فن المراوغة والمشي على الرؤوس آخر تحديث:الجمعة ,12/11/2010
ماهر سقا أميني
يتظاهر محمد عابد الجابري بتقدير النص الشرعي (القرآن الكريم بصفة خاصة) ثم يعتبر ما يراه عقله الحداثي (مصالح) هو الأصل حيث يجب أن تؤول الآيات لتخدم هذه المصالح حتى ولو اضطره ذلك إلى القول بعكس ما تتجه إليه الآيات، وبالتالي فنحن أمام محاولة إنطاق النص ما لم يقله، وفي هذا تزوير خطير قد لا يقل عن الطعن المباشر في الشريعة، إذ يكفي فيه استحسان ما لم يستحسنه الشرع، أو تقبيح مالم يقبحه الشرع .
وكمثال على هذا التزوير نذكر موقفه من قضية الإرث ونصيب المرأة الذي يعادل نصف نصيب الرجل في حالات يكون فيها على الأغلب الذكر مكلفاً بأعباء الإنفاق على إناث نلن نصف حصته من الإرث دون أن يكلفن بالإنفاق حتى على أنفسهن، إلا أن الجابري له رأي آخر مع أن النصوص هنا واضحة وقطعية ونهائية ولا تحتمل التأويل وهي متسقة مع التصور الإسلامي الشامل لدور كل من الذكر والأنثى، ولكن ما العمل إن كان هذا التصور بالكامل لا يعجب الجابري ولا يراه محققاً للمصلحة؟!
يقول: (لنأخذ مثلاً نصيب البنت في الإرث في الإسلام، وهو الثلث كما يتبين من قوله تعالى “للذكر مثل حظ الأنثيين” كيف نقرأ هذا الحكم قراءة تجعله معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في الوقت نفسه؟ القرآن لا يبين الاعتبارات التي تبرر هذا التمييز، إذن لا بد من إعمال العقل بالرجوع إلى المقاصد وأسباب النزول ومعهود العرب، فالواقع أن المجتمع العربي في الجاهلية وزمن النبوة كان مجتمعاً قبلياً رعوياً، والعلاقة بين القبائل الرعوية هي علاقة نزاع حول المراعي، والزواج في هذا المجتمع إذا تم بتزويج البنت لشخص من غير قبيلتها كان يثير مشكلات تتعلق بالإرث في حال وفاة أبيها ذلك أن نصيبها سيؤول إلى قبيلة زوجها على حساب قبيلة أبيها، ما قد يتسبب في منازعات وحروب، ومن أجل تلافي مثل هذه النزاعات عمدت بعض القبائل إلى عدم توريث البنت بالمرة، بينما منحتها قبائل أخرى الثلث أو أقل، واذا أضفنا إلى ذلك محدودية المال المتداول في المجتمع القبلي سهل علينا إدراك كيف أن توريث البنت قد يؤدي إلى الاخلال في التوازن الاقتصادي بين القبائل خصوصاً مع تعدد الزوجات، وكان معمولاً به بكثرة .
“ولا شك - والكلام لا يزال للجابري - أن الاسلام قد راعى هذه الوضعية ونظر إلى وجه المصلحة، وهو تجنب النزاع والفتنة، فقرر نوعاً من الحل الوسط يناسب المرحلة الجديدة التي دشنها قيام الدولة المحمدية في المدينة -والتعبير للجابري - أما اليوم وقد قل تعدد الزوجات وصارت علاقات المصاهرة تبتعد أكثر فأكثر وأصبحت المرأة تشتغل وتكسب مالا وتسهم في النفقة على البيت والأولاد، وبالتالي خف المانع الذي كان يبرر عدم إعمال القاعدة الكلية، أعني المساواة بين المرأة والرجل، فإن الجزئي في هذه الحالة، لا أقول يجب أن يعطل، بل أقول يجب أن ينظر إليه كاستثناء يعمل به في أحوال ويعلق في أحوال، لأن مجتمعاتنا تجتاز في الوقت الراهن مرحلة يتعايش فيها الجديد مع القديم، وضعية المدينة مع وضعية البادية والأرياف” انتهى كلام الجابري .
ما الذي يختلف فيه هذا التحليل عن التفسير المادي الجدلي الذي يجعل الفكر و(الدين) كتجل من تجليات هذا الفكر تبعاً للتطور الاقتصادي الاجتماعي للمجتمعات؟ ثم هل القرآن الكريم وحي من السماء خاتم للرسالات وأحكامه نهائية تُصِلح بضم التاء وكسر اللام كل زمان ومكان، أم أنه انجاز عبقري بشري لمرحلة من التطور الاجتماعي الاقتصادي للمجتمعات؟ إن كلام الجابري يجعل القرآن الكريم معاصراً لوقت نزوله ولكنه لا يمكن أن يكون معاصراً للمرحلة الانتقالية التي نحن فيها - حسب تعبيره - ولا للمراحل القادمة حيث سيلغى الحكم نهائياً عندما تنعدم مبرراته كما يقرر الجابري .
إن الحكم الشرعي المقرر في آية لا تحتمل التأويل تحول في عرف الجابري إلى (استثناء) أملته وتمليه الظروف في حين أن القاعدة المثلى هي عكس ما تقرره الآيات تماماً، وهذا يتطلب منا أن نقر المشي على الرؤوس بدلاً من الأقدام وأن نجعل قيم الحداثة الغربية هي الأساس الذي نأول على أساسه كلام الحق سبحانه وتعالى.