(9) توبة
قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
...................................
(1)
فجأة .. وجد نفسه محاصرًا .. دار على عقبيه .. حاول الهرب ، وجد الحصار يلتف حوله. أطال الدوران حول نفسه ، عله يجد ثغرة ينفذ منها ، كان السور عاليا وسميكا .. حاول أن يثقب هذا الجدار .
قال له أبوه :
- يا ولدي .. الاستقامة خير .
تمرد الولد .. شباب .. استهوته الدنيا ، مدت له خيطا حريريا ناعما تعلق به ، وراح يحلم .. اللقاء الأول لم يطل ، لكنه فتح الباب للرغبات .. الحياء .. كان القاسم المشترك في اللقاء الثاني .. في اللقاء الثالث .. عيون البشر المتطلعة .. حالت بين الأمل والواقع .. تواعدا .. انصرفا، دارت به زوارق الأحلام .. أغرقته الحسناء في بحر الأماني ، قوامها الملتف ، صدرها المكتنز ، شفتاها القرمزيتان ، خصلة الشعر الساقطة من أعلى الجبهة ، إلى ما بين الحاجبين ، تسكن تارة ، وتتراقص تارات ، مع هبات النسيم ، وعيناها .. وما تقوله عيناها ، مما لا يستطيع ترجمته إلى كلمات ، أبرزت له أحلام اليقظة كل ما خفي .. بدت له .. وكأنها )فينوس ( رمز الجمال .. لهفته عليها ، أفقدته البصر حتى يحين موعد اللقاء .. خرج مبكرًا .. راح يتلكأ هنا وهناك على غير هدى . كان يسير .. فجأة .. ودون مقدمات .. وجد نفسه داخل أحد المنتديات .. جال ببصره ..في إحدى الزوايا ، لمح زميل دراسته ، يناديه .. يقف .. ولا يتقدم الطاولة .. تمتد بين الزميل وإحدى الفتيات .. ظهرها إليه .. لا يراها .. الزميل يناديه .. يستشعر الحرج ، يهم بالرجوع .. الزميل يقسم عليه ، يتقدم ، بطيئا .. يتقدم .. تسمح المسافة المتبقية بتحديد ملامح الفتاة ، يساوره الشك في أن تكون هي فتاته .. لكنها .. في عفوية .. تطلق ضحكة تخترق أذنيه ، وتستدير .. دون أن تدري .. فإذا بعينيها تجتاحانه .. فيولي مرتجفا .. دون أن يفكر في لقاء .. ترقبه طويلاً .. لم يبق عليه سوى دقائق معدودات .. ويتحول إلى واقع جميل..
(2)
الحصار ما يزال يمتد .. حاول من جديد .. لم ينجح .
قال له أبوه :
- يا ولدي .. الاستقامة خير .
شباب .. استهوته الرفقة .. في البداية .. صوروا له أن الحياة مغامرات .. انطلاق .. استمتاع ..
مجموعة من الشباب في أعمار متقاربة .. فيهم جرأة .. وفيهم اندفاع .. ينفقون ببذخ ، ويتصرفون بطيش ، ولا يفرقون بين حلال أو حرام ، روح التمرد فيه ربطته بهم ، دار في فلكهم ، لكنه .. وهم يبحرون .. كان يقف على الشاطئ .. يتأمل ، ويناقش ، ويسأل نفسه :
"أهذه هي الحياة ؟!"..
لم يكن يعرف أن للحياة وجهًا آخر .. وأن للإنفاق طريقا غير هذا الطريق .. شيئا فشيئا .. اندمج معهم .. أغروه .. اندفع .. كاشفوه .. روح التمرد فيه .. حببت إليه الموافقة .. الليلة .. تتم صفقة العمر .. هكذا قالوا له .. عليه أن يتواجد في الزمان والمكان المحددين ، دوره فقط .. مراقبة الطريق .. رغم الموافقة .. وقف على الشاطئ .. بعيدًا .. يتأمل .. يناقش يسأل نفسه :
"الوقت متأخر .. ما تعودت الخروج في مثله من البيت أبدا" ..
همّ بالتراجع .. تمردت نفسه .. ما عساهم يقولون عني .. طفل .. جبان .. لا .. لا .. امتدت خطواته .. قبل أن يعبر الباب خارجا ، صرخت أمه ثم صرخت .. عاد متلهفًا .. إلى جوار أبيه وقف .. الأم تتلوى .. حملاها إلى الطبيب .. ساعة أو تزيد .. ما لبثت أن عادت .. سكن الألم .. هدأ البيت .. استل نفسه وخرج .. إلى موعد الرفاق هرول .. لكنه فجأة .. قبل أن يصل إليهم .. يجتاحه ذهول مرير .. فقد كانت الشرطة تقتادهم إلى المخفر ، بعد أن نجح الكمين في اصطيادهم .
(3)
الحصار يأخذ منحى آخر .. حاول اختراقه .. تفحص جيدا مواقع أقدامه .. على الأرض .. من حوله .. الحصار يضيق .. يحاول في استماتة .
قال له أبوه :
- يا ولدي .. الاستقامة خير .
تمرد الولد .. شباب .. استمرأ التمرد .. على الطريق الملتوي .. التقى به .. في قمة الرجولة .. يرتدي أفخر الثياب .. تحدثا .. استضافة على الغداء .. السمكة الصغيرة التهمت الطعم .. بهرته شخصيته .. مروءته .. رقة تعامله .. حكى له عن رحلاته الكثيرة .. ومعارفه في البلاد التي يزورها .. تعلق به .. حب المغامرة في دمه .. قربه إليه .. وضعه الرجل الأنيق تحت الاختبار .. دون أن يدري .. توالت اللقاءات .. بعدها .. وتكررت الاستضافات .. لم يطلب منه شيئا .. ثم أيام معدودات وعلى حين غرة منه .. يخبره أنه على وشك السفر .. طلب أن يرافقه ، مانع الرجل .. تشبث هو .. بعد أن علم أن السفرية قصيرة .. يعودان منها آخر النهار . في الموعد التقيا .. سارا معا .. ليستقلا عربة من موقف السيارات .. امتد السير قليلا .. امتدت يده إلى الرجل ليحمل عنه الحقيبة .. امتنع الرجل في البداية .. ألح هو .. استجاب الرجل .. امتد السير قليلا .. أراد أن يقضي حاجته .. في أول دورة مياه قابلتهما .. همّ بالدخول .. بلهفة ينتزع الرجل منه الحقيبة .. مشيرًا إلى أنه سوف ينتظره على هذه الناصية .. ريثما يعود .. لكنه في العودة .. وفجأة يبصر عددا من رجال الأمن .. يطبقون على الرجل ليكتشف هو .. أن هذا الأنيق لم يكن إلاّ مهربا .
(4)
ضاقت روحه بهذا الحصار .. كلما اجتاز حلقة .. أسلمته إلى حلقه جديدة .. سئم اللعبة ، عافت نفسه ما هو فيه .. تلفت يمينا .. ويسارا .. الحصار يضيق .. ينظر إلى أعلى .. يطيل النظر .. يتجول في الملكوت الرائع .. كأنما يكتشف السماء لأول مرة .. شعاع القمر ينسكب على جوارحه .. طمأنينة وأمنا .. يتأمل .. ويطيل التأمل .. تشف روحه .. ويصفو وجدانه .. يخيل إليه أنه يسبح في بحيرة من النقاء .. وأن الأوزار تتساقط من على قلبه .. كتلا .. وأنه مازال يمتلك بصيرة .. تقوده إلى طريق الخلاص .. يستكين .. يتوقف .. يهتف من أعماقه .. يهتف ضارعا .. ويداه ترتفعان إلى السماء .. يارب .. يا ستار .. توبة .
........................................
* كتبت عام 1992م.
* نشرت بمجلة "الخيرية" الكويتية العدد 25 ـ ذو الحجة 1412هـ.