من معبر "إيرز" إلى الزنزانة (4)
ا.د. محمد اسحق الريفي
جاء السجان فجر يوم الأحد 28 تموز 1996 بالقيود والسلاسل إلى الزنزانة، فقيدني وألبس رأسي الكيس وأخذني إلى موقع الشبح. وهناك أجلسني على كرسي الشبح مقيد اليدين والرجلين، في الهواء الطلق، تحت أشعة الشمس الحارقة، وتحت ميكرفونات كبيرة، لا تتوقف عن بث الموسيقى والأغاني العبرية المزعجة بصوت مرتفع يصم الآذان. بعض تلك الأغاني والموسيقى تم اختيارها بعناية لتثير الحزن والكآبة في النفس، وبعضها الآخر تضمنت تعبيرات جنسية مقززة للنفس. وكانت الأغاني تتكرر على مدار الساعة، حتى كنا نسمع الأغنية أكثر من عشرين مرة في اليوم، وكان المحققون يأمرون برفع صوت الميكروفونات باستمرار، إمعاناً في تعذيب الأسرى المشبوحين.
كان من حولي العديد من الأسرى المشبوحين، علمت ذلك من أصواتهم وهم يطلبون من السجان الماء أو الذهاب إلى دورة المياه، ومن صراخ بعضهم من قسوة المعاناة. كان معظمهم من مجموعتي الأسير حسن سلامة والشهيد محي الدين الشريف، ومن طلاب غزة في الجامعات التركية، إضافة إلى آخرين. وسأتطرق لبعض تفاصيل المجموعتين في المقال القادم إن شاء الله. كان السجان يأتي بقنينة ماء إلى الأسير المشبوح الذي يشكو الظمأ، فيثني الكيس قليلاً إلى أعلى، ويطلب من الأسير فتح فمه، ويصب فيه الماء صباً، لإذلال الأسير وإيلامه وتعذيبه. ولا يسمح للأسير بالشرب بنفسه، فهو مقيد اليدين.
يبقى الأسير مشبوحاً على مدار الساعة، ولا يسمح له بمغادرة كرسي الشبح إلا للتحقيق وفق طلب المحقق، أو لتناول ثلاث وجبات، الأولى الساعة السادسة صباحاً، والثانية الساعة الثانية عشرة ظهراً، والثالثة الساعة السادسة مساء. وتتكون الوجبة من قطعة خبز صغيرة، وشريحة جنبة صفراء وزنها أقل من خمس غرامات، وقطعة فلفل حلو. وكانت الوجبة تقدم للأسير المشبوح في زنزانات خاصة منفردة بطريقة مذلة، وكان عليه أن يتناولها في وقت لا يتجاوز خمس دقائق، فكنا نتوضأ أو نتيمم ونصلي، وبعدها نتناول الوجبة، إن بقي وقت، قبل أن يأتي السجان ليعيدنا مرة أخرى إلى كرسي الشبح.
أذكر أن السجان في أحد أيام الشبح سلط على ظهري مروحة كبيرة، وسلط أخرى على صدري، وظلت المروحتان تضربان الهواء بشدة علي من صباح ذلك اليوم وحتى ساعة متأخرة من الليل، فتشنجت عضلاتي، وأصبحت أرج رجاً من شدة البرد، وأصبت باحتقان في حلقي حتى سال الدم منه، وانقبضت عضلات وجهي حتى عجزت عن الكلام، وفقدت الإحساس في بعض أصابع قدمي. وبعدها نقلني السجان إلى زنزانة أخرى، شعرت فيها وكأنني في بؤرة إعصار، بسبب الهواء البارد الذي كان يُضخ فيها من السقف بشدة، وبسبب أصوات عواصف شديدة سمعتها في الزنزانة، وأصوات صراخ وأنين لأسرى تحت التعذيب. وهي أصوات مسجلة على شريط كاسيت، يستخدمها المحققون في تعذيب الأسير نفسياً حتى الانهيار.
وفي صباح اليوم التالي أجلسني السجان على الكرسي، لتستمر المعاناة، ولأفقد القدرة على التركيز، وليتدلى رأسي من شدة النعاس، لحد أنني كنت أعجز عن قراءة سورة الفاتحة، وأعيد الصلاة مرات ومرات، لأنني كنت أفقد الوعي في الركعة الأولى في كل مرة كنت أحاول فيها الصلاة على كرسي الشبح. وكان السجان يركلني برجله كلما أخذتي سنة من نوم على كرسي الشبح، وكان يصفر في آذاننا بشدة، ليجبرنا على الانتباه ويحرمنا من النوم لثوان معدودة.
استمر الشبح على ذلك المنوال لأسبوعين كاملين، دون نوم أو راحة، ومع استمرار التحقيق والتعذيب النفسي والجسدي بطرق عديدة، ودون اغتسال أو تغيير الملابس، فغطت طبقة دهنية جسمي ووجهي، وأصبحت أجد صعوبة في فتح عيني، وانبعثت رائحة كريهة من ملابسي، حتى أن المحقق كان يرشني بمزيل للرائحة قبل الدخول إلى غرفة التحقيق، وكان بهذا العمل يعبر عن اشمئزازه وتقززه من الأسرى. وقام المحقق مرات عديدة بالتجشؤ في وجهي مخرجاً روائح كريهة، وكان يضرط أحياناً، إمعاناً في تحقيرنا وتعذيبنا نفسياً. وفي مرات عديدة، كان المحقق يجبرنا على القيام بتمارين تمزق عضلاتنا، أو البقاء في وضع مؤلم لوقت طويل، أو ترديد عبارات سخيفة مئات المرات، ليستهزأ بنا، ويؤلمنا نفسياً وجسدياً. وفي حالات عديدة كان المحققون يستخدمون ما يسمى "الهز" بشدة لتعذيب الأسرى، مما يؤدي إلى إصابة بعضهم بارتجاج في الدماغ والوفاة.
وبعد أسبوعين من الشبح، نقلني السجان إلى زنزانة منفردة لثلاثة أيام متتالية، قضيتها لوحدي، وبعدها نقلني إلى زنزانة أخرى وأدخل علي عميلاً من غزة، علمت فيما بعد أنه عمل في جهاز الأمن الوقائي في غزة. ونكمل في مقال آخر إن شاء الله.
25/4/2010