-
باحث في علم الاجتماع
الغرب والإسلام الاستشراق والاستعمار (21)
الغرب والإسلامالاستشراق والاستعمار (21)مصطفى إنشاصييمكننا القول: أن أصول نشأة الاستشراق هي تنصيرية (وليس تبشيرية)، لأن الاستشراق نشأ مقترناً بالتبشير بهدف اختراق المسلمين ثقافياً وفكرياً ومحاولة تنصيرهم، والقضاء على الإسلام أو تحطيم القيم الدينية لإضعافه، لأن الإسلام وحده هو الذي يمثل التحدي للغرب ونموذجه الحضاري، والقادر على التصدي للهجمة الغربية ومواجهتها. وقد تطور الاستشراق مع تطور الفكر الأوروبي إلى درجة غدا فيها يقف وراء أغلب التطلعات الحضارية الأوروبية في صراعها مع الإسلام. وإذا كان دوره قبل عصر الاستعمار دوراً دينياً بحتاً تركز على التبشير بالنصرانية وسط المسلمين وغيرهم، فإنه بعد عصر الاستعمار وجدناه يندفع ليصبح خادماً للاستعمار ودليله في وطننا الإسلامي.فقد نشأت علاقة وثيقة بين الاستشراق والاستعمار خاصة بعد أن ارتضى عدد من المستشرقين أن يكون علمهم وسيلة لإذلال المسلمين وإضعاف شأن الإسلام وقيمه، وقد مهد الطريق وذلل العقبات للاحتلالات الغربية لوطننا، ولعب دوراً بارزاً في تثبيت أقدام الغرب فيه، والاستعمار في حقيقة أمره هو امتداد للحروب الصليبية التي كانت حروباً دينية لتدمير الإسلام والسيطرة على بلاده. ومنذ هزيمة الغرب الأولى أمام الإسلام وهو يراوده حلم العودة والسيطرة على هذه البلاد. والاستشراق لعب دور الدليل للاستعمار في السيطرة على وطننا وذلك بما أمده عن الشرق من معلومات أدت إلى إخضاع شعوبه وإذلالها. يقول الدكتور إدوارد سعيد: "فالمعرفة بالأجناس المحكومة أو الشرقيين هي التي تجعل حكمهم سهلاً ومجدياً، فالمعرفة تمنح القوة ومزيداً من القوة يتطلب مزيداً من المعرفة وهكذا اتجه الاستشراق المتعاون مع الاستعمار بعد الاستيلاء العسكري والسياسي على بلاد المسلمين وإلى إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين، وتشكيكهم في معتقداتهم وتراثهم حتى يتم للاستعمار في النهاية إخضاع المسلمين إخضاعاً كاملاً للحضارة والثقافة الغربية.وقد نشطت حركة الاستشراق منذ حوالي قرنين أكثر من السابق، وقد أنشئت عدة جمعيات في أوروبا وأمريكا لمتابعة الدراسات الاستشراقية التي تخدم الاستعمار في الوطن الإسلامي، ولأهمية الاستشراق في معركة الغرب مع الإسلام اليوم نجد في أمريكا وحدها حوالي عشرة آلاف مركز للبحوث والدراسات، منها مئات المراكز المختصة بالوطن الإسلامي، ووظيفة كل مركز ورصد ما يجري في وطننا ودراسته وتحليله مقارناً مع أصوله التاريخية ومنابعه العقائدية ثم مناقشته مع صانعي القرار السياسي، ومن ثم تبني على أساس ذلك الخطط والإستراتيجيات وتحدد وسائل التنفيذ.الاستشراق والعنصريةوكما نشط الاستشراق مع المد الاستعماري الغربي الصليبي الحديث فأنه كذلك لعب دوراً خطيراً في تحديد طبيعة النظرة الأوروبية للشرق الإسلامي، وطرح مجموعة من النظريات والأطروحات الخاصة بوطننا لتدميره والقضاء على هويته الإسلامية، وكان من أخطرها العمل على إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. وكذلك لعب دوراَ في صياغة نظرة الغرب الصليبي للشرق الإسلامي وتحديدها، فقد كان الاستشراق وراء صياغة نظرية عالمية شاملة هدفها جعل سيطرة الغرب على الشرق أمراَ طبيعياَ ومحققاَ لنواميس الوجود الكوني، حيث تولى أرنست رينان صياغة هذا الأمر الطبيعي في نظرية عرقية تفرق بين جنسين أحدهما سامي والآخر آري. فالأول متخلف بطبعه لأنه عاجز عن التقدم. أي أن التخلف جبلة فيه والثاني متفوق بطبعه أي أن التفوق جبله بطبعه أيضاً، وهكذا يصبح عندنا منزلتان بشريتان الأولى سفلى والأخرى عليا، وفي الأولى يوجد جنس متخلف والثاني جنس متفوق، بحيث يستطيع اللورد بلفور الانجليزي أن يتحدث عن الشرقيين عن أنهم شعوب دنيا لا يمكن إلا أن تكون محكومة من قبل الغربيين الذين هم شعوب عليا، بينما يعبر الفرنسي هنري بيجو عن رأي المستعمرين الفرنسيين في شمال أفريقيا بقوله: "إن العرب هم كائنات سفلية يجب التعامل معها بشيء من الإنسانية ولكن دون المؤالفة واستعمالهم كما تستعمل بغالهم وجمالهم في استغلال خيرات البلاد الطبيعية التي يعود للمحتلين وهم الجنس المتفوق حق التمتع بثمارها".إن الخطاب الاستشراقي متلاحم داخلياً بشكل مدهش منذ ما يزيد عن الثلاثة قرون، فصورة الشرقي في كتابات القرن الثامن عشر والتاسع عشر لا تختلف عن صورة العربي في الكتابات المعاصرة، وقد أورد الأستاذ إدوارد سعيد تحليلاً ممتازاً لهذه الاستمرارية في كتابه الاستشراق ذكره في مقالاً صدر في مجلة علم التحليل النفسي الأمريكية في فبراير 1972 كتبه هارولد تحت عنوان (العالم العربي) نقتطف منه هذه الفقرات المميزة:"إن العرب لا يستطيعون التحرك إلا في الأوضاع النزاعية وإذا كان بد من وجهة نظر غربية أن إحلال السلم في المنطقة هو الشيء المعقول والوحيد بالنسبة للعرب، فإن الوضع بالنسبة إليهم لا يسيطر عليه نفس هذا النوع من المنطق وذلك لأن الموضوعية ليست من القيم السائدة في السلوك العربي، والمجتمع العربي لا يعطي القيمة إلا للنجاح وتبرر الغاية عنده الوسيلة، وهو يعيش بشكل طبيعي في حالة دائمة من الاغتنام تبرز في سيطرة الشك وعدم الثقة السائدة بين أفراده، وإذا كان الغربيون يضعون في السلم درجة عالية من سلم القيم وإذا كانوا يولون قيمة كبرى لمفهوم الزمن فالأمر ليس كذلك عند العرب، والحقيقة أن المجتمع القبلي العربي، الذي نشأت فيه القيم العربية كان التنازع وليس السلم هو الوضع الطبيعي فيه، لأن الغزوات كانت هي المورد الاقتصادي الأساسي".إذا وضعنا هذه الدراسة التي أراد صاحبها أن تكون علمية في إطارها السياسي وهو الصراع العربي -الصهيوني يكون هدفها الحقيقي وهو إبراز العرب على أنهم هم المعتدون، وأنهم لا يمكن أن يكونوا إلا كذلك، لأن العدوان من الطبائع الأساسية لمجتمعهم.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى