التربية المطلوبة إذن هى المحاولة العلمية والعملية لتنمية سلوك الطالب ليتسق مع التوزيع الإحصائى للسلوك المرغوب لمجموع الطلاب الدارسين ، من خلال التدريب الجاد والمستمر عن طريق مشاريع وأنشطة سلوكية متعددة فى مواقف متغيرة، فردية وجماعية، وليس من خلال المقالات والكتب والمحاضرات والأشرطة الصوتية أو البصرية. وتصمم الأنشطة بناء على دراسة ميدانية معتمدة على نظريات وفلسفات التربية. يوضع الطالب فى موقف محدد ليتفاعل معه ويعدل سلوكه تدريجيا فى الزمن المناسب ليسمح بالنموالنفسى والسلوك التربوى. وبناء على الأفعال وردود الأفعال والتوجيه المناسب فى الموقف والوقت المناسب وبالأسلوب المناسب ، يتعدل السلوك مع الزمن. وهنا يتدرب الطالب كفرد فى أسرة أو زميل فى الدراسة أو رفيق طريق أو حكم فى قضية أو مواطن فى دولة أو متهم فى قضية أو عضو فى حزب سياسى أو مدرب فى فريق رياضى ، أو كعنصر فى فريق عمل، أو غيرها يتدرب على كثيراّ من المواقف المحتمل أن يقابلها فى الحياة. وطريقة المحاكاة هنا لمواقف محددة تعتبر من الطرق التربوية الجيدة التى تجمع بين المعرفة والسلوك وبين النظرى والعملى.
ليست التربية اذن هى إكتساب معارف عن طريق مقرر دراسى ، بل هى تدريب سلوكى للتعامل مع مواقف حياتية محتملة فىأغلب المجالات الفردية والجماعية. الطالب يتصرف مع نفسه ومع زميله ومع مدرسه ومع اسرته من أخوة ووالدين وأقارب. وأيضاّ يتدرب كيف يتعامل مع أبناءه وزوجته مستقبلاّ ، أو رئيسه فى العمل أو كيف يكون مرؤساّ. والتربية هنا هى فى تعديل السلوك لكى يتعود الطالب أن يكون أكثر إيجابية وأقل سلبية، فى حدود قدراته وملامح شخصيته المرتبطة بتركيب جيناته الوراثية التى خلقه الله بها.
التربية تسعى لإنتاج بشر بمواصفات معينة ، وكل ما نرجوه ان يكون بشراّ لا يساق ويقاد دون وعيه وإختياره، بشر لا يستعبد من بشر مثله، بشر لا يقسر على الطاعة ولكنه يطيع عن قناعة وإختيار، بشر لا يسجن فى فصول دراسية ويفقد ما أخذه فى غرف الدراسة عندما يتعرض للهواءخارجها. تربية لا تنفصل عن واقع التعامل فى الحياة، بل تربية تنتج إنساناّ يسلك سلوكا واعيا اراديا، يتحمل تبعاته وملتزماّ بمسؤلياته. ولابد ان تكون الصفات المرغوبة قابلة للوجود خارج جدران الفصول الدراسية، وان لا تتناقض مع ما هو منتشر ومتداول من سلوك سائد فى المجتمع و الأسرة ، وبين الأصحاب وفى وسائل المواصلات والسوق، وإلا لن تؤدى التربية دورها المأمول. فبدلاّ من تعديل السلوك السىء فى المجتمع والسوق يكون السلوك السائد هو القدوة وينسى الطالب أو ييأس من الإنسجام مع السائد من سلوك. وهذا التناقض بين ما يقال فى الخطب والمحاضرات والدروس والكتب عن السلوك الممتاز والقيم النبيلة ، وبين ما يحدث بإستمرار فى الحياة العامة والبيت والعمل والنادى، هذا التناقض هو من أسباب تدهور الحياة المدنية ومن ظهور كل اشكال العنف أو الإنعزال أوعدم الإنتماء أو الثقة بكل ما يحدث فى الدولة. وهذا لن يؤدى بنا إلى رؤية مستقبلية مأمولة ، بل ربما أدى بنا إلى الذهاب إلى هامش التاريخ. وما النتيجة إذاّ ، اذا كان النظام التربوى يعمل على خلق مواطن قوى وأمين فى داخل المدرسة ولكن هذا المواطن يلاحظ ان المدرسة تدربة على الأمانة وعدم السرقة والوضوح والصراحة وعدم خلق الأكاذيب والإيجابية و هو لا يجد ها خارج المدرسة، بل يجد نفاقا وسلبية ولا إنتماء ، ويقرأ فى الصحف عن كسب غير مشروع وسرقات. ولا يجد فى المجتمع صور متكررة للحب والأخوة والتكافل والروح الرياضية والإلتزام وتحمل المسئولية. ويسمع عن الحرية والمساواة والشورى والديمقراطية ولكنة لا يراها فى حزب ولا فى بعض اسر المعارف والأصدقاء. وماذا عليه ان يفعل بعد كل هذا اذا كانت شخصية الفهلوى هى المثال؟
كل ما سبق إذا أمكن تحقيق جزءا منه فأنه يحقق مفهوم النماء الفردى ويؤدى إلى تفعيل مفاهيم التنمية البشرية. ولكن هل هذا ممكن؟ أين المدرس التربوى وأين الإدارى التربوى وهل هناك إمكانية مالية لتحقيق هذا الحلم التربوى؟ والإجابة بالإيجاب ، إذا خلصت النية و صحت الإرادة على تحقيق رؤية لمستقبل الوطن. والميزانية المالية ممكنة لو تصورنا ان بناء المواطن السليم هو اولى واجبات الدفاع عن الوطن، والصرف على المواطن مثل الصرف على الأسلحة والطائرات والصواريخ والمدرعات والدبابات والغواصات إن لم يكن له الأولوية فى المئة سنة القادمة. ولتدمج ميزانية التعليم من ميزانية القوات المسلحةّّّّ.
وهذه كانت أخر نقطة فى:
رابعاّ: التعليم العام ومفهوم التربية المأمول
وإلى لقاء قادم نبدأ به
خامساّ: ما بعد التعليم العام من منظور مختلف
وللحديث بقية



و
تحياتى