آفاق التعاون الثقافي بين العرب والأتراكدائما ما تكون الثقافة والأدب والفكر مدخلا جيدا للعلاقة بين الدول وبين الشعوب والأمم، بعيدا عن أحوال السياسة وشؤونها وشجونها ودهاليزها المظلمة، ولكن في حالة العرب والأتراك الأمر مختلف جدا، فثمة تاريخ طويل يمتد لقرون عدة، لا يحكمه الماضي والتاريخ المشترك، ولا الدين ولا الجغرافيا، ولا الثقافة والفكر والأدب فقط.. وإنما هذه كلها مجتمعة، وأكثر من ذلك بامتداد طويل جدا يربطهم معا بعلاقات القربى والدم والنسب.
في ضوء هذا كانت «للبعث» وقفة مع بعض الأكاديميين الأتراك والسوريين للسؤال عن آفاق التعاون الأدبي والثقافي والعلمي بين الجانبين العربي والتركي في المستقبل... فالطريق بين العرب والأتراك مفتوحة وممهدة، وعلينا أن نملأها تعاونا خصبا في كل المجالات.
افتتاح أقسام اللغات يعزز العلاقات
يرى الدكتور أمر الله إيشلر من تركيا أن تطور العلاقات السياسية بين تركيا والدول العربية سيفتح المجال واسعا للتعاون في المجال الأدبي الثقافي والفني، لاسيما وأن ماضينا مشترك، لهذا لابد أن يكون التعاون في هذا المجال كبيرا، فهناك مثلا مفردات كثيرة مشتركة بيننا، وذلك عندما دخلت كلمات عربية إلى التركية، وكذلك دخول كلمات تركية إلى العربية.
وأشار إيشلر أنه بافتتاح أقسام اللغة التركية، خاصة في جامعات البلاد العربية، سيزداد التعاون فيما بيننا، ولاسيما على الصعد الثقافية والأدبية والفكرية، فهناك سبعة أقسام لتعليم اللغة العربية في الجامعات التركية، أما في سورية مثلا فهناك فقط قسم واحد لتعليم اللغة التركية في جامعة حلب، وننتظر افتتاح المزيد في الجامعات السورية ولاسيما في جامعة دمشق، لأن افتتاح أقسام اللغات يعزز تطور العلاقات بيننا.
وأضاف: مثلا أنا ترجمت أدونيس إلى اللغة التركية، ولي زملاء ترجموا حنا مينة، إلى جانب عدد من الكتاب والروائيين، فهناك إذاً عملية ترجمة مهمة من الأدب العربي إلى الأدب التركي، وهي منتشرة وسائدة، ونحن نتوقع من إخواننا العرب، ولاسيما السوريين، أن تكون عندهم عملية ترجمة من التركية إلى العربية لأعمال الكتّاب الأتراك من شعر ورواية ومسرح وقصة. وعملية الترجمة لا تتم إلا بتعلم اللغة التركية، وهذا ما نرجوه من جامعة دمشق، في أن تفتتح قسم تعليم اللغة التركية وآدابها ،لنحقق بذلك الأهداف التي نصبو إليها.
تاريخ مشترك يحتاج لإعادة تقييم
وأشار الباحث أحمد المفتي إلى التاريخ المشترك، الذي كان على مدى فترة طويلة من الزمن تمتد لقرون بين العرب والأتراك، ورأى أنه قد شابت هذا التاريخ في هذه الفترة الوجيزة من الحياة خلال ثمانين عاما بفعل الصهيونية العالمية بعض الأخطاء والعثرات، لذلك نحن هنا في هذا المؤتمر دعونا من خلاله إلى إعادة صياغة هذا التاريخ الذي شُوّه بفعل كثير من المستشرقين والصهاينة.
وأكد المفتي أننا في هذه الفترة الزمنية لنا تاريخ طويل، فالمخطوطات العثمانية تضم آلافاً من الكتب، ولاسيما في المكتبات التركية، وخاصة مكتبات استنبول، ولابد من إعادة تحقيقها، ولابد من إعادة دراسة اللغة العثمانية والعودة إلى هذه اللغة لنفهم تاريخنا، ولكي نقفز إلى المستقبل ونفهم الحاضر الذي نعيشه.
وختم المفتي: إن علاقتنا مع تركيا علاقة حب، ولابد أن تعود، ولابد للمنطقة أن يسودها السلام طالما أن تركيا وسورية حليفان وجاران محبان للسلام.
مستقبل تركيا مع العالم العربي
فيما رأى الدكتور برهان كور أوغلو أستاذ الفلسفة أن العلاقة التي بدأت بين سورية وتركيا منذ خمس سنوات ستؤثر في مستقبل العلاقات العربية التركية بشكل عام، لأن سورية تمثل العمق الثقافي للحضارة العربية الإسلامية، لذلك ومن خلال هذه العلاقة فإن تركيا بدأت تنفتح على العالم العربي بكل مؤسساتها السياسية والفكرية والثقافية والتعليمية، وستكون هناك من خلال هذا الانفتاح عبر المؤتمرات وعبر تبادل الطلبة والأساتذة بين الجامعات وبين المؤسسات الدولية والحكومية.
وقال: هناك الآن تعاون في مجال إرسال الطلبة وفي مجال المؤتمرات والندوات المشتركة، وكل هذه الأمور ستغني هذه العلاقات، وأعتقد أن هذا سيسفر عن مستقبل العلاقة بين الشعبين التركي والعربي بشكل إيجابي.
ورأى الدكتور أوغلو أن مستقبل تركيا هو مع العالم العربي، فسورية بالنسبة لتركيا تعد بوابتها إلى العالم العربي، أولا لكونها جارة تركيا ،وثانيا للتأثير الحيوي الذي تلعبه سورية في العالم العربي، من خلال نخبها الثقافية ومن خلال إدارة حكيمة، كما أعتقد أن على سورية وتركيا والعراق وإيران أن تلعب دورا مهما في المنطقة يوازي حضارات هذه الدول، ولابد أن المستقبل لهم فيما لو عملوا على ذلك.
الاستفادة من دروس الماضي
أما الدكتور علي القيم فحدد في رده على السؤال: أنه من خلال هذا المؤتمر ركزنا على مسيرة الحضارة والتاريخ في هذه العلاقات، والتي تعود إلى ما قبل الميلاد، إلى الألف الثاني والثالث، وقد أخذت رونقها وطابعها الخاص بعد الفتح العربي والإسلامي، والذي امتد ليصل التاريخ بعضه ببعض، وذلك من خلال أواصر العلاقات المشتركة في التاريخ واللغة، وفي الفنون العمرانية، وفي العادات الاجتماعية والتقاليد والاقتصاد، وأيضا في أواصر القربى التي تربط بين الشعبين العربي والتركي.
وقال الدكتور القيم إنه ينظر إلى هذه العلاقة من منطلق (نحن جيران) فهناك قواسم مشتركة في الماء وفي التاريخ والحضارة، وبالتالي لابد من أن تكون هناك علاقات متينة في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء.
وإن تركيا- أضاف القيم- والوطن العربي وإيران وبلاد ما بين النهرين ممكن أن تكون قوة كبيرة يكون لها دورها بعيدا عن السياسات الخارجية والضغوط التي تمارس عليها. وقد أثبتت التجربة أن تركيا تقوى وتستمد عظمتها من خلال جوارها... وأستطيع أن أقول إن هذا المؤتمر من خلال ما قدمت فيه من بحوث ودراسات، ومن خلال ما سوف نتبعها من تفريعات للمحاور التي قدمت، وهذه هي البداية، وأعتقد أننا نحتاج إلى هذا الكم من العمل الدؤوب حتى نستطيع الثقافة أن نواكب الحدث السياسي والاقتصادي والتجاري.
ورأى الدكتور القيم في ختام كلامه أن القواسم المشتركة بين العرب والأتراك، وأواصر القربى ووشائجها تساعد كثيرا في الولوج في هذه العلاقة، وليس هناك أي عائق يمنعنا في مجال الاستثمار والتجارة وفي مجال الثقافة والفنون. ويجب أن نستفيد من دروس التاريخ، لا أن نستند إلى ما حاول الغرب في الماضي الإساءة إليه، وجعله تاريخ حروب ودماء وتاريخ نزاعات واستبداد.
رصيد ثقافي
فيما أكد الدكتور مسعود يلدز في رده على سؤال البعث أن للعرب والأتراك تاريخاً مشتركاً وعريضاً، وقال إن العرب والأتراك عاشوا مع بعضهم قرونا عديدة، ولأجل ذلك أصبح هناك تأثير متبادل بينهم، أدى إلى هذه العلاقة، ولاسيما- كما يقول يلدز- بعد أن دخل الأتراك في الدين الإسلامي، حيث راحوا يستخدمون الحروف العربية والتي استمرت إلى عام 1928م، وخلال هذه الفترة الزمنية الطويلة أخذ الأتراك آلاف الكلمات العربية التي ما زالت مستخدمة إلى الآن، وأيضا عن طريق الدين الإسلامي، ولاسيما تلك المتعلقة بالعبادات الدينية، وثمة الكثير من الجمل والتعابير المشتركة فيما بين العرب والأتراك، ولاسيما الأمثال، فضروبها مشتركة بيننا، وهذا كله يستدعي أن تكون العلاقة المستقبلية بين العرب والأتراك مميزة....
فتركيا القرن الحادي والعشرين معنية بماضيها المشترك مع العرب وتسعى إلى تطوير علاقاتها مع العرب بإصرار شديد، استنادا- كما قلنا- إلى هذا الماضي الثقافي والسياسي، وقبل هذا وذاك الاجتماعي المشترك مع العرب.
وختم يلدز أن هناك رصيدا ثقافيا وفكريا كبيرا وعظيما بين الشعبين العربي والتركي، وعلينا ألا نستهين به، فهو سيقود عجلة العلاقات إلى الأمام، وستكون آثاره إيجابية، تعكس الروح الحقيقية للعرب والأتراك، الروح الحضارية الإنسانية المحبة للسلام والحياة.
ترجمة دون لغة وسيطة
وقال الدكتور نور الدين جفيز في إجابته إن لنا نحن الأتراك والعرب تاريخاً مشتركاً وطويلاً، لذلك يجب علينا أن نجعل هذين الشعبين قادرين على فهم ما بينهما من تاريخ وعلاقات، وأرى أن الإبداعات الأدبية لها دور كبير ومهم في هذا الفهم، لذا يجب أن تترجم الأعمال الأدبية العربية إلى التركية مباشرة من دون وسيط ثالث، وكذلك يجب ترجمة الأعمال التركية إلى العربية دون الحاجة إلى لغة وسيطة الإنكليزية أو الفرنسية.
وأضاف الدكتور جفيز: أنا أحاول أن أترجم بعض الكتب العربية وكذلك بعض الأشعار إلى التركية، ليفهم الشعب التركي ما يشعر به العرب وما يحسون به، وأتمنى أن تتم ترجمة الشعر التركي والأدب التركي إلى العربية مباشرة ليشعر العرب ما يحسه الأتراك.
وختم الدكتور جفيز: إن التعاون الثقافي والأدبي قائم بين الشعبين العربي والتركي، وأنا أنظر إلى أن آفاق هذا التعاون ستكون كبيرة فيما لو كانت هناك حركة ترجمية على كل الصعد بين الشعبين، لاسيما وأن الكثير من الوثائق التي تصل إلى الملايين مشتركة بيننا، وهذا يستدعي بالضرورة الاهتمام الكبير من كلا الطرفين التركي والعربي على حد سواء، ونحن في تركيا معنيون بكل هذا التاريخ العريق بيننا وننظر إلى المستقبل مع إخوتنا العرب بإشراق.. ننظر إليه بحب.
طاقات هائلة لدى العرب والأتراك
وإجابة عن السؤال رد الدكتور وجيه كوثراني أنه بمعزل عن الماضي المشترك فإن هناك طاقات وإمكانات هائلة لدى الشعب التركي، وأيضا هناك طاقات مذهلة على المستوى الثقافي والعلمي لدى العرب، وبحكم الجوار وبحكم التاريخ المشترك ينبغي لهذه الطاقات أن تترجم نفسها مؤسسات ثقافية ومؤسسات علمية وأشكالا أخرى من التنسيق على مستوى المجتمع المدني والجمعيات الأهلية ومؤسسات علمية وزيارات جامعية متبادلة، والواقع أن هناك الكثير من الأفكار التي يمكن أن تخرج إلى حيز الفعل والتنفيذ على مستوى العلاقات ما بين مجتمعين مدنيين أهليين؛ المجتمع التركي والمجتمع العربي.
مصالح مشتركة
ورأى الدكتور يوسف نعيسة أنه إذا عدنا إلى التاريخ فإنه يفرض علينا أن نكون متحدين، لأن مصالحنا واحدة وتاريخنا واحد ودماؤنا اختلطت في أكثر من موقعة، واختلطت أيضا على المستوى الاجتماعي، فهناك تزاوج لعشرات الآلاف من الأسر بين البلدين.
وبيّن نعيسة أن القوى المعادية ستسعى بكل ما أوتيت، ولاسيما يهود الدونمة الذين يدَّعون الطورانية وهم لا علاقة لهم بمصلحة تركيا ولا بتاريخ تركيا، وإنما سيسعون من أجل تحقيق أهداف الماسونية والصهيونية، ولن يستكين هؤلاء لأن هناك مشروعين أساسيين في المنطقة، المشروع الصهيوني المدعوم من قبل الدول الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوربا والتي أهدافها الاستراتيجية ثابتة منذ القدم وحتى الآن.. وهناك المشروع المقابل والمضاد لأبناء هذه المنطقة، والبعض من أجزائه يقف موقفا فيه نوع من الاستحياء ويسمي نفسه بالمعتدل، والحق أن كل ما يجري في المنطقة إنما هو لأجل تحقيق أهداف المشروع الأول الماسوني الصهيوني.
وقال الدكتور نعيسة أنه لا سمح الله إذا ما نجح المشروع الأول فلن يكون أي فرد ولا أي بلد أو قطر بمنجاة عن هذا المشروع الأسود، الذي يريد أن يزيح من طريقه كل ما يقف في وجهه وفي وجه مصالحه، صحيح أن هذه نظرة تشاؤمية ولكن لنا مصلحة وللأتراك مصلحة وللإيرانيين مصلحة أيضا ولكل دول الجوار الإسلامي، والذين لهم تاريخ مشترك معنا، لهم مصلحة في أن نكون وحدة متضامنة تسعى إلى تحقيق مصالح الجميع وتقف في وجه هذا المشروع الأسود الجهنمي الذي يريد الجميع من دون استثناء.
وختم نعيسة إجابته بالقول: إن دور سورية مهم لما لها من ريادة في الفكر القومي العربي، ولأنها تحمل تراث الدول الكبرى التي حملت راية الإسلام أولا وراية العروبة ثانيا. لذلك من الطبيعي أن لا تحيد سورية قيد أنملة عن هذا الاتجاه.
تحقيق: عبد الغفور الخطيب
جلال صالح
تصوير: نضال أسعد