد الحي يمسكونه بقوة ساخرين:
-أرنا نساءك يا دون جوان الحي.. أرنا نساءك.
-أنا أريد شقراء بمائة ليرة..
-لا أنا أريدها زرقاء العينين سوداء الشعر...
تبعثرت النساء هاربات والرجال بدأوا بملاحقتهن...
وهو يصرخ وينادي وينثر أقذع الألفاظ...
همس لي ضاحكا:
- سوف يكون مشهورا يوما ما, أعدك فخذها مني , فاسمع هذه الفكرة:
من البراعة أن تفض بكارة الحياء في النساء ,وترميهن لغيرك كقشرة موز يتزحلق بها بعد ذلك آخرون, ولكن من الخزي التاريخي الذي مازلنا نراه متجددا كل يوم, أن تخترع نوعا جديدا من العبودية.
ريمه الخاني 18-7-2014


[1] الكيس الأصفر: كيس بلاستيكي متين يحمله الفقراء الذي ينبشون في سلة القمامة ليجدوا فيها ما يحتاجونه من نفايات ,وهي مشهورة في بلاد العالم الثالث.


**********
نشرت لأول مرة في العدد 1435 من جريدة الأسبوع الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب, بتاريخ:5-4-2015 الموافق:16-جمادى الآخر 1436