منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1
    قاص ومترجم
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,153

    ناصية فوق الرمال

    ناصية فوق الرمال



    كان لقاؤهما في نفس الخندق أول مرة شكليا وباردا، بل اعتراه قدر من التوجس والحذر... تبادلا عبارات التعارف المعتادة في الطقوس العسكرية، بين جندي بسيط وآخر أعلى منه رتبة.
    خلال الأيام الأولى بدا له الرجل قاسي النظرات، فاقدا للأحاسيس، مهتما بإنجاز مهامه بشكل احترافي دقيق، مندمجا في مناخ الحرب التي عاشها طيلة أكثر من عشرين سنة.
    لم يكن يحدثه إلا عما تقتضيه المواقف من انتباه، وعن كيفية العناية بالسلاح ووقايته من أثر الرمال الصحراوية، وأساليب تجنب لسعات العقارب ... الأشواك مفيدة أيضا أثناء الحراسة الليلية، ضعها بجانبي وجهك، فهي كفيلة بإيقاظك متى غفوت وأغمضت عينيك ... تجنب إشعال النار أو السيجارة ليلا، فرصاصة العدو غادرة مثل لذغة الأفعى ... تسلح بإيمانك وحافظ على حياتك قدر ما تستطيع، فمن نحاربهم خونة باعوا ذمتهم لأعداء الوطن، ولذلك فهجوماتهم غادرة، ولا تدري متى يلعلع رصاصهم ويصيبك في مقتل ...
    على هذا النحو سارت الأيام الأولى على إيقاع الأوامر والتوجيهات، حتى ظن أن الرجل فاقد لكل المشاعر الإنسانية ... لكن ظنه خاب حين فوجئ به في أحد الليالي الهادئة هدوءا مقلقا... رآه عابسا غائب النظرات وقد أخذ منه الكرب والأسى مأخذه ، صامتا صمتا طويلا لا تقطعه إلا تأوهات تنبجس حرى بالوجع، .. فانطلق يغني وينشد تلك المواويل الأمازيغية الملئى بالسحر والشجن، المتدفقة كشلال يخترق جبال الأطلس الشامخة، لا تقطعها إلا حشرجات حنجرة تقاوم دفقة شعور هادر منبعث من الأعماق.
    كان يتساءل في العديد من الأوقات: كيف يفكر هذا الرجل في الغناء والموت أقرب إليه من حبل الوريد؟ وكيف يلتقي جمال هذه الألحان التي تقشعر لها الأبدان، مع خشونة هذا الفضاء الصحراوي وفراغ مسافاته الممتدة على مرمى العين؟
    لعله الألم الذي يسكن القلب! وحين يلتهم أعماق الإنسان، تراه صامتا ... لكن نظرة فاحصة في عمق العينين تكشف ما يسعى إلى إخفائه وراء الصمت والهدوء.
    بدوره خبر لغة هذا الهدوء القاتل، لغة الصمت الذي يسود الصحراء والناس، تعلم أنه لغة المجهول، ومتى طال صار الصمت مرعبا ومخيفا! !
    قال له ذات مرة يحدثه عن زوجته:
    -أتدري أنني وهي بعيدة، أسمع الرمل يغني، يحكي حنانها ويبكي فراقنا ...
    يغمرني شعور بالعجز، فلا تعود لي إرادتي وعزمي وقوتي إلا حين
    أتذكر ما قالته لي في آخر لقاء:
    هذه ناصيتي
    أنظرها
    وخذها
    عربونا لو ضبطك الحب عبر المسار
    بادلها
    بحياتك المليئة بالأخطار
    حزينة أنا
    سأكون لو رأيت أبويك
    يقيمون لك مأتما
    وهذا المكان يعمق غربتي ووحدتي، وقلبي دام من لوعة الفراق، يئن من وطأة الحزن، .. وإذا كان جسدي يقشعر لسماع صوت القنابل والمدافع، فليس ذلك خوفا من الموت، ولكن حبا في الحياة ... أريد أن أحيى من أجلها لأنها هناك بالانتظار.
    ها أنت ترى أنني خائف مثلك، وقد جعلت من الشعور بالخوف فرصة لمقاومة الموت واقتناص لحظة أخرى للحياة، وكأن الحب الذي جمعنا حكم علينا بالتنائي منذ البداية، تصور أننا لم نعش كزوجين أكثر من شهر واحد.
    كان كل منا يغزل أحلامه بصمت دون أن يعلم الآخر، حتى جمعنا القدر يوما ما في أحد الأعراس في رقصة "أحيدوس" كنت منتشيا بغناء الصبايا الشجي ورقصهن الخلاب على نقرات الدفوف الساحرة والإيقاعات المليئة بالأسرار.
    أحسست بدفء ونعومة كفها لما بدأنا الرقص في حركة منسابة ومتناغمة مع إيقاعات "تالونت". وكأنما حين تشابكت أصابع يدينا عقدنا رباطا مقدسا لم تنفصم عراه إلى هذه اللحظة.
    لها أغني في وحدتي بكل جوارحي، وصورتها هي ما ملأ فضاء أوقاتي في هذا الخلاء الموحش إلا من هدير الرياح وأزيز الرصاص.
    وككل مرة كان يستمع لحديث صديقه بصمت، وعيناه تتابعان ألسنة سيجارته المتراقصة ذات اليمين وذات الشمال.
    يمتنع عن الكلام والحركة، ويغمض عينيه ليتيه معه في عالم الذكرى والهيام، ألف أغانيه وعشقها، ولفرط افتتانه بها كان يصمت ليمتلئ بها أكثر، ويغيب الذهن ليجد نفسه في الكثير من الحالات قد استسلم لنوم عميق ولما يستيقظ يجد نفسه وحيدا في الخندق.
    لم يكن يزعجه حين ينام، وكثيرا ما تكلف بأداء مهمة الحراسة بدلا عنه في تلك الحال ...
    ولما يستيقظ يخرج بحثا عنه في الأماكن القريبة أو بأحد الخنادق...
    على هذا الإيقاع مرت الأيام والسنوات، حتى استيقظ يوما على دوي انفجار قريب جدا، جال بعينيه مفزوعا، الفضاء معتم بفعل الأدخنة والتراب، حرك كفيه في الهواء محاولا إيجاد منفذ للرؤية….
    نادى باسم صديقه بقوة ولم يسمع إلا أصوات جلبة وضوضاء في الخنادق المجاورة.
    وفي لحظة ما تحسس أرضية الخندق وهو يمشي على أربع بحثا عن الباب المؤدي إلى الخارج، لمست يده جثة دامية لا تبدي حراكا ... كان ذهنه مشتتا، ولم يستطع بعد إدراك ما يحدث، ضربات قلبه متسارعة، وأنفاسه متقطعة ... ومن حيث لا يدري صدرت عنه صيحة ملئى بالحرقة والوجع و هو ينادي صديقه ... فأجهش بالبكاء وأخفى وجهه بين كفيه عساه يخفف عن نفسه وقع الحدث ...
    بعد برهة شعر بكف تشد كتفه وبصوت صديقه قائلا:
    - أنا هنا يا صديقي، ما زلت حيا أرزق والجثة لأحد الأعداء، كان بنيته أن يذبحك وأنت نائم، لولا أن عالجته بسلاحي قبل أن يحقق مأربه. سأبقى واقفا يا صديقي فأنا غير قادر على تحمل فكرة حزن زوجتي التي حملتني ناصيتها عربون وفاء وعهدا على اللقاء.


    حسن لشهب

    - المقطع مترجم عن ديوان Ma Frange, la voici
    Hayak tawna
    Poésie Ali Iken
    Izlan traduits en francais
    1ére edition:Fevrier 2010-04-29 page:13


    * "تالونت" الدف الأمازيغي.
    * أحيدوس: رقصة أمازيغية

  2. #2

    رد: ناصية فوق الرمال

    لذغة الأفعى
    =لدغة الأفعى
    ليتيه معه في عالم الذكرى والهيام،
    ليته معه في عالم الذكرى والهيام،

    حملتني ناصيتها
    لم افهم قصدك تماما بهذا التعبير
    لكن صدقني احسنت تصوير المشهد وكاننا وسطه تماما والنقلة بين مشهد المعركة والحياة مع زوجته كان رقيقا وبستار دافئ جعلنا نتفاعل مع النص بقرب وقوة.
    كل تحيتي وتقديري -وتثبيت
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    قاص ومترجم
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,153

    رد: ناصية فوق الرمال

    الأستاذة المكرمة ريمة
    أسعدني مرورك ومتابعتك لما أكتب .
    أماعن الملاحظات
    لدغة هي الصواب (نعم)
    ليتيه هي الصواب .
    هناك خطأآخر"الملئى "والصواب هو"الملأى"
    حملتني ناصيتها : المقصود هنا أن زوجته أعطته خصلة من شعرها ( قطعته من
    قصة شَعرها) رمزا للعهد والوفاء .
    شكرا لك سيدتي

  4. #4

    رد: ناصية فوق الرمال

    تملك بينة قصصية قوية وحبكة رائعة وقلم من ذهب
    تشرفت بالمرور
    بنان
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5

    رد: ناصية فوق الرمال

    بعد التحية
    قرأت قصتك ثلاث مرات ووجدتها من وجهة نظري مقطعا من فيلم سينمائي حربي
    يصور واقع الحرب ويزخر بجميع أنواع العواطف النائمة طوعا والمتفجرة بغتة
    دون أن تؤثر ولو للحظة على واجب المقاتل ويقظته وانتباهه فالعدو غدار,
    ودون أن ينسى ولو للحظة أن له زوجه تنتظره وأنه سيعمل جاهدا على أن يرجع
    إليها . فهي قصة متكاملة صورة ومعنى ومغزى تتحرك الشخصيات من خلالها
    وتتطور، وتتعمق العلاقات فيها كالمعتاد بالحروب وتفوز التضحية والأثرة
    على كل شيء.
    إلا أنني لم أسمع قبلا باستخدام الجمع " هجومات"
    شكرا للتوضيح
    سنا الخاني

المواضيع المتشابهه

  1. حروف على الرمال
    بواسطة مجيد حسيسي في المنتدى فرسان النثر
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 03-15-2017, 09:59 AM
  2. الاعجاز في القران الكريم - ناصية كاذبة خاطئة - منقول
    بواسطة رياض محمد سليم حلايقه في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-03-2016, 02:20 PM
  3. ناصية الإنسان مسؤولة عن الكذب
    بواسطة الداعية الصغيرة في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-17-2014, 02:51 AM
  4. عند ناصية البراق / القصة التي ادمت قلوب الملايين ومازالت !!
    بواسطة عبدالوهاب محمد الجبوري في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-04-2011, 05:37 PM
  5. زحف الرمال
    بواسطة محمد بوغابة في المنتدى فرسان اللغة العربية
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 09-04-2009, 02:12 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •