الغرب والإسلامتحالف قوى الشر (12)مصطفى إنشاصيفي الوقت الذي كان فيه المسلمون منشغلون بقتال الصليبيين في مصر والشام ظهر الخطر المغولي على الجناح الشرقي للوطن الإسلامي، وكان ذلك في عهد خاقان المغول "منكو خان" الذي بعث أخاه هولاكو لفتح إيران والشام ومصر وبلاد الروم السلاجقة وأرمينيا، ونجح المغول في منتصف القرن الثالث عشر في القضاء على الدولة الخوارزمية الإسلامية والسيطرة على إيران.وبدأ المغول بعد ذلك يتطلعون للقضاء على الخلافة العباسية في بغداد، وقد استغلوا ضعف الدولة العباسية وما أصاب الوطن الإسلامي من انقسام وتشرذم واجتاحت جحافل جيوشهم الهمجية العراق وقضت على الخلافة العباسية سنة 656هـ- 1258م، وقد أظهروا من الهمجية والوحشية ما فاق أعمال الصليبيين. وقد هدموا العمران، ودمروا الحضارة، وهدموا المساجد، والكنائس، والمكتبات، ومزقوا الكتب، وقتلوا وسفكوا الدماء بوحشية، لا مثيل لها. وعاثوا في الأرض الفساد، وما دخلوا أرضاً إلا وجعلوها خراباً، ودخلت جيوش المغول بلاد الشام وأرادت أن تكمل طريقها إلى مصر لتقضي على آخر معاقل الإسلام في المشرق الإسلامي، ليصبح الطريق أمامها مفتوحاً للسيطرة على الوطن الإسلامي كله وعلى أوروبا أيضاً بعد أن هددت جيوشهم شرق أوروبا الصليبية.الدرس الثالث: التحالف الصليبي المغولي:بعد وصول المغول إلى بلاد الشام وحدود أوروبا الشرقية أصبح خطرهم يهدد القارة الأوروبية كلها وقد (رأى البابوات وأهل الغرب أن خير وسيلة لاتقاء شرهم، هي العمل على كسبهم إلى الكاثوليكية، واستمالتهم إليهم في حروب صليبية مشتركة ضد الإسلام في الشرق في وقت كان فيه فرنج الشام يتلقون أشد الضربات من العرب، وفي وقت كانت فيه أوروبا الغربية تستجدي العون لحملة عدوانية جديدة).وتنفيذاً لهذه السياسة البابوية الغربية بدأت المراسلات مع المغول، فقد أرسل البابا أنوسنت الرابع (1243-1254) أثناء انعقاد مجلس ليون الكنسي سنة 1245 عدة سفارات إلى المغول أخفقت في تحقيق أهدافها الرئيسية، لأن خان المغول كيول رد على البابا يطلب منه الاعتراف بسيادته العليا، وأن يأتيه هو وجميع أمراء الغرب ليقدموا له يمين الولاء والطاعة، ومع ذلك فقد أبعدت المراسلات الخطر المغولي عن أوروبا. وتحددت المفاوضات بين الطرفين لشن حملة عسكرية مشتركة يحتل فيها الصليبيون القدس والمغول والعراق، ذلك عندما أوفد هولاكو سفراءه إلى الملك الفرنسي لويس التاسع يعرضون عليه تعاون المغول والصليبيين، وأن يمكن المغول لويس من انتزاع بيت المقدس من العرب. فقد كان هولاكو يتأهب لغزو بلاد العراق وخشي أن تهب مصر كعادتها دائماً للدفاع عن الإسلام والعروبة، فرأى أن يشغل المصريين بمواجهة الخطر الصليبي حتى ينفرد هولاكو بغزو العراق وقد كانت مصر الإسلام اللامع وقلب العروبة النابض. فأرسل سفارة إلى خان المغول الأكبر، إلا أن تلك السفارة أدركت أن الخان لا يقبل أن يكون في العالم سيد غيره، فهو يعتبر أصدقائه أتباعاً له، وأما أعداؤه فينبغي قتالهم والقضاء عليهم، ولم تستطع السفارة الحصول من الخاقان إلا على وعد بتلقي مساعدة كبيرة إذ ما قدم أمراؤهم الولاء لسيد العالم، الأمر الذي لا يقبل لويس التاسع التفاوض عليه. وقد رحب لويس التاسع بهذا العرض، وقد تم الاتفاق بين الطرفين لتوحيد جهودهم ضد الإسلام إلا أن الله تعالى هيأ الأسباب ما أفشل هذا المخطط حيث هزم لويس التاسع في حملته على مصر وتم أسره.إن كان البابا في ذلك الوقت قد طمع من محاولته التحالف مع المغول أن يدخلهم في الكاثوليكية، وعندما فشل في ذلك اكتفى منهم بالتعاون من أجل هزيمة المسلمين وتدمير الإسلام، فنفس الشيء يعيده هذا العصر مع اليهود! وكذلك النصارى الصهاينة البروتستانت الذين تحولوا خدما لليهود، على أمل أن يعيد ذلك المسيح الذي سيُدخل اليهود في النصرانية، هذه التحالفات جميعها القاسم المشترك فيها على شدة العداء بين أتباعها هو: العداء للإسلام. هزيمة المغوللقد كان المغول يتقدمون بسرعة مذهلة ويسحقون كل قوة تقف في وجههم، وما إن احتلت جيوشهم بلاد الشام ودمرتها وخربتها حتى أرسلوا رسلهم إلى مصر بخطاب تهديد ووعيد يطلب فيه هولاكو من الملك قطز الاستسلام ويقول له: "يعلم الملك قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته الديار المصرية وما حولها من أعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلطنا على من حل به غضبه... فاتعظوا بغيركم... فنحن لا نرحم من بكى ولا نرق لمن شكا... وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاءكم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون).وكان السلطان قطز رجلاً مسلماً صالحاً تقياً حريصاً على مصالح المسلمين، يقول عنه ابن كثير: "... وكان السلطان قطز رجلاً صالحاً كثير الصلاة في الجماعة، ولا يتعاطى المسكر، ولا شيئاً مما يتعاطاه الملوك، وكانت سيرته حسنة بين جنوده، ما دعاهم لعمل إلا بدأ به بنفسه، فهو بعد أن حرك الطبول للحرب قال: (أنا أقابل المغول بنفسي). وكان مخلصاً في دعوته إلى وحدة المسلمين، وحتى أن نزل عن سلطانه وعمل تحت إمرة غيره فقد أرسل إلى الملك الناصر سلطان دمشق وحلب وتوابعها أنه نائب له على مصر، وأنه على استعاد أن يسير له الجيش بصحبة من يختاره "وإن اخترتني خدمتك، وإن اخترت قدمت ومن معي من العسكر تجده لك على القادم عليك، فإن كنت لا تأمن حضوري سيرت لك العساكر صحبة من تختاره.وعندما وصلته رسالة هولاكو فإنه لم يجبن أمام ذلك التهديد والوعيد، فقتل رسل المغول وعلق رؤوسهم على باب زويلة... ولما وجد قطز أن بعض الأمراء مترددين في الخروج لحرب المغول صاح فيهم: "يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال وأنتم الغزاة كارهون؟ أنا متوجه فمن اختار الجهاد يتبعني ومن لم يختر يرجع إلى بيته فإن الله مطلع عليه وخطيئة حريم المسلمين في ركاب المتأخرين!".وبدأ هذا الرجل الصالح إعداد العدة لملاقاة المغول، وقد تم ذلك في معركة عين جالوت عام 658هـ- 1260م، التي أظهر فيها من التقوى والورع ما جعله بحق جديراً ومن معه من المسلمين بنصر الله لهم على هؤلاء الهمج الذين عاثوا في الأرض فساداً، فقبل القتال "...أمر بالأمراء فجمعوا، وحضهم على قتال المغول وذكرهم بالجرائم التي ارتكبها المغول في البلاد الإسلامية التي احتلوها من قتل وسبي وحرق وتخريب، وخوفهم وقوع مثل ذلك في بقية البلاد الإسلامية، وأن أولادهم ونساءهم وهم أنفسهم عرضة للقتل والسبي، وحثهم على استنقاذ الشام من المغول نصرة للإسلام والمسلمين وحذرهم غضب الله وعقوبته فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الجهاد في قتال المغول ودفعهم ودفاعهم عن البلاد". وعندما رأى عصائب التتار قال للأمراء الذين معه وكان اليوم يوم الجمعة والشهر شهر رمضان: "لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس، وتفئ الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم". هذا هو الإيمان الحق الذي يدرك أهمية الدعاء في جلب التأييد والنصر الإلهي.وبفضل شجاعة السلطان قطز الذي عندما رأى تفوق المغول في أول المعركة نزل عن جواده "وألقى خوذته عن رأسه إلى الأرض وصاح (وإسلاماه) وحمل على المغول حملة صادقة زعزعهم بها فأيده الله بنصره.." وعندما أعاد المغول تجميع قواتهم التقوا المسلمين ثانية قرب بيسان .. وكان قد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً، صرخ السلطان قطز فيهم صرخة عظيمة سمعها معظم المعسكر وهو يقول: (وا إسلاماه) ثلاث مرات يا الله انصر عبدك قطز على التتار فلما انكسر المغول الكسرة الثانية نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه بالأرض وقبلها صلى ركعتين شكر لله تعالى، ثم ركب فأقبل الجنود وامتلأت أيديهم بالغنائم". هكذا تكون فلسطين والأرض المباركة قد شهدت هزيمة للمغول كما شهدت هزيمة الصليبيين من قبل على يد صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين.وترجع أهمية معركة عين جالوت إلى أنها نقطة تحول في تاريخ حروب المغول والمشرق الإسلامي "إذ أن التتار لم يهزموا من قبل كما هزموا في عين جالوت، وعلى الرغم من إغاراتهم الكثيرة على بلاد الشام فيما بعد، فإن الهزائم لحقت بهم وصاروا يلتمسون الصلح وتحسن العلاقات بيتهم وبين المماليك، وعجلت هذه الواقعة بزوال الإمارات الصليبية في الشام، كما دفعت التتار الذين حلوا بغرب آسيا إلى اعتناق الدين الإسلامي، فتحول بركان خان ملك القبيلة الذهبية إلى الإسلام وأعلن عداءه للأبلخانات في إيران وتوطدت الصداقة بينه وبين بيبرس".