-
باحث في علم الاجتماع
المخططات الأمريكية لإقامة الشرق الأوسط الكــبير
المخططات الأمريكية لإقامة الشرق الأوسط الكــبير
مصطفى إنشاصي
هناك حقيقة غائبة عند القراء والكتاب على السواء، وهي:
أن الكاتب أو مَن يزعم أنه مثقف أو مفكر أو ... مهمته الأساس يجب أن تكون نشر الوعي بين أبناء الأمة، تلك المهمة لأسف غائبة لدى معظم المتصدرين للكتابة والتحليل والفكر، وكأن مهمتهم تسطيح وتغييب عقل الأجيال ووعيها لأن معظمهم ثقافته مشوهة وسطحية ولا يملك رؤية ولا رسالة يعمل من أجلها، لذلك تجد مواقع التواصل الاجتماعي ومقالات كثيرة في الصحف وتحليلات سياسية وغيرها، تتحدث عن الموقف الأمريكي مما يجري في غزة وتحركه والغرب كله لحماية كيان العدو الصهيونيعيداً عن الفهم الواعي بحقيقة ذلك الموقف، وذلك ما سأحاول توضيحة بتقسيم البحث إلى حلقات لمن يريد أن يرتقِ بوعيه بعيداً عن تأثيرات الضجيج المرتفع بشكل يصيب العاقل بالملل!
عام 2003 قبيل الذكرى السنوية الأولى للاحتلال الأمريكي للعراق طلبت مني مجلة شؤون العصر اليمنية، وهي مجلة مُحكمة، أن أكتب لهم بحث عن مشروع الرئيس الأمريكي بوش (الشرق الأوسط الحديد)، وقد حرصت على تناول الموضوع من جذوره التاريخية والعقدية انتهاء بالاحتلال الأمريكي للعراق مع ربطه بما يحدث في فلسطين ومحاولاتهم تصفية القضية الفلسطينية، وقد كان هو أول أبحاثي عندهم للمجلة. وقد بدأته:
كثير هم الكتاب الذين كتبوا عن مشروع بوش الشرق الأوسط الكبير أو التسمية الجديدة له بعد قمة الثماني، في أيسلاند بولاية جورجيا في الولايات المتحدة التوراتية الشرق الأوسط الموسع وشمال إفريقيا. ومعظمهم متفقون على أنه مشروع غير واضح المعالم، ولا يمكن تصور رؤية مستقبلية عما سيصبح عليه الشرق الأوسط عند تطبيق أفكار بوش حول هذا المشروع. وذلك لأن المشروع في حد ذاته عبارة عن مجموعة من الأفكار المتناثرة، التي لا تشكل رؤية متكاملة الأبعاد والمعالم، يمكن من خلالها تصور معالم المستقبل. كما أنهم متفقون على أنه محاولة أمريكية لاستغلال الظروف التي يمر بها وطننا من أجل تدمير مقومات قوة الأمة، والمقاومة والصمود عندها، ضد المشروع اليهودي التوراتي ـ الغربي الصليبي من أجل إحكام هيمنتهما على مصادر ثرواتنا، وخاصة البترولية منها.
ومع احترامي للآراء الآخرين، إلا أنني أري أن مشروع بوش الشرق الأوسط الموسع وشمال إفريقيا بأبعاده القصيرة المدى والبعيدة المدى ليس جديدا، ولا وليد "اللحظة التاريخية" التي تحدث عنها عضو مجلس الشيوخ الأمريكي (وليم فولبرايت) في كتابه "غطرسة القوة"، ونصح فيه قادة الولايات المتحدة عدم تفويت هذه اللحظة إذا ما جاءت، لأنها قد لا تعود إلا بعد عقود أو قرون.
ولا هو وليد "الفرصة السانحة" عنوان كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق (ريتشارد نيكسون) الذي صدر عقب حرب الخليج الثانية، وقد وضع فيه ريتشارد نيكسون خلاصة رؤيته الأمريكية ـ الصهيونية للقضاء على الإسلام، وتصفية القضية المركزية للأمة "فلسطين"، هذا الكتاب الذي تكاد تكون سياسة بوش، ومن قبله التقرير الإستراتيجي الأمريكي الصادر عام 1995م في عهد الرئيس كلينتون نسخة حرفية عنه.
ولا هو وليد استغلال الولايات المتحدة لـ"فائض القوة" عنوان مقال لهنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، المشهور برحلاته المكوكية أثناء حرب رمضان / أكتوبر عام 1973 مع العدو الصهيوني، التي شرخ بها وحدة الصف العربي، وبذر فيها بذور الخلاف والفرقة التي ستتسع بعد ذلك وتكون سببا فيما وصلنا إليه اليوم. كما أنه حدد فيها للزعماء العرب أسس وملامح ما ستكون عليه التسوية النهائية لصراعنا مع اليهود الجاثمين في قلب الأمة والوطن، فلسطين، بالسلب والاغتصاب. وجعل مكافأة العمل العربي للتوصل لها استقرار كراسي الحكام العرب وأنظمتهم. ومن يرفض ذلك من الحكام العرب أو يتمرد يكون مصيره أن يستبدل بالمعارضة المشتتة في الخارج، بعد أن تجمع شتاتها اليد الأمريكية التوراتية، وتقوم باحتلال بلدها بدعوى دعم الديمقراطية والحرية في بلدها، وتحرير شعبها من نير الديكتاتور المستبد الجاثم على صدره، وتعيدهم أدوات مشروعها التوراتي على ظهر الدبابة الأمريكية لتحكم بلدهم، وتقتل شعبهم، وتدمر مقومات وجودهم وقوتهم، وتنهب ثرواتهم، وتفرض عليهم التفريط بفلسطينهم والقبول بالعدو الصهيوني ودمجه في نسيج شعوب وطننا، كل ذلك وغيره باسمهم. ذلك المقال الذي يذكر فيه القادة الأمريكان إلى الفراغ الذي خلفه خروج الاتحاد السوفيتي من حلبة الصراع العالمي مهزوما أمام الولايات المتحدة الأمريكية، وتفككه إلى جمهوريات عديدة معظمها أصبح جزء من أوراق اللعبة الأمريكية الجديدة. وما حققته الولايات المتحدة بعد حرب الخليج الثانية من هيبة عسكرية، وكشفت عن فائض القوة الكبير عندها، الذي يغنيها عن استخدام القوة نفسها لفرض ما تريد، ويكفي استخدام تلك الهيبة والتلويح بها في وجه من يحاول التمرد على أوامرها.
ولا هو وليد بنات أفكار المحافظين الجدد وحلفائهم من أتباع الهوس الديني من النصارى الصهاينة، وجنون السعي لتحقيق ما يؤمنون به من خرافات عن نهاية العالم، وانتصار قوى الخير المتمثلة فيهم هم والعدو الصهيوني وحلفائهم من نصارى أوروبا ـ بحسب اعتقادهم ـ على قوى الشر التي بالأمس القريب كان يمثلها الاتحاد السوفيتي، وبعد انهياره أصبح يمثلها المسلمون اليوم، وذلك في معركة "هر مجدون" التي ستكون آخر المعارك بين الخير والشر، والتي سيحكم بعدها المسيح عليه السلام الأرض ألف سنة، يعيش فيها النصارى الصهاينة في أمن وسلام، وسادة للعالم، بعد أن تبيد قوى الشر، ويقضى على اليهود ولا يبقى منهم غير أربعة عشر ألفا فقط، يؤمنون بالمسيح ويدخلون في النصرانية بعدها.
كما أنه ليس وليدة ردة الفعل الأمريكية، أو الشعور بالخطر الذي يمثله ما يدعيه الغرب (الإرهاب) وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، التي استهدفت رموز القوة والغطرسة والهيمنة الاقتصادية والسياسية الأمريكية ـ برجي التجارة العالمية في نيويورك، والبنتاجون الأمريكي في واشنطن ـ كما يحاول البعض أن يبرر لهذه الحرب الأمريكية المفتوحة ضد كل ما هو إسلامي.
إنني أرى أن مشروع بوش الشرق الأوسط الموسع وشمال إفريقيا ليس وليد تلك اللحظة التاريخية، ولا الفرصة السانحة، ولا نتاج فائض القوة، ولا هوس ديني نصراني صهيوني، ولا ردة فعل لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإن كان كل ذلك قد يكون له نصيب كبير أو قليل في طرح هذا المشروع، ولكنه في جوهره ومضمونه الذي طرح به وأعلن عنه، هو أبعد وأعمق من كل ذلك بكثير، ويمكن اعتباره أحدث حلقة أو جولة من جولات الصراع الطويل مع الغرب.
فأفكار بوش التي طرحها هو ومن تحدث من المسئولين الأمريكيين عن المشروع وأفكار المشروع وأهدافه، ما هو إلا خلاصة مخططات ومؤامرات المستشرقين والمنصرين، التي سعوا بالاشتراك مع حكومات الدول الغربية التي احتلت وطننا لعشرات السنين لتحقيقها ضد الأمة والوطن، ولكنهم فشلوا في ذلك، بسبب روح المقاومة التي كانت تتمتع بها الأمة، وتحصنها وتحميها ضد كل ما هو غريب عن دينها وتراثها وحضارتها، ويستهدف مقومات وجودها، والتي كانت السبب المباشر في طرد الجيوش الغربية المحتلة لوطننا آنذاك.
وقد ظن بوش وعصابة البيت الأبيض من محافظين جدد، ونصارى صهاينة، وحلفائهم في أوروبا، أن الأمة قد فقدت قدرتها على المقاومة، بعد أن وافقتها أنظمة الحكم فيها على احتلال أفغانستان، ومن ثم العراق وتدمير قوته العسكرية. وظن أن أنظمة الحكم العربية والإسلامية لم تعد تستطيع رفض أي أمر للسيد الأمريكي، خاصة وأن بعض تلك الأنظمة قد استجاب بسرعة غير متصورة أمريكيا للمطالب الأمريكية في محاربة ما يسميه الغرب (الإرهاب)، وتجفيف منابعه سواء على صعيد تغيير مناهج التعليم، أو محاربة التعليم الديني، أو على صعيد تجفيف مصادره المالية... إلى غير ذلك، وظن أنه باسم الدعوة لإجراء إصلاحات حقيقة في أنظمة الحكم والإدارة والتعليم وغيرها في دول وطننا، بإمكانه استغلال حالة الغضب الجماهيري والشعبي على أنظمة الحكم المستبدة في وطننا، من خلال دعم أعوانه من المتغربين والمهزومين من أبناء الأمة للمطالبة بالإصلاح والديمقراطية وتحرير المرأة ...إلى غير ذلك. لقد ظن بوش وعصابته وأعداء الأمة والوطن في الداخل والخارج من ورائه أن هذا الوقت هو الفرصة التي طال انتظارها لتنفيذ تلك المخططات والمؤامرات على الأمة ودينها، وتحقيق ما فشلوا في تحقيقه يوم كانت جحافلهم العسكرية تجثم على صدر الأمة والوطن.
ظن بوش أن لحظة سحق وذر رماد عناصر القوة في الأمة "الإسلام"، وخاصة النصوص والمفاهيم الإسلامية ذات العلاقة بالمقاومة، ورفض سيطرة وهيمنة أمريكا والغرب أو غيرهما على مقدراتها، ورفض إملاء قيم أخلاقية أو اجتماعية أو سلوكية ... مخالفة لقيمها عليها، والحركة الإسلامية في وطننا، وخاصة تلك الاتجاهات التي تتبنى هذه المفاهيم. ظن بوش أن لحظة تحقيق كل ذلك قد حانت، وأنه باحتلال العراق وسحق قوته العسكرية، سوف يلتف على مشروع المقاومة في فلسطين ويحاصره ويقضي عليه، ويصفي قضية الأمة المركزية ـ فلسطين ـ ويفرض عليها مشروعه الصهيوني للتسوية النهائية. وهكذا يكون قد قضي على المثال المقاوم الذي يشحذ همة الأمة، ويبقي على جذوة المقاومة والرفض فيها متقدة، ويهدد مشاريعه لتركيع الأمة واستسلامها النهائي له.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى