مذكرات طالب"1"
(الكتاب مثل الناس فيهم السيد الوقور وفيهم الكيس الظريف وفيهم الجميل وفيهم الرائع وفيهم الساذج الصادق وفيهم الأديب والمخطئ والخائن والجاهل والوضيع والخليع)عباس محمود العقاد سياحة جديدة،في كتاب جديد،هو كتاب (مذكرات طالب) للدكتور حسن نصيف،في طبعته الرابعة – 1404هـ = 1983م – والكتاب بدون (ناشر).يبدأ الكاتب بسرد مذكراته – والتي أشار إلى أنها لن تراعي تسلسل الأحداث،فهو ينقل من "الذاكرة"وما تجوده به يسرده – على القارئ : "أول اتصالي بالصحافة" .. (كان ذلك في عام 1352هـ على ما أذكر وكنت طالبا بمدرسة الفلاح بجدة وعمري اثنا عشرة سنة حين زارنا خالي ومعه ورقة كتب فيها مقالا بعنوان "الغرفة الفلاحية لتعليم اللغة الإنجليزية بجدة"وموقعة بتوقيع (فلاحي) والكلمة فيها دعاية لأستاذنا الأستاذ "علي عيد"إثر عودته من الهند وافتتاحه مدرسة ليلية لتعليم اللغة الإنجليزية،وطلب خالي أن أبعثها إلى جريدة محلية لنشرها كأنها صادرة عني فاستصوبت هذه الفكرة.وما أن نشرت هذه الكلمة حتى بدأت أتيه أمام زملائي وأشير من طرف خفي أنني صاحب الكلمة.وحثني ما قابلني به زملائي على مواصلة السير في الطريق .. ولكن خالي لم يعد يأتيني بكلمات جاهزة للنشر،فما العمل؟ عمدت إلى كتاب (أسلوب الحكيم) الذي كان والدي قد أهداه إليّ واقتبست منه اقتباسا حرفيا مقالا عنوانه (العلم) ووقعته باسم (المتعلم الفلاحي) ونشرته الجريدة التي كان يشرف عليها أحد أقربائي { في الهامش : عمي الشيخ محمد صالح نصيف رحمه الله صاحب جريدة صوت الحجاز} وأخذ الزملاء يتهامسون ويتساءلون عن هذه النجابة الإنشائية الطارئة،وانطلت الحيلة على والدي فزودني بمجموعة جديدة من الكتب الأدبية.ثم رأيت أن أستمر وأن لا أحرم القراء من هذا الإنتاج الأدبي الرفيع،فعمدت إلى (أسلوب الحكيم) مرة أخرى واقتبست منه مقالا عن (الأخلاق) اقتباسا حرفيا وبعثت به إلى الجريدة،ويظهر أن قريبي المشرف على الجريدة أحس بالأمر فلم ير هذا المقال النور حتى يومنا هذا .. وكانت خيبة أمل،صرفتني على كره – عن الكتابة في الصحف لمدة طويلة،وحرم الناس من هذا المنهل الثقافي العذب الذي لو استمر لكانت ثقافة القراء في بلادنا قد انقلبت رأسا على عقب .. ولكن الله سلم.){ص 12 - 14}.وأخيرا يستفيد المؤلف من الدعاية التي كتبها لمدرسة تعليم اللغة الإنجليزية،فيلتحق هو بالمدرسة، ولكن (مجبر أخاك لا بطل)!! .. "أول درس إنجليزي" (كنت من محبي لعبة كرة القدم وفي وقت من الأوقات أسست فريقا بجدة،وكان والدي يمنعني من اللعب خشية الحوادث والكسور وخوفا من المشاكل الخلقية. ومع ذلك كنت ألعب على غير علم منه وأراعي الحضور إلى البيت قبل المغرب وهو موعد حضوره والتأكد من حضورنا جميعا .. إلى أن حدث ذات يوم أن كانت عندنا مباراة فتأخرت في الحضور إلى البيت وأخذت أفكر في الاعتذارات التي سأقدمها للوالد خاصة وأن الساعة كانت حوالي الثانية عشرة والنصف {أي بعد نصف ساعة من أذان المغرب!!} وهذا تأخير خطير يعتبر جريمة في عرف الوالد. وقاربت البيت ولم يسعفني التفكير بعذر مشروع،فوجدت خادما بعثه والدي للبحث عني،وهنا فقط جاءتني فكرة لطيفة.كان والدي يردد لي بين الحين والآخر وصول الأستاذ "علي عيد"من الهند وأنه سيأخذني يوما ما إلى مدرسته الليلية لتعليم اللغة {هكذا ولعل الصواب : لتعلم اللغة} الإنجليزية،ومنذ بدأ الوالد يذكر لي ذلك وأنا أتهرب منه وأرجو من الله ألا يأتي ذلك اليوم الذي ينفذ فيه هذا الوعد أو على الأصح الوعيد،فكفاني طامة النهار في مدرسة الفلاح ولا داعي لإضافة طامة ليلية أخرى،ولكني أردت الخلاص من العلقة في تلك الليلة بأية وسيلة ولو كان فيها خراب بيت بالنسبة لي،إذن فأمري لله واتفقت مع الخادم على أن يخبر والدي أنه وجدني متجها إلى بيت الأستاذ علي عيد فأعادني للبيت،واستمع الوالد إلى كلام الخادم وبعد أن كان الشرر يتطاير من عينه توجه إلي حانيا مسرورا من هذا الولد النجيب الباحث عن العلم والمعرفة،وأنب الخادم على غباوته ثم تمنى لي التوفيق،وأعادني في التو إلى المدرسة الليلية،وهكذا كنت كالباحث عن حتفه بظلفه،وبدأت على الرغم مني أول دروسي الليلية ستارا يعفيني من الحضور قبل المغرب فكنت أتمتع بلعبتي المفضلة ثم أتجه وأنا مطمئن إلى المدرسة الليلية .. وتحضرني ذكرى واحد عن هذه المدرسة .. حصلتُ في تلك الأيام – وكنت في حوالي الثالثة عشرة من عمري – على كتاب يعيد العجوز إلى عهد الصبا،فكنت أقرأ صفحاته في هذه المدرسة في الفترات التي كان الأستاذ علي يدرس لغيري من التلامذة،ولمحني الأستاذ،وصادر الكتاب بعد أن وبخني،وطبعا كان هذا الكتاب فرحة بالنسبة له لأنه من الصعب العثور عليه،وكنت أتخيله وهو يقرأ هذا الكتاب ويتمتع بطرائفه،وقد تظاهر بالغيرة على الأدب والأخلاق،وبقي الكتاب معه حتى يومنا هذا،ترى هل يقرأ هذه المذكرات ويعيده إليّ بعد أن أخذت ما فيه الكفاية من درس وموعظة حسنة؟){ص 15 - 17}. وينجو المؤلف من (الضرب) بإعراب جملة !! .. ( استولت الدهشة علينا جميعا نحن طلاب السنة السادسة الفلاحية ونحن نرى أستاذنا الوديع الحبيب طاهر الكردي يدخل علينا وفي يده عصا،أحسنا الظن في البدء فقلنا لعلها عصا يتوكأ عليها أو على الأصح تتوكأ عليه فقد كانت طويلة جدا ولكننا فوجئنا بالأستاذ وهو يطالبنا بواجبات الخط ومن لم يقدمها يخاطبه قائلا (بركا على الركب) ثم ينهال على رجليه بالضرب الشديد إلا إذا استطاع التلميذ أن يعرب هذه الجملة إعرابا صحيحا وكان ذلك لي هو الفرج فقد كنت جيدا في النحو. ولكني أعتقد أن الذي شفع لي أكثر هو صلة الصداقة التي تربط الأستاذ بكثير من أفراد عائلتنا. وكان الأستاذ طاهر من أحب أساتذتنا إلينا لولا تلك الحادثة التي طرأت عليه وحرنا في تعليلها فما أساب ثورة الأعصاب المفاجئة والأستاذ ليس متزوجا وليس لديه عوامل أخرى لإثارة الأعصاب،كان يدعونا دائما لداره وفي سنوات الفلاح الأخيرة كنا نساعده في نسخ كتابه الأول عن الخط العربي ثم أصبحت بينه وبين طلابه صداقة عميقة الجذور. كنا في البعثة بمصر فدعاني مع الصديق أسعد جمجوم إلى غرفته بالأزهر وأكلنا عنده يومها (مختوم بامية) من صنع يديه وهو طاه ماهر.واكتشفت عند ذاك أنه أستاذ من طلاب الأزهر السابقين وأن غرفته محجوزة في الأزهر ينزل بها كلما سافر إلى مصر وقضينا معه ليلة ممتعة بالأزهر مع رئيس الرباط اليمني.وعلى ذكر غرف الأزهر المحجوزة في الأروقة أذكر أن أصدقاءنا المشايخ با بصيل والكعكي والمرزوقي والفدا والمنيعي لا تزال لهم غرف محجوزة في أروقة الأزهر الشريف ينزلون بها كلما سافروا إلى مصر ويتمتعون بالجراية اليومية.. ترى لماذا لم نلتحق بالأزهر لنتمتع بهذه الإقامة الأبدية والجراية السرمدية؟وعلى ذكر الجراية أذكر أن بعض زملائنا في البعثة بمصر من طلاب الأزهر كانوا يتنازلون عن هذه الجراية للموظف المشرف على تسجيل الحضور والغياب نظير تسجيلهم بين الحاضرين. ولا أريد تسميتهم فإن بعضهم يشرف على تربية هذا الجيل المسكين!){ص 26 - 28}. من الواضح جدا،أن (ضرب ) الطلاب كان قضية تشغل حيزا كبيرا من حياة ذلك الجيل،كما هو الحال ألآن!! مع تغير طفيف،حيث أصبح المعلم – مع منع الضرب – هو الذي يخاف على نفسه!! مما يعني أن المشكلة لم تحل بعد ولم تصبح .. كما في العنوان : "العصا في ذمة التاريخ" .. (كنت في السنة الثانية بمدرسة الفلاح عندما دخل علينا وكيل المدير وبيده عصاه التقليدية واستدعاني مع زميلين آخرين وخرجنا نتعثر في خطانا،فوجدنا بعض عمالقة الطلاب واقفين في الانتظار،وسرعان ما وضعوا في (الفلكة) واحدا واحدا وطلب منا الوكيل أن نضربهم لأنهم شردوا من المدرسة،فوجمنا وخفنا أن نضربهم فينتقموا منا عند الانصراف،ولكن الوكيل هددنا بالضرب إن لم نضربهم ضربا شديدا نكاية فيهم وزجرا لهم،ونفذنا الأمر تحت التهديد،وكان الوكيل شديدا لدرجة أنه في ساعات بعد الظهر عندما تنتهي عمليات الضرب الصباحية ولا يجد ما يسد به الفراغ يطلب دفتر الغياب ويستدعي الطلاب الغائبين في الأيام السابقة ويتسلى بضربهم،وهكذا كان أول من اخترع نظرية سد الفراغ،وكان يصيبنا الكثير من تطبيق هذه النظرية في المدرسة،كان يلذ لي حضور المصارعات بين الطلاب أقطاب المصارعة الفلاحيين،التي كانت تتم كثيرا عقب الانصراف،ولم يكن دوري في المصارعات بسيطا كما قد يتوهم البعض. فقد كنت أحمل ثياب المصارعين أثناء المصارعة،وكنت أدفع ضريبة هذه البطولة من عصا الوكيل التي لم تكن ترحم،وكان أقطاب المصارعة والهرب يستعدون للضرب بوضع روث البقر على أرجلهم حتى تخف شدة الضرب عليهم. وكنت أتلقى الضرب ببطولة دون استعمال روث البقر،وكثيرا ما قضيت ساعات باركا أو محروما من الغذاء والفسحة،ولكن للبطولة ثمنا يجب أن يدفع،والآن انقرض عهد العصا أو كاد وتسللت أساليب التربية الحديثة إلى المدارس .. وعندما عملت مدرسا فيما بعد استغنيت عن العصا ولكني وجدت فيما بعد أنها أجدى وسائل الإقناع التي لا يستغنى عنها في المدارس فعدت إليها! ويجد طلاب اليوم وسائل النشاط الرياضي في المدارس فينصرفون عن الشقاوة ويشغلون أوقات فراغهم بما ينفعهم وتصبح العصا في ذمة التاريخ.){ص 29 - 31 }. واشتاق الأستاذ (حسن) إلى الحج .. ولكنه "حج على الحمير" .. (رحم الله زمنا مضى لم تكن السيارة قد وطدت مكانتها بعد ولم يكن الراديو والمسجل والكهرباء وغيرها من المخترعات الحديثة أشياء معروفة لنا،إن شباب الجيل الحاضر أسعد منا وأحسن مستقبلا،إنهم يفتحون عيونهم على الراديو وغيره من وسائل الثقافة الحديثة التي تساعد على تنمية مداركهم مع المدرسة. أما نحن فقد عشنا أيامنا الأول في زمن الحمير،حججت وأنا صغير مرتين على الجمال وقطعت الطريق من جدة إلى مكة في يومين وعرفت (الوسك) و(العصم) وغير ذلك من المصطلحات التي انقلبت مؤخرا إلى موديلات حديثة من السيارات الأمريكية.وعندما أدركت سن البلوغ اشتقت شوقا كبيرا إلى أن أحج حجة الفرض. فكيف أنقل هذا الخبر إلى والدي وأنا لم أكن أجلس في مجلسه أو أرفع نظري إليه ،وكان يحج في كل عام وأنا معه ولكنه لم يكن راغبا في الحج في ذلك العام بسبب الأحوال المادية،ووسطت الوالدة في نقل هذه الرغبة إليه فبعثني مع عمي للحج وحملتنا السيارة من جدة إلى مكة،وفي مكة كان ينتظرني حمار لنا يجر برميل الماء طول العام،وتصور مثل هذا الحمار القوي يحمل حدثا صغيرا .. لم أستطع أن أكبح جماحه وغضب عمي – رحمه الله – لأني أسبقه وهو المعقود له الرئاسة وكانت مشكلة لم أهتد إلى حل لها ولم يهتد الحمار الملعون،أما الآن إن أولادنا يتدربون على قيادة السيارة وليس لواحد منهم أن يفخر بأنه عاش في زمن الحمير .. لقد كان الحج في تلك الأيام متعة وفسحة وكانت له ذكريات شيقة،وكانت الحمير تنقلنا من مكان إلى مكان دون توقف وانتظر (السرا) ساعات طويلة متمتعة بحرية المرور البريء .. إنني أعمل الآن عملا يتطلب سرعة الانتقال في الحج ولكنني أقف ساعات في انتظار (السرا) في سيارتي.. وأنا متحرق شوقا لزمن الحمير وإنني أفكر فعلا في اتخاذ هذه الوسيلة السريعة المريحة وأتردد في ذلك كل عام .. فمتى أستطيع تحقيق هذه الرغبة؟ لعلني لو وجدت الحمار لتشجعت على تنفيذ الفكرة. فهل أجده؟){ص 40 - 42}. كأن شيئا لم يتغير!!! فلا زلنا نشتكي من (طوابير) السيارات – أو (السرا) كما يسميها المؤلف – التي لا تنتهي،وإن لم يأخذنا الحنين لامتطاء الدواب .. حتى الآن على الأقل!! من الحج على الحمير،يأخذنا صاحب المذكرات،إلى زمن (البساطة) وتلك الأم التي تسافر،وتسعى للاطمئنان على ابنها "ليفة البادكوك" ... (عشنا سنوات لذيذة في القسم الداخلي بمكة كانت أحوالنا المادية جميعا متواضعة،العشرة الريالات تكفي الواحد منا أكثر من شهر أو شهرين،ولم يكن طريق جدة معبدا فكنا لا نزور أهلينا إلا كل بضعة شهور في الإجازات في سيارة البريد فقد كانت وسيلة المواصلات الوحيدة تقريبا. وكان الصديق الأستاذ محمد بادكوك من أظرف الشخصيات التي زاملناها في تلك الفترة.أتت والدته – رحمها الله – إلى مكة في مبدأ دخولنا المدرسة وكلمت الشيخ عريف المشرف عليه،طالبة التوسط لدى السيد طاهر الدباغ مدير المعارف وقتئذ ليسمح لها بالذهاب إلى القسم الداخلي بمدرسة تحضير البعثات حتى تتأكد من راحة ابنها وتعلق له الليفة {أداة تصنع م "الليف"وتستعمل لغسل الجسم عند الاستحمام} وتدق له مسامير الناموسية وتعلق له المنشفة وترتب شنطة ملابسه. ولم يفلح الشيخ عريف في إقناعها إلا بعد جهد كبير وكانت – رحمها الله – من السيدات المتحدثات نذهب خصيصا لزيارتها في جدة مع الأخ محمد فتأخذ في إلقاء محاضراتها وأحاديثها من وراء ستار.ونأخذ نحن في التحريش بينها وبين ابنها ونروي لها عنه بعض أشياء ولا نخرج إلا وقد وقع بينهما ما صنع الحداد وما لم يصنع.){ ص 43}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))