شكوتك يا أبي ... بقلم: آرا سوفاليان
للخلوي ميزات أهمها تغيير وجهتك من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب فتكون في المزة لتصبح في ساحة العباسيين وبأوامر ثنية من وزارة الداخلية وبجمل مفيدة تتألف من بضعة كلمات هي الآتية:
ـ حبيبي أين أنت ؟ ـ في المزة أمام برج تالا العامر ووجهتي التالية الكوين سانتر فلدي موعد مع الدكتور نذار الشعار... ـ حسناً حسناً لا أريد أن آخذ من وقتك... أرجو أن تذهب إلى بيت أهلي لتحضر كارني معك وتعيدها إلى البيت... انقطع الخط كما تقول فيروز في مسرحية ميس الريم.
وذهبت إلى العباسيين وأحضرت كارني من بيت جدتها ومعها الشنطة المدرسية الخاصة بها وفيها ما هب ودب من الكتب التي تشكل في مجموعها وزن ثقلي يفوق وزن حاملة الشنطة وهي مجرد طفلة في الصف الثاني.
ولطالما أن تواجدنا أنا وكارني وسيارتنا السلحفاة البيضاء في منطقة العباسيين فلقد استأذنت كارني للمرور على الدكتور جورج كوريه لتسليمه بعض المستلزمات بمناسبة افتتاح عيادته الجديدة ودرنا بالسيارة إلى خلف كنيسة سيدة دمشق ووجدنا مكان تحركت منه سيارة للتو وأفسحت المجال فركنّا.
فتحت الباب لمرافقتي وانحنيت لها وأشرت بيدي فنزلت من السيارة وأقفلنا الأبواب وكنت ولا زلت أمتنع عن ترك الأطفال في السيارة لأسباب معروفة.
وقصدنا عيادة الدكتور ونزلنا إلى العيادة عبر الباب المعدني والدرج الرخام الجميل وكانت هناك ورود مزروعة في حوض أنيق في جهة اليمين... وطلبت كارني السماح لها باستنشاق الورود... فأذنت لها... لأن الاستنشاق هو الحد الأقصى المسموح به للتعامل مع الأزهار بالنسبة لنا وهذه القاعدة متبعة منذ فترة بعيدة.
ودخلنا العيادة وكانت جميلة بكل المقاييس ووقفت كارني أمام إناء زجاجي تحته أضواء ملونة وفي وسطه شلال صناعي ويصدر أصوات جميلة ورذاذ وسحابة صغيرة من البخار تنكسر عليها الأضواء الملونة... فجنت كارني من هذا المنظر الساحر وتخيلت نفسها في وادي عبقر... وخرج الدكتور لملاقاتنا وتولت فتاتان ملئ جيوب كارني بالتيبتوب والشوكولا والبونبون والمسكة... وجرت أحاديث المجاملة بين كارني والدكتور من حيث الاسم والعمر والصف والمدرسة وسألته هي عن أسمه وحدثت صداقة من نوعٍ ما ... وجيدة إلى حدٍ ما ... واستلم الطبيب أغراضه وحان وقت الوداع وتولت كارني التهام الضيافة في السيارة... وطلبت كيس الزبالة لتضع فيه البقايا فأعطيتها إياه إلى المقعد الخلفي ونظرت ُ في المرآة فعرفتُ أنها وضعتْ جانباً حصة أختها التي تنتظرها في البيت.
وصعدنا إلى البيت... وكنت أغسل يداي ووجهي وصوت فرشاة أسنان كارني يصل إلى مسامعي... فلقد اقتنعت بضرورة تفريش أسنانها بعد تناول الشوكولا فوراً وبدون تأخير بسبب الألم الذي ذاقته من سن لبني سبب لها خراج وانتفاخ اللثة وتم تفجير الخراج بشكل إسعافي وتم حشو السن اللبني بعد بتر اللب بالبالبوتيك في عيادة صديق يعتبر من الأساتذة الكبار... وكنا نتعمد الحشو بهذه المادة بهدف تجربتها... خاصة بعد أن نالت استحسان الكثير من الأطباء... ولأني في الاتجاه الآخر من حيث الشركة التي أعمل لصالحها وأتبنى نهجها وأبحاثها وأعلمها للغير... فلقد تعمد هذا الطبيب تجربة هذه المادة على كارني لإقناع والد كارني بها.
وأخبرنا أن الألم سيزول بعد يوم أو يومين وكذلك الخرّاجة والانتفاخ... وذهب الانتفاخ أو البالون كما أسمته كارني ولكن الألم ظلّ... و اشتكت كارني فقلت لها... لو عندك يا كارني أدنى فكرة عن الأستاذ الذي عالج سنتك لما تجرئتِ على الشكوى... وعادت بعد فترة من المدرسة وقالت لي لقد وضعت إصبعي وفركت فنزل الدم... وعاينت اللثة فلم أجد أي أثر للانتفاخ السابق وكان لون اللثة طبيعياً فقلت لها... هل هذا مشهد تعلمتيه من إحدى حلقات المحقق كونان.
وسكتت كارني وتعلمت التعايش مع الألم... وعند زيارتنا للدكتور جورج سألتني هل هذا الطبيب هو دكتور أطفال... قلت لها لا يا حبيبتي فهذا طبيب أسنان للكبار.
ومضى أسبوع على الزيارة... وكنت في العمل عندما اتصل الدكتور جورج إلى البيت يسأل عني وتولت كارني الرد على الهاتف وتولت أمها نقل ما دار من حديث.
ـ هل أنتِ آني أم كارني
ـ أنا كارني
ـ هل البابا موجود
ـ لا... هو في الشغل
ـ هل عرفتِ من أنا
ـ أنت الدكتور جورج صاحب الشلال ذو الأضواء الملوّنة
ـ كيف عرفتِ
ـ من صوتك
ـ حسناً أخبري البابا بأنني اتصلت
ـ مهلاً هل تريد أن أعطيك رقم موبايله
ـ نعم
ـ اكتب إذاً صفر تسعة ثلاثة وهنا انتبه فبعد هذه الثلاثة عليك إضافة ثلاثة جديدة ثم ثلاثمائة واثنتا عشر ثم تسعة ثم ستة ثم واحد
ـ شكراً كارني
ـ مهلاً أريد أن أقول لك شيئاً
ـ تفضلي
ـ إن سني يؤلمني ولقد نزل منه دم في المدرسة وقلت للبابا ولم يصدقني... وهو نفس السن الذي أصلحناه عند صديق البابا... أرجو أن تقنع أبي بأن يأخذني لعيادتك لمعالجة هذا السن لأنه لن يقتنع مني وأرجو أيضاً أن لا يعرف بأنني أخبرتك فهذا سر بيننا ... حسنا
ـ حسناً يا كارني سأتصرف.
ورن الخلوي في السيارة وكان الدكتور جورج ودارت المحادثة التالية:
ـ أين أنت
ـ في منطقة تبعد عن عيادتك خمسٌ وأربعون دقيقة ويمكنك ضرب الرقم بإثنين في حال وجود عرقلة سير في طريق العودة
ـ حسناً أرجو أن تعود أدراجك إلى البيت وتحضر كارني إلى عيادتي لأن سنها يؤلمها وأنا وعدتها أن أعالجه افعل ذلك سريعاً فأنا لن أغادر العيادة حتى تحضرها لي.
ـ قلت له الوقت تأخر الآن... وعليَّ الذهاب إلى جرمانا ثم إلى العباسيين وهذا يحتاج لوقت
ـ سأنتظرك.... وانقطع الخط كما تقول فيروز في مسرحية ميس الريم.
واتصلت بالبيت وتحدثت مع والدة كارني ... وطلبت منها أن تلبس كارني وتجهزها... ووصلت فكانت جاهزة وبانتظاري.
ودخلت غرفة الجلوس فكانت تتابع شيء ما على السبيس تون... ونظرت إليها وأنا أبتسم وسألتها ماذا فعلتِ يا كارني فأجابت ببرود ... لا شيء سوى أنني قد شكوتك يا أبي ... شكوتك لأنك لم تصدقني.
ووصلنا إلى العيادة وكان الدكتور قد طلب من مساعدتيه البقاء... ونزلت كارني على الدرج... واستنشقت مخصصاتها من حوض الورود ودخلت غرفة الانتظار ووقفت طويلاً تمتع نظرها بالشلال والأبخرة والأضواء الملونة والعطور المتسربة... وصوت ديك إلكتروني صاح لها ثلاثة مرات عندما اخترقت مجاله الإشعاعي بدخولها من باب العيادة كونه يعمل بالأشعة تحت الحمراء... وذهبت بخطى واثقة إلى غرفة المعالجة وجلست بمساعدة البنات على الكرسي... وبعد تبادل التحية وعبارات المجاملة... فتحت فمها وتولت سنبلة الكاربايد gw2 من شركة إس إس وايت نزع حشوة الأملغم من الحفرة وكانت كارني تشير بسبابتها اليمنى إلى الفتاة التي تحمل ماصة اللعاب لتفريغ الماء الممتزج ببرادة الأملغم من فم كارني عند وصوله إلى حجم ما قبل الانسكاب.
ـ تعال يا سيد آرا وانظر... الحفرة مثالية من حيث التحضير والزوايا رائعة وطريقة استئصال اللب مثالية ويبدوا أن هذا العمل هو من نتاج أستاذ كبير... قلت له نعم ... هو كذلك... فأردف قائلاً ولكن هناك خطأ في وضع المسندة لأنه لم يحدث إغلاق تام بالمسندة وقد تسبب ذلك في انسياب الأملغم من تحت المسندة ودخوله في اللثة وتسبب ذلك في إحداث خراجة لثوية خاصة وأن الأملغم المندفع والمتسرب يأخذ شكل الإسفين ويصبح كالبسمار بعد التصلب وهذا مؤلم للغاية وكارني كانت على حق... ويجب الآن إخراج هذا الإسفين مع التسبب بأقل أذية ممكنة لللثة.
ولم يكن ينقصني إلاَّ تأنيب الضمير... فلقد اتفقت فتاة صغيرة في الصف الثاني مع أحد زبائني لتحميلي قدراً إضافياً من تأنيب الضمير... وكأن القدر السابق الذي يطال سنين كثيرة قضيتها تحت هذا الوزر تعتبر غير كافية.
ورأيت بعيني اللمسة السحرية والتعامل الرقيق... مع أن كارني خلوقة جداً ومتفهمة فلقد مكنت الطبيب من إتمام المعالجة دون أن يطلب منها فتح فمها ولا لمرة واحدة وكانت تخاطبه ومساعدتيه بالإشارات ورأيت في معرض العمل كل المواد التي بعته إياها ... ووصل إلى مرحلة الختم الأولي للحجرة اللبية (الدرجة)... فناولته المساعدة عجينة من الـ irm هذه المادة السحرية من شركة دنتسبلاي والتي يعرف قيمتها من يعرف... بالرغم من أنه لا بد من مقولة حق وهي الآتية... إن آلام كارني سببها رض لثوي نتج عن تسرب الأملغم إلى داخل اللثة.
ورأيت التعامل مع شرائط البالودينت ماتريكس المسنودة بالأوتاد الخشبية من الدهليزي واللساني والمطوقة من الأعلى بالخاتم (رينغ) مع طريقة الفتح والفريم والتثبيت خلف امتدادي المسندة... والمفاجأة هي الحشو النهائي فلقد قرر الدكتور جورج حشو الحفرة المتبقية بالكومبومير... وتلون خدا كارني باللون الأزرق وهو ضوء المصباح الأبيض المستعمل لتصليب الكومبومير ... وتم ضبط الإطباق ونزلت كارني عن الكرسي... ووضعت إصبعها في فمها وقال للدكتور( السن عم يدق بالسن يللي تحتو) وضحك الدكتور جورج وقال لي ما شاء الله... كارني تكتشف نقاط الضغط العالية... وبمعاونة ورق العض تم التغلب على القضية... وتم ملئ جيوب كارني بالتيب توب والشوكولا والمسكة ... وعدنا إلى البيت.
كنت في الطريق أفكر بالقدر الكبير من الإنسانية الموجودة لدى هذا الرجل الذي استمع إلى شكوى طفلة صغيرة من البداية إلى النهاية وخصص لها هذا القدر الكبير من وقته وجهده وتأخر في العيادة وطلب من مساعدتيه البقاء بعد نهاية الدوام بانتظار قدوم الصغيرة ووالدها ... ليعيد لها الابتسامة والسعادة ويقدم لها حيز من الفرح ويخلصها من الألم فإن كنت في الوقت الحالي ابذل غاية جهدي في كتابة سلسلة مقالات عمالقة اللبية في سوريا ... فإني أرى أنه من واجبي إدراج مقالة اعتراضية بعنوان عمالقة الإنسانية في سوريا لأتابع بعدها وبدون تأنيب ضمير.