فيصل زواوي

في الواقع، الإنسان الذي يريد أن يشاهد على نحو صحيح مجد الله على الأرض، لا بدَّ له أن يشاهد ذلك المجد في الوحدة. بالنَّسبة لي على الأقل، الحضرة - ليست حضور الحياة الإنسانية فقط، بل حضور الحياة في أيِّ شكل آخر غير تلك الأشياء الخضراء التي تنمو على الدَّنس وهي صامتة - هي وصمة عار على المنظر الطبيعي، هي في حرب مع جنِّي المشهد.
إدغار آلن بو

الصَّخرة الجدباء التي كنت جالسًا عليها - وأنا متوحِّد أتمعن رهبة الصمت الكالح - هي قمة تاهات[1] بجبال الأهقار. كان ذلك صيفًا في وقت الزوال، حين بدأت ألسن "آمون"[2] القانية تلعق ما انتابني من أفكار كئيبة شاحبة، بعدما أفقت من سبات الراحة السحيق، وخرجت من كهفي لأرى ما آل إليه هذا العالم الكميري[3]. استغرقت في التحديق بعين واهية إلى سراب البيداء المتموِّج بلاانتهاء، وتاه بي نظري من حولي حتى استلقيت مغمض العينين من أثر الدُّوار، تركت نشوة الدوخة تتهاوى برأسي حتى كدت أغفو، حينها تضاءل مفعول الدوار وحلق بي شعور مغادرة قمة الصفاة من دون رجعة. فتحت عينيَّ - حين آل "آمون" نحو الغرب - وقد سقط بصري على اتساع أفق "مات"[4]، حيث بدت فاتنة وجذَّابة لدرجة دفعتني لأهوي عليها مرغمًا بنشوة السقوط الحرِّ، بل كدت أسقط لو لم أنجح في تمالك نفسي. تمسكت بإحكام بصخرتي وأنا مغمض العينين، رغم دغدغة ذلك النسيم الحار من تارة لأخرى، إلا أن الخواء المتوهِّج كان لا يزال يملأ قمَّة رأسي ويزيد في تصبُّب خيبتي. هل مرت آلاف السنين على رؤيتي لذلك الرَّجل الملثَّم بعبوس رهيب، وهو واثب في وجه هذا التِّيه على ظهر هذه الصخرة الشَّماء، كان أحد "الأيموهار"[5] و- لا شكَّ - آخرهم. كانت عروق مقلتيه تفيض بلآلئ الأسى والحسرة ثم لا تلبث تغرق في أمواج حلَّته المتلاطمة الهوجاء ببحر ذلك البلاء، وهو يرمق "أيلامان"[6] واحته الدهماء وقد غزاها آلهة الآلة المتوحِّشة بخرائطهم الالكترونية، وهم يمزقونها بأنيابهم المعدنية أشلاء أشلاء، ثم يشرِّحون جذورها ويقتلعونها ويحفرون كل أغوارها بحثًا عن كنز هغار! لكن إلى أين ذهب يا ترى؟!
مذ سقط النَّجم المنتظر هنا وهو يتساءل في جوفه: هل تحقِّق وحدتي كمال وجودي؟ وبعد أن لفظتُ آخر قطرة ماء، هل لفظت أخيرًا سرَّ الكون والحياة؟! إذن ما الفرق بين مهد تلك الجنة الضائعة ولحد هذه الصَّحراء القاحلة؟! أهو الإنسان أم الإله؟! أهو الإنسان الذي أخفق أن يكون إلهًا؟! أم هو الإنسان من دون إله؟! وهذا اللَّحد أيضًا لا زال يترنح بي كما فعل مهد الجسد قيل أن يلفظني على حافَّته الشَّاهقة! قبل أن يلفظني! نهضت فزِعًا حين قطع الصَّمتَ سمومُ مفاجئ وأنا أفتح عينيَّ مرَّة أخرى، وإذ بي أبصر زوبعة رملية هائلة قادمة من بعيد تبتلع كل من يحاول قطع طريقها، لكنها لم تلبث لتصلني حتى خمدت واستكانت. ولن تتصوَّروا ما كانت الكثبان تحمله بأوزارها! كان جملاً هامدًا من دون حراك! جملاً رمليًا، واهنًا متراميًا فوق شحوب هذه الصخور. كان لا يزال على قيد الحياة، وراح عبثًا يحاول الحراك والعطش يقيده. ماذا تراه سيضفر بصبره على هذه الخليقة القاحلة باستثناء هذا السَّراب! لن يلتقي بواحة أو بحيرة أو واد على طول أميال، بل على مدار هذه الصَّخرة الجرداء الجوفاء! وقد لفظَت كل محيطاتها أنفاسها الأخيرة من شدة العطش.
بعد أن استغرقتُ في النظر إليه اتَّضح لي أنه كان مقيَّدًا كليًا وبأيَّة قيود! قيود من النمل تجرُّه جرًّا لمملكتها الجائعة بجوف الرمال، ورهط من العقارب المسمومة تلسعه بلا هوادة في كل أطرافه وهو يتخبَّط كالمذبوح! أمَّا ذباب اللحم العفن فكان ينخر جراحه بدون حدب! وهو يئنُّ في صمت أنينًا من أعماق روح مثقلة بالأهوال. كان آخر فريسة تلتهمها حشرات الزَّمن، وحين لم تبقَ لديه قطرة حياة! صرخ صرخة واحدة هائلة دوَّت الآفاق فانفجرت الصخرة تزأر بالبراكين، وأنا أتساقط من علٍ... كانت شمس "آمون" تحتمي بجبال "الأهقار" التي راحت تعوي صدى الصرخة المخنوقة، وانطلقت كل الحشرات هلعة متعوِّذة تركض في الفلوات حتى احتجبت... لكن قمر "كونسو"[7] الأبله - تلك الليلة - بدا عليه النُّعاس جليًا وهو يتثاءب مليًّا، وبدل أن يتأمَّل تلك الحِمم التي كادت أن تزحف عليَّ، راح يسدل عينه ببعض ركامها الرَّمادي الدَّافئ وهمَّ في الشَّخير. لملمتُ رمال ذلك الجمل الوحيد المنثور هنا وهناك قبل أن يعصف بي ثانية وينسفني إلى بعيد، وعدت أدراجي إلى كهف "هغار"[8] متعبًا يائسًا، راميًا كلَّ ما بقي من مخيِّلتي عن أسطورته العجيبة، بعدما تيقَّنت أنَّه لم تعد قطُّ تبكي عليه سماء "مات". كان أنين الزَّمهرير قد نخر كل أعظمي إلى رميم، ثمَّ راح يدثِّر عودتي - المرتجفة - بنفسه حتَّى غصتُ في سبات شاهق وفتحت عينيَّ من جديد لعلِّي أحلم حلمًا آخر.
*** *** ****
"كتاب الميِّت"