نظام الوقف والحبس بعد الاسلام برز مدعوما من المؤسسة السياسية المتدينة المستفيدة من هذا النظام الاقتصادي، وهو نظام تم استدعاؤه من الذاكرة الدينية للنظم السياسية السابقة للإسلام وخاصة النظم المتدينة بالمسيحية واليهودية.
كما يرصد التراث أن الأحباس كانت من ضمن المعاملات الرائجة بين عرب الجاهلية قبيل الإسلام، وذلك باعتبارها مشروعا اجتماعيا خيريا، في الوقت الذي كان مشروعا اقتصاديا أيضا يضمن دخولا وإيرادات مهمة على خزينة الأسرة أو القبيلة أو الدولة، أو السلطان ومؤسساته، ومنها بالطبع المؤسسات الدينية الناطقة باسمه، حيث يستفيد رجال الدين من أموال الوقف الأمر الذي شكل دافعا مهما لاستدعاء واستنفار الأدمغة الفقهية لتقنينه والاهتمام به:
1- شكلا: من حيث التقنية التنظيمية، وتحديد الفئات المستفيدة منه، ومنها رجال الدين بالطبع
2- وموضوعا: من حيث التحصين النفسي والديني لأموال الوقف والأحباس متوسلين بذلك بوسائل الترهيب التي تشدد على قدسية أموال الوقف والأحباس، بدرجات متفاوتة وصلت إلى الترهيب بالملاك جبرائيل باعتباره وكيلا على أموال الوقف والأحباس، ويقوم بدور الخصم في وجه المتطاولين على الأحباس يوم القيامة بين يدي الله تعالى، ومن عساه يقدم على محاججة ومقارعة جبرائيل عليه السلام؟.
الوقف والحبس الذي نشأ ظاهرة اجتماعية تكافلية تضامنية، وتحول من فعل مندوباً إليه باعتباره عملا صالحا - تحول بفعل الاستغلال السياسي والاجتماعي والاقتصادي المتمظهر دينياً - إلى قيمة دينية يحرم المساس بها, لا تورث ولا توهب ولا تباع، بشكل مؤبد، لتصرف إما لفائدة فرد أو عدة أفراد, أو لمؤسسة دينية أو اجتماعية.
ومن الجدير بالذكر هنا أن المؤسسة الرسمية المتمثلة في هيآت الأوقاف ووزاراتها - المستفيدة من الأحباس بالطبع- تتجاهل وتغض الطرف عن تلك الأصوات المنادية بوقف التعامل بمبدأ الحبس السائد وهي أصوات عالية القيمة والمقام والتي يترأسها الإمام أبو حنيفة النعمان الذي اعترض بشدة على الأحباس واعتبر الأوقاف من الظواهر التي عاب الله تعالى على عرب الجاهلية تعاطيها، كما كانت تفعل من تسيب البهائم، الوارد ذمها في قوله تعالى [مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ] .
حيث يدعو هذا الفريق إلى القول بأن الله تعالى حدد في القرآن وجه القربات المالية التي يتقرب بها الإنسان إليه في حياته وذلك عن طريق الصدقات والإقراض مثلا [إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ] فإذا مات الإنسان فإن قانون الميراث القرآني هو الحكم [لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا] وربما كان أبرز ما تظهر فيه حكمة هذا الاتجاه الفقهي هو قطع الطريق على الذين يرمون بتحبيس أموالهم حرمان الورثة من بعدهم، وما أكثرهم...!
وعلى الرغم من أن بعض الدول الإسلامية والعربية تبنت مذهب الإمام أبي حنيفة مذهبا رسميا للدولة فإن ذلك لم يثنها عن الاهتمام برعاية الوقف وتنميته، والتشجيع عليه، وتشكيل الوزارات وتأسيس الهيآت الراعية للأوقاف والمستثمرة له.
وهذا جعل وزارات الأوقاف وهيآتها بين خيارين استراتيجيين، خيار أن تكون مؤسسة دينية أو متدينة تتصرف وفق قوانين الطهارة والنبل الإسلامية، وخيار أن تكون مؤسسة حكومية اقتصادية تحمي أموال الوقف – للدولة وللأفراد- بغض النظر عن طبيعة ظروف تحبيس هذه الأموال.
-----------------
موضوع منقول .. تابع الرابط الآتي :
http://mlitan.maktoobblog.com/856575...8A%D9%86%D9%8A