بين الشاهد والشهيد
توحيد مصطفى عثمان
تمهيد:
سُئل حَبر الأمَّة عبد الله بن العباس م: بمَ حصَّلت هذا العلم ؟ فقال: {أُوتيتُ لساناً سَؤولاً، وقلباً عَقولاً}.
ولعلَّ أحد أهم أسباب قلَّة علمنا هو قلَّة أسئلتنا، وإن سأل أحدُنا سؤالاً فإنه يسأل عن أشياء سطحيَّة بسيطة قد لا تقدِّم ولا تؤخِّر، حتى أصبحنا آلات تَلَقّي، نأخذ ما يُلقى علينا فقط، دون أن نكلِّف أنفسنا عناء البحث والتدبُّر؛ وتفسير ذلك أمر يطول وهو يقع خارج نطاق هذا البحث.
إن من أخطر القضايا التي تواجهنا في هذا العصر، والتي ينفذ منها عدوُّنا لفكرنا محاولاً تفكيكه وإعادة بنائه وفق ما يخدم أهدافه هي قضية المصطلحات، وخاصة الدينيَّة منها. والسبب – في رأيي – يعود إلى أن مصطلحاتنا غير محدَّدة المفاهيم وغير مضبوطة كما ينبغي، وهي تختلف في أذهاننا بين الواحد والآخر، وحين أقول مصطلحاتنا فأنا لا أقصد تلك المصطلحات المعاصرة أو محدودة الاستعمال فقط، بل أقصد أيضاً تلك المصطلحات التي هي أساس بناء فكرنا وديننا، كمصطلحَي الإسلام والإيمان على سبيل المثال؛ والفهم الذي يُبنى على مفاهيم غامضة أو ملتبسة لا يمكن له أن يُنتج فكراً واضحاً بيِّناً وفاعلاً، بل سيُنتج فكراً مشوَّشاً هشَّاً غير متماسك، وطبيعيٌّ أن يكون مثل هذا الفكر سهل الاختراق والنفاذ إلى عمقه وتقويضه.
ولا يمكن لنا أن نواجه هذه المحاولات إلا بإعادة تفعيل هذا الفكر وتنشيطه بعد أن غفا لعقود طويلة من الزمن، بل لقرونٍ خلَت؛ وذلك بإعادة التفكُّر وصولاً للتدبُّر، فالتفكير هدفه التدبير، ولا يمكن للتفكير أن يكون صائباً إلا بالتفكُّر، كما لا يمكن للتدبير أن يكون نافعاً إلا بالتدبُّر.
ولأهمية الشهادة في الإسلام، وأنها الركن الأول من أركانه الذي تُبنى عليه بقية الأركان وتدور في فلكه، والذي إن اختلَّ أو اضطرب تقوَّضت الأركان جميعاً وأصبحت هباءً منثوراً.
ونظراً لغموض مفهوم الشهادة ومفهوم الشهيد عند الكثيرين، ولعدم عثوري على تحديدٍ مضبوطٍ له ومُجمَع عليه، فقد قمت بمحاولة ضبطه وتحديده، واستنباط مفهومه من القرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهَّرة، عبر قراءةٍ موضوعيَّة جمعتُ خلالها الآيات القرآنية والأحاديث النبويَّة التي ورد فيها ذكر الشهادة بتصاريفها المختلفة، ثم بحثتُ عن الخيط الناظم لها والرابط بينها، وجمعتُ الأركان القائمة عليها، والتي تُشكِّل مع ما جاء عن الشهادة في كتب اللغة ومعاجمها نسيجاً واحداً محكَم الحبك، بيِّن الملامح، مُنسجم الألوان؛ كل ذلك خدمةً للقرآن الكريم، وتيسيراً لفهمه، وتثبيتاً لمفاهيمه.
راجياً المولى جلَّ وعلا أن يتقبل ذلك بقَبول حسن، وأن يكتب هذا العمل في سجلِّ الصالحات من الأعمال، الخالصة لوجهه الكريم، إنه سميع الدعاء.
أولاً- الشهادة في اللغة العربية:
1- جاء في القاموس المحيط:
الشَّهادةُ: خَبَرٌ قاطِعٌ؛ وشَهِدَ:كعَلِمَ. وشَهِدَ لِزَيْدٍ بكذا شَهادَةً: أدَّى ما عندَهُ من الشَّهادَةِ فهو شاهِدٌ. واسْتَشْهَدَهُ: سألَهُ أن يَشْهَدَ.
والشَّهيدُ وتُكْسَرُ شينُهُ: الشاهِدُ والأَمِينُ في شَهادَةٍ، والذي لا يَغيبُ عن عِلْمِهِ شيءٌ، والقَتيلُ في سبيلِ الله لأن مَلائِكَةَ الرحْمةِ تَشْهَدُهُ أو لأَن الله تعالى وملائكتَهُ شُهودٌ له بالجَنَّةِ أو لأَنه ممَّن يُسْتَشْهَدُ يومَ القيامةِ على الأمَمِ الخاليةِ أو لسُقوطِهِ على الشاهِدَةِ أي: الأرضِ، أو لأنه حَيٌّ عندَ رَبِّهِ حاضرٌ أو لأنه يَشْهَدُ مَلَكوتَ الله ومُلْكَهُ ج: شُهَداءُ والاسمُ: الشَّهادَةُ. وشاهَدَهُ: عايَنَهُ. وامرأةٌ مُشْهِدٌ: حَضَرَ زوْجُها.
2- وجاء في لسان العرب (باختصار) تحت كلمة (شَهِدَ)،زيادةً عمَّا جاء في القاموس المحيط:
قال أَبو إِسحق: الشهيد:من أَسماء الله، الأَمين في شهادته. والشهيد: الحاضر، والجمع: شُهَداء. قال أَبو بكر بن الأَنباري في قول المؤذن: أَشهد أَن لا إِله إِلا الله: أَعْلَمُ أَن لا إِله إِلا الله، وأُبَيِّنُ أَن لا إِله إِلا الله، قال: وقوله أَشهد أَن محمداً رسول الله: أَعلم وأُبيِّن أَنَّ محمداً رسول الله.
وقوله عز وجل: ﴿شهد الله أَنه لا إِله إِلا هو والملائكة وأولي وأولو العلم﴾.قال أَبو عبيدة معنى شَهِدَ الله: قضى الله أَنه لا إِله إِلا هو، وحقيقته: عَلِمَ اللهُ وبَيَّنَ اللهُ، لأَن الشاهد هو: العالم الذي يبين ما علمه.وشَهِدَتِ الملائكةُ: لِما عاينت من عظيم قدرته، وشَهِدَ أُولو العلم: بما ثبت عندهم وتَبَيَّنَ من خلقه الذي لا يقدر عليه غيره. وقال أبو العباس: شَهِدَ الله: بيَّن الله وأَظهر. وشَهِدَ الشاهِدُ عند الحاكم: أَي بيَّن ما يعلمه وأَظهره.
وقَوْم شُهُود: أَي حُضور؛ والشاهِدُ والشَّهيد: الحاضر، والجمع شُهَداء وشُهَّدٌ وأَشْهادٌ وشُهودٌ. وقوله تعالى: ﴿وذلك يومٌ مَشْهودٌ﴾ أَي: محضور، يَحضُره أَهل السماءِ والأَرض، ومثل: ﴿إِنَّ قرآن الفجر كان مشهوداً﴾ يعني صلاة الفجر: يَحْضُرها ملائكة الليل وملائكة النهار. انتهى
ثانياً- الشهادة اصطلاحاً:
بعد هذا البيان اللغويِّ لمفهوم الشهادة، وبعد تتبُّع الآيات القرآنية التي ذُكرت فيها الشهادة بتصاريفها المتعدِّدة، والتي وردت -فيما أحصيته – في تسعة وتسعين موضعاً؛ وجدت أنَّ الشهادة تقوم على محورٍ واحدٍ وثلاثة أركان.
أما المحور فهو الحقُّ؛ لأن علَّة وجود الشهادة هو وجود حقٍّ واجبِ الأداء في ذمَّة طرفٍ لغيره، كدَينٍ أو أمانةٍ أو ما شابه؛ فإن لم يكن هنالك حقٌّ لم يكن للشهادة حاجة.
والحقُّ قد يكون في ذمَّة الشاهد، وتكون شهادته إقرار علنياً بهذا الحق وصولاً لأدائه. وقد يكون الحق في ذمَّة غيرالشاهد، فتكون شهادته بمثابة إثباتٍ لهذا الحق وصولاً لأدائه من قِبل من هو في ذمَّته.
وأما الأركان فهي: العلم؛ والحضور؛ والبيان.
1- العلم:
وهو الركن الأهم في هذه الأركان، لأنه بناءً عليه يُحدَّد الحق الواجب أداءه؛ والمقصود بالعلم هنا: معرفة الحقِّ وإدراكه وتمييزه؛ سواء معرفته بحقيقته، وهذا هو العلم؛ أم معرفته بحقيقةٍ أخرى أو معرفته بآثاره، وهذه هي المعرفة.
ويحصل هذا العلم بإحدى الحواس الخمس أو أكثر، والتي هي مناسبةٌ لعلم الشهادة، فإن كانت الشهادة كلاماً وحديثاً كانت وسيلة علمه المناسبة هي السَّمْع؛ وإن كانت الشهادة رائحةً كانت وسيلة علمه المناسبة هي الشمُّ، وهكذا.
ويُضاف إلى هذه الحواس: الفكر، الذي به تحصل المعرفة؛ إذ من الممكن أن يُحصَّل علم الشهادة بالمحاكمة العقلية والاستنتاج بعد جمع المعلومات الخاصة بالحدث –المرتبط بالحقُّ - بالوسائل الممكنة، كمعرفته بالمقارنة مع حقيقة أخرى.
ولا يُشترط في العلم - الخاص بالشهادة - أن يكون شاملاً لكل تفصيلات المشهود، بل يمكن أن يكون علماً بجزءٍ منه فقط، وهو ما يُسأل عنه.
2- الحضور:
والحضور مرتبطٌ بالعلم والمعرفة وتابعٌ له؛ والمقصود بالحضور كركنٍ من أركان الشهادة هو الهيئة التي تمكِّن الإنسان من تلقِّي العلم وتحصيل المعرفة بشكلٍ سليمٍ؛ وبهذا المعنى يكون الحضور تعبيراً عن الاستعداد والأهليَّة.
ويمكن أن يكون الحضور حضوراً في الزمان والمكان معاً، أو يكون حضوراًَ في الزمان فقط؛ أي أنه من الممكن أن يكون الشاهد حاضراً في زمن الحدث ومكان حدوثه، فيعلم أحداثه التي سيشهد عليها بشكل مباشر بإحدى حواسِّه؛ أو من الممكن أن يكون حاضراً في زمن حدوثه فقط، بحيث يصله علمه بإحدى طرق العلم المعتبَرة. فالحضور إذاً: أهليَّةٌ واستعدادٌ لتلقي العلم وتحصيله.
3- البيان:
هو إظهار العلم والإفصاح عنه للطرف المشهود أمامه، وهوصاحب الحقِّ أو من يمثِّله.
وللبيان أشكالٌ عدَّة، فقد يكون قَولاً، أو كتابةً حين تعذُّر النطق؛ أو يكون بلغة الإشارة الواضحة، أو يكون بالفعل المترجِم للعلم (كتمثيل مشهدجريمةٍ، أو جزء منه مثلاً)؛ وأقوى أنواع البيان وأفصحه ما كان بالقول والحال.
وبذلك يكون مفهوم الشهادة اصطلاحاً، هو: علمٌ بحقٍّ ثبت وجوبه، ليُبيَّن عند الاقتضاء.
(يتبع)