الكتاب
إن الكتاب والقرآن في كلامنا لفظان مترادفان لدلالة كل منهما على ما بين دفتي المصحف، وهو الكتاب أي المكتوب، وهو القرآن أي المقروء ، ولإثبات قصور هـذا الإطلاق في كلامنا فإن من تفصيل الكتاب أن قد وردت للفظ الكتاب في المصحف عشرة معان هي:
أولاها: بمعنى المكتوب كما في قوله: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحَ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ البقرة، وعلى المتربصة بنفسها أربعة أشهر وعشرا إن لم تكن من أولات الأحمال أن تكتب يوم ابتدأت العدة ليبلغ الكتاب أجله المعلوم وهو انقضاء العدة، ولكأن العدة ديْن عليها ووجبت كتابة الديْن.
وعلى المكاتب أن يجعل لنفسه أجلا معلوما يفتدي به من الرق وليكتب ذلك الأجل يوم ابتدئ العقد.
والكتاب الذي حمله الهدهد إلى ملكة سبإ هو رسالة سليمان المعلومة.
وثانيها: بمعنى الفريضة على المكلفين كما في قوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ النساء، أي فريضة فرضت عليهم في أوقات معلومة، وكما في قوله ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ النساء، يعني أن تحريم المذكورات فريضة من الله عليكم.
وثالثها: اللوح المحفوظ كما في قوله:
ـ ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُاَ عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾ طـه
ـ ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ سورة ق
ـ ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا﴾ آل عمران
ولا يصح وصف اللوح المحفوظ بالمبين لاستحالة الاطلاع عليه من جانب المخاطبين بالكتاب المنزل.
ورابعها: الصحف التي سيؤتاها يوم يقوم الحساب صاحب اليمين بيمينه وصاحب الشمال بشماله وأشقى منه وراء ظهره، ويعني الأعمال الفردية التي لم يشترك معه غيره فيها
وخامسها: بمعنى الظرف المكاني الذي تنتقل إليه الأرواح والصور المستنسخة من الأعمال بعد الموت، والتي ستعرض على غير المغفور له يوم الحساب،أما أرواح الأبرار بعد موتهم فيصعد بها إلى عليين بعد أن تفتح لهم أبواب السماء فيجدون أمامهم أعمالهم الصالحة مستنسخة تعرض عليهم كأنما هي كتاب مرقوم أي لا يفرقون بينها وبين ما عملوه في الدنيا كما في قوله ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ التطفيف، أي أن المقربين في عليين يحضرون أرواح الأبرار بعد موتهم حين صعودها إلى عليين فيسأل الأولون منهم اللاحقين عمّن تركوا خلفهم من الأهل والأصحاب كما في الأحاديث النبوية التي بيّن بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم حرف التطفيف.
وأما أرواح الفجّار بعد موتهم فيهبط بها إلى أسفل في سجين في أعماق الأرض فيجدون أمامهم أعمالهم السيئة مستنسخة تعرض عليهم كأنما هي كتاب مرقوم أي هي صور رقمية مستنسخة من الأعمال في الدنيا كما في قوله ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ التطفيف.
وسادسها: كتاب كل أمة يوم القيامة ويعني الأعمال الجماعية التي اشترك فيها اثنان فأكثر كتسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون يوم تحالفوا وتقاسموا أن يغتالوا صالحا رسول الله كما في قوله:
ـ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ الزمر
ـ ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَـذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ الكهف
ـ ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَـذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الجاثية
ـ ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قد أفلح
ولْيتوقّفْ اللاهون اللاغون الناشرون عبر الأثير وفي الأوراق عن نشر الباطل واللغو حتى لا يضل بإضلالهم قوم آخرون.
وتعني دلالة لفظ الكتاب الخامسة والسادسة وقوعها على ما ينظر إليه ويعرف ولو كان صورا معروضة وكما وصفته آنفا أنه الظرف المكاني الذي تنتقل إليه الأرواح وصور الأعمال بعد الموت، وكذلك الحروف المكتوبة المقروءة لها ظرفها المكاني الذي يجمعها ويشملها وهي الصحف والكتاب.
وسابعها: الكتاب الذي أوتيه جميع النبيين والرسل قبل التوراة كما في قوله:
ـ ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ عمران
ـ ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسَلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ الحديد
ـ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاُه هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدّمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا﴾ الفرقان
ولا يخفى أن كثيرا من النبيين والرسل كانوا قبل التوراة التي أوتيها موسى ومنهم إبراهيم وإسماعيل، ولا تخفى دلالة حرف الفرقان على كتاب أوتيه موسى قبل رسالته إلى فرعون، وإنما أوتي موسى التوراة بعد إغراق فرعون وجنوده.
وثامنها: وقوع لفظ الكتاب على التوراة أو الإنجيل أو هما معا كما في قوله:
ـ ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ الإسراء
ـ ﴿فَاسْأَلِ الذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يونس
ـ ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ الأنعام
وكذلك حيث اقترن الكتاب بموسى سوى حرف الفرقان وحيث ورد أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب.
ولن يصح إبدال الكتاب في الأحرف المذكورة وشبهها بالقرآن لأن للقرآن دلالة أخرى لا يصح إيرادها في غيرها كما يأتي تحقيقه.
وتاسعها: الكتاب المنزل على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما في قوله:
ـ ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ عمران
ـ ﴿وَهَـَذا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ الأنعام
وعاشرها: قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وهو الكتاب المبين وكتاب لا ريب فيه كما في قوله ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ عبس، وبينته في مادة الصحف ومادة ريب وغيرها.
إن الكتاب الذي أوتيه النبيون والرسل قبل التوراة لا اختلاف بينه وبين الكتاب الذي تضمنه كل من التوراة والإنجيل والقرآن، لأن التوراة قد حوت الكتاب وزادت عليه نبوة موسى، وحوى الإنجيل الكتاب وزاد عليه نبوة عيسى، وحوى القرآن الكتاب وزاد عليه نبوة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ونبوة النبيين قبله.
وإنما علم الرسل والنبيون قبل التوراة الكتاب غيبا فكانوا يعلّمون أممهم منه بقدر استعدادهم للتلقي ثم أنزل الله الكتاب مع موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وتعبد الناس بدراسته لدرايته.
إن الكتاب هو ما تضمن المصحف من الإيمان بالله رب العالمين، وما تضمن عن العالمين كخلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، وتدبير أمر الخلق كله، وما حوى من النعم في الدنيا ومن وصف مخلوقاته وكذا المؤمنون والكفار والمشركون والمنافقون، وما حوى من التشريع أي الخطاب الفردي والجماعي، ومن التكليف لسائر العالمين، وما تضمن عن الحياة والموت والقدر كله والبعث والحساب والجزاء بالجنة أو النار.
وهكذا كان من تفصيل الكتاب أن قوله:
ـ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ النساء
ـ ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ الزمر
ـ ﴿ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء﴾ النساء
قد تضمن مادة الكتاب لاشتماله على الحكم بين الناس وعلى الأمر بالعبادة وعلى الأحكام الشرعية التي شرع الله للناس، ولو أبدلت كلمة الكتاب بكلمة القرآن في الآيات المتلوة المذكورة لانخرم المعنى كما بينت في مادة القرآن.
إن عاقلا أو مغفلا لن يقول إنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم سيعدمه ويعيد خلقه كما خلقه أول مرة، وكان حريا بالناس أن يفهموا الكتاب لوضوحه وهل في اللهِ فاطرِ السماوات والأرض شكٌّ ؟ ومتى احتاج التكليف بالصلاة والزكاة وسائر التكاليف إلى تدبر؟ وإنما هي تكاليف من رب العالمين فمن شاء زكَّى نفسه بها ومن شاء دسّاها بالإعراض عنها.