( 16 )
*البنات .. البنات*
.........................

أجلس بجوار تمثال عرابي على المقعد الحجري المستطيل وبجواري سعاد. سعاد الأخرى تغني في المسجل الذي ينطلق من محل العصير المُقابل «البنات .. البنات .. أجمل الكائنات» .. في مرات سابقة جلسنا مثل هذه الجلسة .. لكن لم تكن سعاد حسني تُغني!. تضع سعاد كفها أسفل ذقنها .. بهدوء شديد أمد يدي وأسحب يدها، وأقول مداعباً:
ـ ما الذي يشغل الجميل؟
فتبتسم في مرارة.
نحن متزوجان تحت إيقاف التنفيذ؛ فقد عقدنا قرننا منذ ثلاثة أعوام .. ولا أعرف بالضبط متى نعبر المضيق: من التنظير إلى التطبيق؟!
سعاد وأنا من شارع واحد (هو شارع فاروق) ومن مدينة واحدة (هي مدينة الزقازيق) ومن كلية واحدة (هي كلية الآداب) تخرجنا .. هي خريجة فلسفة وأنا خريج جغرافيا!! .. فلماذا تكون سككنا مغلقة دائماً، ولماذا لا نستطيع أن نضع الحلول لمشاكلنا الكثيرة؟
الفلوس قليلة .. ولم يدركنا قطار التعيين، بعد عناء الدراسة الطويل! .. عملنا في مدرسة خاصة .. نعمل بالحصة في هذه المدرسة القديمة المشهورة التي عمرها أكبر من عمر آبائنا .. مدرسة خاصة، وفلوسها قليلة .. والشقة التي يبنيها لي أخي الذي يعمل طبيباً في الإمارات تحت الإيقاف أو الهدم .. فمجلس المدينة يقول إنها مخالفة للتنظيم .. وأن أخي بناها بدون رخصة!
وأثاثنا مركون منذ عام في شقة أمي الرطبة التي لا تمرُّ الشمسُ من ناحيتها، والتي لا يدخلها الهواء!
سعاد حسني انتهت من أغنيتها .. ومازالت سعاد تضع كفها أسفل ذقنها .. تنظر للحافلة التي ستقلنا إلى شارعنا في ضيق بالغ .. تنظر إلى التمثال البرونزي للزعيم أحمد عرابي .. وتتمتم في كسل، وهي تنظر إلى الفرس الذي يركبه عرابي:
ـ تحفة فنية حقيقية ..
وتبتسم لي ضاحكة:
ـ ليتك تجد مثله لتركبه ليلة زفافك على عروس غيري.
ضحكت وأنا أقول:
ـ لن أتزوج غيرك .. إلا إذا كانت العروس هي سعاد حسني!
ضحكت، فهي تعلم أن سعاد حسني قد ماتت!
...
وضعت يدها على صدري .. لا بد أنها أحست أن قلبي يدق بسرعة واضطراب!
نظرت للناحية الأخرى، وخلعت «الدبلة»، ووضعتها في حقيبتها .. وقفزت في خفة لتقلد سعاد الأخرى، وتُغني في أنين مكبوت:
ـ البنات .. البنات!
وسالت من عيني دموع كثيرة!

الرياض 22/5/2006م


(انتهت المجموعة)