كوميكون جدة، دهاقنة الفساد، ومستقبل أجيالنا

سأبدأ مباشرة من قعر الموضوع بدلا من سطحه، وسأملي خواطري على شكل حزم متتابعة من العبارات القصيرة الصلبة. علينا أن ندرك أن ما تفعله هيئة الترفيه ليس أمرًا تستقل به من عند نفسها، لا تنظيمًا ولا فكرةً ولا دعمًا ماليًا. إنه أمرٌ قضي بليل. من الأطراف؟ كيف هذا ؟ ما التفاصيل خلف المشهد؟ كل هذا لا يهمني. الأهم هو أنه لا يمكن لفعالية بهذ الزخم والتنظيم وما يسبقها ويرافقها من إعلان وترويج وتدبيج أن تتم - فضلاً عن أن تنجح - بلا إقرار من ذوي السلطة وأصحاب القرار. وفي ظل الحملة الغربية الشاملة على ما يسمى "الإرهاب"، تنطلق الغارات المصممة لتدمير الأهداف العقدية والقيمية من خلال "حروب بالوكالة". إن المجتمع السعودي أمام مواجهة شرسة وتحديات ضخمة، هذا على التنزُّل بأن شرائح واسعة من المجتمع لم تصل بعد إلى عتبة الحيرة ومفترقات الطرق. ما الذي يحدث؟ هذا سؤال مستهلك، والإجابة عنه معروفة. الأهم هو سؤال ما الذي ينبغي فعله؟ والخطاب هنا موجه مباشرة للفئة الأهم في هذه المعركة المصيرية ليس ضد منكرات هيئة الترفيه حصرًا وإنما ضد الفكرة الخبيثة التي أحضرت أمثالها وأحاطتها بالحماية.

بدايةً؛ من المهم أن ندرك جيدًا أن السياسة القسرية الاستفزازية التي انتهجتها هيئة الترفيه – وستنتهجها هيئات ومؤسسات وتنظيمات أخرى في المستقبل القريب – في إقامة مثل هذه الفعالية (فعالية كوميكون جدة) هي سياسة تريد أن "تدق إسفينًا" عميقًا بين فئة المجتمع المحافظ - وهي الأغلب - وجيل الشباب، خاصة تلك الفئة الملتهبة من الشباب المتعطش للحرية تحت نير الاستبداد، وفي ظروف اقتصادية خانقة. ومن المعلوم عند من له أدنى بصيرة بالفقه السياسي أن الحرية المقصودة هنا ليست الحرية المناكفة للاستبداد وإنما الحرية الممكّنة له، وهي حرية الانفلات في فضاء الشهوات والملهيات.

علينا أن ندرك جيدًا أن النتيجة المرجوة من دق هذا الإسفين هي خلق حالة احتراب فعلية بين فئة الشباب والمجتمع المحافظ، والثمرة المرة هي ترسيخ "كراهية مزدوجة" أو "كراهية في اتجاهين". كراهية المجتمع المحافظ لهذا الجيل الصاعد المتشكل تحت هذه الظروف، وكراهية هذا الجيل للمجتمع المحافظ. إن العاقبة "السوسيولوجية" المرتقبة من هذه العملية هي تعميق "العزل" isolation بين عالمين، حتى يصبح كل منهما كيانين اجتماعيين بهويتين متباينتين تباينًا جذريًا. هذا بالضبط ما يخطط له دهاقنة التغريب في هذه البلاد بافتعال هذا النمط من الفعاليات وفرضه على إرادة المجتمع فرضًا. لم نأت بعد للمشكلة الحقيقية الغائبة عن وعي كثير من الناس في هذه البلاد، ألا وهي مشكلة انخراط الفئة المحافظة في إنجاح هذه الخطة من خلال "الاصطفاف" و"المفاصلة": تكثيف الاصطفاف مع الفئات المحافظة في المجتمع السعودي، من خلال رموزها الفكرية وقادتها المؤثرين ومتحدثيها الرسميين إن جاز التعبير، بما يؤول إلى مفاصلة الفئة الأخرى وبالتالي "عزلها" اجتماعيًا وقيميًا وعقديًا. إن تكثيف هذه الكراهية المتبادلة، وما ينتهي إليه من عزل، يحقق أغراضًا كثيرة ليس أقلها اشغال الرأي العام بعضه ببعض لأطول مدة ممكنة وصرف وعيه عن الهموم الجديّة، ولكن من أخطرها في هذا التحدي هو تطبيع "الصيغة الجدلية" شيئًا فشيئًا لتحل محل "صيغة الممانعة"؛ وهذا في نظري من أهم ما يسعى إليه رموز الفساد والإفساد في هذه الحرب القذرة بالوكالة.

إن المطلوب الآن هو إفساد هذا المشروع من أصله ووأده في مهده. إن أكثر ما يخشاه وكلاء الإفساد في هذه البلاد هو أن يتمكن المجتمع من وضع يده على جذر المشكلة – أو سر الطبخة – في هذا المشروع. علينا أن نعي أن أجيالنا ليسوا الهدف النهائي لهذه الحرب، وإنما الإسلام، والشباب والفتيات ليسوا أكثر من حطب لهذه النار المستعرة، فليذهبوا – في نظر ألمافيا الفساد – إلى الجحيم. سأقترح في نقاط عددًا من المبادرات المهمة لاستئصال هذا المشروع من أصله:

  • يجب أن نتوقف عن اللغة التي يريدها المُفسد منا، وهي لغة العزل والكراهية لضحايا الفساد والإفساد. هناك فرق بين لغة النار والحديد لقادة الفساد وعقوله المدبرة وبين لغة الكراهية والعزل لضحاياه الذين هم في النهاية أبناؤنا وبناتنا.


  • قطعًا لا يريد المفسدون للغة الرحمة والصدق أن تسود في العلاقة بين عموم المجتمع وأجياله الناشئة. نعم قد تحملنا الغيرة أحيانًا على الانجراف وراء حظ النفس في الاحتفاظ بهوية المجتمع فنستعمل لغة قاسية مع هذه الفئة المخدوعة، وهي مخدوعة بالفعل ولو زعمت غير ذلك لأن تحولات الواقع الاجتماعي وتبدلات التاريخ لا يمكن استيعابها بسهولة، ولا بد من الخروج من الصندوق لرؤية المشهد كاملا ويعرف كل فرد موقعه على رقعة الشطرنج. ما يريده المفسدون هو سيادة لغة العنف، فهي الكفيلة في حسبانهم بإظهار عموم المجتمع في صورة العدو الذي جمع بين التخلف والانفعال. علينا أن نحسم مادة هذه الخطة وألا ننجر وراءها. سوف نحتوي شبابنا وفتياتنا وسوف نمد إليهم أيدينا وسوف نفتح لهم قلوبنا قبل بيوتنا، وأي سير في الاتجاه المعاكس سيخدم تدبير الطرف الآخر.


  • كل أسرة واعية الآن تملك – بعد الله – صغارها وأجيالها، كل معلم ومعلمة، كل مصلح ومصلحة، كل قائد تربوي وقائدة تربوية، كل ولي أمر، كل هؤلاء أمامهم فرصة ثمينة ومهيًعا واسعًا لصناعة جيل أقوى من هؤلاء المجرمون الفَسَدة. ازرعوا فيهم حب الإيمان، وكره المنكرات، والنفرة من التفسخ الأخلاقي، والألفة مع القرآن والحديث والرسول والصحابة والمسجد وتاريخ الأمة الناصع الرائع. علّموهم أولويات الحياة، اغرسوا فيهم الجد والعلم والصدق والأمانة والعفاف، بغّضوا إليهم الفجور والنفاق والكذب. إن هذه الانحرافات الشاذة الطارئة على مجتمعنا لن تزيدنا إلا صلابة في مواقفنا، ولن تفُت في عضدنا، إلا إذا استسملنا واخترنا ألَّا نكون بدلاً من أن نكون.


  • سنعمل بكل ما أوتينا من قوة وحكمة للحيولة دون الانزلاق في حالة الاستقطاب والتشظي هذه لأن نهايتها معروفة. إن فراعنة الفساد والإفساد يريدون استهلاك طاقاتنا وتركيزنا في دوامة الضجيج والصراخ والقلق والانفعال الموتور عبر المنتديات، والندوات، والمجالس العامة، ووسائل التواصل الاجتماعي، وهاشتاقات تويتر الساخنة. كل هذا يصب في خلق حالة الشقاق المذكورة سابقًا، فيضيع الجميع في دهاليزها المنهكة، ريثما يتشكل وعي جديد بإسلام جديد، لا يجمعه مع الإسلام الذي قامت عليه هذه البلاد إلا الاسم فقط.


  • لسنا ضد الترفيه، بل نحن أول المطالبين به، خاصة مع نمط الحياة الرتيب المقفر الذي عمَّت به البلوى في الأزمنة المتأخرة من حياة البشر. ولكن العقلاء والعقلاء فقط يعلمون عن أي ترفيه يتحدث عنه العقلاء في هذه البلاد. ليست مشكلتنا مع مهرجان أو فعالية هنا أو هناك. مشكلتنا مع الخسة في استغلال أجيالنا باسم الترفيه، ومع هذه الدناءة في العبث بسُلّم أولوياتهم في الحياة باسم الترفيه، ومع تهميش الحقوق المعنوية والأخلاقية للأغلبية الكاسحة في هذه البلاد باسم الترفيه أو غير الترفيه.


  • إني لأربأ برؤية 2030 م، أن تسلك أولى خطواتها باتجاه المستقبل عبر هذا الطريق المشين، إن كان هذا النوع من البرامج منبثقٌ منها ومعبّر عنها، والذي لا يصادم حياة الناس في أغلى ما يملكون فحسب، وإنما يُفرّغ الرؤية في عامل النجاح الأول من مضمونها. جاء في افتتاحية ولي ولي العهد ما نصه: "ففيه (أي هذا الوطن) الحرمان الشريفان، أطهر بقاع الأرض، وقبلة أكثر من مليار مسلم، وهذا هو عمقنا العربي والإسلامي وهو عامل نجاحنا الأول".


اللهم تقبل وانفع ويسّر وأعن ..


كتبه

عبدالله بن سعيد الشهري

alshehri101@

الخميس 26 ، جمادى الأولى ، 1438هـ