المخططات الأمريكية: دور البعثات التنصيرية (4)
مصطفى إنشاصي
إن علاقة أمريكا بوطننا تكاد تكون سابقة لقيام الكيان الأمريكي نفسها واستقلاله عن بريطانيا عام 1776م، وهذا دليل على قدم هذه العلاقة وعمقها. ولعل كثير منا أو في وطننا قد لا يعلم أن بداية العلاقة بين أمريكا ووطننا بدأت من نفس المنطلقات التي قام عليها الكيان الأمريكي الذي اغتصب أرض الغير (الهنود الحمر)، بعد أن أباد منهم ما نحو 112 مليون نفس، ودمر حضارتهم التي شهد لها مؤرخو الغرب نفسه أنها كانت تفوق حضارة الغاصب المحتل كثيراً في كثير من المجالات، وارتكب في حقهم أبشع المذابح الإرهابية، باسم الدين! لقد بدأ الاهتمام الأمريكي بوطننا أول ما بدأ من خلال البعثات التنصيرية البروتستانتية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، فكان البعد الديني لأمريكا في وطننا سابقاً على أي بعد آخر.
كانت الحملات التنصيرية الدينية المختلفة التي انتشرت على مساحة الوطن كله، يقوم بها في الغالب متخصصون في دراسة العلوم الشرقية ديناً ولغة وحضارة وثقافة وعادات ... إلخ، وذلك من أجل التشكيك وبث روح الانهزام في نفوس أبناء الأمة. لقد كانت البعثات التنصيرية البروتستانتية الأمريكية بداية الغزو الغربي الحديث وربط أمريكا بوطننا.
وفي بداية الاستقلال الأمريكي عن بريطانيا لم تكن الولايات المتحدة التي نراها الآن بحدودها الجغرافية هي حدود الاستقلال، لكن دخلت الحكومات الأمريكية بعد الاستقلال حروباً طاحنة مع السكان الأصليين لأمريكا، ومع الدول المغتصبة المجاورة، من أجل توسيع حدودها وفرض سيطرتها وهيمنتها على أكبر مساحة ممكنة من الأرض في العالم الجديد، وإعداد القوة التي تمكنها بعد ذلك من الانطلاق بقوة خارج حدود القارة الجديدة إلى عالم الإمبراطوريات والقوى الاحتلالية الأوروبية الكبرى المتطاحنة على احتلال العالم القديم.
كما أن هذا الانشغال في تأسيس وتوسيع الحدود الجغرافية الأمريكية وبناء القوة لم يشغل الحكومات الأمريكية عن إقامة علاقات سياسية واقتصادية، دبلوماسية وتجارية وإرسال القناصلة مع الدولة العثمانية وبعض ولاياتها منذ نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وذلك دليل على أن العين الأمريكية لم تكن غافلة عن وطننا وأهميته الدينية والاقتصادية، ولا عن أطماعها المستقبلية فيه، إلا أنها كانت تنتظر الفرصة المناسبة التي تسمح لها بالدخول إلى المنطقة بقوة.

التنـصير عـلاقـته بالاحتـلال
وللعلم أن أولئك المنصرون لعبوا دور الدليل للجندي العسكري وطلائع قواته وفرق الاستطلاع عندما غزى الغرب وطننا، فالجمعيات التنصيرية أقامت مع الاحتلال علاقة غير شريفة، وغير نزيهة، تتعارض مع ادعاءها أنها كلمة الرب، وتعمل من أجل هداية البشر، وتخليص أرواحهم من الخطيئة. وهذه الحقيقة يوضحها صاحب الوعد المشئوم بجعل فلسطين وطناً قومياً يهودياً، الرئيس الشرفي لإحدى الجمعيات التنصيرية، اللورد آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا إذ يقول: (إن المبشرين هم ساعد جميع الحكومات المستعمرة، وعضدها في كثير من الأمور المهمة، ولولاهم لتعذر على تلك الحكومات أن تذلل كثير من العقبات، ولذلك فإنّا في حاجة إلى لجنة دائمة تعمل لما فيه صالح المبشرين).
فالمحتل بدون هذا المنصر الذي يلبس لباس الكهنوت، ويتحدث بلسان الرب يسوع كذباً، ويدّعي أنه جاء ليخلص النفوس والأرواح من الخطيئة والمعاناة والعذاب ويدخلها إلى الجنة وملكوت السماء حيث النعيم والراحة الأبدية. إنما هو مخادع، ومستغل للدين من أجل تخدير مشاعر أتباعه، وتغييب عقولهم عمّا يقوم به المحتل العسكري من نهب لثرواتهم ومقدرات حياتهم، وسلبهم متاع حياتهم ولقمة عيشهم.
والتاريخ يحفظ لنا كيف كانت الكنائس والبعثات التنصيرية بصفة عامة في أوروبا وأمريكا بالذات، تقوم بدور تنصير الأحرار الذين خطفهم الرجل الأبيض من أوطانهم في أفريقيا ونقلهم إليها مستعبدين، ليس من أجل خلاص أرواحهم من شرورها ومن الخطيئة، لكن من أجل تسهيل إذلالهم واستعبادهم واستغلالهم من قبل الرجل الأبيض، بعد قتل روح الثورة والمقاومة فيهم باسم الصبر والتحمل من أجل الفوز بملكوت السماء. أما عن التمييز والتفرقة العنصرية باسم الدين في المجتمع الأمريكي وداخل الكنيسة بين الأبيض والأسود فهي أشهر من أن نُذكر بها.

الجامعة الأمريكية أهم المؤسسات التنصيرية
لقد استعان المنصرون ولازالوا للقيام بمهمتهم وخداع الناس بكل الوسائل التي تمكنهم من ذلك. واستخدموا الحيل البارعة التي تمكنهم من تخدير أتباعهم الجدد. فقد شيّدوا دور البر والحضانة والمستشفيات. وعقدوا الندوات والمؤتمرات بجانب الإذاعة والصحافة ودور الطباعة والنشر والفرق الكشفية والرياضية.
إلا أن أهم المؤسسات التنصيرية وأشدها خطراً هي: المدارس والمعاهد العلمية المنتشرة في العالم الإسلامي، والجامعات الأمريكية الموجودة في بيروت والقاهرة وحلب وبغداد وفلسطين، بالإضافة إلى الجامعة اليسوعية الموجودة في بيروت. وذلك لأنها تخفي وراء شعارات العلم غايات دينية هي الأهم عندها. وقد أفصحت عنها الجامعة الأمريكية في بيروت، وذلك في المنشور الذي أصدرته عام 1909 حينما احتج الطلبة المسلمون بالإضراب عن الدراسة لأنهم كانوا يُحملون على الدخول يومياً إلى الكنيسة للصلاة وفقاً للطقوس النصرانية وقد جاء فيه:
(إن هذه كلية مسيحية، أسست بأموال وشعب مسيحي، هم اشتروا الأرض، وهم أقاموا الأبنية، وهم شيّدوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من موارده، فتعرض منافعه الحقيقية على كل تلميذ، وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب عليه أن يعرف مسبقاً ماذا يُطلب منه).
أما مجلس الأمناء في الكلية فقد كان أكثر وضوحاً في تحديد الهدف من إنشاء هذه الكلية، فقد أصدر منشوراً رداً على الإضراب يحدد فيه وحدة الهدف، جاء فيه:
(إن الكلية لم تؤسس للتعليم العلماني، ولا لبث الأخلاق الحميدة، ولكن أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة، وأن تكون مركزاً للنور المسيحي، والتأثير المسيحي، وأن تخرج بذلك على الناس). هل هناك أوضح من هذا الهدف؟!
وإذا ما علمنا أن معظم مثقفي وطننا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذين حملوا لواء ما يسمى بالنهضة الفكرية، وقادوا دولنا بعد الاستقلال كانوا من خريجي الجامعات الأمريكية، أدركنا لماذا ضاعت فلسطين، ولماذا نُكبت الأمة، ومن الذي أجج الصراع بين قوى الأمة الداخلية ليمكن للعدو الصهيوني في فلسطين؟! وما زال يحاول إثارة الصراعات والعداوات بين أبناء أمتنا، ويحاول أن يشق وحدة صفها وموقفها باسم محاربة الإرهاب.