لا رَحِمَ للحق سوى القوة..

في سن مبكرة أثناء المرحلة الدراسية، كنت أسمع وأقرأ عن أن عشرات الدول من العالم الثالث، وخاصة من إفريقيا، كانت قد قطعت علاقاتِها مع "إسرائيل" بسبب عدوانها على العرب واحتلال أراضي ثلاث دول عربية..

فكان يتبادر إلى ذهني أن تلك الدول كانت قد فعلت ذلك في أعقاب حرب حزيران عام "1967"، التي كنت أفهم جيدا أنها الحرب التي اعتدت فيها "إسرائيل" على العرب واحتلت خلالها أراضٍ ثلاث دول عربية..
...
لكنني اكتشفت في مرحلة لاحقة، اتسعت فيها مداركي وازدادت مطالعاتي، أنني كنت مخطئا جدا في هذا التصور..

إذ مع أن الدول التي قطعت علاقاتها مع "إسرائيل" كانت تُعْزي سبب ذلك إلى اعتداء هذه الأخيرة على الأراضي العربية واحتلالها لها، فإن واقعة "قطع العلاقات" ذاتها، حصلت في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973، وليس في أعقاب حرب حزيران عام 1967، التي لم يَرِفَّ لا قبلها ولا حلالها ولا بعدها، لأيِّ دولة من تلك الموبوءة بالفقر والضعف والتخلُّف، جفنٌ واحد ضد إسرائيل..

أثار الأمر دهشتي فعلا، وحاولت سبر أغواره وفهم الطبيعة المقلوبة فيه..

إذ كيف يكون الاعتداء واحتلال الأرض هو السبب الداعي لقطع العلاقات مع المحتل المُعتدي، ومع ذلك فلا يتمُ هذا القطع عند الاعتداء والاحتلال، بل يتم عندما انقلبت المعادلة، وبدا أن الطرف المُعْتَدَى عليه يتجه إلى استعادة حقوقه بالقوة؟!

لم أفهم إلا في وقت متأخر أن العرب لم يكونوا يحظون بأيِّ تعاطفٍ حتى من قبل نظرائهم في البؤس والشقاء والتخلُّف والتعرض للعدوان والظلم، عندما كانوا مُعْتَدى عليهم، ما جعل هؤلاء النظراء يُبقون على علاقاتهم مع إسرائيل قائمة وتتحرك في دائرة واسعة من التنافس على تطويرها..
ولم يتغير الحال إلا عندما تحرك العرب في دائرة استرداد الحقوق بالقوة وليس بالاستجداء..

وعندما فهمت هذه المعادلة، عرفت ألا أحد يتعاطف في السياسة مع الضعيف، سوى من ليست له مصلحة مباشرة مع الطرف القوي، ويكون في الوقت ذاته على قدر عالٍ من سمو الأخلاق والقيَم..

أما من كانت له مصلحةٌ ما في كفَّة الميزان الراجحة لصالح القوي في إقليم معين، فإنه لن يتعاطف سوى معه، ولن يتبنى سوى موقفه، بل ربما قد يضطر إلى أن يحاربَ إلى جانبه..

فعندما كان ميزان القوى في أعقاب حرب 1967 راجحا بشكل ملفت لصالح "إسرائيل"، فإن أيا من الضعفاء لم يقطع علاقاته معها، بل سارع إلى استرضائها والتقرب منها وهي الظالمة المعتدية، حتى من قبلِ أصدقاء الأمس..

وعندما انقشعت سماء يوم السادس من أكتوبر عام 1973، عن يوم بدا فيه أن العرب مصممون على استرداد أرضهم بالقوة من خلال حرب حقيقية، فإنَّ كلَّ تلك الدول التي كانت صديقة لإسرائيل، انقلبت عليها وقطعت علاقاتها بها، بحجة الاعتداء على الأرض العربية واحتلالها..

أيْ أن التعاطف حصل مع العرب بأثرٍ رجعي!!!

ألا تعني هذه الوقائع الدامغة الدلالة، أن على الضعيفِ ألا يستجدي حقَّه بتسويق ضعفِه، لأن أحدا لن يتعاطفَ معه، إلا وهو يعمل على انتزاعِ هذا الحق في ساحة المعركة؟!

نعم، هذه هي الحقيقة..

فـ "الحقوقَ" أجِنَّة لا تتخلَّق إلا في أرحام "القوة"، لا في أرحام "التسوَّل"..

وهي في نهاية المطاف لا تولدُ بمخاضات "طبيعية"، بل بعمليات "قيصرية"..

فليرضَ بذله الأبدي من ظن أن كرامته تكمن في مهانة الاستجداء والتسوًّل..