مركزية القدس والأقصى: فلسفة الإحساس بالمنطق (الحلقة الثالثة)
الصراع بين منهج الاستخلاف والمناهج الوضعية
مصطفى انشاصي
قرر الله تعالى حقيقة ستكون ثابتة وأبدية مادامت الحياة على الأرض؛ وهي: أن بني آدم سيكونون أعداء لبعضهم البعض، إضافة إلى عداوة الشيطان لهم، وغوايته لِمَنْ سيصبحون حزبه وأدواته في محاربة منهج الاستخلاف في الأرض. وبعد هبوط آدم من الجنة لإقامة منهج الله في الأرض وتحقيق الاستخلاف الذي أراده الله تعالى لبني آدم في الحياة الدنيا،
كان الصراع بين الإنسان ونزعاته ورغباته وأهوائه محدوداً، وكانت أساليب الشيطان في الغواية لبني آدم أيضاً قليلة، لقلة عدد بني آدم وعدم توسع الحياة البشرية وأوجه الترف والفتن فيها، ومحدودية التطور الإنساني، ولكنها كانت تزداد مع زيادة عدد بني آدم وتطور الحياة الإنسانية على الأرض، وتباعد بني آدم عن عهد أبيهم آدم زمنياً وضعف عقيدتهم وانحراف سلوكهم بعيداً عن منهج الله والاستخلاف. لذلك كان الله تعالى يبعث لهم الرسل الذين يدعونهم إلى الله تعالى، يذكرونهم بالغاية من خلقهم وهبوط أبيهم إلى الأرض، وهو الاستخلاف على منهج الله تعالى، وأن الشيطان وجنوده عدواً لهم، فلا يغوينهم كما أخرج أبويهم من الجنة، وكان بني آدم ومازالوا منقسمين بين مؤمن بدعوة الرسل متبع لمنهج الله والاستخلاف، وبين كافر بها متبع لهواه ولمنهج الشيطان والمناهج البشرية الوضعية.
واختصاراً لطول الفترة الزمنية منذ هبوط أبينا آدم من الجنة إلى الأرض وما حدث فيها من صراع بين أتباع المنهج الإلهي والمؤمنين بالرسل عليهم السلام، وبين أتباع المناهج الوضعية والمتبعين للشيطان، نقتبس بعض ما كتبه الأستاذ الدكتور (محمد أبو القاسم حاج حمد) في كتابه القيم "العالمية الإسلامية الثانية" (ص121-122)،
ما يوضح ويجلي حقيقة الصراع بين منهج الاستخلاف ومناهج البشر الوضعية: من المعروف أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض، ويطبق شريعته ومنهجه الحضاري؛ لبناء الحضارة الإنسانية التي تثير الأرض وتعمرها وتستعمرها، ولقد استخلف الله في البدء آدم، وكان جهده الحضاري محدوداً بفرديته، ولا يستطيع أن يشيد البناء الحضاري المطلوب على المنهج الإلهي، ويعيد الإنسان بوعي ليندمج في الرحم الكوني الذي انفصل عنه، وكان لابد من تهيؤ للظروف الملائمة حتى تتم عملية الدمج تلك، ومع تطور الحياة وتعدد المخلوقات الإنسانية على الأرض، تطور فكرها وتشعب، وابتعدت البشرية عن منهج الله الذي يحافظ على التوازن في العلاقة بين الإنسان والكون المحيط به الذي تحكمها علاقته بالله والسير على منهجه، فكان لابد أن يرسل الله الأنبياء والرسل لهداية البشر إلى سواء السبيل، والأخذ بيدهم إلى منهج الله حتى يتحقق الهدف الإلهي والغاية الربانية المطلوبة من وراء خلق الإنسان وهبوطه إلى الأرض وهي الاستخلاف.
فكان الصراع يدور بين منهج الله ومناهج البشر الوضعية، فالمنهج الإلهي في دعوته الإنسان ليعيد اندماجه بالوعي في الكون والتفاعل مع كل عناصره، ويقتضي نهوض الإنسان بالفعل وتحقيق الحيوية الحضارية، ولأجل ذلك تم الاستخلاف الثاني في الأرض، فالأول كان استخلاف أبينا آدم، أما الثاني فهو استخلاف داود في إطار بني إسرائيل؛ لبناء الحضارة البديلة للحضارة الفرعونية والحضارات الوضعية المماثلة. تم ذلك الاستخلاف للحضارة البديلة تحت رعاية الله وقيادته وتوجيهه لها، فسبحانه سخر لها ما في السموات والأرض، وسخر الحديد لداود ليستخدمه في الصناعة، وسخر لسليمان الكائنات الحية الأخرى، فكانت حضارته ووالده قائمة على آيات الله وقدرته.
تلك الحضارة الإسرائيلية* الشامخة من فعل الله في التسخير الشامل كدرس أمام الحضارة المصرية الفرعونية والحضارات الوضعية المماثلة، ثم يطرح الله عطاءه للحضارة البديلة (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص:17-20).
وقد كان داودu أكثر من عبدٍ صالح، فقد أتاه الله الملك بعد طالوت، قال تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ {البقرة:251}. كما أنه تعالى جعله خليفة له في الأرض، قال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ {ص:26}. وقد أقام داود أول دولة على أساس العبودية لله في الأرض المباركة، وتحقق وعد الله بأن أورث القوم الذين كانوا مستضعفين مشارق الأرض ومغاربها، فقد كانت دولته هي الخلافة الثانية في الأرض.
كان شرط الاستخلاف الذي فرض على داود أن يتبع منهجية الحق الذي تستقيم به منهجية الخلق الكوني فلا يتبع الهوى الذاتي، فالسماء والأرض وما بينهما لا تستوي في حركتها بالباطل، وإنما بالحق ومنهجية الخلق الكوني التي هي أساس خلافة داود، وهي الخلافة الثانية بعد آدم في الأرض، وورث سليمان داود على نفس الطريق بمنهجية الخلق الكوني نفسها أي الحق كما قضت المشيئة الإلهية.
إلا أنه فطن إلى حقيقة النفسية الإسرائيلية التي تريد كل شيء معداً جاهزاً دون مجهود يذكر، هذا ما عرفه سليمان عبر تاريخهم الطويل مع موسى وأنبياء بني إسرائيل عليهم السلام جميعاً، ومع شاول (طالوت) ومع أبيه داود تيقن تماماً أن هؤلاء القوم لا يعول عليهم في بناء دولة. لذا توجه إلى الله مباشرة لكي يهب له ملكاً لا يرثه أحدٌ من بعده أبداً (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (ص:35)، وقد استجاب الله لدعوة نبيه سليمان، ومكن له في الأرض حيث سخر له الريح والسحب وأخضع له الجن والشياطين والطير وعلمه لغة الحيوانات، كما سبق وأن مَنَّ على والده من قبل بمثل هذه النعم، قال تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ. وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ. وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ. وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) (الأنبياء:79-82).
وقد جاء هذا الاستخلاف والتسخير الإلهي الذي قامت عليه خلافة داود وسليمان متناسباً مع المرحلة التي كانوا يعيشونها، وكان رداً على مناهج الحضارات الوضعية المقابلة للحضارة الإلهية، والتي كانت الإنسانية تستبد فيها بالتسخير الإلهي فلا يجعل الله مصير الحركة في يد هذا الإنسان حفاظاَ على سريان الحق في منهجية الكون، أما في الحضارة الإلهية، حضارة الاستخلاف فنجد أن سلوك الإنسان فيها يجب أن يأتي مطابقاً للمنهجية الكونية وبمستواها، أي أن يكون بعقله وسلوكه تجسيداً لها؛ لأن الله لا يقبل بأقل زلل في الحكم والتقدير، لذلك كان الدرس السريع لداود وكان الدرس السريع لسليمان، وقد طلب سليمان من الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وقد أعطاه الله الملك القائم على أساس التسخير، والتسخير في الاستخلاف يأتي كنوع من التفاعل بسنة الحق وشرعته، بين الخليقة والقوى المسخرة فتكون علاقته بها علاقة تفاعل ووحدة.
وكما استجاب الله تعالى للشطر الأول من دعوة سليمانu بأن وهبه المُلك والسلطان الذي طلب؛ استجاب للشطر الثاني منها بعد وفاته. فسرعان ما ثار بنو إسرائيل على ابنه الذي تولى الحكم بعده، وحدث صراع بينهم انتهى بانقسام دولة سليمانu إلى دولتين صغيرتين، دولة (يهوذا) بالجنوب وعاصمتها "القدس"، ودولة (إسرائيل) في الشمال وعاصمتها "السامرة"، وتبعد حوالي ستة كم عن مدينة نابلس. كما أنه بعد خمس سنوات من وفاة سليمان دخل فرعون مصر (شيشنق الليبي) القدس عاصمة دولة يهوذا بالجنوب ونهبها ودمر كل ما خلفه سليمان.
* (الحضارة الإسرائيلية) ليس معنى ذلك أن بني إسرائيل هم الذين كان لهم الفضل في بناء وإنشاء تلك الحضارة، ولكن تسمية المؤلف لها بـ(الإسرائيلية) نسبة إلى بني إسرائيل الذين منهم رأس تلك الدولة والحضارة وهو داود وابنه سليمان عليهما السلام، وقد أوضح أنها لم تكن بفضل جهود بني إسرائيل ولكن بفضل الله تعالى وتسخيره مخلوقاته لنبييه داود وسليمان! كما يسمي البعض الحضارة الإسلامية التي شُيدت بفضل الإسلام وعقيدته وتعاليمه وبمشاركة جميع الأعراق والأجناس والطوائف التي كانت تدين بالولاء للحكام المسلمين، بالحضارة العربية أو الحضارة العربية الإسلامية، لأن حملة الإسلام ومادته وعموده وحكامه كانوا العرب، فنسبوا حضارة الإسلام العالمية للعرب.
( تم تصحيح الآية الكريمة في الحلقة الثانية ) ,,,,,, بواسطة رهام