يقول الشيخ علي طنطاوي : إن كل أب يحب أولاده ، ولكن ما رأيت ، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي ،. ما صدقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة الآن يقصد عام 1404 هـ ، وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت ، إنني أغفل أحيانا فأظن إن رن جرس الهاتف ، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها ، تكلمني مستعجلة ، ترصف ألفاظها رصفاً ، مستعجلة دائما كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها ، وأن هذا المجرم ، هذا النذل .... هذا .......يا أسفي ، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله ، ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام ، إن في اللغة العربية كلمات النذالة والخسة والدناءة ، وأمثالها ، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدد الجارة بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها ، ثم اقتحم عليها ، على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان ، والجبان إذا ضرب أوجع ، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها ، ما هربت حتى تقع في ظهرها كأن فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون ، ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ..........ولكن على أقدامنا نقطر الدما ثم داس الـ .... لا أدري والله بم أصفه ، أن قلت المجرم فمن المجرمين من فيه بقية من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه النجستين على التي قتلها ظلما ليتوثق من موتها ، ولكنه فعل ذلك كما أوصاه من بعث به لاغتيالها.
دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته ، قطع الله يديه ورجليه ، لا ، بل أدعه وأدع من بعث به لله....لعذابه ... لانتقامه.. ولعذاب الآخرة أشد من كل عذاب يخطر على قلوب البشر... لقد كلمتها قبل الحادث بساعة واحدة ، قلت :أين عصام ؟ يقصد عصام العطار زوجها – قالت : خبروه بأن المجرمين يريدون اغتياله وأبعدوه عن البيت ، قلت وكيف تبقين وحدكِ ؟ قالت : بابا لا تشغل بالك بي أنا بخير ، ثق والله يا بابا أنني بخير ، إن الباب لا يفتح إلا إن فتحته أنا ، ولا أفتح إلا إن عرفت من الطارق وسمعت صوته ، إن هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة ، والمسلِّم هو الله . ما خطر على بالها أن هذا الوحش ، هذا الشيطان سيهدد جارتها بمسدسه حتى نكلمها هي ، فتطمئن ، فتفتح لها الباب . ومرت الساعة... فقرع جرس الهاتف.. وسمعت من يقول كلم وزارة الخارجية ...قلت نعم. فكلمت رجل أحسست أنه يتلعثم ويتردد ، كأنه كلف بما تعجز عن الإدلاء به بلغاء الرجال ، بأن يخبرني..... كيف يخبرني؟؟؟ ثم قال : ما عندك أحد أكلمه ؟ وكان عندي أخي ؟ فكلمه ، وسمع ما يقول ورأيته قد ارتاع مما سمع ، وحار ماذا يقول لي ، وأحسست أن المكالمة من ألمانيا ، فسألته : هل أصاب عصاماً شيء ؟؟ قال :لا ، ولكن .... قلت ولكن ماذا ؟؟ قال : بنان ، قلت : مالها ؟؟ قال ، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء.... وفهمت وأحسستُ كأن سكيناً قد غرس في قلبي ، ولكني تجلدتُ وقلت هادئاً هدوءاً ظاهريا ً، والنار تضطرم في صدري: حدثني بالتفصيل بكل ما سمعت.فحدثني ، وثقوا أني مهما أوتيت من طلاقة اللسان ، ومن نفاذ البيان ، أن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعت.... كنت أحسبني جلداً صبوراً ، أثبت للأحداث وأواجه المصائب ، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات......)الذكريات الجزء السادس صفحة ١٢٢.