التطميناتُ الربّانيّة السياسيّة والأَمْنيّة !

أوْلى الشرعُ عناية فائقة بأمن المجتمع المسلم وأمانه ، ووعد باستقراره ما دام مستقراً على الحق في سياساته ، قائما على القسط والرّشد في حركاته وسكناته ، فأمّنه عندها من طوارق الحدثان ، وردّ عنه غائلة أهل الكفر والبطش والطغيان ، وصانه من النوازل، وقد سطر في آي الكتاب من التطمينات بهذا الصدد ما يشفي غليل كلّ سائل ؛ فمآل السياسات الحسنة والقبيحة أمامه ماثل ، فليتبصرها ويتأملها وليختر لنفسه العاقل .. إنها تطمينات سارية ، وسنن جارية ، وعادات ماضية ، فللشبه حكم شبهه وللمثيل حكم المماثل ، لذا حفلت آيات الكتاب العزيز بكثير من التطمينات السياسية والأمنية التي تعدّ نبراساً يهتدي بسناه أهل الولايات الشرعية والسياسات ، وجند الحق عند الصولات والمنازلات، ومن أبرز ما كشفته الآيات في هذا السياق ، وساقته من التطمينات أنه :

* مَنْ حظي بالنصر من الواحد القهار ، فلن يُخذل أبداً ولن يُضارّ، ومن حُرم من نصره فما له من ظهير من بعده :
أذاع هذه البشارة قول الحق جل وعلا: { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (سورة آل عمران آية 160)
قال الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ: (إن ينصركم الله أيها المؤمنون بالله ورسوله على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه والكافرين به فلا غالب لكم من الناس ، يقول: فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد، لو اجتمع عليكم من أقطارها من خلقه، فلا تهابوا اعداء الله لقلة عددكم وكثرة عددهم، ما كنتم على أمره واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله ، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم {وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} يعني: إن يخذلكم ربكم بخلافكم أمره، وترككم طاعته وطاعة رسوله، فيكلكم إلى أنفسكم {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} يقول: فأْيَسُوا من نصرة الناس فإنكم لاتجدون أمراً من بعد خذلان الله إياكم إن خذلكم) ( الطبري: جامع البيان 4/154)

* ينصرُ اللهُ مَنْ نصَرَه ، ويثبّتُ عند الملاحم قدمَه :
زفّ هذه البشرى إلى جموع الأمة قولُه عز من قائل: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصرْكم ويثبتْ أقدامكم} (سورة محمد آية 7)
قال قتادة ـ رحمه الله تعالى ـ: (إن تنصروا الله ينصركم، لأنه حق على الله أن يعطي مَنْ سأله، وينصر من نصره) ( الطبري: جامع البيان 26/45، والسيوطي: الدر المنثور 6/23) ونصرة الله تكون بنصرة دينه سبحانه (انظر: الشوكاني: فتح القدير 5/40) قوله: {ويثبت أقدامكم} أي: في مواطن الحرب ، فيقويكم عليهم ويُجرّئكم حتى لا تولوا عنهم، وإن كثر عددهم وقلّ عددكم (انظر: الطبري: جامع البيان 26/45، والثعالبي: الجواهر الحسان 5/232) (وقيل المراد تثبيت القلوب بالأمن، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب) قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ: (وتثبيت الأقدام تمثيل لليقين وعدم الوهن بحالة من تثبت قدمه في الأرض فلم يزلّ، فإن الزلل وهن يسقط صاحبه، ولذلك يمثل الإنهزام والخيبة والخطأ بزلل القدم ، قال تعالى: {فتزلّ قدم بعد ثبوتها }( سورة النحل 94)( ابن عاشور: التحرير والتنوير 26/85)

* يَدْفع اللهُ عن عباده غائلة الكفار ، ويُبطل ما يُكاد لهم في الليل والنهار :
جاء ذلك صريحاً في قول العزيز الغفار: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} (سورة الحج آية 38)
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : (يخبر الله تعالى أنه يَدْفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شرّ الأشرار ، وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 5/433) قال الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ : ( يدفع غائلة المشركين عن الذين آمنوا بالله وبرسوله) (الطبري: جامع البيان 17/171) فمخططاتهم المشؤومة إلى بوار ، ما استمسك المؤمنون بهَدْي الواحد القهار !

* فلولُ الباطلِ وجموعه مهزومة ، ومساعيه السياسية ومكائده مخذولة مذءومة :
أشاع هذه البشارة للورى قوله جل وعلا: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لاينصرون} (سورة آل عمران آية 111) أي: وإن يقاتلكم اليهود ينهزموا عنكم فيولوكم أدبارهم انهزاماً عنكم ؛ إذ قوله {يولوكم الأدبار} كناية عن انهزامهم ؛ لأن المنهزم يحوّل ظهره إلى جهة الطالب هرباً إلى ملجأ ومَوْئل إليه منه خوفاً على نفسه والطالب على أمره ( أنظر: الطبري: جامع البيان 4/47) وأما قوله تعالى: {ثم لاينصرون} فقد عدل به عن حكم الجزم إلى حكم الإخبار ابتداء ؛ بمعنى أنّ هذه الجملة ليست معطوفة على جملة جواب الشرط وإلا لكان حقها الجزم بحذف النون ( لا ينصروا ) أمَا وقد جاء الفعل المضارع مرفوعاً ( ينصرون ) فكأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لاينصرون، والفرق بين رفعه وجزمه في المعنى: لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً؛ كأنه قال: ثم شأنهم وحالتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون مُنتفٍ عنهم النصرة والقوة ، لاينهضون بعدها بجناح، ولايقومون على ساق، ولايستقيم لهم أمر ( انظر: الزمخشري: الكشاف 1/610، وأبو السعود: إرشاد العقل السليم 2/72) فلذا قال تعالى ( لا ينصرون ) ولم يقل ( ثمّ لا ينصروا ) عطفاً على يولّوكم ، وهكذا كان في العدول عن الجزم إلى الرفع ( احتراس ؛ أي يولّوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة أو متأملين في الأمر) (ابن عاشور: التحرير والتنوير 4/51) فبعد صيرورتهم منهزمين لايحصل لهم شوكة ولا القوة البتة ، وعليه فهم مغلوبون إن في الصعيد العسكري أو الدّهاء السياسي .
وليست هذه السّنة منصبّة على اليهود وحدهم ـ كون الآية نزلت فيهم ـ إنما تنسحب على سائر أهل الكفر ومللهم، إذ على شاكلة الآية السابقة قوله تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لايجدون ولياً ولانصيراً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً} (سورة الفتح الآيتان 22،23)
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: (أي هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيْصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر، فرفع الحق ووضع الباطل) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 7/341 ) وما ذلك إلا جرياً على (طريقة الله وعادته السالفة: نصر أوليائه على أعدائه) (القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 16/267)

* الظفر والغلبة للمؤمنين كلمة باقية على مرّ السنين :
نشر هذه البشارة في ربوع العالمين قوله تعالى بلسان عربي مبين: {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين} (سورة الروم آية 47) فقد (وعد الله محمداً وأمّته النصر) (الثعالبي: الجواهر الحسان 4/316)
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: (هو حق أوجبه على نفسه العزيزة تكرماً وتفضلاً) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 6/321) ففي ذلك ( تعظيم للمؤمنين ، ورفع من شأنهم وتأهيل لكرامة سنية ، وإظهار لفضل سابقة ومزية، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم) (الزمخشري: الكشاف 4/585)

* مَنْ خاف مقام ربه ووعيده كفاه عدوّه ومكرَه، وأورثه ديارَه وأرضه :
صدع بهذه البشارة قوله عز من قائل: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكنّ الظالمين ولنسكنّنكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}( سورة إبراهيم الآيتان 13، 14)
قال الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ : في قوله سبحانه { ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} أي: (هكذا فعلي بمن خاف مقامه بين يدي، وخاف وعيدي فاتقاني بطاعته، وتجنب سخطي ، أنصُره على من أراد به سوءً ، وبغاه مكروهاً من أعدائي، أُهلِكُ عدوّه، وأخزيه، وأورثه أرضه ودياره) (الطبري: جامع البيان 13/192)
فهي تطمينات جرت مجرى السنن الماضية التي لا تحيد، وقد تحققت فيمن سلف كما جاء في قوله تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} (سورة الأعراف آية 137) وعساها عمّا قريب بإذن الله تنجز في الخلف { ويستنبئونك أحقّ هو قل إي وربّي إنه لحق وما أنتم بمعجزين } ( سورة يونس 53)