كلام في الوسطية



الحمد لله ولي كل نعمة ومبقيها ، والصلاة والسلام على المبعوث هداية ورحمة للعالمين ؛ يزكي النفوس ويرقيها .
اللهم صل عليه وسلم ما رتل ماهر بالقرآن كتابك ، وهب لنا من فضله المنيف مدا يغشينا قدسك ورحابك .
وعلى صحابته أئمة الهدى والرشاد ، والسالكين بعدهم سنن الاستقامة والسداد .
أما بعد
لم تزل شريعة الإسلام غضة طرية الأحكام ؛ لا يأتيها الراغب في خيرها وفضلها من أي باب إلا ألفاها مرتعه ومأواه على الدوام ؛
مستجيبة لما يرنو إليه من أسباب الصلاح والفلاح ، وزائدة عليه دون إعياء إلى أن تقوم الساعة .
ولا يأتيها المتحري لشموخها وآيات ظهورها من أي باب إلا وجدها على مر الأزمان طافحة بأسرار التحدي
كما قال تعالى من سورة الفتح : ( هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ) " 28 " .
فدل ظهور شريعة الإسلام على أن سائر الملل والنحل والأديان دونها ، وأنها أحوج ما تكونُ إليها ،
وهذا التقرير الحكيم في هذه الآية الكريمة أجلى دلالة على المراد وأنسب ما يكون لقوله تعالى في آية أخرى من سورة المائدة
( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) " 48 " .
فذلك الظهور لازم هذه الهيمنة ، ومشهد جلي بالغ الأثر لحقيقتها ؛ يغشى النفوس والآفاق ،
ويهدي البصر والبصيرة إلى خصائص استقتها الشريعة من الكتاب .
ولما كان الوحي المنـزل كلام الله تعالى وصفتَه ، فإن كل الصفات الإلهية الدالة على الحياة والبقاء والكمال والحكمة والعلو والعزة
قد اشتملت عليها الشريعة أتم اشتمال وأجله وأجمله ، وهي بذلك أولى وأحق وأحرى .
أما الوسطية التي هي مأدبة هذه المقالة ؛ فإنها نبع كل خصائص الشريعة ومجراها ، ووابل غراسها الطيبة ورِواها ،
فلا تنمو أفنان تلك الخصائص ولا تخضر ، ولا تزهو ثمارها اليانعة ولا تحمر إلا برونق الوسطية وفي رياضها .
وقد قيل :

وَسَطِيَّةٌ تُبْدِي الْجَمَـالَ عَلَى الْهُدَى
سَكَناً يُرِي سَكْبَ الْمَحَاسِنِ كَالنَّدَى
سَالَتْ عَلَى فَنَنِ الدِّيَـانَـةِ زُخْرُفاً
طَفِقَ السَّنَا يَسْرِي بِه فَوْقَ الْمَدَى
يَـتْلُو لَهَا آيَ الْكِتَـاب تَهَيُّـبـاً
يُلْقِي الرِّضَى وَتَغَـنِّياً عَذْبَ الصَّدَى
يُعْـلِي بِهِ رَأْسَ الـدُّعَـاةِ تَأَلُّقـاً
وَبِشَارَةً يُخْـزِي بِهَا جَمْعَ الْعِـدَا

وقد علم فقهاء الإسلام وعقلاء العالم أن ما تستقيم به أحوال الخلق من الوسطية والاعتدال
قد تضمنه طريقُ الإسلام على جهة الغنى والكمال أتم تضمن وأكمله ،
فغدا له من أماراتِ الإعجاز ما يغمرُ الوسائلَ والبدائل في كل منهاج سواه .
وأن وسطية الإسلام - في جلالها وجمالها وتجددها - مهيمنة على وسطية كل دين وكل نظام ترجو البشريةُ خيرَه وعدله.
ومن ثم فإن حديثنا عن هذه الوسطية في هذا الزمان ليس اضطرارًا وتكلفًا ،
ولا دفاعًا عن النفس ، ورفعًا لحرج التهمة بـ"التطرف" و"الإرهاب"... كلا !
إنه كشف وبيان ، وإفشاء للحق الأبلج الذي نزل به الكتابُ ،
وليعلم الناس أن الشاغلين مواقعَ الهجوم علينا هم الجناة حقًّا ؛ الأحْرِياءُ باستشعار حرج الذنب ،
والإكراه على الإذعان واصطناع الأعذار .
ولئن كان من المسلمين طائفةٌ أو طوائف تشوه حقيقة الإسلام بما تأتي وتذر، فإن الإسلام لا يحابيها ،
ولا يجوز بوجه أن يحملَ وزرَها ، ولا أن يُعادَ النظرُ في أصول تشريعه لتصحيح أخطاء المفسدين .
إن قوانينَ الأرض لا تزال عند كثير من الساسة والمثقفين فوق النقد!...؛ تقدس تقديس الوحي أو أشد ؛ يُمدح موافقُها ،
ويُذم مخالفُها ، ويُردَع مَن تجاوزها ، ولا تبدل إلا حظرًا وتضييقًا على المتحايلين عليها..،
أفتكون أقدسَ من شريعة الله ، وأكبرَ في أعين الداعين إلى "تجديد" الإسلام بما ليس منه ؟!....
ولقد سمعنا ورأينا ، وما زلنا نسمع ونرى من رواد الفكر والثقافة ،
وقادة الاجتماع والسياسة من يحاول أن يسقط الإسلام بتأويل نفس مفاهيمه ،
وأن يوقف مده وتناميه بفصل تلك المفاهيم عن لوازمها ومقتضياتها عمدا وإصرارا .
وإلا فما ظنك بجاهل بالإسلام ؛ لم يمكنه من مخاطبة الجماهير إلا سلطة مال أو جبروت ؛
يجعل الحديث عن سماحة الإسلام محور خطابه ، يترضى على المسلمين المعتدلين ،
ويقع في المتطرفين المتشددين ، فيصير واعظا حكيما يأمر وينهى ، ويرغب ويرهب ، وهو لا يعني إلا فريقين :
فريق هان عليه دينه ومصير أمته فهو يدور في فلكه ورضاه .
وفريق يأبى الهوان ومراتع النفاق والخذلان ، ولا وسطية في مذهب مثل هذا ولا خيار .
ثم يقرؤ خطابه على أنه انفتاح ورغبة في الحوار ، وما هو إلا استخفاف بعوام الأمة وعلمائها .
ولكم يحز في النفس هذا المآل المخزي ؛ فقد حيل بين الأمة والراشدين من العلماء الغيارى على عرضها وعزتها
حتى صار يلقنها دينها من ليس عليه .
ولئن كانت الوسطية هي اللهاث وراء هذا السراب ، والكَرَع من مجرى هذا السم الزُّعاف ؛ فكل إحياء لمفهومها ،
وكل حديث عنها وانشغال بها بشرى للعدو ، وطلقة من سلاحه ، ومكسب لسياسته وخُطة اجتياحه .
فمن كان نقي الطوية من المتحدثين عن الإسلام من أهله وغير أهله ؛
فإنه مدعو إلى تحقيق ما ينسب إليه من الصفات والخصال سلبًا وإيجابًا ، وذلك ليس منعًا لحرية التعبير أو احتكارًا للمعرفة ،
ولكن طلبًا للإنصاف ؛ فإن عقلاء العالم مجمعون على أن معرفةَ الشيء شرطٌ في الإخبار عن صفاته وأحواله .
هذا هو المجال العام الذي ينبغي أن يعتني بالوسطية داخله ، وأن تلقن باستحضاره ،
وهو السياق الأجلى الذي خلدته سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أحوالا علية ، ومشاهد سنية ؛
تتجسد نموذج الوسطية الأحرى بالاتباع .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

وكان الفراغ منه ليلة الإثنين 20 رجب 1430 الموافق 13/7/2009 .